دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

* المحنة الثانية : محنة الاسترقاق :

وقد وردت فى قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ : يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ، وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ : أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)

[يوسف : ١٩ ـ ٢١].

يخبر الحق ـ سبحانه ـ أنه حين وضع يوسف فى الجبّ ، جلس ينتظر فرج الله ، ولطفه به ، فجاءت سيارة ، أى مسافرون. قال أهل الكتاب : كانت بضاعتهم من الفستق ، والصنوبر والبطم. (وهى حبة خضراء من الفصيلة الفستقية) ـ قاصدين ديار مصر من الشام ، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر ، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلّق فيه يوسف ، فلما رآه ذلك الرجل : (قالَ يا بُشْرى) أى يا بشارتى (هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أى أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) ـ أى هو عالم بما تمالأ عليه إخوته ، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ، ومع هذا لا يغيره تعالى ، لما له فى ذلك من الحكمة العظيمة ، والقدر السابق ، والرحمة بأهل مصر ، بما يجرى الله على يدى هذا الغلام ، الذى يدخلها فى صورة أسير رقيق ، ثم بعد هذا يملّكه أزمة الأمور ، وينفعهم الله به فى دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف. (١)

ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ المسافرين له لحقوهم ، وقالوا : هذا غلامنا أبق منا ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، أى قليل نذر (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.)

__________________

(١) ابن كثير : قصص الأنبياء ص ٢٣٧

٢٤١

قال ابن عباس ، وابن مسعود : باعوه بعشرين درهما واقتسموها درهمين.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ : أَكْرِمِي مَثْواهُ) أى أحسنى إليه (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.) وهذا من لطف الله به ، ورحمته وإحسانه إليه ، بما يريد أن يؤهله له ، ويعطيه من خيرى الدنيا والآخرة.

قالوا : وكان الذى اشتراه من أهل مصر عزيزها ، وهو الوزير بها ، الذى الخزائن مسلمة إليه قال ابن إسحاق : واسمه «أطغير بن روحيب». قال : وكان ملك مصر يومئذ «الريان بن الوليد» رجل من العماليق ، واسم امرأة العزيز «راعيل» بنت رماييل.

وقال غيره : كان اسمها «زليخا» ، والظاهر أنه لقبها.

وقال الثعلبى ، عن ابن هشام : اسمها «فكا بنت ينوس».

المحنة الثالثة : محنة المراودة :

وقد ورد ذكرها فى قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ : وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ .. قالَ : مَعاذَ اللهِ : إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف : ٢٣]

وهذه المحنة ـ هى محور بحثنا ـ وهى مراودة امرأة العزيز ليوسف ـ عليه‌السلام ـ عن نفسه ، وطلبها منه مالا يليق بحاله ومقامه ، وهى فى غاية الجمال والمال ، والمنصب والشباب ، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه ، وتهيّأت له وتصنّعت ، ولبست أحسن ثيابها ، وأفخر لباسها. وهى مع ذلك كله ، امرأة الوزير ، وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.

٢٤٢

والمراودة : الطلب برفق ولين ، كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى ، طلبت امرأة العزيز ، الذى كان يوسف فى بيتها منه أن يضاجعها ، ودعته برفق ولين أن يواقعها ، وتوسلت إليه بكل وسيلة (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أى غلقت أبواب القصر عليها ، وعلى يوسف ، وأحكمت إغلاقها.

قال القرطبى : كانت سبعة أبواب ، غلّقتها ثم دعته إلى نفسها. (١)

(وَقالَتْ : هَيْتَ لَكَ) أى هلم ، وأسرع إلى الفراش ، فليس ثمة ما يخشى.

قال فى البحر : أمرته أن يسرع إليها. (٢)

(قالَ : مَعاذَ اللهِ) أى عياذا بالله من فعل السوء ، قال أبو السعود : وهذه إشارة إلى أنه منكر هائل ، يجب أن يعاذ بالله من الخلاص منه. لما أراه الله من البرهان النيّر ، على ما فيه من غاية القبح ، ونهاية السوء (٣).

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أى إن زوجك هو سيدى (العزيز) الذى أكرمنى ، وأحسن تعهدى ، فكيف أسىء إليه بالخيانة فى حرمه؟ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أى لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومنهم الخائنون المجازون الاحسان بالسوء. ثم إن امرأة العزيز حاولت إيقاعه فى شركها ، وتوسلت إليه بكل وسائل الإغراء ولو لا أن الله حفظه من كيدها ، وعصمه عن الفحشاء لهلك.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أى همّت بمخالطته عن عزم وقصد وتصميم. عزما جازما على الفاحشة ، لا يصرفها عنها

__________________

(١) تفسير القرطبى ٩ / ١٦٣

(٢) البحر المحيط ٥ / ٢٩٣

(٣) تفسير أبى السعود ٢ / ٦٢

٢٤٣

صارف ، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة ، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإسراع ، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.

(وَهَمَّ بِها) أى مالت نفسه إليها ، بمقتضى الطبيعة البشرية ، وحدثته نفسه بالنزول عند رغبتها حديث نفس ، دون عزم وقصد ، فبين الهمّين فرق كبير.

قال علماء البيان : وهذا من باب المشاكلة ، وهى الاتفاق فى اللفظ مع الاختلاف فى المعنى. فالهم منها كان همّ عزم وقصد ، والهمّ منه كان حديث نفس .. (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) جوابه محذوف ـ أى لو لا حفظ الله ورعايته ليوسف ، وعصمته له لخالطها ، وأمضى ما حدثته به نفسه ، ولكن الله عصمه بالحفظ والتأييد ، فلم يحصل منه شىء البتّة.

* وحول قضية المراودة والهمّ قام جدل كبير واسع ، وأدلى كثير من العلماء بآرائهم فيه.

لقد ذكر ابن جرير الطبرى فى تفسيره ، والسيوطى فى الدر المنثور ، وغيرهما من المفسرين. فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ، وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] أشياء غريبة ..

فقد ذكروا فى همّ يوسف ـ عليه‌السلام ، ما ينافى عصمة الأنبياء ، وما يخجل القلم عن تسطيره. لولا أن المقام مقام بيان ، وتحذير من الكذب على الله ، وعلى رسله ، وهو من أوجب الواجبات على أهل العلم. مع أن يوسف الصديق ـ عليه‌السلام ، من سلالة الأنبياء ، وسيد السادة النجباء ، السبعة الأتقياء المذكورين عن خاتم الأنبياء :

٢٤٤

* فقد رووا عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟

قال : حلّ الهميان ، يعنى السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن. فصيح به يا يوسف ، لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش.

ورووا مثل هذا عن علىّ ـ كرم الله وجهه ـ وعن مجاهد ، وعن سعيد بن جبير.

ورووا أيضا فى البرهان الذى رآه ، ولولاه لوقع فى الفاحشة بأنه : نودى عليه .. أنت مكتوب فى الأنبياء ، وتعمل عمل السفهاء.

ـ وقيل : رأى صورة أبيه يعقوب فى الحائط ، وقيل : فى سقف الحجرة ، وأنه رآه عاضّا على إبهامه ، وأنه لم يتعظ بالنداء ، حتى رأى أباه على هذه الحال.

وتشير الروايات الكثيرة المختلفة فى المضمون ، إلى أن مثل هذه الأقوال لا يمكن أن تصدر عن صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل حمّلت عليهم ، وأن مصدرها يرجع إلى بنى إسرائيل ..

بل لقد أسرف هؤلاء الوضاعون ، فزعموا أنه لم يرعو يوسف من رؤية صورة أبيه عاضّا على أصابعه ، فضربه أبوه يعقوب ، فخرجت شهوته من أنامله.

ـ ويزيدون فى القول افتراء على الله ونبيه يوسف ، فيزعمون أيضا ، أن كل أبناء يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ، ما عدا يوسف ، فإنه نقص بتلك الشهوة ، التى خرجت من أنامله ولدا ، فلم يولد له غير أحد عشر ولدا.

بل زعموا أيضا فى تفسير «البرهان» ـ رواية عن ابن عباس ـ أنه رأى ثلاث آيات من كتاب الله :

١ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ)

[الانفطار : ١٠ ، ١١]

٢٤٥

٢ ـ وقوله عزوجل : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١]

٣ ـ وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)

[الرعد : ٣٣]

وقيل : رأى قول الحق سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢]

ومن البديهى الواضح .. أن هذه الآيات بهذا اللفظ العربى لم تنزل على أحد من قبل النبى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن كان الذين زعموا هذا لا يعدمون جوابا ، بأن يقولوا : رأى ما يدل على معانى هذه الآيات بلغتهم التى يعرفونها.

وقيل : فى البرهان ـ إنه رأى تمثال الملك ، أو العزيز ، وقيل خياله (١)

* كل ذلك يرحج الرأى ـ الذى ذكرناه ـ وهو أن مرجع ذلك كله إلى أخبار بنى إسرائيل وأكاذيبهم ، التى افتروها على الله ، وعلى نبيه يوسف ، وحمله إلى بعض الصحابة والتابعين ، أو حمّله عليهم كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وأمثالهما.

وليس أدل على هذا مما رواه وهب بن منبه ، ونقله السيوطى عنه ، قال : «لما خلا يوسف وامرأة العزيز ، خرجت كفّ بلا جسد بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ثم انصرفت الكف ، وقاما مقامهما فرجعت الكفّ بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ثم انصرفت الكف ، وقاما

__________________

(١) انظر تفسير الطبرى ج ١٢ / ١٠٨ ، الدر المنثور ج ٢ / ١٣ ، وتفسير ابن كثير ٢ / ٤٧٣ ، وتفسير البغوى ٤ / ٤٣٠

٢٤٦

مقامهما فعادت الكف الثالثة ، مكتوب عليها : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) وانصرفت الكفّ. وقاما مقامهما فعادت الكف الرابعة ، مكتوب عليها بالعبرانية : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨١]. فولّى يوسف هاربا. (١)

وقد كان وهب ـ أو من نقل عنه وهب. ذكيا بارعا ، حينما زعم أن ذلك كان مكتوبا بالعبرانية وبذلك أجاب عما استشكل ، ولكن مع هذا لن يجوز هذا التلفيق الكاذب إلّا على الأغرار والسذج من الناس ، ولا أدرى أى معنى يبقى للعصمة بعد أن جلس بين فخذيها وخلع سرواله ، وما امتناعه عن الزنا ، فى مروياتهم المفتراة إلا وهو مقهور مغلوب ..

ثم ما هذا الاضطراب الواضح فى الرويات؟ .. أليس الاضطراب الذى لا يمكن التوفيق بينه كهذا من العلل التى ردّ المحدّثون بسببها الكثير من المرويات ، لأنه أمارة من أمارات الكذب والاختلاق؟

ثم كيف يتفق ما حيك حول يوسف ـ عليه‌السلام ، وقول الحق تبارك وتعالى ، عقب ذكر الهمّ :

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)

[يوسف : ٢٤]

فهل يستحق هذا الثناء من قيل عنه هذا الكلام؟

ثم كيف تتفق هذه الروايات الهذيلة ، وما حكاه الله ـ عزوجل ـ عن «زليخا» بطلة المراودة ، حيث قالت : (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف : ٥١]

__________________

(١) الدر المنثور ٤ / ١٤

٢٤٧

وهو اعتراف صريح من البطلة ، التى أعيتها الحيل عن طريق التزين حينا ، والتودد إليه بمعسول القول حينا آخر ، والإرهاب والتخويف حينا ثالثة ، فلم تفلح .. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف : ٣٢]

ولننظر ماذا كان جواب العفيف يوسف عليه‌السلام :

(قالَ : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ .. وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف : ٣٣ ، ٣٤] وقصده ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) تبرؤ من الحول والطول ، وأن الحول والقوة إنما هما من الله ، وسؤال منه لربه ، واستعانة به على أن يصرف عنه كيدهن ، وهكذا شأن الأنبياء.

قال فى البحر : نسب بعضهم ليوسف مالا يجوز نسبته لآحاد الفساق ، والذى أختاره : أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يقع منع همّ البتّة ، بل هو منفى لوجود رؤية البرهان ، كما تقول : «قارفت الذنب لو لا أن عصمك الله» وقول العرب : «أنت ظالم إن فعلت» وتقديره : «إن فعلت فأنت ظالم» وكذلك هنا التقدير : لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، ولكنه وجد رؤية البرهان ، فانتفى الهمّ. وأما أقوال السلف ، فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شىء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة ، يناقض بعضها بعضا ، مع كونها قادحة فى بعض فساق الملل ، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. (١)

وقال أبو السعود : إن همّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلا جبليا ، لا أنه قصدها قصدا اختياريا ، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبىء عن كمال كراهيته له ، ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو

__________________

(١) البحر المحيط ٥ / ٢٩٠

٢٤٨

إلا تسجيل باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلا محكما؟. وما قيل : إنه حل الهميان ، وجلس مجلس الختان ، فإنما هى خرافات وأباطيل ، تمجّها الآذان ، وتردها العقول والأذهان. (١)

وقيل : إن ما حصل من همّ يوسف كان خطرة ، وحديث نفس بمقتضى الفطرة البشرية ، ولم يستقر ولم يظهر أثره.

قال البغوى : «قال بعض أهل الحقائق : الهمّ همّان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ، ورضا ، مثل هم امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به.

وهمّ عارض : وهو الخطرة ، وحديث النفس ، من غير اختيار ، ولا عزم ، مثل همّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ والعبد غير مأخوذ به ، مالم يتكلم به ، أو يعمل. (٢)

وقيل : همّت به همّ شهوة ، وقصد للفاحشة ، وهم هو يضربها.

ولا أدرى كيف يتفق هذا القول ، وقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.)

* ويعجبنى فى هذا المجال تفسير لغوى للآية ذكره الشيخ محمد أبو شهبة قال (٣):

والصحيح فى تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ـ أن الكلام تمّ عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) وليس من شك فى أن همها كان بقصد الفاحشة ـ (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ـ الكلام من قبيل التقديم والتأخير. والتقدير : ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها. فقوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) جواب (لَوْ لا) مقدم عليه.

__________________

(١) تفسير أبى السعود ٢ / ٦٣

(٢) تفسير البغوى على هامش تفسير ابن كثير ٤ / ٤٣١

(٣) الإسرائيليات والموضوعات ٣١٧

٢٤٩

ومعروف فى العربية أن (لولا) حرف امتناع لوجود ، أى امتناع الجواب لوجود الشرط ، فيكون (الهمّ) ممتنعا لوجود البرهان ، الذى ركزه الله فى فطرته ، والمقدم : إما الجواب ، أو دليله على الخلاف فى هذا بين النحويين.

والمراد بالبرهان : هو حجة الله الباهرة ، الدالة على قبح الزنا ، وهو شىء مركوز فى فطر الأنبياء. ومعرفه ذلك عندهم ، وصل إلى عين اليقين ، وهو ما نعبر عنه بالعصمة ، وهى التى تحول بين الأنبياء والمرسلين ، وبين وقوعهم فى المعصية.

وهذا هو القول الجزل ، الذى يوافق ما دلّ عليه العقل من عصمة الأنبياء ، ويدعو إليه السابق واللآحق. يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق : البرهان : النبوة التى أودعها الله فى صدره ، حالت بينه وبين ما يسخط الله عزوجل.

وأما كون جواب لو لا لا يجوز أن يتقدم عليها ، فهذا أمر ليس ذا خطر حتى نعدل عن هذا الرأى الصواب ، إلى التفسيرات الأخرى الباطلة (لهمّ) يوسف ، والقرآن هو أصل اللغة. فورود أى أسلوب فى القرآن يكفى فى كونه أسلوبا عربيا فصيحا ، وفى تأصيل أى قاعدة من القواعد النحوية ، فلا يجوز لأجل الأخذ بقاعدة نحوية ، أن نقع فى محظور لا يليق بالأنبياء كهذا.

والذى يجب أن يعتقد ـ كما يقول ابن كثير ـ أن الله عصم يوسف ، وبرأه ، ونزّهه عن الفاحشة ، وحماه عنها ، وصانه منها ، ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ،) مثل ذلك فعلنا ، وتصرفنا مع يوسف لأنا نعدّه لتحمّل أعباء الرسالة فى المستقبل ، ولنصرف عنه السوء. ولم يقل القرآن «لنصرفه عن السوء» إذ فرق بين العبارتين كبير ، ولنصرف عنه الفحشاء ، إنه من عبادنا المصطفين الأخيار ، الذين اختارهم ربهم ، وخلّصهم من شوائب المعاصى.

٢٥٠

أى ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة ، لنصرف عنه المنكر والفجور ، وهذه آية بيّنة ، وحجة قاطعة ، على أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يقع منه همّ بالمعصية ، ولو كان كما زعموا ـ لقال : «لنصرفه عن السوء والفحشاء» ، فلما قال (لِنَصْرِفَ عَنْهُ ،) دلّ على أن ذلك شىء خارج عن الإرادة ، فصرفه الله عنه ، بما منحه من موجبات العفة والعصمة.

وقوله (وَالْفَحْشاءَ) أى لنصرف عنه الزنى الذى تناهى قبحه ، إنه من عبادنا المخلصين ، الذى أخلصهم الله لطاعته.

* ثم أخبر الله ـ تعالى ـ بما حصل من المفاجأة العجيبة ، بقدوم زوجها ، وهما يتسابقان نحو الباب ولا تزال هى فى هياجها الحيوانى ، فقال (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) قال العلماء : هذا من اختصار القرآن المعجز ، الذى يجمع المعانى الكثيرة ، فى الألفاظ القليلة ، وذلك أنها لما راودته عن نفسه وأبى ، عزمت على أن تجبره بالقسر والإكراه ، فهرب منها فتسابقا نحو الباب ، هى لترده إلى نفسها ، وهو يهرب منها ، فاختصر القرآن ذلك كله ، بتلك العبارة البليغة ، فقال : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ.) أى هرب منها طالبا الباب ، ليخرج منه فرارا منها ، فاتبعته فى أثره (وَأَلْفَيا) أى وجدا (سَيِّدَها) أى زوجها (لَدَى الْبابِ ،) فبدرته بالكلام ، وحرضته عليه .. قالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [يوسف : ٢٥]

اتهمته ـ وهى المتهمة ، وبرأت عرضها ، ونزهت ساحتها ، فلهذا قال يوسف : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) احتاج أن يقول الحق عند الحاجة.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل : كان صغيرا فى المهد ـ قاله ابن عباس.

وقيل : كان رجلا قريبا إلى «قطفير» زوجها. وقيل : قريبا إليها .. فقال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أى لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه.

٢٥١

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف : ٢٧] أى لأنه يكون قد هرب منها ، فاتبعته وتعلّقت فيه ، فانشق قميصه لذلك. وكذلك كان ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] أى هذا الذى جرى من مكركن ، أنت راودتيه عن نفسه ، ثم اتهمتيه بالباطل.

* ثم أضرب بعلها عن هذا صفحا ، فقال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩] ، أى لا تذكره لأحد ، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن. وأمر العزيز زوجته بالاستغفار لذنبها ، الذى صدر منها ، والتوبة إلى ربها ، فإن العبد إذا تاب إلى الله ، تاب الله عليه.

* ولقد عذرها زوجها من بعض الوجوه ، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله ، إلا أنه عفيف نزيه ، برىء العرض ، سليم الناحية ، فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)

* وهنا سؤال يطرح نفسه : لماذا كانت المراودة .. ولماذا عذرها زوجها؟

الجواب .. لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان أبدع الرجال حسنا ، وأكثرهم جمالا ونضارة وبهاء.

يقول الرواة والمؤرخون : كان حسنه كضوء النهار ، وكان يوسف أبيض اللون ، جميل الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العينين ، مستوى الخلقة ، غليظ الساقين ، والعضدين ، والساعدين. خميص البطن ، أقنى الأنف ، صغير السرّة. وكان بخده الأيمن خال أسود ، وكان ذلك الخال يزين وجهه ، وكان بين عينيه شامة بيضاء ، كأنها القمر ليلة البدر ، وكانت أهداب عينيه تشبه قوادم النسور ، وكان إذا تبسّم رؤى النور من ضواحكه ، وإذا تكلم رؤى شعاع النور يشرق من بين ثناياه ، لا يقدر بنو آدم ، ولا أحد على وصف

٢٥٢

يوسف ـ عليه‌السلام. (١)

قال كعب الأحبار : إن الله تعالى مثل لآدم ـ عليه‌السلام ـ ذرّيته بمنزلة الذر ، فأراه الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ نبيّا نبيا ، وأراه فى الطبقة السادسة «يوسف» متوجا بتاج الوقار ، مؤتزرا بحلة الشرف ، مرتديا برداء الكرامة ، مقمصا بقميص البهاء ، وفى يده قضيب الملك ، وعن يمينه سبعون ألف ملك ، وعن يساره سبعون ألف ملك ، ومن خلفه أمم الأنبياء ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، وبين يديه شجرة السعادة ، تزور معه حيثما زار ، وتحول معه حيثما حال.

فلما رآه آدم قال : إلهى من هذا الكريم ، الذى أبحت له بحبوحة الكرامة ، ورفعته الدرجة العالية ، قال : يا آدم .. هذا ابنك المحسود على ما آتيته ، يا آدم انحله ، قال آدم : قد أنحلته ثلثى حسن ذريتى.

ثم إن آدم ضم يوسف إلى صدره ، وقبله بين عينيه ، وقال : يا بنى لا نأسف ، فأنت يوسف (٢) فأول من سماه يوسف آدم ، فقسم الله تعالى من الجمال الثلثين ، وقسم بين العباد الثلث ، وذلك أن الله تعالى أحب أن يرى العباد ، إنه قادر على ما يشاء ، فأعطى يوسف من الحسن والجمال ما لم يعطه أحدا من الناس.

ويقال : إنه ورث الحسن من جده إسحاق بن إبراهيم ، وكان أحسن الناس ، وإسحاق هو «الضاحك» بالعبرانية ، وهو ورث الحسن عن أمه سارة ، فإن الله تعالى صوّرها على صورة الحور العين ، ولكن لم يعطها صفاءهن ، وأعطى يوسف من الحسن والجمال ، وصفاء اللون ، ونقاء البشرة ما لم يعطه أحدا من العالمين.

__________________

(١) قصص الأنبياء للثعالبى ص ١٠٩

(٢) اختلف العلماء فى معنى يوسف ، فقال أكثر الفقهاء : هو اسم عبرى ، فلذلك لا يجرى.

وقال بعضهم : هو اسم عربى ، قال أبو الحسن الأقطع ـ وكان حكيما ـ حين سئل عن يوسف ، فقال : الأسف فى اللغة : الحزن ، والأسيف : العبد ، واجتمعا ، فلذلك سمى يوسف. [ابن كثير ـ قصص الأنبياء : ٢٣٧]

٢٥٣

عن أبى إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة ، قال : كان يوسف إذا سار فى أزقة مصر ، يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس والقمر على الجدران.

وعن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه ـ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مررت ليلة أسرى بى إلى السماء ، فرأيت يوسف ، فقلت يا جبريل من هذا؟ فقال : هذا يوسف ، قال : فكيف رأيته يا رسول الله؟ قال : كالقمر ليلة البدر».

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطى وأمه شطرى الحسن»

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «هبط جبريل ـ عليه‌السلام ، فقال يا محمد .. إن الله تعالى يقول لك : كسوت حسن يوسف من نور الكرسى ، وكسوت وجهك من نور عرشى».

* بعد محنة المراودة .. يذكر الله تعالى ما كان من قبل نساء المدينة ، من نساء الأمراء ، وبنات الكبراء فى الطعن على امرأة العزيز وعيبها ، والتشنيع عليها فى مراودتها فتاها ، وحبها الشديد له ، وهو ـ فى رأيهن ، وقبل أن يروه ـ لا يساوى هذا ، لأنه مولى من الموالى ، وليس مثله أهلا لهذا الشغف والحب.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ : امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا ، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٣٠] ، أى فى وضعها الشىء فى غير محله.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أى بتشنيعهن عليها ، والتنقص لها ، والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها ، وعشق فتاها ، فأظهرن ذما ـ وهى معذورة فى نفس الوقت ، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن ، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ، ولا من قبيل مالديهن (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ،) أى أرسلت إليهن ، فجمعتهن فى منزلها ، وأعتدت لهن ضيافة تليق بمثلهن ، وأحضرت فى جملة ذلك

٢٥٤

شيئا مما يقطع بالسكين ، كالتفاح والكمثرى والبرتقال والأترج (ثمار كالليمون الحلو) ونحوه ، (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ..)

وكانت قد هيأت يوسف ـ عليه‌السلام ـ وألبسته أحسن الثياب ، وهو فى غاية طراوة الشباب ، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة ، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أى أعظمنه ، وأجللنه ، وهبنه ، وما ظنن أن يكون مثل هذا فى بنى آدم ، وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن ، وجعلن يحززن فى أيديهن بتلك السكاكين ، ولا يشعرن بالجراح (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ .. ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١]

قال ابن مسعود : كان وجه يوسف مثل البرق ، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه ، ولهذا لما قام ، عذرن امرأة العزيز فى محبتها ، وجرى لهن وعليهن ما جرى ، من تقطيع أيديهن ، وجراح السكاكين ، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.

قالت امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ـ ثم مدحته بالعفة التامة ، فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أى امتنع (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف : ٣٢]

وكان بقية النساء حرّضنه على السمع والطاعة لسيدته ، فأبى أشد الإباء ، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء ، ودعا فقال فى دعائه لرب العالمين :

(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) يعنى .. يا رب ، إن وكلتنى إلى نفسى ، فليس لى من نفسى إلّا العجز والضعف ، ولا أملك لنفسى نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله ، فأنا ضعيف إلا ما قوّيتنى وعصمتنى وحفظتنى وحطتنى بحولك وقوتك.

٢٥٥

ولهذا قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف : ٣٤] أى أجاب الله دعاءه ، فنجاه من مكرهن ، وثبّته على العصمة والعفة ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) أى لدعاء الملتجئين إليه. (الْعَلِيمُ) بأحوالهم ، وما انطوت عليه نياتهم.

وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف : ٣٥] وهذه هى بداية المحنة الرابعة ، وهى الأخيرة ، من محن الشدة فى حياة يوسف الصديق ، وهى محنة السجن ، وكل ما بعدها فرخاء.

والمعنى : ثم ظهر للعزيز وأهله ، ومن استشارهم ، بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف ، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة ، ليكون ذلك أقل لكلام الناس فى تلك القضية ، وأحمد لأمرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها ، فسجن بسببها ، فسجنوه ظلما وعدوانا ، وكان هذا مما قدّر الله له ، ومن جملة ما عصمه به ، فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم.

روى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ جاء إلى يوسف ، وهو فى السجن ، معاتبا له ، فقال له :

ـ يا يوسف من خلّصك من القتل من أيدى إخوتك؟ قال : الله تعالى.

قال : فمن أخرجك من الجب؟ قال : الله تعالى.

قال : فمن عصمك من الفاحشة؟ قال : الله تعالى.

قال : فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال : الله تعالى.

قال : فكيف تركت ربك فلم تسأله ، ووثقت بمخلوق؟

٢٥٦

قال : يا رب .. كلمة زلّت منى ، أسألك يا إله إبراهيم وآله ، والشيخ يعقوب ـ عليهم‌السلام أن ترحمنى ، فقال له جبريل ، فإن عقوبتك أن تلبث فى السجن بضع سنين. (١)

هذه هى محنة يوسف الصدّيق ، ابن يعقوب الصفى ، ابن إسحاق ، ابن إبراهيم ـ عليهم‌السلام. الذى سماه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كريما ، وآباءه كرماء ..

فعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» ـ صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذه هى المحن والشدائد ، التى امتحنه الله بها .. ولا غرابة أن يمتحنه الله بمثل هذا الامتحان العظيم ، فهذه المحن والمشاق ، من حكم الله ، التى يعلمها ، والحوادث تخلق الرجال.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٢١]

(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أى منفذ ما أراده ، لا رادّ لقضائه ، فكل ما وقع ليوسف من إلقائه فى الجب ، ومن استرقاقه وبيعه ، وتوصية سيده لامرأته بخصوصه ، ثم محنة المراودة ، ثم محنة السجن ، ثم تعليمه الرؤيا .. وغير ذلك ، خطوات لإعداد نبى الله يوسف للمحل الذى ينتظره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

* وظاهرة واضحة فى قصة يوسف عليه‌السلام :

ذلك أنه جرت عادة القرآن الكريم بتكرير القصة القرآنية بقصد العظة والاعتبار ، ولكن بإيجاز دون توسع ، لاستكمال جميع حلقات القصة ،

__________________

(١) تفسير القرطبى ٩ / ١٩٦

٢٥٧

وللتشويق إلى سماع الأخبار دون سآمة أو ملل وأما قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقد ذكرت حلقاتها هنا متتابعة بإسهاب وإطناب ، ولم تكرر فى مكان آخر كسائر قصص الرسل ، لتشير إلى «إعجاز القرآن» فى المجمل والمفصّل ، وفى حالتى الإيجاز والإطناب ، فسبحان الملك العلى الوهاب.

قال القرطبى : ذكر الله أقاصيص الأنبياء فى القرآن ، وكررها بمعنى واحد فى وجوه مختلفة ، وبألفاظ متباينة ، على درجات البلاغة والبيان ، وذكر قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة المكرر ، ولا على معارضة غير المكرر ، والإعجاز واضح لمن تأمل ، وصدق الله (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١)

أضف إلى ذلك .. أنه قد يكون السبب ما فيها من تشبيب النسوة بيوسف ، وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة ، افتتن بأبدع الرجال جمالا ، وأرفعهم مثالا ، فناسب عدم تكرارها لما فيه من الإغضاء والستر عن ذلك.

وأيضا ـ أن القصة اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ، فإن مآلها إلى الوبال ، كقصة إبليس ، وقوم نوح ، وقوم هود ، وغيرهم ، فلما اختصت قصة يوسف بذلك ، اتفقت الدواعى على عدم تكرارها.

ووجه آخر ذكره المفسرون ، أن القرآن إنما كرر قصص الأنبياء ، وساق قصة يوسف مساقا واحدا ـ إشارة إلى عجز العرب ، كأن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال لهم : إن كان من تلقاء نفسى تصديره على الفصاحة ، فافعلوا فى قصة يوسف ما فعلت فى قصص الأنبياء.

__________________

(١) تفسير القرطبى ٩ / ١٣١ ، والآية من سورة يوسف ١١١

٢٥٨

الفصل الثامن

نبىّ الله شعيب .. وأصحاب الأيكة

من هو شعيب؟ .. ومن هم أصحاب الأيكة؟

اسمه .. شعيب بن ميكيل بن يشجر ، واسمه بالسريانية : يثرون

كان يطلق عليه خطيب الأنبياء لبلاغته ، وقوة لسنه ، وفصاحة عبارته ، وجزالة موعظته ، بعثه الله إلى مدين ، ومدين تطلق على القبيلة ، وعلى المدينة ، وهى التى بقرب (معان) من طريق الحجاز. قال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣]

قال محمد بن إسحاق : إن أهل مدين من سلالة مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.

وقد عرف أهل مدين فى القرآن بأنهم «أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» والأيكة هى الغوطة التى يكثر فيها الشجر ، وقد كانوا يجمعون بين الزراعة والتجارة ، وأراضيهم كانت كثيرة الأشجار ، وافرة الثمار ، وفيها الحدائق والبساتين الغناء ، ولذلك سموا أصحاب الأيكة ، وكانوا يعيشون حياة الرفاهية والنعيم.

وكانوا على دين سيدنا إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الإسلام ، ولكنهم لم يطل بهم العهد حتى خرجوا عن الملة الحنيفية ، وغيروا وبدلوا وكفروا بالله ، وانحرفوا عن الصراط المستقيم ، وكانت قد فشت فيهم منكرات عديدة ، أبرزها : التطفيف فى المكاييل والموازين ، فكانوا يبخسون الناس أشياءهم ، ويفسدون فى الأرض ، ويأكلون أموال الناس بالباطل.

٢٥٩

فبعث الله إليهم نبيّه الضرير ، خطيب الأنبياء ، شعيبا عليه‌السلام ، ليقوّم أخلاقهم ، ويرشدهم إلى العقيدة الصحيحة ، عقيدة التوحيد ، ويحثهم على عدم الإفساد فى الأرض ، حتى لا يبعدوا عن الغاية الأساسية التى من أجلها خلق الله الخلق ، وفى هذا يتفق مع غيره من الأنبياء ، الذين بعثهم الله سبحانه من أجل هداية البشر.

وتعد قصة نبى الله شعيب وأصحاب الأيكة .. قصة الحث على المعاملة الطيّبة ابتغاء مرضاة الله.

والباحث المتأمل فى كتاب الله ، يجد أن قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، قد وردت فى مواضع عدة : فى سورة الأعراف (٨٥ ـ ٩٢) ، وسورة هود (٨٤ ـ ٩٤) ، وفى سورة الشعراء (١٧٧) ، وسورة العنكبوت (٣٦). كما ورد ذكر أصحاب الأيكة فى سورة الحجر (٧٨) ، وسورة الشعراء (١٧٦) ، وسورة ص (١٣) ، وسورة ق (١٤).

وكلها تشير إلى قصة بعث نبى الله شعيب إلى أهل مدين ـ أصحاب الأيكة ، لهدايتهم إلى عبادة الله وتوحيده وتنزيهه. يقول سبحانه فى سورة هود :

* (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود : ٨٤]

ويقول عز شأنه فى سورة الأعراف :

* (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ٨٥]

٢٦٠