دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

سبحان خالق النور ، إلهى ـ يغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه ، والخطيئة لازمة لى ، لا تذهب عنى.

سبحان خالق النور ، إلهى .. أمرتنى أن أكون لليتيم كالأب الرحيم ، وللأرملة كالزوج العطوف ، فنسيت عهدك.

سبحان خالق النور : إلهى .. خلقتنى وفى سابق علمك كان ما أنا صائر إليه.

سبحان خالق النور ، إلهى .. بأى عين أنظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفى.

سبحان خالق النور ، إلهى .. برحمتك اغفر لى ذنوبى ، ولا تباعدنى من رحمتك لهوانى ، فإنك أرحم الراحمين.

سبحان خالق النور ، إلهى .. إنى أعوذ بك من دعوة لا تستجاب ، وصلاة لا تقبل ، وذنب لا يغفر ، وعذاب لا يفتر.

سبحان خالق النور ، إلهى ، فررت إليك من ذنوبى ، واعترفت بخطيئتى ، فلا تجعلنى من القانطين ، ولا تخزنى يوم يبعثون.

قالوا : فأتاه النداء .. أجائع أنت فتطعم ، أو ظمآن أنت فتسقى ، أو مظلوم أنت فتنصر؟ ولم يجبه فى ذكر خطيئته بشىء ، فنادى .. يا ربّ «الذنب» الذى أصبته.

ـ فنودى : يا داود .. ارفع رأسك ، فقد غفرت لك ، فلم يرفع رأسه حتى أتاه جبريل فرفعه.

* قال وهب بن منبه : إن داود ـ عليه‌السلام ـ أتاه نداء : «إنى قد غفرت لك» ..

٣٢١

فقال : يا رب .. كيف وأنت لا تظلم أحدا ، فقال : إلى قبر أورياء فناده ، وأنا أسمعه نداءك ، فتحلّل منه.

فانطلق داود ، حتى أتى قبره ، ثم ناداه : يا أورياء .. فقال : لبيّك .. من هذا الذى قطع علىّ لذتى وأيقظنى؟ قال : أنا داود ، قال : ما جاء بك يا نبى الله؟ قال : جئت أتحلل مما كان منى إليك ، قال : وما كان منك إلىّ؟ قال : عرّضتك للقتل ، قال : عرضتنى للجنة ، وأنت فى حل.

فأوحى الله إلى داود : ألم تعلم أنى حكم عدل ، لا أقضى إلا بالحق؟ ألا أعلمته أنك تزوجت امرأته؟

قال : فانطلق داود إليه فناداه : يا اورياء .. فأجابه ، فقال : من هذا الذى قطع على لذّتى؟

فقال : أنا داود ، قال : يا نبى الله ما حاجتك؟ أليس قد عفوت عنك؟ ، قال : نعم .. لكن أنا ما فعلت بك ذلك إلا لمكان امرأتك ، وإنى قد تزوجتها ...

فسكت أورياء ولم يجب ، فدعاه .. ولم يجبه ، فقام عند قبره ، وحثا التراب على رأسه ، ثم نادى : الويل .. ثم الويل لداود.

سبحان خالق النور .. الويل لداود ، ثم الويل الطويل له ، إذا نصبت الموازين القسط ليوم القيامة.

سبحان خالق النور .. الويل لداود ، ثم الويل الدائم له ، يؤخذ برقبته ، ثم يدفع إلى المظلوم.

سبحان خالق النور .. الويل لداود ، ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النار.

٣٢٢

فأتاه النداء من السماء : يا داود. قد غفرت لك ذنبك ، ورحمتك ، ورثيت لطول مكانك ، واستجبت دعاءك ، وأقلت عثرتك ..

قال داود : يا رب .. كيف لى أن تعفو عنى وصاحبى لم يعف عنى؟

قال : يا داود : وإن يعف ، أو لم يعف ، فأنا أعطيه يوم القيامة ما لم ترعيناه ، ولم تسمع أذناه ، فأقول له : قد رضيت عبدى؟ فيقول : يا رب من أين هذا ولم يبلغه عمل؟ فأقول : هذا عوض من أجل عبدى داود فاستوهبك منه ، فيبك لى. فقال داود : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لى ، فذلك قوله عزوجل (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أى فسامحناه ، وعفونا عنه ، وغفرنا له ما كان منه مما يقال فيه : «حسنات الأبرار سيئات المقربين» (١).

وقد روى البغوى أيضا ، عن طريق الثعلبى رواية مماثلة.

والذى لا شك فيه ، أن هذه الرواية وأمثالها منكرة ، ومختلقة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد فطن إلى ذلك العلامة ابن كثير السلفى ، فقال فى تفسيره :

«وقد ذكر المفسرون ههنا قصة ، أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبى حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشى ، عن أنس ـ رضى الله عنه ـ ويزيد ـ وإن كان من الصالحين ، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة.

ومن ثم يتبين لنا كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نكاد نصدق ورود هذا عن نبى الله داود ، الذى مدحه الله بخصال جمة ، واختصه بهبات لم يخص بها غيره ، وإنما هى اختلاقات وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب.

__________________

(١) قصص الأنبياء للثعالبى ٣١١ ، قصص الأنبياء لابن كثير ٤٨٩

٣٢٣

وهل يشك مؤمن عاقل ، يقر بعصمة الأنبياء فى استحالة صدور هذه الواقعة عن داود ـ عليه‌السلام ـ ثم يكون على لسان من؟ .. على لسان من كان حريصا على تنزيه إخوانه الأنبياء ، عما لا يليق بعصمتهم ، وهو نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ولو أن القصة كانت صحيحة ، لذهبت بعصمة داود ، ولنفرت منه الناس ، ولكان لهم العذر فى عدم الإيمان به ، فلا يحصل المقصد الذى أراده رب العزة من بعث الرسل ، وكيف يكون على هذه الحال ، من قال الحق تبارك وتعالى فى شأنه :

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [سورة ص : ٢٥]

قال ابن كثير فى تفسيرها : وإن له يوم القيامة لقربة ، يقربه الله ـ عزوجل ـ بها ، وحسن مرجع ، وهو الدرجات العالية فى الجنة ، لنبوته ، وعدله التام فى ملكه ، كما جاء فى الصحيح : «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الناس يقسطون فى أيديهم وماولوا».

وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن أحب الناس إلىّ يوم القيامة ، وأقربهم منى مجلسا : إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلىّ يوم القيامة ، وأشدهم عذابا إمام جائر» (٢)

ولكى يستقيم هذا الباطل للوضاعيين ، قالوا : إن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة ، واستخدم فيها أسلوب المجاز ، وأنه كنى عن المرأة بالنعجة.

__________________

(١) الشيخ محمد أبو شهبة : الإسرائيليات والموضوعات ص ٣٦٩ طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

(٢) رواه أحمد والترمذى.

٣٢٤

ورووا : أن الملكين لما سمعا حكم داود ، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة ، لصاحب النعجة ، قالا له : وما جزاء من فعل ذلك؟ قال : يقطع هذا ، وأشار إلى عنقه ، وفى رواية : يضرب من ههنا ، وههنا ، وههنا ، وأشار إلى جبهته وأنفه وما تحته ، فضحكا وقالا : أنت أحق بذلك منه ، ثم صعدا.

وذكر البغوى فى تفسيره ، عن وهب بن منبه :

أن داود لمّا تاب الله عليه ، وغفر له ، بكى على خطيئته ثلاثين سنة ، لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا ، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبع وسبعين سنة ، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام : يوم للقضاء بين بنى إسرائيل ، ويوم لنسائه ، ويوم يسيح فى الفيافى والجبال والسواحل ، ويوم يخلو فى دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان ، فينوح معهم على نفسه ، فيساعدونه على ذلك ، فإذا كان يوم نياحته ، يخرج فى الفيافى ، فيرفع صوته بالمزامير فيبكى ، ويبكى معه الشجر ، والرمال ، والطير ، والوحش ، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيىء إلى الجبال ، فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكى ، وتبكى معه الجبال ، والحجارة ، والدواب ، حتى تسيل من بكائهم الأودية ، ثم يجيىء إلى الساحل ، فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكى وتبكى معه الحيتان ، ودواب البحر ، وطير الماء ، والسباع (١)

والحق أن الآيات ليس فيها شىء مما ذكروا ، وليس هذا فى شىء من كتب الحديث المعتمدة ، وهى التى عليها المعول ، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه ، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والاشارة.

__________________

(١) تفسير البغوى على هامش ابن كثير ٧ / ١٩٥

٣٢٥

ويعجبنى فى هذا المجال ، ما قاله الإمام القاضى عياض :

«لا تلتفت إلى ما سطره الاخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ، ولم ينص الله تعالى على شىء من ذلك فى كتابه ، ولا ورد فى حديث صحيح ، والذى نص عليه فى قصة داود (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) وليس فى قصة داود وأورياء خبر ثابت» (١).

والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضى عياض ، قال الداودى : ليس فى قصة داود وأورياء خبر يثبت ، ولا يظن بنبى محبة قتل مسلم ، وقد روى عن على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال : «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة ، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء» وهو كلام مقبول من حيث المعنى إلا أنه لم يصح عن الإمام علىّ ذلك ـ كما قال العراقى.

وقال القائلون بتنزيه المرسلين : فى هذه القصة أن لا ذنب ، إنما كان تمنى أن تكون له امرأة أورياء حلالا ، وحدث نفسه بذلك ، فاتفق له غزوه ، فأرسل أورياء ، فقدمه أمام الحرب فاستشهد ، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ، ولم يتوجع عليه كما كان يجزع على غيره من جنده إذا هلك ، ووافق قتله مراده ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء ، وإن صغرت فهى عظيمة عند الله.

وقال بعضهم : كان ذنب داود ، أن أورياء كان قد خطب تلك المرأة ، ووطن نفسه عليها ، فلما غاب فى غزاته خطبها داود ، فآثره أهلها عليه ، وقد كانت الخطبة على الخطبة حرام فى شريعتهم ، كما هى حرام فى شريعتنا ،

__________________

(١) الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى ج ٢ ص ١٨٥

٣٢٦

فتزوجت من داود ـ برغبتها ـ لجلالته. فاغتم لذلك أورياء غمّا شديدا ، فعاتب الله داود على ذلك ، حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها الأول ، وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. ولذلك قال النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه»

وقيل : إنه طلب من زوجها أورياء أن يتنازل له عنها ، وقد كان هذا فى شريعتهم ، ومستساغا عندهم.

وقال القاضى عياض : «إنما أوخذ داود ـ فى هذه القضية ، لأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين ، وكان عليه أن يسمع كلام الخصم الآخر. (١) وقد قيل : إذا جاءك أحد الخصمين وقد فقئت عينه ، فلا تحكم له لجواز أن يكون خصمه فقد فقئت عيناه.

فالقضية ـ كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا ، لا يحتمل التأويل ، ومن ثمّ اندفع داود يقضى على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ، ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا. ولم يطلب إليه بيانا ، ولم يسمع له حجة ، ولكنه مضى يحكم بقوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) إلى آخر الآيات. فعاتبه الله على ذلك ، ونبّهه إلى ضرورة تثبت القاضى من حكمه ، وسماعه للخصم الآخر.

وفى ذلك يقول الأستاذ محمد أبو زهرة : (٢)

يبين الله سبحانه وتعالى ، بطريق القصص القرآنى ـ لأنه من تصريف البيان ـ أن مقياس الحكم العادل إدراك الحق ، وألا يجعل القاضى ، أو الحاكم للهوى سلطانا فى الحكم ، فإن كان الهوى ، كان الشطط فى الحكم ، ومظنة

__________________

(١) الشفا ٢ / ١٥٨

(٢) المعجزة الكبرى ص ٢١١

٣٢٧

الوقوع فى الظلم ، وإن كان الحاكم لا بد أن يكون مدركا للحق ، فلا بد من عنصر العلم ، وإبعاد الهوى.

واقرأ قصة داود ـ عليه‌السلام ـ الذى أعطاه الله الملك والحكمة ..

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ..) الآيات. هنا نجد القصة عن نبى الله داود ـ عليه‌السلام. تتضمن ثلاثة أمور ، فى التنبيه على كل واحدة منها ، تنبيه إلى أمثل الطرق للوصول إلى العدل فى الأحكام.

أولها : أنه سبق إلى الحكم من غير أن يستمع إلى كلام الخصم ، فقضى لأحد الخصمين ، قبل أن يستمع إلى كلام الآخر ، فإن ذلك مدرجة فى الظلم ، بل قد يكون ظلما.

ثانيا : أنه لم يكتف بالحكم فى القضية المعروضة ، بل عمم الحكم ، والقضاء يكون فى القضية المدروسة ، ولا يتجاوزها.

الأمر الثالث : وهو يفصل التفرقة بين الحكم الظالم ، والحكم العادل ـ أن الحكم العادل لا يكون بالهوى والشهوة ، وأما الحكم الظالم فإنه يكون تحت سلطان الهوى والشهوة ، وأن الملوك والحكام المستبدين يكون مصدر شرهم أهواؤهم. فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به ، وما ينزلونه بالناس ، فهم يسنون النظم تبعا لأهوائهم ، ويطبقونها تبعا لأهوائهم ويجعلون شيعتهم تسارع إلى تنفيذ أهوائهم ، ولا يفهمون المصلحة إلا تابعة لأهوائهم ، فإذا نهى الله تعالى نبيه داوود عن اتباع الهوى ، وهو خليفة حاكم ، فإنما نهاه عما يؤدى إلى فساد الحكم.

وبهذا يتبين أن حكم الهوى كان مصدر فساد الحكم فى الماضى ، كما هو مصدر الفساد فى كل الأزمان ، وذكر ذلك فى قصة من قصص القرآن ، يزيد المبدأ تبيينا وتأكيدا. وقد بيّنا أن ذكر أى أمر فى قصته يجعله يسرى فى النفوس ، ويدخل إلى الضمائر إن كان فيها استعداد للحق.

٣٢٨

ولا شك أن هذا كله يدل على أن القرآن يصرف فيه ـ سبحانه ـ البيان تصريفا ، ليكون أقرب إلى التأثير ، والدفع إلى العمل ، وليس ذكر القصص للعبرة فقط ، بل هو مرشد وهاد مع ذلك إلى أقوم السبيل.

إن قول داود ـ متسرعا ـ قبل أن يسمع جواب الخصم الثانى .. (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ..) لعل هذا هو الذنب الذى ألم به داود.

وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة ، فاستغفر ربه مما ألم به ، وخر راكعا ، وصلى لله قائما وساجدا وأناب ، فغفر له ربه ذنبه ، فهذا رأى يستند إلى سرعة الحكم.

على أن لأبى حيان رأيا آخر ، قال :

«والذى يدل عليه ظاهر الآية : من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس ، ودخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم ، وأنه فزع منهم ظنا منه أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه ، لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومة ، وبرز منهم إثنان للتحاكم ـ كما قص الله تعالى ـ فاستغفر من ذلك الظن ، وخرّ ساجدا لله عزوجل (١)

أما ما قاله البعض اعتمادا على بعض الروايات الإسرائيلية ـ مما ذكرناه وحذرنا منه ـ فإنه لا يصح بالنسبة إلى عوام المسلمين ، وجهلة الفساق ، فما بالك بالأنبياء ، بل بخواص الأنبياء؟

إننا نعلم قطعا ـ أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، إذ لو جوّزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشىء مما يذكرون ، فما حكى الله فى

__________________

(١) البحر المحيط ٣ / ٣٩٣ بشىء من الاختصار.

٣٢٩

كتابه يمرّ على ما أراده الله ، وما حكى القصاص مما فيه غضّ من منصب النبوة طرحناه (١)

* والدليل على أن داود كان معصوما من الخطايا ، قول الحق سبحانه ـ بعد ذلك :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [سورة ص : ٢٦] ـ أى استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أى فاحكم بينهم بالعدل ، وبشريعة الله التى أنزلها عليك.

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى لا تتبع هوى النفس فى الحكومات وغيرها ، فيضلك إتباع الهوى عن دين الله القويم ، وشرعه المستقيم.

ومضمون الآية : يا داود إنا جعلناك خليفة الله فى أرضه ، خليفة لله على عباده ، تقيم حكمه ، وتدعو إلى شرعه ، وتثبت دعائم عدله ، وتقضى بين الناس ، فاحكم يا داود بينهم بالحق ، ولا يحملنك شنآن قوم على عدم العدل ، فأنت خليفة أحكم الحاكمين ، وأعدل العادلين.

يا داود لا تتبع الهوى ، فإن من اتبع هواه ضل ، ومن انحرف عن الصراط وقع فى الهاوية ، لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وهو الصراط المستقيم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [سورة ص : ٢٦] أى إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه ، لهم عذاب شديد يوم القيامة (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أى بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله ، وعدم إيمانهم بيوم الحساب.

__________________

(١) انظر ما كتبه الأستاذ محمد على الصابونى فى كتابه النبوة والأنبياء. طبع مكة المكرمة.

٣٣٠

قال عكرمة : هذا من المقدم والمؤخر ، لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا.

وهذا تعليل لما قبله : إن الذين يضلون عن سبيله لهم عذاب شديد وقعه ، بسبب أنهم نسوا يوم القيامة ، ولم يعلموا لذلك اليوم ، أولئك الذين نسوا الله فأنساهم العمل لخيرهم ، فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.

قال ابن كثير : هذه وصية من الله عزوجل ، لولاة الأمور ، أن يحكموا بين الناس بالحق المنزّل من عنده ـ تبارك وتعالى ـ ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضلّ عن سبيله ، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد ، والعذاب الشديد.

قال ابن أبى حاتم ـ بإسناد ـ حدثنى إبراهيم أبو زرعة ، وكان قد قرأ الكتاب : أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت الكتاب الأول ، وقرأت القرآن ، وفقهت؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أقول؟ قال : قل فى أمان الله ، قلت : يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ، ثم توعده فى كتابه ، فقال تعالى :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية. (١)

قال أبو حيان : وجعله تعالى داود خليفة فى الأرض يدل على مكانته ـ عليه‌السلام ـ واصطفائه له ، ويدفع فى صدر من نسب إليه شيئا مما لا يليق بمنصب النبوة. (٢)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ / ٣١

(٢) البحر المحيط ٧ / ٣٩٤

٣٣١

بقى أن نوضح ما يتصل بالسجدة ، التى سجدها داود ـ عليه‌السلام.

هل هى من عزائم السجود ، أم هى للشكر .. وما رأى الأئمة فيها؟

* وقف الأئمة من سجدة داود ـ عليه‌السلام ـ عند رأيين :

ـ الجديد من مذهب الشافعى ـ أنها ليست من عزائم السجود ، بل هى سجدة شكر.

والدليل على ذلك ، ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا إسماعيل ـ بإسناد ـ عن ابن عباس : أنه قال فى السجدة (ص) ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسجد فيها (١).

وقال النسائى ـ عند تفسير هذه الآية : أخبرنى إبراهيم بن الحسن ـ بإسناد ـ عن ابن عباس ، قال : إن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سجد فى (ص) وقال : سجدها داود ـ عليه‌السلام ـ توبة ، ونسجدها شكرا.

وروى عن ابن عباس ـ بإسناد ـ قال : جاء رجل إلى النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله .. إنى رأيت فيما يرى النائم كأنى أصلى خلف شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت ، فسجدت الشجرة لسجودى ، فسمعتها تقول وهى ساجدة : «اللهم اكتب لى بها عندك أجرا ، واجعلها لى عندك ذخرا ، وضع بها عنى وزرا ، واقبلها منى كما قبلتها من عبدك داود». قال ابن عباس : فرأيت النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قام فقرأ السجدة ، ثم سجد ، فسمعته يقول وهو ساجد ـ كما حكى الرجل من كلام الشجرة (٢).

__________________

(١) رواه البخارى وأبو داود.

(٢) رواه الترمذى عن قتيبة ـ وابن ماجه.

٣٣٢

ـ وقال البخارى عند تفسير الآية ـ برواية عن العوام ، قال : سألت مجاهد عن سجدة (ص) فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت ، فقال : أو ما تقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنعام : ٨٤] ... (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]. فكان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أمر نبيكم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يقتدى به ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ـ وروى أبو داود ـ عن أبى سعيد الخدرى ، قال : قرأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة ، نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان فى يوم آخر قرأها ، فلما بلغ السجدة تشرف الناس للسجود ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنما هى توبة نبى ، ولكنى رأيتكم تشرفتم ، فنزل وسجد» (١)

إن لداود ـ عليه‌السلام ـ عند ربه لقربة يقرّبه بها الله عزوجل ، وحسن مرجع ، وهو الدرجات العالية فى الجنة لنبوته ، وعدله التام فى ملكه.

قال مالك بن دينار ـ عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.)

يقام داود يوم القيامة ، عند ساق العرش ، ثم يقول الله : يا داود .. مجّدنى اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم ، الذى كنت تمجّدنى فى الدنيا ، فيقول : وكيف وقد سلبته؟

فيقول الله : إنى أرده عليك اليوم ، قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.

__________________

(١) رواه أبو داود.

٣٣٣

الفصل الثانى عشر

المسيح عيسى ابن مريم .. رسول الله وكلمته .. وقصة المائدة

الباحث المتأمل فى ما جاء فى القرآن العظيم متصلا برسول الله «المسيح عيسى ابن مريم» ، يجد أن قصته تعانقت فيها المعجزة الإلهية مع الإنسانية ، منذ البدء والتكوين ، حتى الرفع إلى أعلى عليّين ، وتعانق فيها الاضطهاد فى سبيل الإيمان ـ حتى الزعم بالصلب والقتل ، مع التأليه والارتفاع به من مرتبة النبوة إلى منزلة الألوهية.

حرص القرآن الكريم على أن يقدم للبشرية جمعاء ، قضية المسيح كاملة ، بكل عناصرها وتفاصيلها ، لأنها كانت وسيلة أهل الكتاب للجدل والمناقشة فى دين الإسلام.

ولما كان أهل الكتاب قد حرّفوا كتبهم ، فانحرفت عقائدهم ومفاهيمهم ، فقد أخذوا يستدلون بهذا التحريف للطعن فى دين الإسلام ، ونبى الإسلام ، وكتاب الإسلام.

من هنا تصدى لهم القرآن ، وأخذ يفنّد مزاعمهم ، ويضع أمام الناس جميعا ، المؤمنين والكافرين على السواء ، قضية رسول الله وكلمته ، قول الحق ، المسيح عيسى ابن مريم البتول ، ويفصل حقيقتها ، ويلقى المزيد من الضوء على سيرته ، بوصفه أحد الرسل المجاهدين المناضلين فى سبيل الدعوة ، المبعوث من قبل الحق لهداية بنى إسرائيل ، وليزيل عنه وعن سيرته الخرافات والتزايدات ، التى قام بها النصارى.

٣٣٤

إن قصة البدء تطلعنا على مجموعة من الحقائق عن رسول الله عيسى ابن مريم ..

أنه هبة من روح الله .. ولد بغير أب :

ـ يقول الحق ـ تبارك وتعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ : إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قالَتْ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٥ ـ ٤٧]

ـ ويقول عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ، وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [مريم : ١٦ ـ ٢١]

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أى أرسلنا إليها جبريل ـ عليه‌السلام ـ (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أى تصور لها فى صورة البشر ، التام الخلقة.

قال ابن عباس : جاءها فى صورة شاب أبيض الوجه ، جعد الشعر ، مستوى الخلقة.

قال المفسرون : إنما تمثل لها فى صورة الإنسان لتأنس لكلامه ، ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها فى الصورة الملائكية لنفرت ، ولم تقدر على السماع لكلامه ،

٣٣٥

ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة فى الحسن (١).

وقالوا أيضا : إن جبريل نفخ فى جيب درعها فدخلت النفخة فى جوفها فحملت به ، وتنحّت إلى مكان بعيد ، وكان هذا الأمر حكم الله بمجيىء عيسى ، وإن لم يكن لها زوج ، فإن ذلك على الله سهل يسير ، وليكون مجيؤه آية للناس ، ودلالة على قدرة الله العجيبة ، ورحمة لهم ببعثه نبيّا يهتدون بإرشاده.

وأنه كان يكلّم الناس فى المهد إثباتا للمعجزة الإلهية :

قال تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

[آل عمران : ٤٦]

كلّم أمه أثناء المخاض والوضع :

قال عزوجل : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ : يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) [مريم : ٢٢ ـ ٢٦]

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أى فألجأها ألم الطّلق ، وشدة الولادة إلى ساق نخلة يابسة لتعتمد عليها عند الولادة. قالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) أى قالت : يا ليتنى كنت مت قبل هذا اليوم ، وكنت شيئا تافها لا يعرف ولا يذكر.

__________________

(١) أبو حيان : البحر المحيط ج ٦ ص ١٨٠

٣٣٦

قال ابن كثير : عرفت أنها ستبلى وتمتحن بهذا المولود ، فتمنت الموت ، لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها فى خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عاهرة زانية ، ولذلك قالت ما قالت. (فَناداها مِنْ تَحْتِها) قال مجاهد : عيسى ابن مريم. وقال الحسن : هو ابنها (١). قال : أو لم تسمع الله يقول : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ.)

وكلّم أهله وقومه ليدفع عن أمه الفرية ، ويظهر المقدرة الربانية :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ، قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ـ قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قالَ : إِنِّي عَبْدُ اللهِ ، آتانِيَ الْكِتابَ ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ ، وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٢٧ ـ ٣٣]

أى أتت به قومها بعد أن طهرت من النفاس ، تحمل ولدها عيسى على يديها ، فلما رأوها وابنها أعظموا أمرها واستنكروه ، وقالوا لها : لقد جئت شيئا عظيما منكرا ، (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أى لم تجبهم ، وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه ، فقالوا متعجبين : كيف نكلم طفلا رضيعا ، لا يزال يغتذى بلبان أمه.

قال الرازى : روى أنه كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع ، وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان (٢).

__________________

(١) هذا ما اختاره ابن جرير فى تفسيره.

(٢) التفسير الكبير ٢١ / ٢٠٨

٣٣٧

فعيسى ليس ابنا لله ، كما يزعم الزاعمون ، ولكنه ـ باعترافه ـ عبد الله.

ذكر القرآن على لسانه (قالَ : إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أى قال عيسى ـ فى كلامه حين كلمهم ـ أنا عبد الله ، خلقنى بقدرته من دون أب ، فقدم ذكر العبودية ، ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية.

وقال : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) [مريم : ٣٦]

قيل : عهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه ، ومولده ، وموته ، وبعثه ، إن الله ربى وربكم فاعبدوه.

وأن الله آتاه الكتاب ، وكلفه الرسالة ، وجعله نبيا ..

قال تعالى : (آتانِيَ الْكِتابَ ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)

أى قضى ربى أن يؤتينى الإنجيل ، ويجعلنى نبيا ، وإنما جاء بلفظ الماضى لإفادة تحققه ، فإن ما حكم به الله أزلا لا بد إلّا أن يقع.

ولقد اختص الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ بمجموعة من الخصائص ، وأيده بالمعجزات الحسية ، التى يفهمها ويقدّرها هؤلاء القوم فى عصره. منها :

١ ـ تأييد الله إياه بروح القدس :

قال عز من قائل : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧]

وقال جل جلاله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة : ١١٠]

٣٣٨

أى واذكر يا عيسى ابن مريم نعمتى عليك حيث اصطفيتك بالرسالة ، وشرفتك بالنبوة ، وكنت من غير أب ، فكنت آية على قدرة الله ، واذكر نعمتى على والدتك النقية الطاهرة ، مريم البتول ، التى برأتها مما نسب إليها ، وشرفتها بنسبة عيسى لها.

واذكر يا عيسى نعم الله عليك ، إذ أيدك بروح القدس ، وعلمك وثبتك ولقّنك الحجة بأمر الله وإذنه ، وأيدك بروح طاهرة قوية.

قال الربيع بن أنس : هو الروح الذى نفخ فيه الروح. أضافه سبحانه إلى نفسه تكريما وتخصيصا ، والقدس ، هو الله تعالى ، يدل عليه قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١]

وقوله عزوجل : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا)

[الأنبياء : ٩١]

وقوله جل جلاله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢]

وقال آخرون : أراد بالقدس الطهارة ، أى الروح الطاهرة ، وسمى عيسى ـ عليه‌السلام ـ روحا ، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحول ، ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث ، إنما كان أمرا من الله تعالى.

وقال السدى وكعب : روح القدس : جبريل ، وتأييد عيسى بجبريل ـ عليهما‌السلام ـ هو أنه كان قرينه ورفيقه ، يعينه ويسير معه حيثما سار إلى أن صعد به إلى السماء.

وقال سعيد بن جبريل : القدس : اسم الله الأعظم ، وبه كان يحيى الموتى ، ويرى الناس تلك العجائب.

٣٣٩

والمعنى : وآتينا عيسى ابن مريم البتول المعجزات الواضحة ، دليلا على صدقه ، وقويناه بجبريل ، وخص عيسى بتأييد روح القدس لكرامته.

٢ ـ تعليم الله إياه الإنجيل والتوراة .. كان يقرأهما من حفظه.

كما قال الحق سبحانه : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ١١٠]

وقال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٤٨]

قيل : الكتاب هو الخط ، قيل : الخط عشرة أجزاء ، فتسعة منها لعيسى ، والحكمة والتوراة والإنجيل.

والمعنى : واذكر نعمتى عليك إذ علمتك قراءة الكتاب ، وعلمتك الحكمة ، والعلم النافع فى الدنيا والآخرة ، وخاصة التوراة والإنجيل.

٣ ـ خلقه الطير من الطين.

كما قال تعالى مخبرا عنه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ٤٩]

وقال جل جلاله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]

فكان ـ عليه‌السلام ـ يصور من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

قال المفسرون : ولم يخلق غير الخفّاش ، وإنما خصّ بالخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ، فيكون أبلغ فى القدرة ، لأن له ثديا وأسنانا ، ويلد ويحيض ويطير.

قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عنهم سقط ميتا ، ليتميّز فعل الخلق ، عن فعل الله تعالى ، وليعلم أن الكمال لله عزوجل.

٣٤٠