دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

٤ ـ إبراء الأكمه والأبرص :

كما قال الحق سبحانه ـ على لسانه ـ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ)

[آل عمران : ٤٩]

وقال عزوجل : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]

والأبرص : الذى به وضح ، والأكمه : الذى ولد أعمى ، ولم ير ضوءا قط ، ولم يكن فى الإسلام أكمه غير قتادة ، وإنما خص هذين لأنهما أعيا الأطباء ، وكان الغالب على زمان عيسى الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك.

ويروى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ مرّ بدير فيه عميان ، فقال : ما هؤلاء؟ فقيل : هؤلاء قوم طلبوا للقضاء فطمسوا أعينهم بأيديهم ، فقال : ما دعاكم إلى ذلك؟ قالوا : خفنا عاقبة القضاء ، فصنعنا بأنفسنا ما ترى ، فقال : أنتم العلماء والحكماء ، والأحبار الأفاضل .. امسحوا أعينكم بأيديكم ، وقولوا : (باسم الله) ففعلوا ذلك ، فإذا هم جميعا قيام ينظرون (١)

٥ ـ إحياء الموتى بإذن الله.

كما قال الحق على لسانه : (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ٤٩]

وقال عز شأنه : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]

أحيا عيسى ـ عليه‌السلام ـ أمواتا بإذن الله ، منهم العاذر ، وكان صديقا له ، فأرسلت أخته إلى عيسى ، أن أخاك العاذر يموت ، فأتى إليه ، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام ، فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام ، فقالوا لأخته : انطلقى بنا إلى قبره ، فانطلقت معهم إلى قبره ، وهو فى صخرة مطبقة ، فقال عيسى ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١) قصص الأنبياء للثعالبى ص ٤٢٢

٣٤١

«اللهم رب السموات السبع ، والأرضين السبع ، إنك أرسلتنى إلى بنى إسرائيل ، أدعوهم إلى دينك ، وأخبرتهم أن أحيى الموتى بإذنك ، فأحى العاذر ، فقام العاذر ، وخرج من قبره ، وبقى وولد له».

قال الكلبى : كان عيسى ـ عليه‌السلام ـ يحيى الموتى بكلمة : «يا حىّ يا قيّوم»

٦ ـ الإخبار عن الغيوب :

كما قال الله عزوجل ـ إخبارا عنه : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩]

قال الكلبى : لما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيا الموتى ، قالوا : هذا ساحر ، ولكن أخبرنا بما نأكل ، وبما ندخر ، فكان يخبر الرجل بما يأكل فى غدائه ، وبما يأكل فى عشائه.

* ومع كل هذه المعجزات والمؤيدات الإلهية ، فعيسى ابن مريم من البشر ، كآدم ، خلقه الله من تراب ، ثم قال له كن. قال الحق ـ عز شأنه :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩]

ثم كلفه الله بالرسالة ، لكى يكون رسوله لبنى إسرائيل ، يهديهم ويخرجهم من ظلمات جهلهم وعنتهم كما قال جل وعلا : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٤٨ ، ٤٩]

وقال عز شأنه على لسانه : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٦]

وقال سبحانه : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ)

[النساء : ١٧١]

٣٤٢

* والرسالة ميثاق من الله : يأخذه على رسوله بتبليغ رسالته ، والدفاع عنها ، ليسألهم عن ذلك يوم القيامة. وقد أخذ الله على عيسى عهدا ، كما أخذه على الأنبياء من قبله.

يقول تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ ، وَمِنْ نُوحٍ ، وَإِبْراهِيمَ ، وَمُوسى ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) [الأحزاب : ٧ ، ٨]

ولقد أوتى عيسى الرسالة ، وأمر بالتبليغ ، وكانت الرسالة هى الآية الثانية لعيسى ـ عليه‌السلام. وقد قام بتبليغ ما كلّف به ، فكانت المشاكل التى صادفها كل الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، حين دعوهم إلى الإيمان. ولن يبلغ الإيمان ذروته ـ فى قلب نبى أو رسول ـ ما لم يناضل ، ويجاهد فى سبيل رسالته ودعوته. وكان عيسى من هؤلاء الأنبياء المناضلين المجاهدين فى سبيل دعوة الله ، والإيمان به. وفى ذلك يقول القرآن :

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [الزخرف : ٦٣ ـ ٦٥]

ودعا عيسى ـ عليه‌السلام ـ الحواريين والأنصار ليكونوا معه عنصر تأييد وقوة ، لينتصر بهم فى دعوته : كما قال القرآن :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ـ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤]

ولكن دعوته مرّت بنفس التجربة ، التى مرت بها دعوة الرسل من قبله ، فقد أخذوا يجادلون فى آيات الله. ولم يكن ذلك الجدل من أجل المعرفة ،

٣٤٣

وإدراك اليقين ، بل كان جدل المكابرة والعناد ، والكفر ، والرغبة فى إبطال الدعوة ..

كان الجدل للجدل فحسب ، ولحب الإطلاع على أسرار الألوهية ، وهى ليست من اختصاص الأنبياء ، ولا الرسل ، ولكنهم يهدفون إلى التعجيز.

ولم يقف الأمر عند الكافرين المعاندين ، بل وجدنا الحواريين يشاركون فيه ، ويلحّون فى جدل عقيم ، رغم ادعائهم الإيمان والإسلام ، ولم يكونوا فى حقيقة أمرهم مسلمين.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١]

ومع هذا قالوا : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟) [المائدة : ١١٢]

وهذا سؤال لا يليق بهم قطعا ، ولذا خرّجه العلماء على وجوه ، أحسنها : أن يستطيع بمعنى (يطيع) كاستجاب بمعنى (أجاب) ـ أى : هل تستطيع أمر ربك؟

وقيل : إنه سؤال عن الاستطاعة على حسب الحكمة الإلهية. أى هل ينافى الحكمة إنزال المائدة أم لا؟ فإن ما ينافى الحكمة لا يقع قطعا ، وإن كان ممكنا. ولهذا قالوا معتذرين عن إيراد السؤال بهذه الصورة ، وبعد أن قال لهم عيسى : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

قالوا : (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) فنحن فى حاجة إليها ، ونحن إذا أكلنا تطئمن قلوبنا ، وتهدأ نفوسنا ، ونعلم أن قد صدقتنا ، فى أن الله تعالى أرسلك نبيا ، واختارنا أعوانا لك ، وقد رضى عنا بإجابة سؤالنا ، ونكون عليها من الشاهدين بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة ، إذ هذه كالدليل على ذلك.

٣٤٤

فتضرع عيسى ابن مريم إلى الله عزوجل ، لتلبية طلبهم قائلا : ربنا .. يا مالك أمرنا ، ومتولى شئوننا ، أنزل علينا مائدة من عندك لتكون لنا مؤشرا على رضاك عنا ، ومبعث فرح وسرور ، ويوم نزولها نتخذه عيدا نجتمع فيه للعبادة والشكر ، ويعود علينا فى كل عام باليمن والإقبال ، لأولنا وجودا ، وآخرنا كذلك ، وتكون آية منك ، ودلالة وحجة ترشد القوم إلى دعوتى ، وصدق رسالتى ، وارزقنا بما به نقيم أودنا ، ونغذى أجسامنا ، فأنت خير الرازقين ، ترزق من تشاء بغير حساب.

قال الله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) وقد نزلت إذ وعده الحق ، وقوله الصدق.

فمن يكفر بعد نزول هذه الآية المقترحة ، فإنى أعذبه عذابا شديدا ، لا أعذب هذا العذاب لأحد من العالمين ، إذ اقتراح آية بعد الآيات الكثيرة ، التى نزلت ـ كهذه المائدة ـ آية يشترك فى إدراكها كل الحواس ، ثم بعد هذا يكفر بها ، فإنه يستحق من الله عذابا دونه عذاب الكفار جميعا.

هذا الجدل يراد به التعجيز ، بل إنه ليحمل معنى الشك والسخرية ، وعمى البصيرة عن إدراك معنى الألوهية ، فقد أصبحت الألوهية فى نظرهم ، مجردة عن معناها الحقيقى ، وأصبحت آية وجود الله هى أن ينزّل مائدة من السماء إن استطاع ، وأصبح اطمئنانهم وعلمهم بصدق دعوة الإيمان ، وشهادتهم بذلك ، متوقفة على نزول هذه المائدة من السماء.

كان هذا إحراج لنبى الله عيسى ـ عليه‌السلام ـ كان يدعوهم إلى ما هو أسمى من ذلك وأعظم ، ومع ذلك استجاب عيسى لإلحاحهم عساه يبلغ من نفوسهم ما يريد ، فطلب من الله أن ينزل هذه المائدة ، حتى تكون عيدا وآية فى نفس الوقت.

٣٤٥

وقد أحيطت قصة المائدة بأخبار كثيرة ، رويت عن وهب بن منبه ، وكعب ، وسلمان ، وابن عباس ، بل لقد رووا فى ذلك حديثا ، عن عمار بن ياسر ، عن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إنها نزلت خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد» ـ وفى رواية بزيادة : «ولا يخبّئوا ، فخانوا وادخروا ، ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير».

ورفع مثل هذا الحديث ـ إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غلط ووهم من أحد الرواة على ما أرجح.

وروى العوفى ، عن ابن عباس : «أنها خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا ، إذا شاءوا»

وقال عكرمة ، عن ابن عباس : «كانت المائدة سمكة وأريغفة».

وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : «أنزل على المائدة كل شىء إلا الخبز واللحم».

وقال كعب الأحبار : «نزلت المائدة تطير بها الملائكة ، بين السماء والأرض ، عليها كل الطعام إلا اللحم».

وقال وهب بن منبه : «أنزلها من السماء على بنى إسرائيل ، فكان ينزل عليهم فى كل يوم ، فى تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاءوا من ضروب شتى ، فكان يقعد عليها أربعة آلاف ، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم ، فلبثوا على ذلك ما شاء الله ـ عزوجل».

وقال وهب أيضا : نزل عليهم أقرصة من شعير ، وأحوات (جمع حوت وهو السمك) وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ، ثم يخرجون ، ثم يجيىء آخرون فيأكلون ، ثم يخرجون حتى أكل جميعهم وأفضلوا.

٣٤٦

وذهب الحسن ومجاهد ، إلى أن المائدة لم تنزل ، وذلك لأن الله ـ سبحانه ـ لمّا توعدهم على كفرهم ـ بعد نزولها ـ بالعذاب البالغ غاية الحد ، خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا وقالوا : لا نريدها ، فلم تنزل (١).

وهذا القول مخالف لظاهر النص القرآنى : (قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولا أدرى ما الحامل لهما على هذا.

إن الأمر الواضح من هذه الأقوال ، وغيرها ، أن الرواة لم يتفقوا على شىء. وهذا يدل دلالة واضحة على أنها من الإسرائيليات المبتدعة ، ولا يمكن أن يكون مرجعها إلى النبى المصطفى المعصوم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى رواية ذكرها ابن أبى حاتم فى تفسيره ، بسنده ، عن وهب بن منبه ، عن أبى عثمان النهدى ، عن سلمان الفارسى ـ خلاصتها :

أن الحواريين لما سألوا عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ المائدة ، كره ذلك ، خشية أن تنزل عليهم فلا يؤمنوا بها ، فيكون فيها هلاكهم ، فلما أبوا إلّا أن يدعو لهم الله كى تنزل ، دعا الله ، فاستجاب له ، فأنزل الله سفرة حمراء ، بين غمامتين ، غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها فى الهواء ، منقضّة من السماء ، تهوى إليهم ، وعيسى ـ عليه‌السلام ـ يبكى خوفا من الشرط الذى اتخذ عليهم فيها ، فمازال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه ، والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة ، لم يجدوا رائحة مثلها قط ، وخرّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ والحواريون سجدا ، شكرا لله ، وأقبل اليهود ينظرون إليهم ، فرأوا ما يغمهم ،

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير عند هذه الآيات ، وتفسير السيوطى الدر المنثور ، وتفسير الزمخشرى ، والفخر الرازى ، وأبى السعود عند تفسير الآيات ، وانظر تفسير ابن كثير ٢ / ١١٦ ، والبغوى ٣ / ٢٧٤ ـ والألوسى ٧ / ٦٢ ـ ٦٥ ، والقرطبى ج ٦ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٢

٣٤٧

ثم انصرفوا ، فأقبل عيسى ومن معه ينظرونها ، فإذا هى مغطاة بمنديل ، فقال عيسى ـ عليه‌السلام : من أجرؤنا على كشفه ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ، حتى نراها ، ونحمد ربنا ـ سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذى رزقنا؟.

فقالوا : يا روح الله وكلمته ، أنت أولى بذلك ، فقام واستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه ، فصلى ركعات ، ثم بكى طويلا ، ودعا الله أن يأذن له فى الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ، ثم انصرف وجلس حول السفرة ، وتناول المنديل ، وقال : «بسم الله خير الرازقين» ، وكشف عنها ، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير (أى قشر) ، وليس فى جوفها شوك ، يسيل السمن منها ، فقد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذيلها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات.

وفى رواية : «على واحد منها زيتون ، وعلى الثانى عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد».

فقال شمعون ، رأس الحواريين ، لعيسى : يا روح الله وكلمته : أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟

فقال عيسى : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفنى عليكم أن تعاقبوا فى سبب نزول هذه الآية.

فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بهذا .. السؤال يا ابن الصدّيقة.

فقال عيسى : ليس شىء مما ترون من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنة ، إنما هو شىء ابتدعه الله فى الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة.

فقالوا : يا روح الله وكلمته .. إنا نحب أن يرينا الله آية فى هذه الآية!

٣٤٨

فقال عيسى ـ عليه‌السلام ـ سبحان الله تعالى ، أما اكتفيتم؟

ثم قال : يا سمكة عودى بإذن الله حية كما كنت؟ فأحياها الله ، وعادت حية طرية.

ثم قال : يا سمكة عودى بإذن الله ـ كما كنت مشوية ، فعادت!

ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا ، حتى يكون هو البادىء فأبى ، ثم دعا لها الفقراء والزمنى.

وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله ـ تعالى ـ الذى أنزلها لكم ، فيكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم «باسم الله» ، واختتموه «بحمد الله» ، ففعلوا.

فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان ، بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها ، كل واحد شبعان يتجشّأ ، ونظر عيسى والحواريون ، فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء ، لم ينقص منها شىء ، ثم إنها رفعت إلى السماء ، وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرىء كل زمن أكل منها ، وندم الحواريون وأصحابهم ، الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة ، سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتهم فى قلوبهم إلى يوم الممات.

* والأمر الواضح الذى يضعف هذه الرواية ، ويدل على اختلاق هذه القصة .. هو ما ورد من امتناعهم عن الأكل من المائدة ، وإلا فكيف يطلبونها .. ثم إذا نزلت من السماء يمتنعون عن الأكل ، لأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يبدأ به؟

* وتقول بعض الروايات : «وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك ، أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان ، يزحم بعضهم بعضا ، فلما رأى ذلك ،

٣٤٩

جعلها ثوبا تنزل يوما ولا تنزل يوما ، ومكثوا على ذلك أربعين يوما ، تنزل عليهم غبّا ، عند ارتفاع النهار ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا (من القيلولة) ارتفعت عنهم إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها فى الأرض حتى تتوارى.

فهل معنى ذلك أن المائدة نزلت أكثر من مرة؟

إن القرآن الكريم يدل دلالة واضحة على أن المائدة لم تنزل إلا مرة واحدة ، وهذه الرواية تدل على تكرر نزولها ، وهذا بالتالى يدل على اختلاق تفاصيل القصة ، وأنها من تزيدات بنى إسرائيل.

* وجاء فى بعض الروايات : فأوحى الله إلى عيسى ، أن اجعل رزقى لليتامى والمساكين ، والزّمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء ، وغمصوا ذلك حتى شكوا فى أنفسهم ، وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا فى أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه فى قلوب المرتابين ، فلما علم عيسى ذلك منهم ، قال : هلكتم وإله المسيح ، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم من ربكم ، فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا ، وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها ، وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.

وأوحى الله إلى عيسى : إنى آخذ المكذبين بشرطى ، فإنى معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها ، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم فى أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان فى آخر الليل .. مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتتبعون الأقذار فى الكناسات.

٣٥٠

* إن الأمر الذى يجب أن نتنبّه له أن أصل قصة المائدة ثابت بالقرآن المتواتر ، الذى لا شك فيه ، وإنما موضع الشك ـ فى كل هذه التزايدات التى نفثها الإسرائيليون.

وقد ذكر المفسرون جميعا كل ما يدور حول هذه القصة ، وإن اختلفوا فى ذلك قلة وكثرة ، والعجب أن أحدا لم ينبه على أصل هذه المرويات الدخيلة ، والمنبع الذى نبعت منه ، حتى الإمامين ابن كثير السلفى ، والألوسى (١) ـ وإن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفى إلى عدم صحة معظم ما روى ، كما شكك القرطبى فى هذه القصة الطويلة ، فقال : قلت فى هذا الحديث مقال ، ولا يصح من قبل إسناده. (٢)

ثم تأتى المحنة ، أو قل : الامتحان الرهيب ، الذى تعرض له عيسى ابن مريم ـ من فرط تقديم المعجزات إليهم لقد تجاوزوا حدود الإيمان برسالته ، وأخذوا يؤلهون عيسى المسيح نفسه.

وهل هناك محنة أشق على نفس نبى الله ، من تأليهه هو مع ربّه ، فى نفس الوقت الذى يدعو فيه إلى وحدانية الله؟

إنها محنة نفسية أشد وأقوى من إصرارهم على عبادة الأصنام وتأليهها ، لأن الداعى إلى الإيمان ـ فى هذه الحالة ـ يصبح بذاته سبيل كفرهم.

وقد صور القرآن العظيم هذا الامتحان النفسى ، فنجد أن الله ـ جل جلاله ـ يسأل عيسى ابن مريم هل هو الذى دعاهم إلى هذا الإشراك؟

__________________

(١) ابن كثير ٢ / ١١٦ ، وتفسير الألوسى ج ٧ ص ٦٢ ، ٦٥

(٢) تفسير القرطبى ج ٦ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٢

٣٥١

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالَ : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٦ ، ١١٧]

هذا سؤال من الله عزوجل ـ لعيسى ابن مريم خاصة ، حتى يجيب ، فتكون إجابته توبيخا لمن ادعى غير إجابته ، ودليلا على أن قومه غيروا بعده وبدلوا ، وادعوا عليه كذبا وبهتانا لم يقله ، وإنكاره بعد سؤاله أشد فى التوبيخ ، وأبلغ فى التكذيب.

وإذ قال الله لعيسى ابن مريم ، أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين ، متجاوزين بذلك توحيد الله ، وإفراده بالعبادة والتقديس؟. فالله يسأل للإنكار والتوبيخ ، أقالوا هذا القول ، وافتروا هذه الفرية بأمر منك ، أم هو إفتراء وإختلاق من عند أنفسهم ، واتخاذ الآلهة من دون الله ، يكون بعبادتهم ، أو إشراكهم فى العبادة ، على معنى أن لهم تصريفا ، أو أنهم يقربون إلى الله زلفى ..

قال عيسى : سبحانك يا رب ، وتنزيها لك وتقديسا ، ما يكون لى ، ولا ينبغى لى أن أقول ما ليس بحق أصلا ، وكيف يصدر منى هذا وقد عصمتنى بروح من عندك ، إن كنت قلته فقد علمته ، فأنت تعلم الغيب والشهادة ، وتعلم سرى وضميرى ، وأنا لا أعلم شيئا مما استأثرت به من بحار علمك ، إنك أنت علام الغيوب.

لقد جاء هذا التوضيح القرآنى للحقيقة فى صورة هذا الحوار بين الله ورسوله عيسى ، بعد أن وضع بنو إسرائيل رسولهم فى المحنة ، وعرضّوه للإمتحان الرهيب أمام الله ، وأمام نفسه.

٣٥٢

فقالوا مرة : إنه (الله) (١) ، وقالوا فى أخرى (ابن الله) ، وقالوا ثالثة بعقيدة التثليث (الأب ، والابن ، والروح القدس) (٢). ولقد كفّرهم القرآن بزعمهم ، وحرم عليهم الجنة.

فقال عز من قائل : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.) [المائدة : ١٧]

إن القرآن الكريم يبطل تلك العقيدة الوثنية .. فيقول الحق سبحانه : يا أيها الرسول .. قل لهؤلاء الذين تجرءوا على مقام الألوهية : من يملك من الله شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه؟ من يمنع الله إذا أراد أن يميت المسيح وأمه ، لا أحد يقدر على هذا ، فالله لا رادّ لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، بل لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وأمره ، وها هو ذا المسيح وأمه ، قد حصل لهما ما حصل لبقية الخلق ، فهل منعا عن أنفسهما شيئا.

وإذا كان المسيح لم يستطع أن يدفع شيئا عن نفسه ، ولا عن أمه ، ولم يستطع أحد أن يدفع عن المسيح شيئا ، فهل يكون هو الله ، الذى بيده ملكوت كل شىء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

__________________

(١) المسيحيون المعاصرون ـ خصوصا الكاثوليك والأرثوزكس ، لا يعدّون الموحّد مسيحيا ، ويقولون بألوهية المسيح ، وأن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ، وأساس هذه العقيدة عبارة وردت فى انجيل لوقا (فى البدء كانت الكلمة ، والكلمة كانت عند الله ، والله هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح ، فصار معنى الفقرة : الله هو المسيح ـ كما وصفهم القرآن الكريم.

(٢) ذكر الدكتور بوست فى تاريخ الكتاب المقدس : (طبيعة الله ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، الله الأب ، والله الإبن ، والله روح القدس ، فإلى الأب الخلق ، وإلى الإبن الفداء ، وإلى روح القدس التطهير ، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء)

٣٥٣

وقال عز شأنه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٧٣]

إن فكرة التثليث ـ أو البنوة ، أو قل الإشراك ، أى جمع الأب ، والابن ، والروح القدس ، بوصفه إله واحد ، لم تخترع ـ فيما نعتقد ـ زيادة فى تقديس عيسى ، وإنما هى محاولة لإفساد دعوته بين الذين يصدقونه ، فحين يسمعون أنه (الله) ، أو أنه (ابن الله) أو (فكرة التثليث) تختلط عليهم الحقيقة ، ويشكّون فى دعوته ، فينفرون منه ومن دعوته.

* ويؤكد ذلك ما جاء فى سورة التوبة :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٠ ، ٣١]

فهم محتارون فى المسيح عيسى ابن مريم ، بين أن يجعلوه (الله) وبين أن ينسبوه (ابن الله) وفضح القرآن هذا الادعاء .. بقوله تعالى :

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم : ٣٥]

ونعى عليهم مغالاتهم فى الدين وتعنتهم فى الرأى والقول .. فى آية جامعة مانعة بقول رب العزة :

٣٥٤

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ ، أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ .. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [النساء : ١٧١]

يقول جل جلاله : يا أهل الكتاب لا تكونوا مغالين فى الدين ، ومتجاوزين الحدود ، فلا تعظموا المسيح عيسى ابن مريم وتقدسوه حتى تجعلوه إلها ، أو ابن إله ـ كما فعلت النصارى ، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه ، أو تحقروه وتهينوه ـ كما فعلت اليهود ..

يا أهل الكتاب ـ ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الثابت بالنقل المتواتر ، الذى يستحيل معه الكذب ، أو المؤيد بالحجج الدامغة ، أما القول بالحلول ، واتخاذ الصاحبة والولد ، فكذب وبهتان وخرافة وشرك.

إنما المسيح ـ عيسى ابن مريم ـ رسول الله ، وكلمته التى ألقاها إلى مريم ، وهو مكون بكلمة (كن) التكوينية (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .. نعم كل مولود له سبب ظاهر ، وهو اتصال الجنسين ، وله سبب حقيقى ، وهو إرادة الله ، المعبر عنها بكلمة (كن) ، فلما انتفى مع عيسى السبب الأول بالبرهان ، ثبت أن عيسى خلق بالسبب الثانى ، وهو كلمة (كن) أوصلها الله إلى مريم بواسطة جبريل وقوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ ..) أى هو مؤيد بروح كائنة منه ـ سبحانه وتعالى ـ لا بعضا منه ، كما فهمتم ـ وإلا لكان كل شىء بعضا من الله ، بدليل قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] وكونه مؤيدا بروح منه يؤيده قول الحق سبحانه (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

٣٥٥

إن المسيح عيسى ابن مريم. رسول الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم ، ورحمة منه ، يقويه قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)

[مريم : ٢١]

ومن الغريب ، أن بعض النصارى يفهمون قول الحق سبحانه (وَرُوحٌ مِنْهُ) أن عيسى ابن الله ، أو جزء الإله أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والذى أوقعهم فى هذا التشابه فى التوراة والإنجيل ، وما وصل إليهم عن طريق الوثنيين من اليونان والرومان ، والمصريين القدماء ، والبراهمة.

إن الدين المسيحى الصحيح ، مبنى على أساس التوحيد البرىء لله سبحانه ، ذاتا وصفة وفعلا ، ولكن الكنيسة أدخلت هذه العقائد الزائفة فى عقول أبنائها ، لأمر فى نفوس القوم ، ولما رأوا القرآن يعارضهم فى ذلك ، كذبوه وأنكروه ، وهو الذى برأ مريم من قول اليهود ، ووضع عيسى الموضع اللآئق وفى أقوال الأحرار من المسيحيين ما يؤيد هذا (١).

ويخاطب القرآن أهل الكتاب ـ بعد أن فند مزاعمهم ـ قائلا : وإذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذى لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وآمنوا برسله جميعا ، لا فرق بينى نبى ونبى ، ولا تقولوا الآلهة ثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس ، أو الله أقانيم ثلاثة ، كل منها عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد. فإن هذا إشراك بالله ، وترك التوحيد ، الذى هو ملة أبيكم إبراهيم. وهذا كلام ينافى العقل الراجح ، والفكر السليم ، إذ كيف يكون واحدا وثلاثة ، وكيف يحل الإله فى بعض خلقه؟

__________________

(١) انظر ما كتبه الشيخ رشيد رضا ـ تفسير الشيخ محمد عبده ـ الجزء السادس ـ فى تفسير الآيات. وانظر كتاب إظهار الحق.

٣٥٦

وكيف يتّحد ، وهل طبيعة الإله كطبيعة البشر؟ بالطبع لا .. بل إن طبيعة البشر تتنافى مع طبيعة الملك ، فهذا لا يأكل ولا يشرب ، وعيسى وأمه كانا يأكلان ويشربان .. ثم ما ميزة عيسى على غيره من الأنبياء؟ أرسل مثلهم مؤيدا بالمعجزات ، وكانت كغيرها لم تجر على سنن الطبيعة ، بل بقدرة الله وقوته ، كما نص القرآن الكريم. فكيف تقولون عيسى إله؟ (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) وقولوا قولا حسنا يكن خيرا لكم وأجدى من هذا العبث ، والشرك ، والعصبية الحمقاء ..

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لا إله إلا هو ، سبحانه وتعالى عما تشركون ، سبحانه أن يكون له ولد ، فليس المسيح ابنه ، إذ الولد يقتضى إتصالا جنسيا بالأم ، وحاجته إليه ، وإلى أمه ، حتى يبرز إلى الوجود ، أفيليق هذا؟

إن الله له ما فى السموات وما فى الأرض ، ملكا ، وخلقا ، وعبيدا وتصريفا .. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥] .. لا فرق فى ذلك بين الملائكة والنبيين والناس أجمعين. وهل الإله فى حاجة للولد؟ .. ليقيم اسمه ، ويحفظ ذكره ، ويرثه بعد موته؟ .. وهل هو فى حاجة إلى الولد ليعينه؟ ..

كلا فالله قوى ، قادر ، مالك الملكوت ، حيّى دائم ، باق بعد فناء خلقه ، صاحب الأمر والتصريف ، وكفى بالله وكيلا. وهذا عيسى نفسه يقول فى إنجيل يوحنا :

(وهذه هى الحياة الأبدية ، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ، ويسوع المسيح الذى أرسلته)

٣٥٧

فهذا نص صريح فى أن المسيح رسول الله فقط.

وفى الإنجيل أيضا : (من يقبلكم يقبلنى ، ومن يقبلنى يقبل الله الذى أرسلنى ، لن يتكبر المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة ، الذين هم أعظم من المسيح خلقا وقوة ، فهم أعلم بذات الله ومكانته)

ومن يستنكف عن عبادة الله وحده ، ويتكبر ، ويدعى الإشراك أو التثليث ، فسيحشرهم إليه جميعا ، ويجازيهم على كل ذلك.

* وتأتى بعد محنة التأليه ، محنة التعذيب والمطاردة ، حتى أنهم همّوا بقتله وصلبه ، وشبّه لهم فزعموا أنهم قتلوه حقا ، وكادوا يفعلون لو لا أن الله رفعه إليه ، فأنقذه من أيديهم.

قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ ، وَما صَلَبُوهُ ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٦ ـ ١٥٨]

وفى خبر رفعه إلى السماء ، يروى الكلبى ، عن أبى صالح ، عن ابن عباس :

«أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ استقبل رهطا من اليهود ، فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة ، الفاعل ابن الفاعلة ، فقذفوه وأمه ، فلما رأى ذلك عيسى دعا عليهم ، فقال : «اللهم العن من سّبنى وسبّ أمى ، فاستجاب الله دعاءه ، ومسخ الذين سبوه وأمه خنازير ، فلما رأى ذلك رأس اليهود وأميرهم ، فزع لذلك ، وخاف دعوته ، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى ،

٣٥٨

فاجتمعوا عليه ذات يوم ، وجعلوا يسألونه ، فقال : يا معشر اليهود ، إن الله يبغضكم ، فغضبوا من مقالته غضبا شديدا ، وثاروا عليه ليقتلوه ، فبعث الله ـ تعالى ـ إليه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فأدخله خوخة وواراه فى سقفها ، ورفعه الله تعالى من روزنته ، فأمر رأس اليهود رجلا من أصحابه ، يقال له فلطيانوس أن يدخل الخوخة ، فيقتله ، فلما دخل فلطيانوس لم ير عيسى ، فأبطأ عليهم ، فظنوا أنه يقاتله فيها ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج ظنوا إنه عيسى ، فقتلوه وصلبوه. وفى ذلك يقول الحق سبحانه :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥]

صدق الله العظيم

٣٥٩

الفصل الثالث عشر

مع أصحاب الكهف .. فى رحلة الإيمان

من أروع قصص الإيمان ، التى تهدف إلى تثبيت العقيدة ، والتى لا تزال تستبد بأفكار المفكرين ، قصة أصحاب الكهف. وهذه القصة من أعظم القصص القرآنى ، المصور فى صدقه ، وسرد حقائقه ، قصة التضحية بالنفس فى سبيل العقيدة. وقد ذكرها القرآن فى معرض الرد على منكرى البعث والنشور يوم القيامة ، كما ذكرها ردّا على سؤال مشركى قريش ، الذين استمدوه من أحبار اليهود.

ذكر محمد بن إسحاق بإسناد عن ابن عباس قال :

«بعثت قريش النّضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن (محمد) وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووصفوا لهم أمره ، وبعض أقواله ، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبىّ مرسل ، وإلّا فرجل متقوّل تروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ .. وسلوه عن رجل طوّاف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ .. وسلوه عن الروح ما هو؟

٣٦٠