دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

فلما قرّبا ، قرّب هابيل جذعة سمينة ، وقرّب هابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركلها وأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب .. وقال : لأقتلنّك حتى لا تنكح أختى ، فقال هابيل : «إنما يتقبّل الله من المتّقين».

* وفى رواية عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها ، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد فى كل بطن رجل وامرأة ، فبينماهم كذلك ولد له امرأة وضيئة ، وولد له أخرى قبيحة دميمة ، فقال أخو الدميمة : أنكحنى أختك ، وأنكحك أختى ، فقال : لا .. أنا أحق بأختى ، فقرّبا قربانا ، فتقبّل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع (١).

وقوله (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) فقربا قربانهما ، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض ، وصاحب الحرث بصبرة من طعامه ، فتقبل الله الكبش ، فخزن فى الجنة أربعين خريفا ، وهو الكبش الذى ذبحه إبراهيم عليه‌السلام فداء لإسماعيل.

* وذكر محمد بن على بن الحسين أثرا آخر قال :

قال آدم ـ عليه‌السلام ـ لهابيل وقابيل : إنّ ربىّ عهد إلىّ أنه كائن من ذرّيتى من يقرّب القربان ، فقرّبا قربانا حتى تقرّ عينى إذا تقبّل قربانكما ، فقرّبا ، وكان هابيل صاحب غنم فقرّب ألوكة غنم خير ماله ، وكان قابيل صاحب زرع ، فقرب مشاقة من زرعه ، فانطلق آدم معهما ، ومعهما قربانهما ، فصعدا الجبل ، فوضعا قربانهما ، ثم جلسوا ثلاثتهم ، آدم وهما ينظران إلى القربان ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٢ / ٤٢

١٦١

فبعث الله نارا ، حتى إذا كانت فوقهما ، دنا منها عنق فاحتمل قربان هابيل ، وترك قربان قابيل ، فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه ، فقال : ويلك يا قابيل ، ردّ عليك قربانك ، فقال قابيل (لأبيه) : أحببته فصليّت على قربانه ، ودعوت له فتقبّل قربانه ، وردّ علىّ قربانى ، فقال قابيل لهابيل : لأقتلنّك وأستريح منك ، دعا لك أبوك ، فصلّى على قربانك فتقبّل منك ، وكان يتواعده بالقتل.

وفى رواية لابن جرير الطبرى : فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة ، وتركت الزرع ، وأن ابن آدم قال لأخيه : أتمشى فى الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبّل منك ، وردّ على ـ فلا والله لا ينظر الناس إلىّ ، وأنت خير منّى ، فقال لأقتلنك ، فقال له أخوه : ما ذنبى .. إنما يتقبل الله من المتقين.

فهذا الأثر يقتضى أن تقريب القربان كان لا عن سبب ، ولا عن تدارىء فى امرأة ـ كما تقدم ـ وهو ظاهر قوله تعالى :

(إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ، قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧]

فالسياق يقتضى إنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه.

ثم المشهور عند الجمهور ـ أن الذى قرّب الشاة هو هابيل ، وأن الذى قرب الطعام هو قابيل ، وأنه تقبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره : إنها الكبش الذى فدى به الذبيح اسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وهو مناسب. والله أعلم.

(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أى قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنّك ، قال : لم؟ .. قال : لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قربانى ، قال : وما ذنبى فى أن الله لم يتقبل منك ، فأصلح نفسك ، وقدّم مخلصا لوجه الله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أى إنما يتقبل ممن اتقى ربه ، وأخلص نيته.

١٦٢

قال البيضاوى (١) : «توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ، فأجابه بأنك أتيت من قبل نفسك بترك التقوى ـ لا من قبلى ، وفيه إشارة إلى أن الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق لله».

قال ابن مالك المقرى : سمعت أبا الدرداء : يقول :

لأن استيقن أن الله قد تقبّل لى صلاة واحدة ، أحب إلىّ من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.)

وقال معاذ بن جبل ـ رضى الله عنه : يحبس الناس (يوم القيامة) فى بقيع واحد ، فينادى مناد : أين المتّقون؟ فيقومون فى كنف من الرحمن ، لا يحتجب الله منهم ، ولا يستتر ، قيل : من المتّقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك ، وعبادة الأوثان ، وأخلصوا العبادة ، فيمرون إلى الجنة (٢)

وقوله : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٨]

قال له أخوه الرجل الصالح (هابيل) الذى تقبّل الله قربانه لتقواه ، حين تواعده أخوه (قابيل) بالقتل ، على غير ما ذنب منه إليه (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي .. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أى لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنا وأنت سواء فى الخطيئة (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أى من أن أصنع كما تريد أن تصنع ، بل أصبر وأحتسب.

__________________

(١) تفسير البيضاوى ص ١٤٩.

(٢) رواه ابن أبى حاتم ، وذكره ابن كثير فى تفسيره.

١٦٣

قال عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنه ـ وأيم الله إنه ـ أى هابيل ـ كان لأشد الرجلين ، ولكن منعه التّحرج والورع ، ولهذا ثبت فى الصحيحين ـ عن النبى المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول فى النار ، قالوا يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول؟. قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

وذكر الإمام أحمد ـ أن سعد بن أبى وقّاص قال ـ عند فتنة عثمان ابن عفان :

«أشهد أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشى ، والماشى خير من الساعى ، قال : أفرأيت إن دخل علىّ بيتى ، فبسط يده إلىّ ليقتلنى؟ فقال : كن كابن آدم.

وفى رواية أخرى : قال : فقلت يا رسول الله : أرأيت إن دخل بيتى وبسط يده ليقتلنى؟ قال : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كن كابن آدم ، وتلا قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي .. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)

وقد ذكر المفسرون : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة ـ لعثمان ابن عفان ـ رضى الله عنه.

وتقرير المعنى : يا أخى لئن مددت إلىّ يدك بالسوء أن تقتلنى ظلما وعدوانا ، ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك أبدا ، لأننى أخاف الله رب العالمين ، الذى تعهدنا بالعناية والرعاية ، وخلقنا على أتم خلق وأكمله ، فمن يتعدى على هذا الخلق السوى ، فقد استحق العذاب الشديد.

يا أخى : إننى لا أريد مقابلة الجريمة بالجريمة أصلا ، فإنك إن فعلتها تبوء بإثم قتلى ، وإثمك الخاص بك.

١٦٤

قال السّدّى وغيره : «إنى أريد أن تبوء بخطيئتى ، فتتحمل وزرها وإثمك فى قتلك إياى».

وقال مجاهد : «إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك ، يقول إنى أريد أن يكون عليك خطيئتى ودمى فتبوء بهما جميعا»

وهذا القول قد أثار قضية هامة .. فقد توهم كثير من الناس هذا القول ، وذكروا فى ذلك حديثا لا أصل له وهو : «ما ترك القاتل على المقتول من ذنب»

وروى الحافظ أبو بكر البزار حديثا يشبهه يتصل إسناده إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «قتل الصّبر لا يمرّ بذنب إلّا محاه»

* وهذا بهذا لا يصحّ ـ ولو صحّ ـ فمعناه : إن الله يكفّر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل ـ فلا .. ولكن قد يتفق هذا فى بعض الأشخاص ، وهو الغالب.

فإن المقتول يطالب القاتل فى العرصات (يوم القيامة) فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت ولم يستوف حقّه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلّا وضعت على القاتل.

وقد صحّ الحديث بذلك عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها لذلك فسّر ابن جرير هذه الآية ـ قال : «والصواب من القول فى ذلك ، أن يقال : إن تأويله : «إنى أريد أن تنصرف بخطيئتك فى قتلك إياى» وذلك هو معنى قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي.)

ـ وأما معنى (وإثمك) فهو إثمه يعنى قتله ، وذلك معصية لله عزوجل فى إعمال سواه.

١٦٥

قال ابن جرير : وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل (التفسير) عليه ، وأن الله عزوجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه ، وإذا كان هذا حكمه فى خلقه ، فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرّم ، وسائر آثام معاصيه التى ارتكبها بنفسه ، دون ما ركبه قتيله.

* وهنا سؤال يطرح نفسه .. كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله .. وإثم نفسه مع أن قتله له محرّم؟

نقول : إن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكفّ عنه يده طالبا إن وقع قتل أن يكون من أخيه ـ لا منه. وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرا له لو انزجر.

ولهذا قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أى تتحمل إثمى وإثمك (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٢٩]

* إن هابيل نفّره من القتل بثلاث : الخوف من الله ، أن يبوء بإثمه وإثم نفسه ، كونه من أصحاب النار ومن الظالمين.

قال ابن عباس : خوّفه بالنار فلم ينته ، ولم ينزجر (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٣٠] ـ أى فحسّنت وسوّلت له نفسه ، وشجعته على قتل أخيه فقتله ، أى بعد هذه الموعظة ، وهذا الزجر ، فهدم ما بناه الله وأتقنه ، فأصبح من الخاسرين ، وأى خسارة أكبر من هذه الخسارة فى الدنيا والآخرة.

١٦٦

عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أوّل من سنّ القتل» (١)

وقال مجاهد : «علّقت إحدى رجلى القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ، ووجهه فى الشمس حيثما دارت دار عليه فى الصيف حظيرة من نار ، وعليه فى الشتاء حظيرة من ثلج».

وقال عبد الله بن عمر : «وإنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة ، العذاب عليه شطر عذابهم».

وقال أيضا : إنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابن آدم ، الذى قتل أخاه ، ما سفك دم فى الأرض منذ قتل قابيل أخاه إلى يوم القيامة إلّا لحق به منه شر ، وذلك أنه أوّل من سنّ القتل».

* كيف قتل قابيل أخاه؟

تباينت أقوال العلماء حول الوسيلة التى قتل بها قابيل أخاه ..

فقال محمد بن على بن الحسن : أنه قتله بحديدة فى يده.

وقال السّدّى عن ابن عباس ، وعن ناس من أصحاب رسول الله :

«فطوّعت له نفسه قتل أخيه ، فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام (هابيل) منه فى رءوس الجبال ، فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له ، وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه ، فمات ، فتركه بالعراء.

وقال بعض أهل الكتاب : أنه قتله خنقا وعضّا كما تقتل السباع.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد.

١٦٧

وقال ابن جرير ـ بإسناده ـ لما أراد أن يقتله جعل يلوى عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ، ثم أخذ حجرا آخر ، فضرب به رأسها حتى قتلها ، وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك (١).

وروى زيد بن أسلم ـ عن أبيه ، قال : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدرى كيف يقتله ، فجاء إبليس فقال : أتريد أن تقتله؟ قال : نعم ، قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه ، قال : فأخذها فألقاها عليه ، فشدخ رأسه ، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعا ، فقال : يا حواء!! إن قابيل قتل هابيل ، فقالت : ويحك .. وأى شىء يكون القتل؟ قال : لا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يتحرك ، قالت : ذلك الموت؟ قال : فهو الموت .. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهى تصيح ، فقال : مالك؟ فلم تكلمه ، فرجع إليها مرتين فلم تكلمه ، فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبنى منها براء (٢)

* ماذا حدث بعد القتل؟

ذكر المفسرون حول هذا الأمر أقوالا كثيرة :

قال ابن كثير : لما قتل قابيل أخاه ، تركه فى العراء ، لا يعلم كيف يفعل ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه. وفى ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ، قالَ : يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ، فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١]

__________________

(١) رواه ابن أبى حاتم وذكره ابن جرير فى تفسيره.

(٢) رواه ابن أبى حاتم وذكره ابن كثير فى تفسيره سورة المائدة ٢ / ٤٥

١٦٨

وروى عن ابن عباس ، أنه قال : مكث يحمل أخاه فى جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان ، فقال : (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) فدفن أخاه.

وروى مجاهد : أنه كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتا ، لا يدرى ما يصنع به ، يحمله ويضعه على الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب.

وفى رواية : لما قتله ندم ، فضّمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطيور والسّباع تنتظر متى يرمى به فتأكله ، حتى رأى الغراب يدفن الغراب.

وذكر أهل التوراة : أن قابيل لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله عزوجل ـ يا قابيل .. أين أخوك؟

قال : ما أدرى ، ما كنت عليه رقيبا ، فقال الله : إن صوت دم أخيك لينادينى من الأرض الآن! أنت ملعون من الأرض التى فتحت فاها فتلقّت دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت فى الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها فى الأرض (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أى علاه الله بندامة بعد خسران. من أجل ذلك نزل قانون السماء فى القصاص :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢]

أى بسبب هذا الجرم الشنيع ، والفعلة النكراء ، التى فعلها ابن آدم ، كتبنا على بنى اسرائيل هذا ، وإنما خصّهم القرآن بالذكر ، وإن كان القتل محرما قبلهم فى الأمم السابقة ، لأن التوراة أول كتاب حرّم فيه القتل ، بسبب طغيانهم وسفكهم دماء الأبرياء ، وقتلهم الأنبياء بدون حق بسبب الحسد والحقد الكامن فى نفوسهم.

١٦٩

كتب الله ـ سبحانه وتعالى ـ على بنى إسرائيل ومن بعدهم ، أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أى بدون قصاص ، أو بدون فساد فى الأرض ، يزلزل الأمن والطمأنينة ، ويهلك الحرث والنسل ، من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا ، واعتدى على المجتمع البشرى كله.

* إن الباحث المدقّق فى قصة ابنى آدم ، يجدها من أبرز صور التصريف البيانى بالقصص القرآنى ، ذلك أن القرآن العظيم ، علاوة على روايتها ، قد بيّن بعض الأحكام الشرعية ، التى تتصل بقتل النفس وبالقصاص وبالسعى فى الأرض فسادا ، وفى الخروج على المجتمع الإنسانى.

فجاء هذا البيان إثباتا للأحكام الشرعية ، وتدعيما لها ، وفى ذلك إثبات أيضا ـ أن هذه الأحكام متفق عليها فى كل الشرائع السماوية ، وتبين أنها غير قابلة للنسخ ، بل هى مؤكدة ثابتة.

ولقد أراد الحق ـ سبحانه ـ فى هذه القصة ، إعلام البشر أن حكمة مشروعية هذه الأحكام قائمة والغاية منها ثابتة.

إن هذه القصة تثبت أن الغيرة قاتلة ، والحسد مرض ، وكلاهما يؤدى إلى التهور والاعتداء ، وارتكاب الكبائر ، وأن ذلك القتل قد يحدث بين أقرب الناس بعضهم لبعض ، وهم الإخوة ، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس ، فهو فيها دفين كامن. نعم .. إنه مرض ، ولكنه مرض لا يمكن أن يكون منه شفاء ، والناس ليسوا سواء ، فمنهم شقى وسعيد ..

وإذا كان الأمر كذلك ـ فلا علاج إلا ببتر من استكن فى قلبه ـ هذا المرض ـ إن تعدى استجابة له ـ والاعتبار فى النّظم ـ لصلاح الجماعة ،

١٧٠

لاصلاح الآحاد فقط. ولذلك قال الحكيم الخبير سبحانه ـ عقب ذكر قصة قابيل وهابيل :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة : ٣٢]

أى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أى شرعنا لهم وأعلمناهم ، أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أو فساد فى الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، أى من قتل نفسا بغير سبب من قصاص ، أو فساد فى الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، ومن أحياها أى حرّم قتلها ، واعتقد ذلك ، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار.

* وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه ، فهو فى جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربة فطرة الأخوة الرابطة ، وأنه حمل نفسه حملا على ارتكاب جريمته ، إذ هى مخالفة للطبائع السليمة ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) حتى إذا تمت الجريمة ، رأى بشاعتها فى جثة أخيه ، فأراد أن يواريه ، فضلّ ، حتى رأى غرابا يبحث فى الأرض ليوارى جثة غراب مثله ، وعندئذ بدا له جهله ، وندم إذ رأى غرابا هو أحنّ على أخيه منه ، وهو أعلم كيف يوارى سوءة أخيه.

وما كانت أمور الناس لتترك فوضى ، يجرم من يجرم ثم يندم ، فكانت شرعية القصاص ، لأن الاعتداء بالقتل ، اعتداء على حق الحياة لكل إنسان ، ومن قتل نفسا بغير حق ، فهو على استعداد لقتل غيرها ، ففى عمله تعريض النفوس

١٧١

الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين ، ومن أحياها بالقصاص من القاتل ، فكأنما أحيا الناس جميعا ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وإن هذا يدل على أن شرعية القصاص شريعة أزلية خالدة باقية ، وأنها كانت فى الشرائع السابقة ، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها ، ولقد ذكرت بحكمتها ونتيجتها ، وهى إحياء للأمة ، وإهمالها إهانة لها (١)

ولا شك أن ذلك تصريف بيانى قرآنى فى بيان الأحكام.

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)

[المائدة : ٣٣]

أى لا جزاء للذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون فى الأرض فسادا إلا ما ذكره الله من التقتيل ، أو الصّلب ، أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف ، أو النفى من الأرض. وهذه الآية وإن كانت قد نزلت فى ناس من عكل وعرينة ـ كما أشرنا آنفا ـ قدموا إلى النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتكلموا بالإسلام ، فأكرمهم رسول الله ، وقدّم لهم إبل الصدقة .. حتى إذا كانوا ناحية الحرّة ، كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا الراعى ، واستاقوا الإبل. إلّا أن الظاهر من الآية أنها عامة ، لكل من يفعل هذا العمل الشنيع فى دار الإسلام سواء كان مسلما أو غير مسلم.

والله ـ عز شأنه ـ أنزل هذه الآية بهذا التشديد فى العقاب ، لسدّ ذريعة هذه المفسدة ، وهى العبث بالأمن بين ربوع الدولة ، واضطراب الناس فيها ، ومع هذا حرّم المثلة وتشويه الأعضاء.

__________________

(١) الشيخ محمد أبو زهرة : المعجزة الكبرى ص ٢١٤ طبع دار الفكر العربى.

١٧٢

أضف إلى ذلك أن محاربة الله ورسوله تكون بالاعتداء على شرعة الأمان والسلم ، والحق والعدل والطمأنينة بين الناس ، كما أنها تكون بالاعتداء على الحقوق الشرعية ، وهذا كله يعد فسادا فى الأرض. وقد وضع الحق سبحانه لتلك الأعمال حدودا ، فوضع الله للسرقة والاعتداء على المال حدودا خفيفة ، ففى السرقة قطع اليد ، والاعتداءات على المال بالضمان مثلا ، لأنها اعتداءات فردية.

* أما هنا فى هذه الآية ، فتلك حدود قطاع الطريق ، المجاهرين بالمعصية ، المجتمعين للاعتداء. لذلك شرط بعض العلماء شروطا ثلاثة لهؤلاء المحاربين :

١ ـ أن يكونوا مجهزين بالسلاح يعتمدون عليه فى المهاجمة.

٢ ـ أن يكون ذلك فى مكان منعزل كالصحراء ، أو كان فى مكان لا تنفع فيه الاستغاثة.

٣ ـ أن يأتوا مجهزين معتمدين على قوتهم وسلاحهم ، لا على الخفية واللصوصية.

لهذا كان جزاؤهم لا رحمة فيه ولا هوادة ، وإن كانوا جمعا كثيرا ، يشير إلى ذلك قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا)

وعند جمهور العلماء .. أن القتل فى الآية للقاتل ، والصّلب مع القتل لمن أخذ المال وقتل ، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لمن أخذ المال وأخاف ، والنفى من الأرض لمن أخذ المال فقط. وليس لولى الأمر العفو فى حد من هذه الحدود.

ومن المهم أن نذكر أن هذه الأحكام جاءت أكثر تفصيلا فى بيان القصاص فى الأطراف مع النفس ، فى قصص عن بنى إسرائيل ، والتوراة وما جاء فيها ، فذكر الحق سبحانه ـ فى وصف بعض بنى إسرائيل ـ فى عصر النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

١٧٣

الذين أرادوا أن ينفّروا من حكم التوراة فى مجرم ارتكب جريمة ، لاجئين إلى النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ظانّين إن عنده حكما أخف من حكم التوراة ، لهوى فى نفوسهم :

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ، فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

[الآيات من ٤٢ ـ ٤٥ من سورة المائدة]

ونرى فى هذا النص الكريم بيانا للأحكام الشرعية الخاصة بالقصاص ، فى تفصيل محكم مستقر مقنع ، فهو يجعل القصاص فى الأطراف ـ كما هو ثابت فى النفس ، بل إنه يثبت القصاص فى الجروح ، ويوثق الأحكام بأنها نفذت فى الإنجيل ، إذ جاء الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التوراة ، ويوثقها بأن القرآن مصدق لما جاء فى التوراة ، ولكن له هيمنة وسلطانا يبغى ما يبغى ، وينسخ ما ينسخ ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها فهو منسوخ ، لأن له الهيمنة الكاملة.

وفى القصاص الشريعة باقية ، وفى التوراة ـ كما هو فى القرآن ـ جواز العفو عن القصاص إذ يقول سبحانه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.)

١٧٤

والقصاص ثبت بالقرآن ، فالله تعالى يقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٨ ، ١٧٩]

وهكذا نجد ذكر الأحكام الثابتة التى لم يعترها تغيير ونسخ لطريق القصاص نوع من تصريف البيان ، وتثبيت الأحكام.

١٧٥

الفصل الرابع

نوح ـ عليه‌السلام ـ وسفينته .. والطّوفان

القصة القرآنية .. مدرسة المؤمنين الصابرين ، المنتفعين بهدى القرآن (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيها أحسن الدروس والعبر ، وأقوى الأمثال والحكم ، التى تضرب فى تحمل الدعاة المرشدين ..

ـ لما ذا سيقت القصة فى القرآن؟ ..

(أ) ـ سيقت للعبرة والعظة ، حيث يقع الناس على أحوال من تقدمهم من الأمم ، فيعتبر أولو الألباب ، ويتعظون ، وفى ذلك يقول الحق سبحانه :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ١١١]

(ب) ـ وسيقت أيضا لتثبيت قلب النبى ، والتسلية الكاملة له ولأصحابه ، حيث يقفون على أخبار الرسل السابقين ، وعلاقتهم بأممهم ، وكيف كانت العاقبة للمتقين ، والدائرة على الكافرين المعاندين ، وفى هذا تثبيت لهم ، وشحذ لعزائمهم. يقول تعالى :

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥]

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود : ١٢٠]

١٧٦

(ج) ـ وسيقت القصة فى القرآن كذلك ـ دليلا على صدق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإثباتا أن خبره من السماء. إذ هو يقص أخبارا ما كان يعلمها هو ، ولا أحد من قومه ، ولا يكون هذا إلا بوحى من السماء. يقول عزوجل :

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩]

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف : ١٠٢]

(د) ـ وسيقت القصة أيضا علاجا للقلوب وشفاء للنفوس ، لما فيها من أخبار الأمم ، وما حلّ بالعاصين من عاجل بأس الله ، فأهل اليقين وغيرهم إذا تلوها تراءى لهم من ملكه وسلطانه ، وعظمته وجبروته ، حيث يبطش بأعدائه ، ما تذهل منه النفوس ، وتشيب منه الرؤوس.

يقول الرسول المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الترمذى عن ابن عباس :

«شيّبتنى سورة هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كوّرت» [رواه مسلم] ولا غرابة .. ففى هذه السور ما يكشف سلطان الله وبطشه مما تذهل منه النفوس ، وتضطرب له القلوب ، وتشيب منه الرؤوس ، وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية ، وما حل بها من عاجل بأس الله.

وقد تكرر القصص فى القرآن لما فى أغراضها ومقاصدها من معان جليلة ، وفوائد سامية.

* ومن القصص القرآنى ، الذى احتل مكانا بارزا فى كتاب الله العظيم «قصة نوح عليه‌السلام» وقد شغلت هذه القصة حيزا كبير فى القرآن الكريم ، حيث وردت فى القرآن ، أو أشير إليها نحو أربعين مرة فى كثير من السور ،

١٧٧

يختلف أسلوب العرض فيها مرة عن أخرى ، ويشار إليها أحيانا مجرد إشارة ، كمثل يضرب ، أو فى معرض ذكر الأنبياء والمرسلين ، الذين قاسوا المحن مما أصابهم على أيدى أقوامهم ، أو الذين أهلك قومهم ـ كعاد وثمود ، والذين من بعدهم ، لأنهم أمعنوا فى الكفر ، وفى معارضة أنبيائهم ، وقطع الطريق على الذين يريدون أن يؤمنوا.

أضف إلى ذلك .. أن القرآن قد خصّص سورة بأكملها هى «سورة نوح» للحديث عن نوح وعلاقته بقومه ، ومعاناته فى سبيل دعوته.

وهذا القصة تبين أن الصراع الأبدى فى سبيل الإيمان قائم منذ أن قام الشرك بالله ، وأن المرسلين جميعا إنما كان هدفهم توضيح العقيدة ، وإثبات التوحيد لله عزوجل ، وكل ما صادفوه وتحملوه من عناء وبلاء ، إنما كان بسبب دعوتهم أقوامهم إلى الإيمان بالله ، وتوحيده وتنزيهه عن الشرك.

إن قصة نوح عليه‌السلام سيقت فى القرآن من أجل ترسيخ مجموعة من المبادىء التى حرص القرآن عليها فى معظم سوره ، وهى أصول التوحيد ، وإثبات البعث والنشور ، والجزاء والحساب ، والثواب والعقاب ، وأخيرا إثباتا لدلائل النبوّة. وفى هذا الأمر تأكيد على أن جميع الأنبياء متفقون فى أصول الدعوة من التوحيد الخالص لله عزوجل.

إن قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ كما ذكرها القرآن فى مواضعها المختلفة ـ تبدأ دائما بالحديث عن رسالته ، ودعوته قومه إلى عبادة الله. من مثل قول الحق سبحانه :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [المؤمنون : ٢٣ ـ ٢٨]

ـ وقوله جل وعلا :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [نوح : ١ ، ٢]

١٧٨

ـ وقوله عز شأنه :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [العنكبوت : ١٤]

ـ وقوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء : ١٠٥ ـ ١٠٨]. وقال تبارك اسمه :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٥ ، ٢٦]

لقد أرسلنا نوحا ـ وهو أول رسول ، وقومه أول قوم أشركوا بالله غيره ، أرسلناه ، فقال لهم : إنى لكم نذير بيّن الإنذار ظاهره ، على ألا تعبدوا إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شىء قدير. أمرهم أن يعبدوا الله وحده ، ثم أنذرهم عذاب يوم أليم وعظيم وكبير ، ألا وهو يوم القيامة ، وصف بالألم الشديد ، والعذاب العظيم ، والهول الكبير فى غير موضع من القرآن. ولقد وصفه نوح بكل هذه الأوصاف التى حكيت عنه ، وقد أردف الأمر بالعبادة فى كل مناسبة بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) أو (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) وهكذا غيره من الرسل ، للإشارة إلى أن التقوى هى الأمر الجامع المهم.

(قالُوا : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ : وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ١١١ ـ ١١٥]

يقولون لا نؤمن لك ، ولا نتبعك ونتأسى فى ذلك بهؤلاء (الْأَرْذَلُونَ) الذين اتبعوك ، وصدقوك وهم أراذلنا. ولهذا قالوا : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟)

١٧٩

قال نوح : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ـ وأىّ شىء يلزمنى من اتباع هؤلاء لى ، ولو كانوا على أى شىء كانوا عليه لا يلزمنى التنقيب عنهم ، والبحث والفحص ، إنما علىّ أن أقبل منهم تصديقهم إياى ، وأكل سرائرهم إلى الله عزوجل : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ)

كأنهم سألوه أن يبعدهم عنه ، ويتابعون ، فأبى عليهم ذلك ، وقال : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أى إنما بعثت نذيرا ، فمن أطاعنى واتبعنى وصدقنى كان منى ، وأنا منه ، سواء كان شريفا أو وضيعا ، جليلا أو حقيرا

قالوا أيضا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ـ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) [هود : ٢٧]

فبادر الملأ من قومه والأشراف ، الذين كفروا بالله ورسوله نوح إلى حجج هى أوهى من نسيج العنكبوت ، قائلين : ما نراك إلّا بشرا مثلنا ، لا مزيّة لك ولا فضل حتى تدعى الرسالة ، والسفارة بيننا وبين الله ، هل لك مال وفير؟ أو جاه عريض؟ أو ولد وخدم؟ ـ ليس لك شىء من هذا فكيف تكون المطاع فينا ، والآمر لنا؟ .. وما نراك اتبعك إلّا الذين هم أراذلنا وسفلتنا أصحاب الحرف والصنّاع من الفقراء والضعفاء ، أتكون مع هؤلاء فى صف واحد؟ .. على أن إقبال هؤلاء عليك ، واتباعهم لك فى بادىء الأمر وظاهره بدون تأمل ولا فكر ، ولا نظر فى عواقب الأمور وبواطنها يدعونا إلى مخالفتك وعدم اتباعك. أنفوا أن يكونوا مثل هؤلاء الفقراء ، وطلبوا من نوح أن يطردهم ، حتى لا يجتمعوا معهم فى دين ، فأبى وخاف من الله. وقالوا :

ما نرى لكم ـ أنت ومن معك من عامة الناس علينا من فضل فى علم ، أو رأى ، أو جاه أو قوة ، يحملنا على اتباعك ، والنزول عن جاهنا وشرفنا ، ونكون

١٨٠