دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

أما عن زمن خروجه :

فقد جاء فى صحيح مسلم ـ بإسناده ـ عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها» وفى الصحيح من وجه آخر : «وفيه تقوم الساعة».

قال العلماء : لقد ابتلى الله ـ سبحانه ـ آدم نتيجة لخطيئته بعشرة أشياء (١) :

الأولى : معاتبته إياه وزوجه بقوله تعالى : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢]

الثانية : الفضيحة .. فإنه لما أصابا الذنب بدت لهما سوآتهما. تهافت عنهما ما كان عنهما من لباس الجنة. ويروى أن آدم لما بدت سوأته ، وظهرت عورته طاف بأشجار الجنة يسأل منها ورقة يغطى بها عورته ، فزجرته أشجار الجنة ، حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة ، فطفقا ـ يعنى آدم وحواء ـ يخصفان عليهما من ورق التين.

الثالثة : أوهن جلده ، وصيره مظلما بعد أن كان جلده كالظفر ، وألقى عليه من ذلك قدرا يسيرا على أنامله ليتذكر بذلك أول حاله.

الرابعة : أخرجه الله من جواره ، ونودى أن لا ينبغى أن يجاورنى من عصانى ، فذلك قوله تعالى : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ..) الآية. ويقال إن الحكمة فى إخراج آدم من الجنة ، أن فى صلبه من

__________________

(١) العرائس : للثعالبى النيسابورى ص ٣٢

١٤١

لا يستحق الولاية. ولا يصلح لحظيرة القدس. فإذا أخرجهم الله من صلبه ، أعاده الله إليها خالدا فيها.

ويقال : إن الله تعالى أخرج آدم من الجنة قبل أن يدخله فيها ، وذلك قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ولم يقل فى الجنة.

الخامسة : الفرقة بينه وبين حواء .. مائة سنة ، هذا بالهند ، وهى بجدة ، فجاء كل واحد منهما يطلب صاحبه ، حتى قرب أحدهما من صاحبه فازدلفا ، فسميت المزدلفة ، واجتمعا بجمع ، فسمى جمعا ، وتعارفا بعرفة فى يوم عرفة ، فسمى الموضع عرفات ، واليوم عرفة.

السادسة : العداوة ، ألقى بينهم العداوة والبغضاء ، كما قال تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦]

السابعة : النداء عليهم باسم العصيان ، فقال تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]

الثامنة : تسليط العدو على أولاده ، وهو قوله تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ) [الإسراء : ٦٤]

التاسعة : جعل الدنيا سجنا له ولأولاده ، وابتلاه بهواء الدنيا ، ومقاسات الحر والبرد ، ولم يكن لهما بهما عهد لتعود هواء الجنة ، وهو كما قال الله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان : ١٣]

وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «الجنة سجسج ، لا حرّ فيها ولا قرّ».

العاشرة : التعب والشقاء وذلك قوله تعالى : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : ١١٧]. فهو أول خلق عرق جبينه من التعب والشقاء.

١٤٢

وقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧] قال مجاهد وسعيد : هى قوله سبحانه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣]

وقال ابن أبى حاتم ـ باسناد ـ عن أبىّ بن كعب ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال آدم ـ عليه‌السلام : أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدى إلى الجنة؟. قال نعم ، فذلك قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) الآية.

قال مجاهد : الكلمات : «اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إنى ظلمت نفسى فتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم»

وروى الحاكم والبيهقى وابن عساكر ـ بإسناد ـ عن عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة ، قال : يا رب .. أسألك بحق محمد إلّا غفرت لى. فقال الله : فكيف عرفت محمدا ، ولم أخلقه بعد؟ فقال : يا رب ، لأنك لما خلقتنى بيدك ، ونفخت فىّ من روحك ، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» فعلمت أنك لم تضف إلى إسمك إلا أحبّ الخلق إليك. فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلىّ ، وإذ سألتنى بحقه ، فقد غفرت لك ، ولو لا محمد ما خلقتك» ـ وهذا كقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢١ ، ١٢٢]

تحليل ودراسة :

إن الباحث المتأمل فى كتاب الله الكريم ، فى الآيات التى تحدثت عن آدم ـ عليه‌السلام ـ وقضية الخلافة يجد أنها تكلمت بطريق التصريح ، عن أن الله

١٤٣

ـ سبحانه وتعالى ـ يخبر عن امتنانه على آدم وبنيه ، والتنويه بذكرهم فى الملأ الأعلى ، قبل إيجادهم ، وأنه تكلم مع ملائكته بأنه سيجعل فى الأرض خليفة.

فما المراد بالخلافة؟

قد يكون المراد بالخليفة أن يخلف الله فى عمارة هذه الأرض ، وذلك هو آدم ، ومن قام مقامه فى طاعة الله ، وتبليغه شريعة الله ، وتنفيذ مضمونها بينهم ، والحكم بين الناس بالعدل ، وتبين ما أمر الله به ، وما نهى عنه ، ليثاب المطيع ، ويعاقب العاصى.

فالخليفة ـ بهذا ـ هو الذى ينشر العدل بين الناس ، فى ربوع الأرض ، وأما الإفساد فيها ، وإراقة الدماء بغير حق ، فمن غير خلفائه.

وقد يكون المراد بالخليفة ، خلافة آدم لمن سبقه من المخلوقات التى خلقها الله على سطح الأرض ، ثم هلكت بعد أن خرجت عن طاعة الله ، وعصت أوامره.

ولفظ «خليفة» يوحى بهذا ، لأنه يدل على أنه خلف من سبقه من تلك المخلوقات.

أضف إلى ذلك ـ أن جزع الملائكة ، وقياسهم أمر الخليفة (المنتظر) بمن سبقه ممن سعى فى الأرض فسادا يدل على هذا ، فقد قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ،) كما أن قول الحق سبحانه : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [ابراهيم : ١٩]

وقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) [الأنعام : ١٣٣] يعطى المفهوم ذاته ، ويوضح أن السابقين فسقوا عن أمر الله ، فأعلم الله بأنه سيأتى بخليفة جديد ، هو آدم ، وهو قادر على إفناء ذريته إن طغت ، والإتيان بخلفاء لهم.

١٤٤

* والقول الأول ـ فى معنى الخلافة ـ أقوى. وإن كان الثانى تؤيده الأدلة ، إلا أنها محتملة ، وليست قاطعة ، وآية الاستخلاف نفسها ليس فيها تصريح بهذا.

ثم إن هناك إعتبارات أخرى تقوى أن الاستخلاف معناه خلافة الله فى إقامة العدل بين الناس ، والامتثال لأوامر الله ، والانتهاء عما نهى الله ، فكل نبى من الأنبياء الذين أتوا بعد آدم ، كان خليفة الله فى أرضه ، وقد وضح ذلك فى قول الحق سبحانه لداوود ـ عليه‌السلام:

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)

[سورة ص : ٢٦]

فهو خليفة الله ، فى أرض الله ، ينفذ أحكام الله ، فى عباد الله ، الذين بعث إليهم من أجل تنفيذ تعاليم الله ، إذ البشر فى طبيعتهم لا يقومون بأمر الله ، إلا إذا كان هناك من يوضح لهم طريق الهدى ، للوصول إلى رب العالمين ، فهم رسل الله ، لهداية عباد الله ، حتى يتحقق المفهوم الذى من أجله كانت الخلافة ، ويتضح معناه.

وهكذا البشرية جمعاء ، جعلها الله بحيث يخلف بعضها بعضا لهذا الهدف.

وهذا هو المعنى ، الذى قرره ابن كثير ، حيث قال فى تفسير الآية :

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أى قوما يخلف بعضهم بعضا ، قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، كما قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥] ، وكما قال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢]

١٤٥

وقضية الخلافة كما وضحها المفسرون ، تبين أن الله تعالى ـ لما أخبر الملائكة بإرادته جعل خليفة فى الأرض ، أيقنت الملائكة أنه سيحدث من هذا الخليفة وذريته ما حدث فى الماضى ـ من الإفساد ، وسفك الدماء ، وقد علمت الملائكة ، أنه لا شىء أكره عند الله تعالى ، من هذين الأمرين ، بالإضافة إلى العصيان ، وعدم الامتثال إلى أوامر الله ـ والبعد عن نواهيه.

فما دام الأمر كذلك ـ من هذا الخليفة وذريته الخلفاء ، إذا فهم بوصفهم جند الله وملائكته أولى منهم ، لأنهم يسبحون الله ، ويقدسونه ، ويعبدونه حق عبادته ـ كما قال الحق سبحانه : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)

[الأنبياء : ٢٠]

إن الله سبحانه وتعالى ـ غنى عن مشاورة خلقه ، وإنما أخبر ملائكته بهذا ، ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بتلك الإجابة ، ويعرفوا الحكمة من خلق آدم وذريته ، أو ليعلّمهم المشورة ، وأنهم يستشيرون الحكيم والكبير منهم فى أمورهم ، وهو سبحانه غنى عن مشاورة خلقه ، فمشاورته تؤوّل إلى معنى الإخبار.

ثم إن سؤال الملائكة ، ليس على وجه الاعتراض على الله تعالى ، ولا على وجه الحسد لبنى آدم. كما قد يظن ، وقد وصفهم رب العزة بأنهم : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)

[الأنبياء : ٢٧ ، ٢٨]

وقال عنهم ، أنهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)

[التحريم : ٦]

١٤٦

إذا ـ فهو ليس سؤال اعتراض. وإنما هو سؤال استفهام ، واستفسار واستكشاف ، عن الحكمة فى ذلك. يقولون : يا ربنا ما هى الحكمة التى من أجلها ستخلق آدم وذريته من البشر ، مع أن منهم من سيفسد فى الأرض ، وسيسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك يا رب العزة ، فنحن نعبدك ، ونسبح بحمدك ، ونقدس لك ، إننا نبعدك عن السوء ، ونقوم بفروض طاعتك وعبادتك ، ونسبح بحمدك ، ونطهرك من الدنس والشرك ، كما ينبغى لجلال وجهك ، وعظيم سلطانك ، ولا يصدر منا شىء مما يفعله غيرنا من المعاصى ، فلا اقتصرت يا ربنا علينا؟

فكان جواب الحق سبحانه على استفسارهم .. (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ،) إنى أعلم من المصلحة الراجحة فى خلق هذا النوع من عبادى ، على المفاسد التى ذكرتموها مالا تعلمون.

فأعلم كثيرا مما غاب عنكم حتى المكتوب فى اللوح المحفوظ ، فوراء ذلك كثير من علوم الغيب لا يمكن للمخلوقين ـ حتى الملائكة ـ أن يحيطوا بها ، وقد استأثرت بعلمها ، ولا يطلع عليها إلّا من اصطفى من عبادى.

لقد أقام رب العزة لهم الحجة فى صورة دليل واحد ، به يدركون معه الحكمة فى خلق آدم ، وجعله خليفة فى الأرض ، ويعقبه الخلائف من بعده ، وأنه أحق بها من غيره ، فقد اختار الله ـ سبحانه ـ من ذريته الأنبياء والرسل ، وأوجد فيهم الصديقين والشهداء ، والصالحين ، والعبّاد ، الزهاد ، والأبرار والأخيار.

جاء فى الصحيح ـ أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده ، يسألهم ـ وهو أعلم ـ كيف تركتم عبادى؟ فيقولون : يا ربنا أتيناهم وهم يصلّون ، وتركناهم وهم يصلّون ، وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ، ويجتمعون فى صلاة الصبح ، وفى صلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ، ويصعد هؤلاء بالأعمال.

١٤٧

والسؤال الآن .. من أين علمت الملائكة أن هؤلاء الخلق الجديد سيفسدون فى الأرض؟

قال الراسخون فى العلم : أنهم علموا ذلك بعلم خاص من الله تعالى ، سواء كان هذا العلم عن طريق إطلاعهم على اللوح المحفوظ ، أو غيره. ولم يبين القرآن مصدر هذا العلم جريا على منهجه فى الاختصار إذا لم يستدع الأمر التفصيل.

أو بما استلهموه من طبيعة المخلوقين الجدد. حيث خلق أبوهم من الطين. فقد فهمت الملائكة من كونه خلق من أجزاء الأرض ـ وهى مختلفة التراكيب والعناصر والأجزاء والمعادن ، وهى إذا اجتمعت تفاعلت ، ونتج عنها معرفة عدم اجتماع الطبائع ، فلذا توقّعوا حصول المفاسد والمعاصى ، وسفك الدماء ، والمشاحنات ممن سيخلق من هذه المادة.

أو أنهم قاسوهم على من سبق من المخلوقات ، وقد ورد فى الحديث ، رواية عن ابن عباس : أن أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا ، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة ، فقاتلوهم وطردوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، وأطراف الجبال ، فقالت الملائكة تلك المقالة ، فقاسوا أولاد آدم على سلالات الجن.

* وتحتفل الآيات البيّنات بأمر آخر ـ ذكر الله فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه الله به من علم أسماء كل شىء ، دونهم ، وكان ذلك بعد سجودهم له.

وواضح هنا .. أن القرآن العظيم ، يقدم ما حقّه التقديم لأهميته بالنسبة لما يؤخر عنه ، وهذا إشارة إلى شرف العلم ، ومنزلته الرفيعة ، وأنه يرفع صاحبه إلى مقام دونه أى مقام آخر. ثم إن مقام العلم مناسب تمام المناسبة ، لعدم علم

١٤٨

الملائكة الحكمة من خلق الخليفة ، فأخبرهم الحق ـ سبحانه ـ بأنه يعلم ما لا يعلمون.

وقد علّم الله ـ تعالى ـ آدم أسماء الأشياء كلها ، أولاده إنسانا إنسانا ، والدواب على اختلافها وأسمائها ، والسماء والأرض ، والسهل والجبل ، والبحر وما فيه ، وكذلك أسماء الملائكة. وغير ذلك من الأمور.

قال العلماء : علمه اسم كل شىء ، وجعل يسمى كل شىء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة ، وهذا هو الرأى الصحيح ـ كما قال ابن كثير. فقد علمه الله أسماء الأشياء كلها ، ذواتها وصفاتها وأفعالها ، كما قال ابن عباس ـ حتى الفسوة والفسية ، يعنى أسماء الذوات والأفعال ، المكبّر منها والمصغّر.

ثم عرض الحق ـ سبحانه ـ الخلق والمسميات على الملائكة ، فقال : أخبرونى عن أسماء هؤلاء ـ إن كنتم صادقين ـ أنى لم استخلف إلا المفسدين فى الأرض ، السفاكين للدماء ، وأنتم أولى بعمارتها ، وتقديس الله فيها ، فإذا عجزتم عن معرفة كنه الموجود المشاهد .. فأنتم أشد عجزا عن غير الموجود ، وأجمل لهم ـ سبحانه ـ المصالح فى استخلاف آدم وذريته ، بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم فصّل لهم بعضها فى قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الآيات. فإنه لما ظهر فضل آدم على الملائكة ، فى علمه ، وسرده أسماء الأشياء ، قال الله للملائكة : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٣٣] وهذه الآية استحضار لقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فإنه يعلم الظاهر والخفى ، فهذه كالشرح والبيان لتلك.

ولنتأمل هذا التذبيل : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ .. وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) الذى

١٤٩

يدل على مبلغ علم الله تعالى ، المحيط بالكون المرئى ، وغير المرئى ، وما لا يعلمه إلّا رب العباد.

والملائكة على قربهم من ربهم ، واطلاعهم على اللوح المحفوظ ، فإنهم لا يعلمون إلّا الأشياء التى علّمها لهم ربهم عزوجل (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦]

ثم ذكر الحق ـ عز شأنه ـ مكرمة عظيمة لآدم ، امتن بها على ذريته ، بجانب تلك المكرمتين : ذكره فى الملأ الأعلى واستخلافه ، وتعليمه الأسماء كلها ، تلك هى إسجاد الملائكة له جميعا. وقد كان ذلك بعد نفخ الروح فيه ، وقبل أن يختصه بالعلم. وقد دخل إبليس فى خطابهم ، لأنه تشبه بهم ، وتوسم بأفعالهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم ، سجدت الملائكة ـ إلا إبليس ، أبى واستكبر ، كما كان حدّث نفسه من الكبر والاغترار ، فقال : لا أسجد له وأنا خير منه ، وأكبر سنا ، وأقوى خلقا ، خلقتنى من نار ، وخلقته من طين ، والنار أقوى من الطين ..

فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، وآيسه من الخير كله ، وجعله شيطانا رجيما ، عقوبة له على معصيته.

ومن المهم أن نعلم .. أن الله تعالى أسجد لآدم كل الملائكة بدون استثناء أحد ، يدل على ذلك قول الحق سبحانه (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ ..)

ففيها أربعة أوجه مقوية للعموم : لفظ الملائكة ، والتأكيد بمؤكدين كل وجميع ، واستثناء الواحد من الجمع. وقد كان هذا السجود تحية لآدم ، تنفيذا وطاعة لأمر الله تعالى ، فالسجود لله يكون عبادة ، والسجود لغيره كرامة ،

١٥٠

وقد كان ذلك فيما سبق. فقد سجد أبو يوسف وأخوته له. ولكنه منسوخ عندنا.

قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، لو كنت أمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها».

* وحكمة أخرى عظيمة ، أرادها رب العزّة من استخلاف آدم وذريته ، فى هذه الأرض ، وهى عمارة الأرض واستثمار خيراتها ، سلطه الله عليها ، فأعطاه القدرة على تسخيرها ، وتسخير سائر الكون لمنافعه. بما وهبه الله من العقل ، والحواس ، وسائر الصفات الجسمية والعقلية ، التى تجعله أهلا لذلك. وفى ذلك يقول رب العزة :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) [الأنعام : ١٦٥]

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢]

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) [فاطر : ٣٨ ـ ٣٩]

(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧]

وفى الحديث الصحيح ـ عن أبى سعيد الخدرى ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إن الدنيا حلوه خضرة وأن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون» (١)

__________________

(١) رواه مسلم.

١٥١

* وأن الأرض خاصة ، والكون وما فيه عامة ، مسخّر لبنى آدم ، ومذلل لهم ليتمكّنوا من تحقيق هذا الاستخلاف. يعبر القرآن عن هذه الحقيقة فى آيات كثيرة ، من مثل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك : ١٥]

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [الحج : ٦٥]

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [لقمان : ٢٠]

ونرى بالإضافة إلى هذه الآيات التى يرد فيها التسخير عامة ، آيات أخرى تشير إلى إستفادة الإنسان مما خلقه الله من الأنعام والدواب ، والماء والنبات ، ومن الظاهرات الكونية كالليل والنهار.

* ثم إن تسخير الأرض والكون لبنى آدم ، واستخلاف الله لهم فى الأرض ، يقتضيان انتفاعهم بما خلق الله فى الكون ، واستثمارهم لما فى الأرض من خيرات وثمرات. لذلك أطلق القرآن على هذه المنافع لفظ «الطَّيِّباتُ» فى آيات كثيرة ، من مثل قوله تعالى :

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [يونس : ٩٣]

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [النحل : ٧٢]

وسمى السعى لتحصيلها ابتغاء من فضل الله [العنكبوت : ١٧]

١٥٢

* وبذلك يكون استثمار ما خلق الله فى الكون ، والانتفاع به أمرا مستحسنا ، بل امتثالا لأمر الله واستفادة من نعمه المعروضة ، ويكون الإعراض عنها إنحرافا. يقول تعالى :

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ .. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢]

وعلى هذا ـ فليس السعى فى الأرض ، وطلب المعاش عقوبة على خطيئة آدم الأولى ، ولا العمل والكد فى سبيل ذلك لعنة إلهية ، لأن آدم ـ عليه‌السلام ـ انتهت خطيئته بالتوبة ، وأمر أن يستأنف فى الأرض حياة جديدة ، ولا علاقة لها بالخطيئة ، التى غفرها الله له.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)

[طه : ١٢١ ، ١٢٢]

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

[البقرة : ٣٧]

وهذا ما يشير إليه قول الحق ـ فى هبوط آدم إلى الأرض.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦]

فإن كلمتى (مُسْتَقَرٌّ) و (مَتاعٌ) تدلان على وصف حياة بنى آدم الدنيوية ، بشىء من الاستقرار والمتاع ، المحدودين ، ولكن فى حدود زمنية محدودة (إِلى حِينٍ).

وبذلك تضع هذه الآية الفاصل الواضح ، بين موقف المذاهب الروحية الخالصة ، التى تنكر الحياة الدنيوية ، إنكارا تاما ، وتعرض عنها إعراضا كاملا ،

١٥٣

كما تضع الفاصل بينه وبين المذاهب المادية ، التى ترى فى الحياة الدنيوية الاستقرار الكامل ، والمتاع المطلق ، فليس عندهم حياة أخرى وراءها ، فهى عندهم المستقر والمتاع.

ومثل هذه الآية ـ فى وضع الحياة الدنيوية فى الإطار العام للوجود وتقوّيها ، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك : ١٥]

ففيها تذليل الأرض لبنى آدم ليستثمروها ، وفى طلب السعى للعمل ، وإباحة استثمار منافعها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)

وفيها أخيرا بيان مسئولية بنى آدم عن سعيهم هذا ، واستثمارهم فى هذه الحياة ، ومحاسبتهم فى حياة أخرى (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

* ثم إن الانتفاع بما خلق الله فى الأرض والكون ، والسعى فى طلب الرزق ، ليس غاية فى ذاته ، بل هو وسيلة ضرورية تقتضيها طبيعة الإنسان ، أو فطرته التى فطره الله عليها.

فالإنسان جسم مخلوق من تراب ، لا بد من تغذيته ، وهو من هذه الناحية حيوان ذو غرائز ، محتاج إلى الطعام والشراب ، بل إلى ما لا يحتاج إليه الحيوان من لباس ومسكن ، وقادر على الاستفادة من أنواع المنافع ، والتمتع بضروب المتع ، أعلى وأوسع ، وأكثر تنويعا مما عليه الحيوان.

فتحصيل ذلك كله بالنسبة إلى خلق الله ، هو من قبيل الضروريات التى لا بد منها ، أو الاحتياجات المطلوبة ، أو الكماليات المرغوبة ، والمهم أن يرى الإنسان فى هذا النشاط سعيا وكسبا ، أو انتفاعا واستثمارا وسيلة لا غاية ، فالغاية وراء ذلك هو إرضاء الله بعمل الخير ، وبشكره على نعمه ، ومراعاة حقوقه وحقوق عباده ، والسعى فى نفعهم ومعونتهم ، حتى تتحقق حكمة الاستخلاف.

١٥٤

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧]

* أضف إلى ذلك .. أن استخلاف الله لبنى آدم فى الأرض عام فى بنى البشر ، لا يختص بفريق دون آخر ، فالناس كلهم عباد الله ، وتسخير الأرض ، وسائر الكون لهم جميعا كذلك ، دون تخصيص ، ولكن كل فرد يقوم بأمانة الاستخلاف ، ويستفيد من تسخير الكون لمنافعه ، بقدر استطاعته ، وحسب قدرته ، ويحسن أداء هذه الأمانة ، فيقوم بحقوقها كاملة.

* وأخيرا .. فعليه أن يتحمل نتيجة عمله ونشاطه ، وهو المسئول عنه مسئولية دنيوية بالنسبة لغيره من الناس ، ومسئولية أخروية أمام الله ، فيستشعر فى ضميره رقابة الله له ، ويخشى عقوبته وحسابه.

بقى أن نقول .. إن استخلاف رب العزّة لآدم ـ عليه‌السلام ـ فى الأرض ، يدل على معنى سام من الحكمة الإلهية ، عزّ فهمها على الملائكة ، فلو استخلفت الملائكة لما عرف سر هذا الكون الهائل ، إذ هم ليسوا بحاجة إليه ، لأن طبيعتهم النورانية ، تخالف طبيعة الإنسان ووصفه ، فالإنسان بحكم حاجته ، وخلقته المادية ، يعرف خواص الأشياء ، والمركبات الكيمائية وفوائدها ، وكيف يستفيد منها فى حياته العلمية والعملية ، وكذلك يسخرها للاستفادة منها فى طبيعته النفسية ، وفى كل ما يمكن أن يلائم حياته ، على اختلاف الأزمنة والأمكنة.

فالإنسان من أعجب خلق الله ، حيث أعطاه الله من العلوم والمعارف ، ما يمكن أن يسخّر بها سائر المخلوقات ، ويطوعها لمتطلباته النفسية والجسدية ، بما يكفل له سعادة الدنيا ، ويعينه على أداء حق الله ، وحق عباده ، الأمر الذى يوصله إلى سعادة الآخرة كذلك.

١٥٥

وقد ضرب الله لنا المثل بتعريف آدم الأسماء كلها ، فبذلك فضّل على الملائكة ، فالعلم مرتبة عليا ، وغاية سامية ..

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠]

وعدل الله تعالى ورحمته ، وعفوه وقدرته ، وحكمته وإرادته ، مظاهر تتجلّى كلها فى الإنسان ، فلولا الإنسان الذى تتحقق فيه هذه المظاهر ، ما تحقق عدل الله ورحمته ، وعلمه وقدرته ، وطاعته وعصيانه ، وإحسانه وعقابه .. إلى آخر تلك المظاهر الإلهية ، التى يظهر أثرها على الإنسان خليفة الله فى أرضه ، للحكم بين الناس بالعدل.

وإذا كان رب القدرة ، قد كرم آدم وذريته ، بإسجاد الملائكة له ، وتعليمه الأسماء كلها ، فما ذاك إلا ليكون على مستوى المسئولية والجزاء ، فهذه النعم العظيمة ، التى فضّل بها الإنسان ، هو مسئول عنها ، والله يجازيه عليها. إن أحسن فله جزاء الحسنى ، وإن أساء فعليه وبالها. يقول جل ذكره :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الأحزاب : ٧٢ ـ ٧٣].

١٥٦

الفصل الثالث

قابيل ... أين أخوك؟

قصة أول جريمة قتل فى الوجود كما قصّها القرآن

تحكى قصة قابيل وهابيل ـ كما ذكرها القرآن ـ قصة أول قتيل فى الوجود .. أول جريمة حدثت على الأرض. إنها تمثل قصة الصراع الأبدى بين الإنسان وأخيه الإنسان ، قصة البغى والحسد والحقد ، وما يفعله الحقد الكامن ، والداء الباطن فى القضاء على أقوى الروابط وأوثقها .. رابطة الأخوة.

إنها قصة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، ساقها الحق سبحانه ، لتبين طبائع النفوس البشرية ، التى تسعى على الأرض ، وكيف تتصرف .. ومن أجل ذلك شرع قوانين القصاص ، وحدّ الحدود ، حتى يسود الأمن والأمان على الأرض.

إن قصة قابيل وهابيل تثبت أن الغيرة والحسد يؤديان إلى الاعتداء الظالم ، وأن ذلك يحدث أحيانا حتى بين الأشقاء ، أو بين أقرب الناس بعضهم لبعض ، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس إلا بقانون السماء.

نعم .. إن الحسد مرض دفين ، وهو مرض خطير ، ولا يمكن الشفاء منه إلا بحدّ الحدود ، حتى يرتدع ضعاف النفوس.

وقد وردت هذه القصة فى القرآن الكريم ـ فى سورة المائدة (١) ، فى مجالات ثلاث :

__________________

(١) الآيات من ٢٧ إلى ٣٤

١٥٧

أولها : مجال تثبيت قلب النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذكر أحداث الماضى.

وثانيها : بمناسبة تمرد بنى إسرائيل وعصيانهم لأمر الله فى قتال الجبارين.

وثالثها : فى أسباب تشريع الحدود ، والقصاص من القتلة والبغاة والطغاة الذين يعيثون فى الأرض فساد.

وكان سبب نزولها ـ ما رواه البخارى ومسلم ، عن أنس ـ رضى الله عنه ـ أن رهطا من عكل وعرينة قدموا على النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة (أى وجدوها رديئة المناخ) فأمر لهم النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بزود من الإبل (من ثلاثة إلى تسعة) وراع ، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة ، كفروا بعد إسلام ، وقتلوا الراعى ـ وفى رواية ـ مثّلوا به ، واستاقوا الزود من الإبل ، فبلغ ذلك الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبعث فى طلبهم ، فجيىء بهم ، فأمر بهم ، فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم (كحّلوها بمسامير الحديد المحمّاة) ، وألقوا فى الحرّة حتى ماتوا ، فنزلت : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية (١). [المائدة : ٣٣]

وقد بدأ القرآن فى ذكر قصة هابيل وقابيل ، بالحديث مع الرسول : لا تيأس يا محمد ، ولا تتعجب من فعل اليهود (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [المائدة : ١١]

فهم قوم يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله ، على أن هذا طبع متأصل فى أبناء آدم :

__________________

(١) تفسير القرطبى ج ٦ / ١٤٨

١٥٨

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ ، قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)

[سورة المائدة : ٢٧ ـ ٣٠]

هذه هى القصة التى ذكرها القرآن ، مبيّنا وخيم عاقبة البغى والحسد والظلم ، فى خبر ابنى آدم لصلبه ، وهما قابيل وهابيل ، كيف عدا أولهما على الآخر ، فقتله بغيا عليه وحسدا له ، فيما وهبه الله من النعمة ، وتقبّل القربان ، الذى أخلص فيه لله عزوجل ، ففاز المقتول بوضع الآثام ، والدخول إلى الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة فى الدارين الأولى والآخرة.

فقال الحق سبحانه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) أى اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة الطغاة ، إخوان الخنازير والقرود ، من اليهود وأمثالهم وأشباههم ، خبر ابنى آدم قابيل وهابيل. وقوله (بِالْحَقِّ) أى على الجلية ، والأمر الذى لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وهم ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] ، وقوله عز شأنه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) [الكهف : ١٣] ، وقوله جل جلاله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [مريم : ٣٤]

والمعنى : لا تيأس يا محمد ، ولا تعجب من فعل اليهود ، واتل على قومك ، وعلى كل من تبلغه دعوتك .. أتل عليهم نبأ هاما ، متلبّسا بالحق والصدق ، لا مبالغة فيه ولا كذب ، كما يفعل اليهود فى أخبارهم وكتبهم من التحريف والتبديل ، وهو نبأ ابنى آدم ، وما فعله الأخ بأخيه.

١٥٩

ما حقيقة الصراع بين الأخوين .. ولماذا أدى إلى القتل؟

ذكر العلماء الأوائل من السلف والخلف ، أسبابا عديدة للحسد والبغى الذى انتهى بقتل الأخ لأخيه ، قالوا : إن الله شرع لآدم ـ عليه‌السلام ـ أن يزوّج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يولد له فى كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك ـ إلّا أن يقرّبا قربانا ، فمن تقبل منه فهى له ، فتقبّل من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قصّه الله فى كتابه.

وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلّا ولد ومعه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما : هابيل وقابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع (أى رعى) وكان قابيل أكبرهما ، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه ، وقال : هى أختى ولدت معى ، وهى أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوج بها ، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، وأنهما قرّبا قربانا إلى الله عزوجل ، أيّهما أحقّ بالجارية .. وكان آدم ـ عليه‌السلام ـ قد غاب عنهما ، أتى مكة ينظر إليها ، قال الله ـ عزوجل ـ هل تعلم أن لى بيتا فى الأرض ، قال : اللهم لا ، قال : إن لى بيتا فى مكة فأته ، فقال آدم للسماء : احفظى ولدى بالأمانة فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع ، وتجد أهلك كما يسرّك. فلما انطلق آدم قرّبا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه ، فقال : أنا أحق بها منك ، هى أختى ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصى والدى.

١٦٠