دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

ما بعثت به إلينا ، ومرّبنا ابن عمك (جعفر) وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا ، وقد بايعتك ، وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين ، وبعثت إليك يا نبى الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر ، فإنى لا أملك إلّا نفسى ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله» (١)

وروى أبو داود أن النجاشى قال : «أشهد أنه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه الذى بشر به عيسى ابن مريم» (٢).

ولقد شهد الحق تبارك اسمه وملائكته ـ لمحمد بالنبوة والرسالة :

وإن شهادة الله جل جلاله لتعلو فوق كل شهادة ، ودلالتها تسمو على كل دلالة ـ يقول سبحانه : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ، وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ١٦٦].

* وشهادة الله ـ جلّت حكمته لها جانبان : جانب إخبارى ، وجانب إعجازى.

١ ـ أما الشهادة الإخبارية : فهى إخبار رب العزّة ـ سبحانه وتعالى ـ عن اصطفائه لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلهامه ووحيه ، وتأييده له قولا وفعلا.

من مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥ ، ٤٦]

وقوله عز شأنه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ)

[النساء : ١٧٠]

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ٣ / ٨٤

(٢) سنن أبى داود ٢ / ١٨٩

١٠١

وقوله جل جلاله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧]

٢ ـ وأما الشهادة الإعجازية ، فهى إمداده بالمعجزات التى تؤيده ، لتكون دليل صدق على نبوته ، ويتم ذلك بإظهار خوارق العادات.

وأول المعجزات التى أمده بها «القرآن العظيم» ، المعجزة المعنوية ، الوحى الذى أوحاه الله تعالى إليه ، إنها أعظم معجزة عرفتها البشرية ، المعجزة التى جعلته قارئا كاتبا ، حيث نزل الوحى على قلبه الطاهر بقوله : (اقْرَأْ)

فقال : ما أنا بقارىء ، قال له الوحى (اقْرَأْ) ، فقال : ما أنا بقارىء ، فنزل قول الحق : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أى بأمر ربك .. ستقرأ يا محمد ، وستكون من القارئين العالمين ، العارفين المعلمين ، المفسّرين .. هذا فى الوقت الذى كان معلوما فيه ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أميّا ، لم يقرأ ولم يكتب قط ، ولم يجلس بين يدى معلم قط ـ وأيضا إذ العادة قاضية باستحالة تكلمه بالعلوم والمعارف ، ومعرفته لها ، وتفوقه فيها ، فضلا عن أن يأتى بما لم يأت به غيره من معاصريه ..

فالوحى الإلهى «القرآن الكريم» قد حوى : أمور الدين والدنيا ، أمور الهداية والتشريع ، واشتمل على قدر من العلوم الإلهية ، حيث أثبت الكثير من الحقائق العلمية ، مثل :

١ ـ نظام التزاوج ، يشير إلى هذا القانون ، قوله تعالى :

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦]

١٠٢

٢ ـ والقوانين الكونية ، كعملية إنزال المطر ، التى يشير إليها قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الروم : ٤٨]

كما تعرض لبدء الخليقة ، وذكر من قصص الماضين ، وأخبار السابقين الشىء العجيب ، وأخبر بمغيبات عديدة ، فكانت كما أخبر حرفيا ، وبلا زيادة أو نقصان ، كالإخبار بنهاية حرب الروم مع الفرس ، وغلب الأولى للأخيرة بعد أن كانت قد غلبت وانهزمت ، وذلك فى قوله تعالى :

(الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)

[الروم : ١ ـ ٣]

هذا القرآن العظيم .. أتى به النبى الأمّى ، يتحدى الخلق على الإتيان بمثله ، أو بعشر سور من مثل سوره ، أو بسورة واحدة ، فتعجز البشرية ومعها الجن كلهم ، وتطأطىء رأسها ، وتسكت عن المعارضة لأكبر معجزة أوتيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتدل على صدق نبوته ، وثبوت رسالته ، وفى ذلك نزل قول الحق :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]

ويقول النبى المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ما من الأنبياء من نبىّ إلّا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحى إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (١).

__________________

(١) متفق عليه

١٠٣

وهذا التحدى القرآنى سيظل قائما إلى يوم القيامة ، مصداقا لقوله سبحانه :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤]

فقوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أى الإتيان بسورة قرآنية من أمىّ مثل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى أميته ، هذا التحدى ، وهو نفى الإتيان بسورة من أمىّ مثل محمد فى أميته ، ما زال قائما ، وقد مضى عليه الآن ما يزيد على الألف والأربعمائة سنة ، دون أن يأتى أحد بما يبطله.

هذا عن المؤيدات المعنوية البيانية الممثلة فى القرآن.

* أما المؤيدات الإعجازية الحسية أو المادية ، التى أيد الله بها نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهى :

١ ـ فيضان الماء بين أصابعه بالحديبيّة حتى سقى وروى جيشا كاملا قوامه ألف وأربعمائة رجل وامرأة. (١)

٢ ـ تكثير الطعام يوم الخندق ، حيث أطعم بصاع من شعير وجدى صغير جيشا كاملا تعداده ألف رجل أو يزيدون. (٢)

٣ ـ حنين الجذع إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ونطقه ، وسماع مئات الرجال الأخيار له ، وعدم سكوته إلى أن أتاه الرسول وهدهده كما تهدهد الأم طفلها ، فسكت (٣)

__________________

(١) انظر صحيح البخارى ٤ / ٢٣٤ ، ٥ / ١٥٦

(٢) كان هذا فى غزوة الأحزاب ـ متفق عليه.

(٣) رواه البخارى ٢ / ١١

١٠٤

٤ ـ ردّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عين قتادة ، حيث خرجت حتى تدلّت على وجنته بسبب ضربة أصابته يوم أحد ، فردّها ومسح عليها ، فرجعت أحسن منها قبل إصابتها (١)

٥ ـ تسبيح الطعام بين يديه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه يسمعون ، وهم عدد كبير من الصحابة الأجلاء (٢)

٦ ـ إنشقاق القمر له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين طلبت قريش ذلك استدلالا على نبوته ، فانشق القمر فكان فلقتان على جبل أبى قبيس ، وأهل مكة كلهم يشاهدون ويعجبون. (٣) وقد سجل القرآن الكريم حدث هذا الانشقاق بقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]

٧ ـ تسليم الشجر والحجر عليه على مرأى من الناس ومسمع ، وعشرات المرات. (٤)

٨ ـ الإسراء به والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى السماء السابعة ، حيث سدرة المنتهى عند جنة المأوى ، فبلغ مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وناداه ربه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.

وقد سجل القرآن العظيم أحداث هذه الرحلة المقدسة فى سورتى الإسراء والنجم.

٩ ـ إخباره بالمغيبات الكثيرة فكانت كما أخبر.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٣٣

(٢) رواه البخارى ٤ / ٢٣٥

(٣) رواه الشيخان

(٤) انظر حديث تسليم الحجر عليه فى مكة فى صحيح مسلم ٧ / ٥٨ ، وحديث تسليم الأحجار والإشجار فى الترمذى برقم (٣٦٣٠)

١٠٥

من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى «الحسن بن على» ـ رضى الله عنه : «إن ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كما أخبر. (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى «عمار بن ياسر» وهو يحمل اللّبن لبناء المسجد : «تقتلك الفئة الباغية» فكان كما أخبر بذلك ، فقد قتل عمار فى حرب على ومعاوية ، قتله جيش الشام. (٢)

ونتيجة لهذه البشارات وهذه المؤيدات الإعجازية ، المعنوية والمادية ، وجب الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتصديق نبوته ، والأخذ بتعاليم رسالته.

* والسؤال الآن : هل ترك النبى شيئا غامضا ملتبسا على أمته؟

لقد شاء اللطيف الخبير ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون هذا الرسول ، السراج المنير ، الذى أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ، وأنزل معه الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه ، من أمر دينهم إلى ما بعث به الكتاب والحكمة ، وهو يدعو إلى الله ، وإلى سبيله بإذنه على بصيرة ، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ، ولأمته دينهم ، وأتم عليهم نعمته.

فمحال مع هذا وغيره ، أن يكون الرسول قد ترك بابا من أبواب الإيمان ملتبسا مشتبها دون أن يوضحه ، أو غفل ما يجب لله من الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، وما يجوز عليه ، وما يمتنع عليه ، فإن معرفة هذا أصل الدين ، وأساس الهداية ، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس ، وأدركته العقول.

__________________

(١) أخرجه البخارى ٥ / ٣٢

(٢) انظر صحيح مسلم ٨ / ١٨٦

١٠٦

إن الذى لا شك فيه أن النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد علم أمته كل شىء من أمور دينهم ودنياهم.

وقال : «تركتكم على المحجّة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدى إلّا هالك» (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بعث الله من نبى إلّا كان حقّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم». (٢)

يقول أبو ذر ـ رضى الله عنه ـ «لقد توفى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما طائر يقلّب جناحيه فى السماء إلا ذكر لنا منه علما» (٣)

وقال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه : «قام فينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقاما ، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم ، حفظ ذلك من حفظه ، ونسيه من نسيه» (٤)

* ومحال مع تعليم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لصحابته ولأمته كل شىء ، لهم فيه منفعة فى الدين وإن دقت ، أن يترك تعليمهم ما يقولون بألسنتهم ، ويعتقدونه فى قلوبهم عن ربهم المعبود ، رب السموات والأرض .. رب العالمين ، ومعرفته غاية المعارف ، وعبادته أشرف المقاصد ، وهى زبدة الرسالة الإلهية ، وخلاصة الدعوة النبوية.

__________________

(١) متفق عليه.

(٢) رواه مسلم.

(٣) رواه مسلم.

(٤) أخرجه البخارى.

١٠٧

كيف يتوهم من فى قلبه أدنى لمحة من إيمان وحكمة ، أن يكون الرسول قد أغفل بيان هذه الأمور ولم يتمها غاية التمام ، وهو القائل : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدى أبدا ، كتاب الله وسنتى» (١)

إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيّن جميع الدين ، أصوله وفروعه ، باطنه وظاهره ، علمه وعمله .. فإن هذا الأمر هو أصل أصول العلم والإيمان ، وكل من كان أعظم اعتصاما ، وأكثر تمسكا بهذا الأصل ، كان أولى بالحق علما وعملا.

كما بين الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كل أصول الدين الحق ، الذى أنزل الله به كتابه ، وأرسل رسله ، وهى الأدلة والبراهين ، والآيات الدالة على ذلك ، بيّنها أحسن تبيين ، ودلّ الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية ، والبراهين اليقينية ، التى بها يعلمون المطالب الإلهية ، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ـ سبحانه وتعالى ـ ووحدانيته وصفاته ، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة السمعية ، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية ، وإن كان لا يحتاج إليها ، فإن كثيرا من هذه الأمور يعرف بالخبر الصادق ، ومع ذلك فالرسول الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين الأدلّة العقلية الدالة عليها ، فجمع بين الطرفين : الدلائل السمعية ، والدلائل العقلية.

__________________

(١) متفق عليه.

١٠٨

الفصل الثانى

آدم أبو البشر ـ وقضية الاستخلاف فى الأرض

شاء الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن يخلق الكون وفق إرادته وحكمته ، ليظهر كمال علمه وقدرته ، بظهور أفعاله المتقنة المحكمة ، وليثبت أنها لا تأتى إلا من قادر حكيم ، وليعبد فى هذا الكون ، فإنه يحب عبادة العابدين ، ويثيبهم عليها على قدر فضله ، لا على قدر عبادتهم وأفعالهم ، وإن كان غنيا عن عبادة خلقه ، لا تزيد فى ملكه طاعة المطيعين ، ولا ينقص من ملكه معصية العاصين.

قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٦ ، ٥٧] ـ وليظهر إحسانه على خلقه لأنه محسن ، فأوجدهم ليحسن إليهم. وليتفضل عليهم ، فيعامل بعضا بالعدل ، وبعضا بالفضل.

قال عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم : ٤٠]

قال المفسرون : خلقكم لإظهار القدرة ، ثم رزقكم لإظهار الكرم ، ثم يميتكم لإظهار القهر والجبروت. ثم يحييكم لإظهار العدل والفضل ، والثواب والعقاب.

* فلما أراد الحق ـ سبحانه ـ أن يخلق أساسيات هذا الكون «السماوات والأرض». خلق جوهرة خضراء ، أضعاف طبقات السموات والأرض ، ثم نظر إليها نظرة هيبة ، فصارت ماء ، ثم نظر إلى الماء فغلى ، وارتفع منه زيد ، ودخان ، وبخار ، وأرعد من خشية الله ، فمن ذلك يرعد إلى يوم القيامة ، فخلق الله من ذلك الدخان : السماء ، وخلق من الزّبد الأرض.

١٠٩

* فأما عن خلق السماء .. فيقول سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] أى قصد وعمد إلى خلق السماء ، وهى بخار.

وقال عز شأنه : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [المؤمنون : ١٧]

قال ابن عباس : خلق الله السموات مثل القباب ، فسماء الدنيا قد شدّت أقطارها ، والثانية ، بالثالثة ، وكذلك إلى السابعة ، والسابعة بالعرش ، فذلك قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

[الرعد : ٢]

عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أصحابه ، وهم يتفكرون ، فقال : فيم أنتم تتفكرون؟ فقالوا : نتفكّر فى الخالق. فقال لهم : تفكروا فى الخلق ، ولا تتفكروا فى الخالق ، فإنه لا تحيط به الفكرة ، تفكروا فى أن الله خلق السماوات سبعا ، والأرض سبعا ، وتحت كل أرض خمسمائة عام ، وفى السماء السابعة بحر عمقه من ذلك كله ، وفيه ملك قائم لا يتجاوز الماء كعبه.

ولما خلق الله «جلت حكمته» السموات ، زينها بعشرة أشياء :

١ ـ الشمس : قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)

[نوح : ١٦]

وقال عز شأنه : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) [النبأ : ١٣]

٢ ـ والقمر : قال الله سبحانه : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً)

[نوح : ١٦]

١١٠

٣ ـ والكواكب : قال الله عزوجل : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات : ٦]

وقال سبحانه : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [فصلت : ١٢]

والكواكب على ضربين : منها ما هو معلق كتعليق القناديل فى المساجد ، ومنها ما هو مركب كتركيب الفص فى الخاتم ، وهى مع كثرتها مختلفة الصور ، ما خلق الله تعالى منها كوكبا على مثال كوكب.

٤ ـ والعرش : قال الله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ)

[غافر : ١٥]

٥ ـ والكرسى : قال الله عزوجل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥]

روى عن على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «الكرسى لؤلؤة طولها حيث لا يعلمه العالمون ، وقد جعل الله آية الكرسى أمانا لأهل الإيمان ، من شر الشيطان».

٦ ـ اللوح المحفوظ : قال الله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢]

قال ابن عباس : إنه مما خلق الله تعالى لوحا محفوظا من درّة بيضاء ، دفتاه من ياقوتة حمراء كتابيه نور ، وقلمه نور ، وعرضه كما بين السماء والأرض ، ينظر الله تعالى فيه ـ كل يوم ـ ثلاثمائة وستين نظرة ، منها يخلق ، ويرزق ، ويحيى ، ويميت ، ويفعل ما يشاء ، فذلك قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)

[الرحمن : ٢٩]

١١١

٧ ـ القلم : قال سبحانه : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [القلم : ١]

يروى أن أول ما خلق الله (القلم) ، فنظر إليه نظرة هيبة ، وكان طوله كما بين السماء والأرض. فانشق نصفين. وقال أكتب. فقال يا رب .. وما أكتب؟ قال : أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة.

٨ ـ البيت المعمور : عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن فى سماء الدنيا بيتا ، يقال له «البيت المعمور» ، بحيال الكعبة ، وأن فى السماء السابعة بحرا من نور ، يقال له الحيوان ، يدخل فيه جبريل ـ عليه‌السلام ـ كل غداة ، فينغمس فيه انغماسة ، ثم يخرج فينفض انتفاضة ، فيخرج منه سبعون ألف قطرة من نور ، فيخلق الله ـ تعالى ـ من كل قطرة ملكا ، فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلّون فيه ، فيأتونه ويدخلونه ، ويصلون فيه ، ثم يخرجون فلا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

٩ ـ سدرة المنتهى : قال الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٣ ـ ١٥]

قال كعب : هى شجرة فى السماء السابعة مما يلى الجنة ، أصلها ثابت فى الجنة ، وعروقها تحت الكرسى ، وأغصانها تحت العرش ، إليها ينتهى علم الخلائق ، كل ورقة منها تظل أمة من الأمم ، يغشاها ملائكة كأنهم فراش من ذهب ، وعليها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، ومقام جبريل وسطها.

١٠ ـ الجنة : قال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الجنة ، كيف هى؟ قال : من يدخل الجنة حىّ لا يموت ، ومنعّم لا يبأس ، ولا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه.

قيل : يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال : لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة. ملاطها مسك أذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران.

١١٢

* وأما عن خلق الأرض ، فقد خلقها الله من الزّبد ، الذى ارتفع من غلى الماء ، كما خلق السماء من الدخان.

فأول ما ظهر من الأرض على وجه الماء «مكة» فدحا الله الأرض من تحتها ، فلذلك سمّيت «أم القرى» يعنى أصلها ، وهو قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠]

ولما خلقت الأرض ، كانت طبقا واحدا ، ففتقها وصيّرها سبعا ، وذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠]

ثم بعث الله ـ تعالى ـ من تحت العرش ملكا ، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع ، فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه فى المشرق ، والأخرى فى المغرب ، باسطتين قابضتين على قرار الأرضين السبع حتى صلب ، فلم يكن لقدميه موضع قرار .. فأهبط الله تعالى من أعلى الفردوس ثورا ، له سبعون ألف قرن ، وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدمى الملك على سنامه ، فلم تستقر قدماه ، فخلق الله ياقوتة خضراء ، من أعلى درجة من الفردوس ، غلظها مسيرة خمسمائة عام ، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه ، فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، وهى كالحكمة تحت العرش ، ومنخر ذلك الثور فى البحر ، فهو يتنفّس كل يوم نفسا ، فإذا تنفّس مدّ البحر ، وإذا ردّ نفسه جزر ـ وهذا هو المدّ والجزر الذى يحدث للبحر ليلا.

ولم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله صخرة خضراء ، سمكها كسمك سبع سموات ، وسبع أرضين ، فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهى الصخرة ، التى قال لقمان لابنه:

١١٣

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦]

وروى أن لقمان لما قال هذه الكلمة ، انفطرت من هيبتها مرارته ، ومات ، وكانت آخر موعظته.

وقال المفسرون والعلماء : إن الأرض كانت تنكفىء على الماء ، كما تنكفىء السفينة على الماء ، فأرساها الله بالجبال ، وذلك قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٢٢] وقوله عزوجل : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٧]. وقوله سبحانه : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] يعنى لكى لا تتحرك بكم ، أى جعل فيها جبالا ثوابت ، لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم عن ظهرها ، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها.

قال الإمام الفخر : واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها ، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه ، والرياح ، ولو خلقها تعالى مثل الرمل ، لما كانت تثبت للزراعة ، كما ترى الأراضى الرملية ، ينتقل الرمل الذى فيها من موضع إلى موضع ، فهذه حكمة إرسائها بالجبال (١). فسبحان الكبير المتعال.

قال علىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ «أول ما خلق الله الأرض عجّت ، وقالت : يا رب تجعل علىّ بنى آدم يعملون علىّ الخطايا ، ويلقون علىّ الخبائث ، فاضطربت فأرساها الله ـ تعالى ـ بالجبال ، فأقرها ، وخلق الله تعالى جبلا عظيما من زبرجدة خضراء خضرة السماء منه ، يقال له : «جبل قاف» فأحاط بها كلها وهو الذى أقسم به الله ، فقال : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)

[سورة ق : ١]

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٥ / ١٤٣

١١٤

وقال وهب : أن ذا القرنين أتى على جبل قاف ، فرأى جبالا صغارا ، فقال له : من أنت؟ قال : قاف ، قال : فأخبرنى ما هذه الجبال التى حولك؟ فقال : هى عروقى ، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا ، أمرنى فحركت عرقا من عروقى ، فزلزت الأرض المتصلة به ، فقال يا قاف : أخبرنى بشىء من عظمة الله تعالى ، فقال : إن شأن ربنا لعظيم ، تقصر عنه الصفات ، وتنقضى دونه الأوهام ـ قال : فأخبرنى بأدنى ما يوصف منها؟. قال : إن ورائى لأرضا مسيرة خمسمائة عام من جبال الثلج ، يحطم بعضها بعضا ، ومن وراء ذلك جبال من البرد مثلها ، ولو لا ذلك الثلج والبرد ، لاحترقت الدنيا من حرّ جهنم.

قال : زدنى .. فقال : إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ واقف بين يدى الله ـ تعالى ـ ترتعد فرائصه ، فيخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك ، وهم صفوف بين يدى الله ، منكسوا رؤوسهم ، لا يؤذن لهم فى الكلام إلى يوم القيامة ، فإذا أذن الله لهم فى الكلام قالوا : «لا إله إلا الله» (١) وهو قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)

[النبأ : ٣٨]

وعن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال :

لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال ، وألقاها عليها فاستقامت ، فتعجبت الملائكة من شدة الجبال ، فقالت : يا رب .. هل من خلقك شىء أشد من الجبال؟ قال : نعم .. الحديد ؛ فقالت : يا رب ؛ هل من خلقك شىء أشد من الحديد؟. قال : نعم .. النار ، فقالت : يا رب .. هل من خلقك شىء أشد من النار؟ قال : نعم .. الماء ، فقالت : يا رب .. هل من خلقك

__________________

(١) قصص الأنبياء للثعالبى ص ٨

١١٥

شىء أشد من الماء؟ قال : نعم .. الريح ، فقالت : يا رب .. هل من خلقك شىء أشد من الريح؟ قال : نعم .. الإنسان.

* والسؤال الآن : ما هى المدة التى استغرقتها عملية الخلق؟

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه عنه أبو هريرة : «خلق الله الأرض يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والأشجار يوم الإثنين ، والظلمات يوم الثلاثاء ، والنور يوم الأربعاء ، والدواب يوم الخميس ، وآدم يوم الجمعة».

وذكر المفسرون : أن الله تعالى ابتدأ خلق الأشياء يوم الأحد إلى يوم الخميس ، وخلق يوم الخميس ثلاثة أشياء ، السموات والملائكة ، والجنة ، إلى ثلاث ساعات بقيت من يوم الجمعة. فخلق فى الساعات الأولى الأوقات والآجال ، وفى الثانية : الأرزاق ، وفى الثالثة : آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذلك قوله عزوجل :

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)

[فصلت : ١٢]

أى صنعهن وأبدع خلقهن سبع سماوات فى وقت مقدر بيومين ، فتم خلق السموات والأرض ، فى ستة أيام ، ولو شاء لخلقهن بلمح البصر ، ولكن أراد الله أن يعلم عباده الحلم والأناة.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أى أوحى فى كل سماء ما أراده ، وما أمر به فيها.

قال ابن كثير : أى رتّب فى كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة ، وما فيها من الأشياء التى لا يعلمها إلّا هو.

١١٦

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) أى وزيّنّا السماء الأولى ، القريبة منكم ، بالكواكب المنيرة ، المشرقة على أهل الأرض ، وحرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٢] أى ذلك المذكور من الخلق والإبداع ، هو صنع الله ، العزيز فى ملكه العليم بمصالح خلقه.

* خلق آدم عليه‌السلام :

بعد أن خلق الله الكون بمشتملاته العديدة ، التى قدرها الحق ـ سبحانه ـ أراد أن يعمّره .. فأوحى ـ جلت قدرته ـ إلى الأرض إنى خالق منك خلقا. منهم من يطيعنى ، ومنهم من يعصينى ، فمن أطاعنى منهم أدخلته الجنة ، ومن عصانى أدخلته النار ، ثم بعث إليها جبريل ـ عليه‌السلام. ليأتى بقبضة من ترابها ، فلما أتاها جبريل ليقبض منها القبضة ، قالت له الأرض : «إنى أعوذ بعزة الذى أرسلك أن لا تأخذ منى شيئا يكون فيه غدا للنار نصيب» فيرجع جبريل إلى ربه ، ولم يأخذ منها شيئا ، وقال : يا رب استعاذت بك ، فكرهت أن أقدم عليها.

فأمر الله ـ عزوجل ـ ميكائيل ـ عليه‌السلام ، فأتى الأرض ، فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئا فيرجع إلى ربه ، ولم يأخذ منها شيئا.

فبعث الله ملك الموت ، فأتى الأرض ، فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئا ، فقال ملك الموت :

وإنى أعوذ بالله أن أعصى له أمرا ، فقبض قبضة من زواياها الأربع ، من أديمها الأعلى ، ومن سبختها وطيها ، وأحمرها وأسودها ، وأبيضها ، وسهلها

١١٧

وحزنها ، فكذلك كان فى ذرية آدم ، الطيب والخبيث ، والصالح والطالح ، والجميل والقبيح ، ولذلك اختلفت صورهم وألوانهم (١).

قال الله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢]

ثم صعد بقبضة التراب ملك الموت إلى الله ـ تعالى ـ فأمره أن يجعلها طينا ، ويخمّرها. فعجنها بالماء المرّ والعذب والملح ، حتى جعلها طينا ، وخمّرها ، فلذلك اختلفت أخلاقهم. ثم تركها أربعين سنة حتى صارت طينا لازبا ليّنا. واللآزب هو الذى يلزق بعضه ببعض. ثم تركها أربعين سنة حتى صارت صلصالا كالفخار ، وهو الطين اليابس ، الذى إذا ضربته بيدك صلصل ، أى أحدث صوتا ، ليعلم أن أمره بالصنع والقدرة ، لا بالطبع والحيلة ، فإن الطين اليابس لا ينقاد ، ولا يتأتى تشكيله.

ثم جعله جسدا ، وألقاه على طريق الملائكة ، التى تهبط إلى السماء ، وتصعد منها أربعين سنة ، فذلك قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١]

قال ابن عباس : الإنسان آدم ، والحين أربعون سنة ، كان آدم جسدا ملقى على باب الجنة (٢).

فمرت الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم منه فزعا إبليس ، فكان يمرّ به فيضربه ، فيصوّت الجسد ، كما يصوّت الفخار فيكون له صلصلة ، فذلك حين يقول :

__________________

(١) ذكره السدى عن أبى مالك وأبى صالح عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد. وانظر قصص الأنبياء لابن كثير ٣٥

(٢) رواه الترمذى.

١١٨

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤]. وكان يقول : لأمر ما خلقت ، ودخل فى فيه ، وخرج من دبره ، وقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صمد ، وهذا أجوف. لئن سلّطت عليه لأهلكنّه.

* روى أنس بن مالك ـ أن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : لما خلق الله آدم ، تركه ما شاء أن يدعه ، فجعل إبليس يطيف به ، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك (١).

* وسأل عبد الله بن سلام ، رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كيف خلق الله آدم ـ عليه‌السلام؟

فقال : خلق رأس آدم وجبهته من تراب الكعبة ، وصدره وظهره من بيت المقدس. وفخذيه من اليمن ، وساقيه من أرض مصر ، وقدميه من أرض الحجاز ، ويده اليمنى من أرض المشرق ، ويده اليسرى من أرض المغرب ، ثم ألقاه على باب الجنة ، فكلما مر عليه ملأ من الملائكة عجبوا من حسن صورته ، وطول قامته ، ولم يكونوا قبل ذلك رأوا شيئا يشبهه من الصور.

* نفخ الروح :

قال العلماء : لما أراد الله أن ينفخ فى آدم الروح ، أمرها أن تدخل فى (فيه) ، فقالت الروح : مدخل بعيد القعر ، مظلم المدخل ، فقال للروح ثانية ، فقالت مثل ذلك ، وكذلك ثالثة ، إلى أن قال فى الرابعة : أدخلى كرها وأخرجى كرها ، فلما أمرها تعالى بذلك ، دخلت فى فيه ، فأول ما نفخ فيه الروح دخلت من دماغه ، فاستدارت فيه مقدار مائتى عام.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد.

١١٩

ثم نزلت فى عينيه ، والحكمة فى ذلك ، أن الله تعالى أراد أن يرى آدم بدء خلقه وأصله. حتى إذا تتابعت عليه الكرامات ، لا يدخله الزهو ولا العجب بنفسه. ثم نزلت الروح فى خياشيمه ، فعطس ، فحين فراغه من عطاسه ، نزلت الروح إلى فيه ولسانه ، فلقنه الله تعالى أن قال : (الحمد لله رب العالمين) فكان ذلك أول ما جرى على لسانه ، فأجابه ربه ـ عزوجل ـ يرحمك ربك يا آدم .. للرحمة خلقتك.

ثم نزلت الروح إلى صدره وشرايينه ، فأخذ يعالج القيام ، فلم يمكنه ذلك. وذلك قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] وقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧]

فلما وصلت الروح إلى جوفه اشتهى الطعام ، فهو أول حرص دخل جوف آدم ـ عليه‌السلام.

وذكر الترمذى ـ فيما رواه أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لما خلق الله آدم ، مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عينى كل إنسان منهم وبيصا (أى بريقا) من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك ، وإذا فيهم الأجذم ، والأبرص ، والأعمى ، وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب ، لم فعلت هذا بذريتى؟ قال : كى تشكر نعمتى» (١)

فلما أتم الله خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ ونفخ فيه الروح ، قرّظه وشقه ، وصوره وختمه ، وأنطقه وألبسه من لباس الجنة ، وزينه بأنواع الزينة ، يخرج من ثناياه نور كشعاع الشمس ، ثم رفعه على سرير ، وحمله على أكتاف الملائكة ، وقال لهم : طوفوا به فى سمواتى ليرى عجائبها ، وما فيها ، فيزداد يقينا.

__________________

(١) رواه ابن أبى حاتم.

١٢٠