فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

البصري وغيره : معنى ترفع تعظم ، ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار ، ورجحه الزجاج وقيل : المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين ، ومعنى (يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) كلّ ذكر لله عزوجل ، وقيل : هو التوحيد ، وقيل : المراد تلاوة القرآن ، والأوّل أولى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) قرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بفتح الباء الموحدة مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون بكسرها مبنيا للفاعل إلا ابن وثاب وأبا حيوة فإنهما قرءا بالتاء الفوقية وكسر الموحدة ، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة ، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين : إما بفعل مقدّر ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : من يسبحه؟ فقيل : يسبحه رجال. الثاني : أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وعلى القراءة الثانية يكون رجال فاعل يسبح ، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضا رجال ، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.

واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، قالوا : الغدوّ : صلاة الصبح ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعشاءين ، لأن اسم الآصال يشملها ، ومعنى بالغدوّ والآصال : بالغداة والعشي ، وقيل : صلاة الصبح والعصر ، وقيل : المراد صلاة الضحى ، وقيل : المراد بالتسبيح هنا : معناه الحقيقي ، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده ، وهذا أرجح مما قبله ، لكونه المعنى الحقيقي ، مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون ، وهو ما ذكرناه (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) هذه الجملة صفة لرجال ، أي : لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر ؛ وخصّ التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر. وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب ، والبيع ما باعه الرجل على بدنه ، وخصّ قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها. وبمثل قول الفراء ، قال الواقدي : فقال التجار : هم الجلاب المسافرون والباعة المقيمون ، ومعنى عن ذكر الله : هو ما تقدّم في قوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وقيل : المراد الأذان ، وقيل : عن ذكره بأسمائه الحسنى. أي : يوحدونه ويمجدونه. وقيل : المراد : عن الصلاة ، ويردّه ذكر الصلاة بعد الذكر هنا. والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله :

ثلاثة تحذف تاءاتها

مضافة عند جمع النّحاة

وهي إذا شئت أبو عذرها

وليت شعري وإقام الصلاة

وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر :

إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي : عدة الأمر ، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل إقواما ، ولكن قلبت الواو ألفا فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين ، فبقي أقمت الصلاة إقاما ، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة ، وهذا إجماع من النحويين. انتهى. وقد احتاج

٤١

من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فرارا من التكرار ولا ملجئ إلى ذلك ، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا. والمراد بالزكاة المذكورة : هي المفروضة ، وقيل : المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص ، إذ ليس لكل مؤمن مال (يَخافُونَ يَوْماً) أي : يوم القيامة ، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له ، ثم وصف هذا اليوم بقوله : (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي : تضطرب وتتحوّل ، قيل : المراد بتقلب القلوب : انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج ، والمراد بتقلب الأبصار : هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة. وقيل : المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك ، وأما تقلب الأبصار فهو النظر من أيّ ناحية يؤخذون ، وإلى أيّ ناحية يصيرون. وقيل : المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ، ومثله قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١) فما كان يراه في الدنيا غيا يراه في الآخرة رشدا. وقيل : المراد التقلب على جمر جهنم ، وقيل غير ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) متعلق بمحذوف ، أي : يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، أي : أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف ، وقيل : المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليه زيادة على ما يستحقونه ، والأوّل أولى لقوله : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : من غير أن يحاسبه على ما أعطاه ، أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له ، والجملة مقرّرة لما سبقها من الوعد بالزيادة.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : يدبر الأمر فيهما ، نجومهما ، وشمسهما ، وقمرهما. وأخرج الفريابي عنه في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مثل نوره الذي أعطاه المؤمن (كَمِشْكاةٍ) وقال في تفسير (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) إنها التي في سفح جبل ، لا تصيبها الشمس إذا طلعت ، ولا إذا غربت (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشّعبيّ قال : في قراءة أبيّ بن كعب مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال : يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة ، وهي : الكوّة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (مَثَلُ نُورِهِ) قال : هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة ، قال : مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : هادي أهل السموات والأرض (مَثَلُ نُورِهِ) مثل هداه في قلب المؤمن (كَمِشْكاةٍ) يقول موضع الفتيلة ، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه ، كذلك يكون قلب المؤمن ، يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ، ونورا على نور ، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة ، وفيه مقال. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم

__________________

(١). ق : ٢٢.

٤٢

وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ) قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن ، فقال نور من آمن به ، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها «مثل نور من آمن به» فهو المؤمن ، جعل الإيمان والقرآن في صدره (كَمِشْكاةٍ) قال : فصدر المؤمن : المشكاة (فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ) النور ، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره (فِي زُجاجَةٍ) و (الزُّجاجَةُ) قلبه (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) يقول كوكب مضيء (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) المشكاة : كوّة البيت (فِيها مِصْباحٌ) وهو السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا ، ثم سماها أنواعا شتى (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : وهي وسط الشجر ، لا تنالها الشمس إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، وذلك أجود الزيت (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) بغير نار (نُورٌ عَلى نُورٍ) يعني بذلك : إيمان العبد وعمله (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو مثل المؤمن. وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال : المشكاة : جوف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والزجاجة : قلبه ، والمصباح : النور الذي في قلبه (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) الشجرة : إبراهيم (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لا يهودية ولا نصرانية ، ثم قرأ (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال : حدّثني عن قول الله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) قال : مثل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمشكاة قال : المشكاة : الكوّة ضربها الله مثلا لفمه فيها مصباح ، والمصباح قلبه (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) والزجاجة : صدره (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) شبه صدر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكوكب الدّريّ ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) قال : يكاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين للناس ، ولو لم يتكلم أنه نبيّ ، كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار.

وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب ، ولا ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية ، ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة ، ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة

__________________

(١). آل عمران : ٦٧.

٤٣

كما قدّمنا عنه ، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ، ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب ، وعلى ما تقتضيه لغة العرب ، ويفيده كلام الفصحاء ، فلا وجه للعدول عن الظاهر ، لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة. وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا ، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية ، فليس مثل كعب ـ رحمه‌الله ـ ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرا ، فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي ، نعم! إن صحت قراءة أبيّ بن كعب ، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر ، وتكون كالزيادة المبينة للمراد ، وإن لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة ، وغيرهم ممن قبلهم ، وممن بعدهم هو المتعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال : هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يتلى فيها كتابة (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) صلاة الغداة ، وصلاة العصر ، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غوّاص في قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال : هم الذين يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية ، قال : كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون ، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية ، قال : ضرب الله هذا المثل قوله : «كمشكاة» لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا عن ذكر الله قال : عن شهود الصلاة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر. أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد ، فقال ابن عمر فيهم نزلت : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ). وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناسا من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم ، فقال : هؤلاء الذين قال الله فيهم (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وأخرج هنّاد بن السّري في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ومحمد بن نصر في الصلاة عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر ، فيقوم مناد فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السّرّاء والضّرّاء؟

٤٤

فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنّة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل ، فيدخلون الجنّة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، فيدخلون الجنّة بغير حساب ، ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون». وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر مرفوعا نحوه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

لما ذكر سبحانه حال المؤمنين ، وما يؤول إليه أمرهم ، ذكر مثلا للكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) المراد بالأعمال هنا : هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفكّ العاني وعمارة البيت وسقاية الحاجّ ، والسراب : ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حرّ النهار على صورة الماء في ظنّ من يراه ، وسمي سرابا لأنه يسرب ، أي : يجري كالماء ؛ يقال : سرب الفحل ، أي : مضى وسار في الأرض ، ويسمى : الآل أيضا. وقيل : الآل هو الذي يكون ضحى كالماء ، إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض ، قال امرؤ القيس :

ألم أنض المطيّ بكلّ خرق

طويل (١) الطّول لمّاع السّراب

وقال آخر :

فلمّا كففنا الحرب كانت عهودهم

كلمع سراب بالفلا متألّق

والقيعة جمع قاع : وهو الموضع المنخفض الذي يستقرّ فيه الماء ، مثل جيرة وجار ، قاله الهروي. وقال أبو عبيد : قيعة وقاع واحد. قال الجوهري : القاع المستوي من الأرض ، والجمع : أقوع وأقواع وقيعان ، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها ، والقيعة : مثل القاع. قال : وبعضهم يقول هو جمع (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً)

__________________

(١). كذا في الأصل ، وفي ديوان امرئ القيس «أمقّ الطّول» والأمقّ : الطويل.

٤٥

هذه صفة ثانية لسراب ، والظمآن : العطشان ، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الرّيان يراه كذلك ، لتحقيق التشبيه المبنيّ على الطمع (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي : إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئا مما قدّره وحسبه ولا من غيره ، والمعنى : أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ، ويطمعون في ثوابها ، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئا ، لأن الكفر أحبطها ومحا أثرها ، والمراد بقوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) مع أنه ليس بشيء ، أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فيه. ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على زيادة حسرة الكفرة ، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرّد الخيبة كصاحب السراب فقال : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه ، أي : جزاء عمله ، كما قال امرؤ القيس :

فولّى مدبرا يهوي حثيثا

وأيقن أنّه لاقى الحسابا

وقيل : وجد وعد الله بالجزاء على عمله ، وقيل : وجد أمر الله عند حشره ، وقيل : وجد حكمه وقضاءه عند المجيء ، وقيل : عند العمل ، والمعنى متقارب. وقرأ مسلمة بن محارب «بقيعاه» بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه. وروي عنه أنه قرأ «بقيعات» بتاء مبسوطة. قيل : يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأوّل ، وجمع قيعة على الثاني. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرءوا (الظَّمْآنُ) بغير همز ، والمشهور عنهم الهمز. (أَوْ كَظُلُماتٍ) معطوف على كسراب ، ضرب الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات ، فهي أيضا تشبه الظلمات. قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد ، فمثلها كمثل السراب ، وإن مثلت بما يرى ، فهي كهذه الظلمات التي وصف. قال أيضا : إن شئت مثل بالسراب ، وإن شئت مثل بهذه الظلمات ، فأو للإباحة حسبما تقدّم من القول في (أَوْ كَصَيِّبٍ) (١) قال الجرجاني : الآية الأولى : في ذكر أعمال الكفار ، والثانية : في ذكر كفرهم ، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضا من أعمالهم. قال القشيري : فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار ، وعند الجرجاني لكفر الكفار (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) اللجة : معظم الماء ، والجمع : لجج ، وهو الذي لا يدرك لعمقه. ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أي : يعلو هذا البحر موج فيستره ويغطيه بالكلية ، ثم وصف هذا الموج بقوله : (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي : من فوق هذا الموج ثم وصف الموج الثاني فقال : (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي : من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ، فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر وأمواجه ، والسحاب المرتفع فوقه. وقيل إن المعنى : يغشاه موج من بعد موج ، فيكون الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأنه بعضه فوق بعض ، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه ، زاد الخوف شدّة ، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ، ثم إذا أمطرت تلك السحب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر ، تكاثفت الهموم ، وترادفت الغموم ، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ، ولهذا قال سبحانه (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي : هي ظلمات ،

__________________

(١). البقرة : ١٩.

٤٦

أو هذه ظلمات متكاثفة مترادفة ، ففي هذه الجملة بيان لشدّة الأمر وتعاظمه ، وقرأ ابن محيصن والبزي «سحاب ظلمات» بإضافة سحاب إلى ظلمات ، ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات ، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ الباقون بالقطع والتنوين.

ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات : أعمال الكافر ، وبالبحر اللجّي : قلبه ، وبالموج فوق الموج : ما يغشى قلبه من الجهل والشكّ والحيرة. والسحاب : الرين والختم والطبع على قلبه ، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد. ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) وفاعل أخرج : ضمير يعود على مقدّر دلّ عليه المقام ، أي : إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلي بها. قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى ، لم يرها ولم يكد. وقال الفرّاء : إن كاد زائدة. والمعنى : إذا أخرج يده لم يرها ، كما تقول : ما كدت أعرفه. وقال المبرد : يعني لم يرها إلا من بعد الجهد. قال النحاس : أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها ، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة ، وجملة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) مقرّرة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة ، والمعنى : ومن لم يجعل الله له هداية فما له من هداية. قال الزجاج : ذلك في الدنيا ، والمعنى : من لم يهده الله لم يهتد ، وقيل : المعنى من لم يجعل له نورا يمشي به يوم القيامة فما له من نور يهتدي به إلى الجنة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان (١) ، والخطاب لكلّ من له أهلية النظر ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد علمه من جهة الاستدلال ؛ ومعنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم ، والهمزة للتقرير ، أي : قد علمت علما يقينيا شبيها بالمشاهدة ، والتسبيح التنزيه في ذاته وأفعاله وصفاته عن كل ما لا يليق به ، ومعنى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من هو مستقرّ فيهما من العقلاء وغيرهم ، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها. وقيل : إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء ، والتنزيه من غيرهم. وقد قيل : إن هذه الآية تشمل الحيوانات والجمادات ، وأن آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال والكمال وتنزّهه عن صفات النقص ، وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عزوجل. وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز. قرأ الجمهور (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) بالرفع للطير والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من ، وصافات منتصب على الحال. وقرأ الأعرج «والطير» بالنصب على المفعول معه ، وصافات حال أيضا. قال الزجاج : وهي أجود من الرفع. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) برفعهما على الابتداء والخبر ، ومفعول صافات : محذوف ، أي : أجنحتها ، وخصّ الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السموات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض وكثرة لبثها في الهواء وهو ليس من السماء ولا من الأرض ، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران ، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات ، وذكر حالة من حالات

__________________

(١). أي في سورة الإسراء الآية : ٤٤.

٤٧

الطير ، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها ، أن هذه الحالة هي أغرب أحوالها ، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء. ثم زاد في البيان فقال : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي : كلّ واحد مما ذكر ، والضمير في علم : يرجع إلى كلّ ، والمعنى : أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي ، وتسبيح المسبح ، وقيل المعنى : أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. قيل : والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرّر للتأكيد ، والصلاة قد تسمى تسبيحا. وقيل : المراد بالصلاة هنا الدعاء ، أي : كل واحد قد علم دعاءه وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم علمها الله ذلك وألهمها إليه ، لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية ، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه ، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها ، أي : لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم ، ويجوز أن يكون الضمير في (عَلِمَ) لله سبحانه ، أي : كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له وتسبيحه إياه ، والأول : أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل ، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم : على البناء للمفعول. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له لا لغيره (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) لا إلى غيره ، والمصير : الرجوع بعد الموت. وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر من الآثار العلوية ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الإزجاء : السوق قليلا قليلا ، ومنه قول النابغة :

إني أتيتك من أهلي ومن وطني

أزجي حشاشة نفس ما بها رمق

وقوله أيضا :

أسرت عليه من الجوزاء سارية

تزجي الشّمال عليه جامد البرد

والمعنى : أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا رقيقا إلى حيث يشاء (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي : بين أجزائه ، فيضم بعضه إلى بعض ، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى ويتصل ويكثف ، والأصل في التأليف : الهمز. وقرأ ورش وقالون عن نافع (يُؤَلِّفُ) بالواو تخفيفا ، والسحاب : واحد في اللفظ ، ولكن معناه جمع ، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء : إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب ، كما تقول : الشجر قد جلست بينه ، لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : متراكما يركب بعضه بعضا. والركم : جمع الشيء ، يقال : ركم الشيء يركمه ركما ، أي : جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع ، والركمة : الطين المجموع ، والركام : الرمل المتراكب (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) الودق : المطر عند جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

٤٨

وقال امرؤ القيس :

فدمعهما ودق وسحّ وديمة

وسكب وتوكاف وتنهملان

يقال : ودقت السحاب فهي وادقة المطر يدق ، أي : قطر يقطر ، وقيل : إنّ الودق البرق ، ومنه قول الشاعر :

أثرن عجاجة وخرجن منها

خروج الودق من خلل السّحاب

والأوّل : أولى ، ومعنى (مِنْ خِلالِهِ) من فتوقه التي هي مخارج القطر ، وجملة (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في محل نصب على الحال ، لأن الرؤية هنا هي البصرية. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية «من خلله» على الإفراد. وقد وقع الخلاف في خلال ، هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) المراد بقوله من سماء : من عال ، لأن السماء قد تطلق على جهة العلوّ ، ومعنى من جبال : من قطع عظام تشبه الجبال ، ولفظ فيها في محل نصب على الحال ، و (مِنْ) في من برد للتبعيض ، وهو مفعول ينزل. وقيل : إن المفعول محذوف ، والتقدير : ينزل من جبال فيها من برد بردا. وقيل : إن من في من برد زائدة ، والتقدير : ينزل من السماء من جبال فيها برد. وقيل : إن في الكلام مضافا محذوفا ، أي : ينزل من السماء قدر جبال ، أو مثل جبال من برد إلى الأرض. قال الأخفش : إن من في من جبال وفي برد زائدة في الموضعين ، والجبال والبرد في موضع نصب ، أي : ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والحاصل أن (مِنْ) في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف و (مِنْ) في من جبال فيها ثلاثة أوجه : الأوّل : لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال. الثاني : أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال : الثالث : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالا. وأما (مِنْ) في من برد ففيها أربعة أوجه : الثلاثة المتقدّمة. والرابع : أنها لبيان الجنس ، فيكون التقدير على هذا الوجه : وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد. قال الزجاج : معنى الآية : وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا انتهى. وعلى هذا يكون من برد في موضع جرّ صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال ، ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا. وذكر أبو البقاء أن التقدير : شيئا من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) منهم ، أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء ، وقد تقدّم الكلام عن مثل هذا في البقرة (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) السنا : الضوء ، أي : يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدّة بريقه ، وزيادة لمعانه ، وهو كقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) قال الشماخ :

وما كادت إذا رفعت سناها

ليبصر ضوءها إلّا البصير

٤٩

وقال امرؤ القيس :

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أهان السّليط في الذّبال المفتّل

فالسنا بالقصر : ضوء البرق ، وبالمدّ : الرفعة ، كذا قال المبرّد وغيره. وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى ابن وثاب (سَنا بَرْقِهِ) بالمدّ على المبالغة في شدّة الضوء والصفاء ، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف. وقرأ طلحة ويحيى أيضا بضم الباء من برقه وفتح الراء. قال أحمد بن يحيى ثعلب : وهي على هذه القراءة جمع برق. وقال النحاس : البرقة المقدار من البرق والبرقة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع «يذهب» بضم الياء وكسر الهاء من الإذهاب. وقرأ الباقون (سَنا) بالقصر ، و (بَرْقِهِ) بفتح الباء ، وسكون الراء ، و (يَذْهَبُ) بفتح الياء والهاء من الذهاب ، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم. ومعنى ذهاب البرق بالأبصار : خطفه إياها من شدة الإضاءة وزيادة البريق ، والباء في الأبصار على قراءة الجمهور : للإلصاق ، وعلى قراءة غيرهم : زائدة (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : يعاقب بينهما ، وقيل : يزيد في أحدهما وينقص الآخر ، وقيل : يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشرّ ونفع وضرّ ، وقيل : بالحرّ والبرد ، وقيل : المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرّة وبضوء الشمس أخرى ، وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة ، وبضوء القمر أخرى ، والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) إلى ما تقدّم ، ومعنى العبرة : الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار ، والمراد بأولي الأبصار : كل من له بصر ويبصر به. ثم ذكر سبحانه دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان ، وبديع صنعته فقال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «والله خالق كلّ دابّة» وقرأ الباقون (خَلَقَ) والمعنيان صحيحان ، والدابة : كل ما دبّ على الأرض من الحيوان ، يقال : دبّ يدبّ فهو دابّ ، والهاء : للمبالغة ، ومعنى (مِنْ ماءٍ) من نطفة ، وهي : المنيّ ، كذا قال الجمهور. وقال جماعة : إن المراد الماء المعروف ، لأن آدم خلق من الماء والطين. وقيل : في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأوّل ، لأن في الحيوانات من لا يتولد عن نطفة ، ويخرج من هذا العموم الملائكة فإنهم خلقوا من نور ، والجانّ فإنهم خلقوا من نار. ثم فصل سبحانه أحوال كلّ دابة فقال : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) وهي : الحيات ، والحوت ، والدود ، ونحو ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) الإنسان والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) سائر الحيوانات ، ولم يتعرّض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته ، وقيل : لأن المشي على أربع فقط وإن كانت القوائم كثيرة ، وقيل : لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع ، ولا وجه لهذا فإن المراد التنبيه على بديع الصنع وكمال القدرة ، فكيف يقال بعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل : ليس في القرآن ما يدلّ على عدم المشي على أكثر من أربع ، لأنه لم ينف ذلك ولا جاء بما يقتضي الحصر ، وفي مصحف أبيّ «ومنهم من يمشي على أكثر» فعمّ بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع : كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الأرض (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) مما ذكره هاهنا ، ومما لم يذكره ، كالجمادات مركبها وبسيطها ، ناميها وغير ناميها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء ، بل الكلّ من مخلوقاته داخل تحت قدرته

٥٠

سبحانه (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي : القرآن ، فإنه قد اشتمل على بيان كلّ شيء ، وما فرّطنا في الكتاب من شيء ، وقد تقدّم بيان مثل هذا في غير موضع (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بتوفيقه للنظر الصحيح ، وإرشاده إلى التأمل الصادق (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى طريق مستوي لا عوج فيه ، فيتوصل بذلك إلى الخير التام وهو نعيم الجنة.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) قال : هو مثل ضربه الله لرجل عطش ، فاشتدّ عطشه ، فرأى سرابا فحسبه ماء ، فطلبه فظن أنه قدر عليه حتى أتى ، فلما أتاه لم يجده شيئا ، وقبض عند ذلك ، يقول : الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغني عنه شيئا ، ولا ينفعه إلا كما نفع السراب العطشان (يَغْشاهُ مَوْجٌ) يعني بذلك : الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر. وأخرج ابن جرير عنه بقيعة : بأرض مستوية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبيه عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الكفّار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا ، فيقولون : أين الماء؟ فيتمثّل لهم السّراب ، فيحسبونه ماء ، فينطلقون إليه فيجدون الله عنده فيوفّيهم حسابه ، والله سريع الحساب» وفي إسناده السدّي عن أبيه ، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة في قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال : الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) قال : بسط أجنحتهن. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) يقول : ضوء برقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال : كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان. وأقول : هذه الطيور على اختلاف أنواعها تمشي على رجلين ، وهكذا غيرها ، كالنعامة فإنها تمشي على رجلين ، وليست من الطير ، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله عنه لا تصحّ.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ

٥١

فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر ، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان ، لا عن اعتقاد صحيح ، ولهذا قال : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان والطاعة ، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان فقال : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة ، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين ، ويندرج تحتهم من تولى اندراجا أوّليا. وقيل : إن الإشارة بقوله : (أُولئِكَ) راجع إلى من تولى ، والأوّل : أولى. والكلام مشتمل على حكمين : الحكم الأوّل على بعضهم بالتولي ، والحكم الثاني على جميعهم : بعدم الإيمان. وقيل : أراد بمن تولى : من تولى عن قبول حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : أراد بذلك رؤساء المنافقين ، وقيل : أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين ، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص كما سيأتي بيانه. ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقا منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصوماتهم ، فقال : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي : ليحكم الرسول بينهم ، فالضمير راجع إليه لأنه المباشر للحكم وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) و (إِذا) في قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) هي الفجائية ، أي : فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول ، ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم ، وأما إذا كان لهم ، فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحكم إلا بالحق ، فقال : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) قال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة ، يقال : أذعن لي بحقي ، أي : طاوعني لما كنت ألتمس منه وصار يسرع إليه ، وبه قال مجاهد. وقال الأخفش وابن الأعرابي : مذعنين مقرّين. وقال النقاش : مذعنين : خاضعين. ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم فقال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم ، والمرض : النفاق ، أي : أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم (أَمِ ارْتابُوا) وشكوا في أمر نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدله في الحكم (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) والحيف : الميل في الحكم ؛ يقال : حاف في قضيته ، أي : جار فيما حكم به ، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري فقال : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : ليس ذلك لشيء مما ذكر ، بل لظلمهم وعنادهم ؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم ، وفيه هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله ، العادل في حكمه ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله ،

٥٢

وحكم رسوله ، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله ، أي : إلى حكمهما. قال ابن خويز منداد : واجب على كل من دعى إلى مجلس الحاكم أن يجيب ، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم ، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه فلم يجب بأقبح الذمّ ، فقال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآية. انتهى ، فإن كان القاضي مقصرا ، لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة ، ولا يعقل حجج الله ، ومعاني كلامه ، وكلام رسوله ، بل كان جاهلا جهلا بسيطا ، وهو من لا علم له بشيء من ذلك ، أو جهلا مركبا ، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا ، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين ، واطلع على شيء من علم الرأي ، فهذا في الحقيقة جاهل ، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم ، فاعتقاده باطل ؛ فمن كان من القضاة هكذا ، فلا تجب الإجابة إليه ، لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه ، بل هو من قضاة الطاغوت ، وحكام الباطل ، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه ، عند عدم الدليل من الكتاب والسنة ، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرّر لديك هذا وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة ، والفواقر الموحشة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه [القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا الذي سميناه [أدب الطلب ومنتهى الأرب] فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليهما. ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق ، أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله ، فقال : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قرأ الجمهور : بنصب (قول) على أنه خبر كان واسمها أن يقولوا. وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع «قول» على أنه الاسم ، وأن المصدرية وما في حيزها الخبر ، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان ، وكانت إحداهما أعرف ، جعلت التي هي أعرف اسما. وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين ولم يفرق هذه التفرقة ، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين ، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة ، ومن لا تجب (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : أن يقولوا هذا القول لا قولا آخر ، وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك ، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر. والمعنى : أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والإذعان. قال مقاتل وغيره : يقولون سمعنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطعنا أمره ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرّهم ، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله : (وَأُولئِكَ) أي : المؤمنون الذين قالوا هذا القول (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بخير الدنيا والآخرة ، ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر ، فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله والخشية من الله عزوجل والتقوى

٥٣

له. قرأ حفص (وَيَتَّقْهِ) بإسكان القاف على نية الجزم. وقرأ الباقون بكسرها ، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره ، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون. قال ابن الأنباري : وقراءة حفص هي على لغة من قال : لم أر زيدا ، ولم أشتر طعاما يسقطون الياء للجزم ثم يسكنون الحرف الذي قبلها ومنه قول الشاعر :

قالت سليمى اشتر لنا دقيقا

وقول الآخر :

عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان

وأصله يلد بكسر اللام ، وسكون الدال للجزم ، فلما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال. ويمكن أن يقال إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين ، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه ، فهذه الحركة غير تلك الحركة والإشارة بقوله : فأولئك هم الفائزون إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى ، أي : هم الفائزون بالنعيم الدنيوي ، والأخروي ، لا من عداهم. ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه ، أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) أي : لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن ، وجهد أيمانهم منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له ، أي : أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا. ومعنى جهد أيمانهم : طاقة ما قدروا أن يحلفوا ، مأخوذ من قولهم جهد نفسه : إذا بلغ طاقتها وأقصى وسعها. وقيل : هو منتصب على الحال والتقدير : مجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل ذلك جهدك ، وطاقتك ، وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا. وجواب القسم قوله : (لَيَخْرُجُنَ) ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة ، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم ، فقال : (قُلْ لا تُقْسِمُوا) أي : ردّ عليهم زاجرا لهم ، وقل لهم لا تقسموا ، أي : لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به ، وهاهنا تمّ الكلام. ثم ابتدأ فقال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد ، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ ، لأنها قد خصصت بالصفة ، ويكون الخبر مقدرا ، أي : طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم ، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف ، أي : لتكن منكم طاعة أو لتوجد ، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلا إذا تقدّم ما يشعر له. وقرأ زيد بن عليّ ، والترمذي ، طاعة بالنصب على المصدر لفعل محذوف ، أي : أطيعوا طاعة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم ، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله فقال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) طاعة ظاهرة وباطنة ، بخلوص اعتقاد ، وصحة نية ، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم ، فإن قوله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) في حكم الأمر بالطاعة ، وقيل :

٥٤

إنهما مختلفان ، فالأوّل : نهي بطريق الردّ والتوبيخ ، والثاني : أمر بطريق التكليف لهم ، والإيجاب عليهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) خطاب للمأمورين ، وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفا ، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم ، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والانقياد ، وجواب الشرط قوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي : فاعلموا أنما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ وقد فعل ، وعليكم ما حملتم ، أي : ما أمرتم به من الطاعة ، وهو وعيد لهم ، كأنه قال لهم : فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (تَهْتَدُوا) إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالأجر ، وجملة (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) مقرّرة لما قبلها ، واللام : إما للعهد ، فيراد بالرسول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما للجنس ، فيراد كل رسول ، والبلاغ المبين : التبليغ الواضح ، أو الموضح قيل : يجوز أن يكون قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) ماضيا وتكون الواو لضمير الغائبين ، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأوّل أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) وفي قوله : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ويؤيده أيضا قراءة البزي (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بتشديد التاء ، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب لهدايتهم ، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله ، وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من الأمم ، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل : هو خاص بالصحابة ، ولا وجه لذلك ، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم ، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة ، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله ، واللام في (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) جواب لقسم محذوف ، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم ، لأنه ناجز لا محالة ، ومعنى ليستخلفنهم في الأرض : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم ، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة ، أو بالمهاجرين ، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة ، وقد عرفت أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وظاهر قوله : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كل من استخلفه الله في أرضه فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور (كَمَا اسْتَخْلَفَ) بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول ، ومحل الكاف النصب على المصدرية ، أي : استخلافا كما استخلف ، وجملة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب ، والمراد بالتمكين هنا : التثبيت والتقرير ، أي : يجعله الله ثابتا مقرّرا يوسع لهم في البلاد ، ويظهر دينهم على جميع الأديان ، والمراد بالدين هنا : الإسلام ، كما في قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلا ، وهو جعلهم ملوكا وذكر التمكين ثانيا ، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطروّ ، بل على وجه الاستقرار والثبات ،

__________________

(١). المائدة : ٣.

٥٥

بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم ، وجملة (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر (لَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتخفيف من أبدل ، وهي قراءة الحسن ، واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل ، واختارها أبو عبيد ، وهما لغتان ، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى ، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس : وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقا ، وأنه يقال بدّلته ، أي : غيرته ، وأبدلته : أزلته وجعلت غيره. قال النحاس ، وهذا القول صحيح. والمعنى : أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا ، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين ، ولا يخرجون إلا في السلاح ، ولا يمسون ويصبحون إلى على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار ، ثم صاروا في غاية الأمن والدعة ، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد ، ومهّد لهم في الأرض ، ومكّنهم منها ، فلله الحمد ، وجملة (يَعْبُدُونَنِي) في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم ، وجملة (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني ، أي : يعبدونني ، غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأشياء ، وقيل معناه : لا يراءون بعبادتي أحدا ، وقيل معناه : لا يخافون غيري ، وقيل معناه : لا يحبون غيري (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح ، أو من استمرّ على الكفر ، أو من كفر بعد إيمان ، فأولئك الكافرون همّ الفاسقون ؛ أي : الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر وجملة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم ، كأنه قيل لهم : فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا الصلاة ، وقيل : معطوف على (أَطِيعُوا اللهَ) وقيل التقدير : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة. وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة ، لأن طاعته طاعة لله ، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني ، من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول ، راجين أن يرحمكم الله سبحانه (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة «لا يحسبنّ» بالتحتية بمعنى : لا يحسبنّ الذين كفروا ، وقرأ الباقون بالفوقية ، أي : لا تحسبنّ يا محمد ، والموصول : المفعول الأوّل ، ومعجزين : الثاني ، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين ، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى ، فيكون المفعول الأول محذوفا ، أي : لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم. قال النحاس : وما علمت أحدا بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة ، ومعجزين معناه : فائتين. وقد تقدّم تفسيره وتفسير ما بعده.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) الآية قال : أناس من المنافقين أظهروا الإيمان والطاعة ، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته ، وجهاد مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجوا أيضا عن الحسن قال : إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة ، أو منازعة

٥٦

على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا دعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محقّ أذعن وعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيقضي له بالحقّ ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرض وقال : أنطلق إلى فلان ، فأنزل الله سبحانه (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله : (هُمُ الظَّالِمُونَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من حكّام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم لا حقّ له». قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه : وهذا حديث غريب وهو مرسل. وقال ابن العربي : هذا حديث باطل ، فأما قوله : فهو ظالم ، فكلام صحيح. وأما قوله : فلا حق له ، فلا يصح. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى. وأقول : أما كون الحديث مرسلا فظاهر. وأما دعوى كونه باطلا فمحتاجة إلى برهان ، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكرنا ، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل ، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : قال ابن أبي حاتم : حدّثنا أبيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدّثنا مبارك ، حدّثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعي إلى سلطان فلم يجب ، فهو ظالم لا حقّ له». انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريبا هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب والسنة ، المبينون للناس ما نزل إليهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أتى قوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله! لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا ، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد ، قال يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) قال أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول : قد عرفت طاعتكم ، أي : إنكم تكذبون به. وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال : «قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منّا الحقّ ولا يعطونا؟ قال : فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم» وأخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت يا رسول الله ، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال : قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم ، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الآية. قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد ، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سرّا ، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فغبروا (١) بذلك ما شاء الله ، ثم إن رجلا من أصحابه قال : يا رسول الله! أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن تغبروا إلا

__________________

(١). غبر ، يغبر غبورا : بقي. والغابرين : الماكثين الباقين.

٥٧

يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة ، فأنزل الله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى آخر الآية ، فأظهر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم ، واتخذوا الحجر والشرط ، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب ، قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله ، فنزلت (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) قال : لا يخافون أحدا غيري. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد مثله ، قال : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة ، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قال : سابقين في الأرض.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره هاهنا على وجه أخصّ فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليبا كما في غيره من الخطابات. قال العلماء : هذه الآية خاصة ببعض الأوقات. واختلفوا في

٥٨

المراد بقوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) على أقوال : الأوّل أنها منسوخة ، قاله سعيد بن المسيب. وقال سعيد بن جبير : إن الأمر فيها للندب لا للوجوب. وقيل : كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم ولو عاد الحال لعاد الوجوب ، حكاه المهدوي عن ابن عباس. وقيل : إن الأمر هاهنا للوجوب ، وإن الآية محكمة غير منسوخة ، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء ؛ قال القرطبي : وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو عبد الرحمن السلمي : إنها خاصة بالنساء. وقال ابن عمر : هي خاصة بالرجال دون النساء. والمراد بقوله : (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء ، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان منكم ، أي : من الأحرار ، ومعنى (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، وعبر بالمرات عن الأوقات ، وانتصاب ثلاث مرات على الظرفية الزمانية ، أي : ثلاثة أوقات ، ثم فسر تلك الأوقات بقوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) إلخ ، أو منصوب على المصدرية ، أي : ثلاث استئذانات ؛ ورجح هذا أبو حيان فقال : والظاهر من قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثلاث استئذانات ، لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات. ويردّ بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية الحلم بسكون اللام ، وقرأ الباقون بضمها. قال الأخفش : الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام ، ثم فسر سبحانه الثلاث المرات فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يبيت عريانا ، أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره فيها ، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي من قبل ، وقوله : (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) معطوف على محل (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) و (مِنْ) في (مِنَ الظَّهِيرَةِ) للبيان ، أو بمعنى في ، أو بمعنى اللام. والمعنى : حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة ، وذلك عند انتصاف النهار ، فإنهم قد يتجرّدون من الثياب لأجل القيلولة. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالأهل ، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) قرأ الجمهور (ثَلاثُ عَوْراتٍ) برفع ثلاث ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات. قال ابن عطية : إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة ؛ ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلا من الأوقات المذكورة ، أي : من قبل صلاة الفجر إلخ ؛ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني ونحوه ، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هنّ ثلاث. قال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود. وقال الفراء : الرفع أحبّ إليّ ، قال : وإنما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. وقال الكسائي : إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء والخبر ما بعدها. قال : والعورات الساعات التي تكون فيها العورة. قال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعورات جمع عورة ، والعورة : في الأصل الخلل ، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهمّ حفظه ويتعين ستره ،

٥٩

أي : هي ثلاث أوقات يختلّ فيها الستر. وقرأ الأعمش «عورات» بفتح الواو ، وهي لغة هذيل وتميم فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واوا أو ياء ، ومنه :

أخو بيضات رائح متأوّب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

وقوله :

أبو بيضات رائح أو مبعد

عجلان ذا زاد وغير مزوّد

و «لكم» متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات ؛ أي : كائنة لكم ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي : ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح ، أي : إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر ، والاطلاع على العورات. ومعنى بعدهنّ : بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث ، وهي : الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين منها ، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. قال أبو البقاء (بَعْدَهُنَ) أي : بعد استئذانهم فيهنّ ، ثم حذف حرف الجرّ والمجرور فبقي بعد استئذانهم ، ثم حذف المصدر وهو الاستئذان ، والضمير المتصل به. وردّ بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره ، بل المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم ، أي : العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، وارتفاع (طَوَّافُونَ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم طوّافون عليكم ، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان. قال الفراء : هذا كقولك في الكلام هم خدمكم وطوّافون عليكم ، وأجاز أيضا نصب طوّافين لأنه نكرة ، والمضمر في (عَلَيْكُمْ) معرفة ولا يجيز البصريون أن تكون حالا من المضمرين اللذين في عليكم وفي بعضكم لاختلاف العاملين. ومعنى طوّافون عليكم ، أي : يطوفون عليكم ، ومنه الحديث في الهرّة «إنّما هي من الطّوّافين عليكم أو الطّوّافات» أي : هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن ، ومعنى (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بعضكم يطوف أو طائف على بعض ، وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها. والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه ، العبيد على الموالي ، والموالي على العبيد ، ومنه قول الشاعر :

ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا

وقرأ ابن أبي عبلة «طوّافين» بالنصب على الحال كما تقدم عن الفراء ، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان ؛ لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها ، والإشارة بقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) إلى مصدر الفعل الذي بعده ، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز ، أي : مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كثير العلم بالمعلومات ، وكثير الحكمة في أفعاله (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مرّ حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ، في أنه لا جناح عليهم

٦٠