فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

الخافض ، أي : لأن يقول أو كراهة أن يقول ، وجملة (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات ، والدلالات الظاهرات على نبوّته ، وصحة رسالته ، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ولم يكن قوله هذا لشك منه ، فإنه كان مؤمنا كما وصفه الله ، ولا يشك المؤمن ، ومعنى (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه ، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفا لكثرة الاستعمال : كما قال سيبويه ، وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم : بعض هنا بمعنى كلّ : أي يصبكم كلّ الذي يعدكم ، وأنشد أبو عبيد على هذا قول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

أي كلّ النفوس ، وقد اعترض عليه ، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكلّ كما في قول الشاعر :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

وقول الآخر :

إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها

دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا

وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه ، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه ، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك ، لأنه أراد التنزّل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال أهل المعاني : وهذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي بعض ذلك هلاككم ، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل : وقال الليث : بعض هاهنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم ، وقيل : يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب ، وقيل : إنه وعدهم بالثواب والعقاب ، فإذا كفروا أصابهم العقاب ، وهو بعض ما وعدهم به (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات ، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب المفتري (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم ، ومعنى ظاهرين : الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم ، والأرض أرض مصر ، وانتصاب ظاهرين على الحال (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي : من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه ، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم ، وإنزال عذابه عليهم ، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ، ودفع الضرّ عنهم ، ولهذا قال : (ما

٥٦١

أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) قال ابن زيد : أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم ، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية ، والمفعول الثاني : هو إلا ما أرى (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي : ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحقّ. قرأ الجمهور «الرشاد» بتخفيف الشين ، وقرأ معاذ ابن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضرّاب. وقال النحاس : هي لحن ، ولا وجه لذلك.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قال : لم يكن في آل فرعون مؤمن غير امرأة فرعون ، وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) (١) قال ابن المنذر ، أخبرت أن اسمه حزقيل. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال : اسمه حبيب. وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال : قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة والبزار عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا أنت. قال : أما أني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا لا نعلم فمن؟ قال أبو بكر ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذته قريش ، فهذا يجؤه وهذا يتلتله (٢) ، وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا ، قال : فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجيء هذا ويتلتل هذا ، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه ، فبكى حتى اخضلّت لحيته ، ثم قال : أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم ، فقال : ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ

__________________

(١). القصص : ٢٠.

(٢). «يجؤه» : يضربه. و «يتلتله» : يحرّكه بعنف.

٥٦٢

اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

ثم كرّر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم ، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم ، فقال الله حاكيا عنه : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي : مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم ، وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه ، ثم فسر الأحزاب فقال : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : مثل حالهم في العذاب ، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب ، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي : لا يعذبهم بغير ذنب ، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب. ثم زاد في الوعظ والتذكير فقال : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) قرأ الجمهور «التناد» بتخفيف الدال وحذف الياء ، والأصل التنادي ، وهو التفاعل من النداء ، يقال تنادى القوم : أي نادى بعضهم بعضا ، وقرأ الحسن ، وابن السميقع ، ويعقوب ، وابن كثير ، ومجاهد بإثبات الياء على الأصل ، وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة هو لحن ، لأنه من ندّ يندّ : إذا مرّ على وجهه هاربا. قال النحاس : وهذا غلط ، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك : في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : (يَوْمَ التَّنادِ) وعلى قراءة الجمهور المعنى : يوم ينادي بعضهم بعضا ، أو ينادي أهل النار أهل الجنة ، وأهل الجنة أهل النار ، أو ينادى فيه بسعادة السعداء ، وشقاوة الأشقياء ، أو يوم ينادى فيه كلّ أناس بإمامهم ، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني ، وقوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) بدل من يوم التناد ، أي : منصرفين عن الموقف إلى النار ، أو فارّين منها. قال قتادة ومقاتل : المعنى إلى النار بعد الحساب ، وجملة (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) في محل نصب على الحال ، أي : ما لكم من يعصمكم من عذاب الله ، ويمنعكم منه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى طريق الرشاد. ثم زاد في وعظهم وتذكيرهم فقال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) أي : يوسف بن يعقوب ، والمعنى : أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات ، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم ، أي : جاء إلى آبائكم ، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئا إلى الأبناء. وقيل : المراد بيوسف هنا يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب ، وكان أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعث إليهم رسولا من الجنّ يقال له يوسف ، والأوّل أولى. وقد قيل إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من البينات ولم تؤمنوا به (حَتَّى إِذا هَلَكَ) يوسف (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي : مثل ذلك الضلال الواضح

٥٦٣

يضلّ الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده ، والموصول في قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بدل من «من». والجمع باعتبار معناها ، أو بيان لها ، أو صفة ، أو في محل نصب بإضمار أعني ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ، أو : مبتدأ ، وخبره : يطبع ، و (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) متعلق بيجادلون ، أي : يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة ، و (أَتاهُمْ) صفة لسلطان (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يراد به التعجب ، وأن يراد به الذمّ كبئس ، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون ، وقيل : فاعله ضمير يعود إلى من في «من هو مسرف» والأوّل أولى. وقوله : (عِنْدَ اللهِ) متعلق بكبر ، وكذلك (عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : هذا من كلام الرجل المؤمن ، وقيل : ابتداء كلام من الله سبحانه (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي : كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يطبع : أي يختم على كلّ قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، وفي الكلام حذف وتقديره : كذلك يطبع الله على كلّ قلب كل متكبر ، فحذف كلّ الثانية لدلالة الأولى عليها ، والمعنى : أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين ، وقرأ أبو عمرو ، وابن محيصن ، وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له ، فيكون القلب مرادا به الجملة ، لأن القلب هو محل التكبر ، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك ، وقرأ ابن مسعود على قلب كلّ متكبر. ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره معرضا عن الموعظة نافرا من قبولها وقال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أي : قصرا مشيدا كما تقدّم بيان تفسيره (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) أي الطرق. قال قتادة والزهري والسدّي والأخفش : هي الأبواب. وقوله : (أَسْبابَ السَّماواتِ) بيان للأسباب ، لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس ، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السّماء بسلّم

وقيل : أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) قرأ الجمهور بالرفع عطفا على أبلغ ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي. وقرأ الأعرج ، والسلمي ، وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله : (ابْنِ لِي) أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيد وغيره. قال النحاس : ومعنى النصب خلاف معنى الرفع ، لأن معنى النصب : متى بلغت الأسباب اطلعت ، ومعنى الرفع : لعلي أبلغ الأسباب ، ولعلي أطلع بعد ذلك ، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم ، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدّا (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي : وإني لأظنّ موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها ، أو فيما يدّعيه من الرسالة (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أي : ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك والتكذيب ، فتمادى في الغيّ واستمرّ على الطغيان (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي : سبيل الرشاد. قرأ الجمهور «وصدّ» بفتح الصاد والدال : أي صدّ فرعون الناس عن السبيل ، وقرأ الكوفيون «وصدّ» بضم الصاد مبنيا للمفعول ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ولعلّ وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين من البناء للمفعول ، وقرأ يحيى بن وثاب ، وعلقمة «صد» بكسر الصاد ،

٥٦٤

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضمّ الدال منوّنا على أنه مصدر معطوف على سوء عمله : أي : زين له الشيطان سوء العمل والصدّ (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) التباب : الخسار والهلاك ومنه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١) ، ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى الله عنه بقوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي : اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد ، وهو الجنة ، وقيل : هذا من قول موسى ، والأوّل أولى. وقرأ معاذ بن جبل «الرشاد» بتشديد الشين كما تقدّم قريبا في قول فرعون ووقع في المصحف اتبعون بدون ياء ، وكذلك قرأ أبو عمرو ، ونافع بحذفها في الوقف ، وإثباتها في الوصل ، وقرأ يعقوب ، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا ، وقرأ الباقون بحذفها وصلا ، ووقفا فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل ، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) يتمتع بها أياما ، ثم تنقطع وتزول (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي : الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي : من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت فلا يجزى إلا مثلها ولا يعذب إلا بقدرها ، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة ، وقيل : هي خاصة بالشرك ، ولا وجه لذلك (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي : من عمل صالحا مع كونه مؤمنا بالله ، وبما جاءت به رسله (فَأُولئِكَ) الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير تقدير ، ومحاسبة. قال مقاتل : يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير ، وقيل : العمل الصالح ، هو لا إله إلا الله. قرأ الجمهور «يدخلون» بفتح التحتية مبنيا للفاعل. وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، وأبو عمرو ، ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنيا للمفعول.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (مِثْلَ دَأْبِ) قال : مثل حال. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) قال : هم الأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) قال : رؤيا يوسف ، وفي قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) قال يهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا فِي تَبابٍ) قال : خسران. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة ، التي إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك».

__________________

(١). المسد : ١.

٥٦٥

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

كرّر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرّح بإيمانه ، ولم يسلك المسالك المتقدّمة من إيهامه لهم أنه منهم ، وأنه إنما تصدّى للتذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى ، كما يقوله الرجل المحبّ لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) أي : أخبروني عنكم كيف هذه الحال : أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله ، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك. قيل : معنى (ما لِي أَدْعُوكُمْ) ما لكم أدعوكم كما تقول : مالي أراك حزينا أي مالك. ثم فسر الدعوتين فقال : (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ، فقوله تدعونني بدل من تدعونني الأولى أو بيان لها (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا علم لي بكونه شريكا لله (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي : إلى العزيز في انتقامه ممن كفر «الغفار» لذنب من آمن به (لا جَرَمَ) قد تقدّم تفسير هذا في سورة هود ، وجرم فعل ماض بمعنى حقّ ، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادّعوه وردّ ما زعموه ، وفاعل هذا الفعل هو قوله : (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي : حقّ ووجب بطلان دعوته. قال الزجاج : معناه ليس له استجابة دعوة تنفع ، وقيل : ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة. وقال الكلبي : ليس له شفاعة (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي : مرجعنا ومصيرنا إلى بالموت أوّلا ، وبالبعث آخرا ، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشرّ (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي : المستكثرين من معاصي الله. قال قتادة وابن سيرين : يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي : هم السفهاء السفاكون للدّماء بغير حقها. وقال عكرمة : الجبارون ، والمتكبرون. وقيل : هم الذين تعدّوا حدود الله ، «وأن» في الموضعين عطف على «أن» في قوله : (أَنَّما

٥٦٦

تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) والمعنى : وحقّ أن مردّنا إلى الله ، وحقّ أن المسرفين إلخ (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم ، وفي هذا الإبهام من التخويف والتهديد ما لا يخفى (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. قيل : إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به. قال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقيل : القائل هو موسى ، والأوّل أولى (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي : وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيئ ، وما أرادوه به من الشرّ. قال قتادة : نجاه الله مع بني إسرائيل (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي : أحاط بهم ، ونزل عليهم سوء العذاب. قال الكسائي : يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا : إذا نزل ولزم. قال الكلبي : غرقوا في البحر ودخلوا النار ، والمراد بآل فرعون : فرعون وقومه ، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم ، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه. والأوّل أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعا بالغرق ، وسيعذبون في الآخرة بالنار ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب ، فقال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب ، وقيل : على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو : مبتدأ ، وخبره : يعرضون ، والأوّل أولى ورجحه الزجاج وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر. وقريء بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى ، أي : يصلون النار يعرضون عليها ، أو على الاختصاص ، وأجاز الفرّاء الخفض على البدل من العذاب. وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ ، وقيل : هو في الآخرة. قال الفراء : ويكون في الآية تقديم وتأخير ، أي : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوّا وعشيا ، ولا ملجئ إلى هذا التكلف ، فإن قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ ، وقوله : (أَدْخِلُوا) هو بتقدير القول : أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون ، و (أَشَدَّ الْعَذابِ) هو عذاب النار. قرأ حمزة ، والكسائي ، ونافع ، وحفص «أدخلوا» بفتح الهمزة وكسر الخاء ، وهو على تقدير القول كما ذكر. وقرأ الباقون «ادخلوا» بهمزة وصل من دخل يدخل أمرا لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) الظرف منصوب بإضمار اذكر. والمعنى : اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار ، ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال : (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد للأنبياء والاتباع لهم ، وهم رؤساء الكفر (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع لتابع ، كخدم وخادم ، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل ، أي : تابعين أو على حذف مضاف ، أي : ذوي تبع. قال البصريون : التبع يكون واحدا ويكون جمعا. وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي : هل تدفعون عنا نصيبا منها ، أو تحملونه معنا ، وانتصاب نصيبا بفعل مقدّر يدل عليه مغنون : أي : هل تدفعون عنا نصيبا أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين ، أي : هل أنتم حاملون معنا نصيبا ، أو على المصدرية هل تدفعون عنا نصيبا أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين ، أي : هل أنتم حاملون معنا نصيبا ، أو على المصدرية (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر والمعنى : إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم ، فكيف نغني عنكم. قرأ الجمهور «كلّ» ، بالرّفع على الابتداء ، وخبره «فيها» ، والجملة خبر

٥٦٧

إن ، قاله الأخفش. وقرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر «كلّا» بالنصب. قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا ، وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، وقيل : على الحال ورجحه ابن مالك (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي : قضى بينهم بأن فريقا في الجنة ، وفريقا في السعير (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) من الأمم الكافرة ، مستكبرهم وضعيفهم (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) جمع خازن ، وهو القوّام بتعذيب أهل النار (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) يوما ظرف ليخفف ، ومفعول يخفف محذوف ، أي : يخفف عنا شيئا من العذاب مقدار يوم أو في يوم ، وجملة (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع (قالُوا بَلى) أي : أتونا بها فكذبناهم ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة ، فلما اعترفوا (قالُوا) أي : قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم (فَادْعُوا) أي : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة. ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا فقالوا : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : في ضياع وبطلان وخسار وتبار ، وجملة (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) مستأنفة من جهته سبحانه ، أي : نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم ، والموصول : في محل نصب عطفا على رسلنا ، أي : لننصر رسلنا ، وننصر الذين آمنوا معهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما عوّدهم الله من الانتقام منهم بالقتل ، والسلب ، والأسر ، والقهر (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وهو يوم القيامة. قال زيد بن أسلم : الأشهاد هم الملائكة والنبيون. وقال مجاهد والسدّي : الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج : الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ، ولكن ما جاء منه مسموعا أدّي على ما يسمع ، فهو على هذا جمع شهيد ، مثل شريف وأشراف ، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد : أن الله يجازيهم بأعمالهم ، فيدخلهم الجنة ، ويكرمهم بكراماته ، ويجازي الكفار بأعمالهم ، فيلعنهم ، ويدخلهم النار ، وهو معنى قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد عن الرّحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي : النار ويوم بدل من يوم يقول الأشهاد ، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة ، وتعلة داحضة وشبهة زائغة ، قرأ الجمهور «تنفع» بالفوقية. وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية ، والكل جائز في اللغة.

وقد أخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) قال : السفاكين للدّماء بغير حقها. وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» زاد ابن مردويه. ثم قرأ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا). وأخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله ، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال : المال والولد والصحة وأشباه ذلك ، قلنا : وما إثابته في الآخرة؟

٥٦٨

قال : عذابا دون العذاب ، وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)». وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه نار جهنّم يوم القيامة ، ثم تلا (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا)». وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريبا من نصره لرسله : أي : آتيناه التوراة والنبوّة ، كما في قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (١) قال مقاتل : الهدى من الضلالة : يعني التوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) المراد بالكتاب التوراة ، ومعنى أورثنا أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفا عن سلف. وقيل : المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى ، وهدى وذكرى : في محل نصب على أنهما مفعول لأجله ، أي : لأجل الهدى والذكر ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : هاديا ومذكرا ، والمراد بأولي الألباب : أهل العقول السليمة. ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على الأذى فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل ؛ إن وعد الله الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه ، ولا شك في وقوعه كما في قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٢) وقوله : (وَلَقَدْ

__________________

(١). المائدة : ٤٤.

(٢). غافر : ٥١.

٥٦٩

سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١) قال الكلبي : نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) قيل : المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف ، وقيل : المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء ، وقيل : هو مجرد تعبد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب ، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي : دم على تنزيه الله متلبسا بحمده ، وقيل : المراد صلّ في الوقتين : صلاة العصر ، وصلاة الفجر. قاله الحسن وقتادة ، وقيل : هما صلاتان : ركعتان غدوة ، وركعتان عشية ، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي : بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي : ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق يحملهم على تكذيبك ، وجملة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) صفة لكبر قال الزجاج : المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه ، فجعله على حذف المضاف. وقال غيره : ما هم ببالغي الكبر. وقال ابن قتيبة : المعنى إن في صدورهم إلا كبر ، أي : تكبر على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك ، وقيل : المراد بالكبر الأمر الكبير ، أي : يطلبون النبوّة ، أو يطلبون أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد : معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. والمراد بهذه الآية المشركون ، وقيل : اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي : فالتجئ إليه من شرّهم ، وكيدهم ، وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم ؛ البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي : أعظم في النفوس وأجلّ في الصدور ، لعظم أجرامهما ، واستقرارهما من غير عمد ، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب ، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢) قال أبو العالية : المعنى لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام : هو احتجاج على منكري البعث ، أي : هما أكبر من إعادة خلق الناس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء. ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي : الذي يجادل بالباطل ، والذي يجادل بالحق (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي : ولا يستوي المحسن بالإيمان ، والعمل الصالح ؛ والمسيء بالكفر ، والمعاصي ، وزيادة «لا» في ولا المسيء للتأكيد (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) قرأ الجمهور «يتذكرون» بالتحية على الغيبة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب ، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات ، أي : تذكرا قليلا ما تتذكرون (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي : لا شك في مجيئها ، وحصولها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك

__________________

(١). الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣.

(٢). يس : ٨١.

٥٧٠

الحجة ، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة ، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود ، فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قال أكثر المفسرين المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم ، وقيل : المراد بالدعاء : السؤال بجلب النفع ، ودفع الضر. قيل : الأوّل أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت : بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا : هو الطلب ، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز ، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة ، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح ، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق ، وما يبدل القول لديه ، ولا يخلف الميعاد. ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي : ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله ، وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل ؛ حيث توعد من ترك طلب الخير منه ، واستدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة. فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه ، وأرشدكم إلى التعويل عليه ، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة ، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم ، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين ، قيل : وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة ؛ أي : أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) (١) الله ، قرأ الجمهور «سيدخلون» بفتح الياء وضم الخاء مبنيا للفاعل ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول. ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلما باردا تناسبه الراحة بالسكون والنوم (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : مضيئا لتبصروا في حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) النعم ، ولا يعترفون بها ، إما لجحودهم لها ، وكفرهم بها كما هو شأن الكفار ، أو لإغفالهم للنظر ، وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم ، وهم الجاهلون (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأوّل عن المبتدأ ، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على الاختصاص (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي : مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده. ثم ذكر لهم سبحانه نوعا آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرّده بالإلهية فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي : موضع قرار فيها تحيون ، وفيها تموتون (وَالسَّماءَ بِناءً) : أي سقفا قائما ثابتا. ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي : خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج : خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور

__________________

(١). الأنعام : ٤١.

٥٧١

«صوركم» بضم الصاد وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري : والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : المستلذات (ذلِكُمُ) المبعوث بهذه النعوت الجليلة (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : كثرة خيره وبركته (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الطاعة والعبادة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الفراء : هو خبر وفيه إضمار أمره ، أي : احمدوه.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال : إن اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ، ويكون في أمره فعظموا أمره ، وقالوا : نصنع كذا ونصنع كذا ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) قال : لا يبلغ الذي يقول : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فأمر نبيه أن يتعوّذ من فتنة الدجال (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال : هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) قال : عظمة قريش. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) قال : عن دعائي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)». قال الترمذي : حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه ، والخطيب عن البراء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الدعاء هو العبادة (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)». وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قال : وحدوني أغفر لكم. وأخرج الحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله في الآية قال : اعبدوني. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء الاستغفار» وأخرج ابن أبي شيبة ، والحاكم ، وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يدع الله يغضب عليه». وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، والطبراني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء». وأخرج الترمذي ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء مخّ العبادة». وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : أفضل العبادة الدعاء ، قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية. وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ العبادة أفضل؟ فقال : دعاء المرء لنفسه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله ربّ العالمين ، وذلك قوله : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٥٧٢

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره وأمره بالتوحيد فقال : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهي : الأصنام. ثم بين وجه النهي فقال : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) وهي للأدلة العقيلة والنقلية ، فإنها توجب التوحيد (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي : استسلم له بالانقياد والخضوع. ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : خلق أباكم الأوّل ، وهو آدم ، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذرّيته منه (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قد تقدم تفسير هذا في غير موضع (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : أطفالا ، وأفرده لكونه اسم جنس ، أو على معنى يخرج كلّ واحد منكم طفلا (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهي الحالة التي تجتمع فيها القوّة والعقل ، وقد سبق بيان الأشدّ مستوفى في الأنعام ، واللام التعليلية في : لتبلغوا معطوفة على علة أخرى ،

٥٧٣

ليخرجكم مناسبة لها ، والتقدير : لتكبروا شيئا فشيئا ، ثم لتبلغوا غاية الكمال ، وقوله : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) معطوف على لتبلغوا ، قرأ نافع ، وحفص ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، وهشام «شيوخا» بضم الشين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وقريء وشيخا على الإفراد لقوله طفلا ، والشيخ من جاوز أربعين سنة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل الشيخوخة (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي : وقت الموت أو يوم القيامة ، واللام هي لام العاقبة (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : يقدر على الإحياء والإماتة (فَإِذا قَضى أَمْراً) من الأمور التي يريدها (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير توقف ، وهو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها ، وقد تقدّم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها. ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) وقد سبق بيان معنى المجادلة (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي : كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها ، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد. قال ابن زيد : هم المشركون بدليل قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) قال القرطبي : وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية. قال ابن سيرين : إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت ، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدلّ على غير ما قالوه ، فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي : بالقرآن ، وهذا وصف لا يصحّ أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام ، والموصول إما في محل جرّ على أنه نعت للموصول الأوّل ، أو بدل منه ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ ، والمراد بالكتاب : إما القرآن ، أو : جنس الكتب المنزلة من عند الله ، وقوله : (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) معطوف على قوله بالكتاب ، ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس ، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب : القرآن (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم ، ووبال كفرهم ، وفي هذا وعيد شديد ، والظرف في قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) متعلق بيعلمون ، أي : فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم (وَالسَّلاسِلُ) معطوف على الأغلال ، والتقدير : إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، ويجوز أن يرتفع السلاسل : على أنه مبتدأ ، وخبره : محذوف لدلالة في أعناقهم عليه ، ويجوز أن يكون خبره : (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) بحذف العائد ، أي : يسحبون بها في الحميم ، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة ، وأبو الجوزاء بنصبها ، وقرءوا «يسحبون» بفتح الياء مبنيا للفاعل ، فتكون السلاسل مفعولا مقدّما ، وقرأ بعضهم بجرّ السلاسل. قال الفراء : وهذه القراءة محمولة على المعنى ، إذ المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج : المعنى على هذه القراءة : وفي السلاسل يسحبون ، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية ، ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال ، وعلى تقدير كونها : مبتدأ ، وخبرها : في أعناقهم النصب على الحال ، أو لا محل له ، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدّر ، والحميم : هو المتناهي في الحرّ ، وقيل : الصديد وقد تقدّم تفسيره (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يقال سجرت التنور : أي أوقدته ، وسجرته : ملأته بالوقود ، ومنه (وَالْبَحْرِ

٥٧٤

الْمَسْجُورِ) (١) أي : المملوء ، فالمعنى توقد بهم النار ، أو تملأ بهم. قال مجاهد ومقاتل : توقد بهم النار فصاروا وقودها (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا توبيخ وتقريع لهم ، أي : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي : ذهبوا ، وفقدناهم فلا نراهم ، ثم أضربوا عن ذلك ، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم ، وأنه لا وجود لهم فقالوا : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي : لم نكن نعبد شيئا ، قالوا هذا لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة ، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ، ولا يضرّ ولا ينفع ، وليس هذا إنكارا منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها ، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي : مثل ذلك الضلال يضلّ الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل : أي ذلك الإضلال بسبب (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله ، والسرور بمخالفة رسله وكتبه ، وقيل : بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة ، وقيل : بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث ، وقيل : المراد بالفرح هنا : البطر والتكبر ، وبالمرح : الزيادة في البطر. وقال مجاهد وغيره : تمرحون : أي تبطرون وتأشرون. وقال الضحاك : الفرح السرور ، والمرح : العدوان. وقال مقاتل. المرح : البطر والخيلاء (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) حال كونكم (خالِدِينَ فِيها) أي : مقدّرين الخلود فيها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن قبول الحق جهنم. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر ، فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، ولهذا قال : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والقهر ، وما في «فإما» زائدة على مذهب المبرد والزجاج ، والأصل فإن نرك ، ولحقت بالفعل دون التأكيد وقوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) معطوف على نرينك ، أي : أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة فنعذبهم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) أي : أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لا من قبل نفسه ، والمراد بالآية : المعجزة الدالة على نبوّته (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي : إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة (قُضِيَ بِالْحَقِ) فيما بينهم فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي : في ذلك الوقت (الْمُبْطِلُونَ) الذين يتبعون الباطل ، ويعملون به. ثم امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي : خلقها لأجلكم ، قال الزجاج : الأنعام هاهنا : الإبل ، وقيل : الأزواج الثمانية (لِتَرْكَبُوا مِنْها) من للتبعيض ، وكذلك في قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب ، وابتداء الأكل ، والأوّل أولى. والمعنى : لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أخر غير الركوب والأكل من الوبر ، والصوف ، والشعر ، والزبد ، والسمن ، والجبن ، وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) قال مجاهد ، ومقاتل ، وقتادة : تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ،

__________________

(١). الطور : ٦.

٥٧٥

وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي : على الإبل في البرّ ، وعلى السفن في البحر. وقيل : المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان ، والنساء بالهوادج (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي : دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) فإنها كلها من الظهور ، وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر ، ولا يجحدها جاحد ، وفيه تقريع لهم ، وتوبيخ عظيم ، ونصب أي بتنكرون ، وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام. ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار ، والتفكر في آيات الله فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم التي عصت الله ، وكذبت رسلها ، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدلّ على ما نزل بهم من العقوبة وما صاروا إليه من سوء العاقبة. ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوّة فقال : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي : أكثر منهم عددا وأقوى منهم أجسادا ، وأوسع منهم أموالا ، (وَ) أظهر منهم (آثاراً فِي الْأَرْضِ) بالعمائر ، والمصانع ، والحرث (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) يجوز أن تكون ما الأولى استفهامية : أي : أيّ شيء أغنى عنهم ، أو نافية : أي : لم يغن عنهم ، وما الثانية يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم من الشبه الداحضة ، والدعاوي الزائفة ، وسماه علما تهكما بهم ، أو على ما يعتقدونه. وقال مجاهد : قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ، ولن نبعث ، وقيل : المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وقيل : الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل ، وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ، ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : أحاط بهم جزاء استهزائهم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : عاينوا عذابنا النازل بهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : عند معاينة عذابنا ، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه ، فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي : التي مضت في عباده ، والمعنى : أن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب وقد مضى بيان هذا في سورة النساء ، وسورة التوبة ، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وقيل : هو منصوب على التحذير ، أي : احذروا يا أهل مكة سنة الله في الأمم الماضية ، والأوّل أولى (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي : وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه. قال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

وقد أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن عمرو قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) إلى قوله : (يُسْجَرُونَ) فقال : لو أن رصاصة مثل هذه ـ وأشار إلى جمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة

٥٧٦

سنة لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها ، أو قال قعرها». وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن عباس قال : يسحبون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ، ولحم ، وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله ، وطوله ستون ذراعا ، ثم يكسى جلدا آخر ، ثم يسجر في الحميم. وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) قال : بعث الله عبدا حبشيا فهو ممن لم يقصص على محمد.

* * *

٥٧٧

سورة فصّلت

وتسمى سورة فصلت وهي أربع وخمسون آية ، وقيل ثلاث وخمسون. قال القرطبي : وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : «اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا يردّ عليه؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ، فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ، أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف ، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أيّ نساء قريش شئت فلنزوّجنك عشرا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فرغت؟ قال نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته» حتى بلغ «فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال لا ، فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، فقالوا : فهل أجابك قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة». وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال : «لما قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عتبة بن ربيعة حم تنزيل من الرحمن الرحيم أتى أصحابه فقال : يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده ، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذني قط كلاما مثله ، وما دريت ما أرد عليه». وفي هذا الباب روايات تدلّ على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّل هذه السورة عليه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ

٥٧٨

فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤))

قوله : (حم) قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة فلا نعيده ، وكذلك تقدّم الكلام على معنى (تَنْزِيلٌ) وإعرابه. قال الزجاج والأخفش : تنزيل مرفوع بالابتداء ، وخبره : (كِتابٌ فُصِّلَتْ) وقال الفراء : يجوز أن يكون على إضمار هذا ، ويجوز أن يقال كتاب بدل من قوله تنزيل ، و (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) متعلق بتنزيل ، ومعنى (فُصِّلَتْ آياتُهُ) : بينت أو جعلت أساليب مختلفة ، قال قتادة : فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته. وقال الحسن : بالوعد والوعيد. وقال سفيان : بالثواب والعقاب ولا مانع من الحمل على الكل. والجملة في محلّ نصب صفة لكتاب. وقرئ «فصلت» بالتخفيف ، أي : فرقت بين الحق والباطل ، وانتصاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على الحال ، أي : فصلت آياته حال كونه قرآنا عربيا. وقال الأخفش : نصب على المدح ، وقيل : على المصدرية ، أي : يقرؤه قرآنا ، وقيل : مفعول ثان لفصلت ، وقيل : على إضمار فعل يدل عليه فصلت ، أي : فصلناه قرآنا عربيا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون معانيه ويفهمونها : وهم أهل اللسان العربي. قال الضحاك : أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله. وقال مجاهد : أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل ، واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن ، أي : كائنا لقوم أو متعلق بفصلت ، والأول أولى ، وكذلك (بَشِيراً وَنَذِيراً) : صفتان أخريان لقرآنا ، أو حالان من كتاب ، والمعنى : بشيرا لأولياء الله ، ونذيرا لأعدائه. وقرئ (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) بالرفع على أنهما صفة لكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) المراد بأكثر هنا : الكفار ، أي : فأعرض الكفار عما اشتمل عليه من النذارة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماعا ينتفعون به لإعراضهم عنه (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي : في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام ، فهي لا تفقه ما تقول ، ولا يصل إليها قولك ، والأكنة : جمع كنان ، وهو الغطاء ، قال مجاهد : الكنان للقلب : كالجنة للنبل ، وقد تقدّم بيان هذا في البقرة (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي : صمم ، وأصل الوقر : الثقل. وقرأ طلحة بن مصرف «وقر» بكسر الواو. وقرئ بفتح الواو والقاف ، و (مِنْ) في (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) لابتداء الغاية ، والمعنى : أن الحجاب ابتدأ منا ، وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ، ومج أسماعهم له ، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْمَلْ إِنَّنا

٥٧٩

عامِلُونَ) أي : اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا. وقال الكلبي : اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك ؛ فإنا نعمل لآهلتنا التي نعبدها ، وقيل : اعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي : إنما أنا كواحد منكم لو لا الوحي ، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه ، وفي آذانكم وقر ، ومن بيني وبينكم حجاب ، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل ، وإنما أدعوكم إلى التوحيد قرأ الجمهور (يُوحى) مبنيا للمفعول. وقرأ الأعمش والنخعي مبنيا للفاعل ، أي : يوحي الله إليّ. قيل ومعنى الآية : إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إليّ التوحيد والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده فإن قبلتم رشدتم ، وإن أبيتم هلكتم. وقيل المعنى : إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحي إليّ دونكم ، فصرت بالوحي نبيا ، ووجب عليكم اتباعي. وقال الحسن في معنى الآية : إن الله سبحانه علم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يتواضع (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) عدّاه بإلى لتضمنه معنى توجهوا ، والمعنى : وجهوا استقامتكم ولا تميلوا عن سبيله (وَاسْتَغْفِرُوهُ) لما فرط منكم من الذنوب. ثم هدّد المشركين وتوعدهم فقال : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) ثم وصفهم بقوله : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء. وقال الحسن وقتادة : لا يقرّون بوجوبها. وقال الضحاك ومقاتل : لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. وقيل معنى الآية ، لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها. وقال الفراء : كان المشركون ينفقون النفقات ، ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرّموا ذلك على من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فيهم هذه الآية (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة ، أي : منكرون للآخرة جاحدون لها ، والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع عنهم ، يقال مننت الحبل : إذا قطعته ، ومنه قول الأصبغ الأودي :

إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق

على الصّديق ولا خيري بممنون

وقيل الممنون : المنقوص ، قاله قطرب ، وأنشد قول زهير :

فضل الجياد على الخيل البطاء فلا

يعطي بذلك ممنونا ولا نزقا

قال الجوهري : المنّ : القطع ، ويقال : النقص ، ومنه قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وقال لبيد :

غبس كواسب لا يمنّ طعامها (١)

وقال مجاهد غير ممنون : غير محسوب ، وقيل معنى الآية : لا يمن عليهم به لأنه إنما يمنّ بالتفضل ، فأما الأجر فحقّ أداؤه. وقال السدّي : نزلت في المرضى ، والزمنى ، والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم

__________________

(١). وصدر البيت ، كما في القرطبي واللسان :

لمعفّر قهد تنازع شلوه

٥٨٠