فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

من حديث أبي هريرة وأنس نحوه مرفوعا. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) يعني شهادة أن لا إله إلا الله (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يعني بالخير الجنة (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني الشرك (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وقال هذه تنجي ، وهذه تردي». وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخرائطي في مكارم الأخلاق : عن ابن مسعود (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قال : لا إله إلا الله ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قال : بالشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال : له منها خير ، يعني من جهتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال : ثواب. وأخرج عنه أيضا قال : البلدة مكة.

* * *

١٨١

سورة القصص

وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وأخرج ابن الضريس وابن النجار وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة القصص بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثل ذلك : قال القرطبي ؛ قال ابن عباس وقتادة : إنها نزلت بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام : بالجحفة وقت هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي قوله عزوجل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وقال مقاتل : فيها من المدني (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله : (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ). وأخرج أحمد والطبراني وابن مردويه : قال السيوطي : سنده جيد عن معد يكرب قال : أتينا عبد الله بن مسعود ، فسألناه أن يقرأ علينا طسم المئين ، فقال : ما هي معي ، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خباب بن الأرت ، فأتيت خبابا فقلت : كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ طسم أو طس؟ فقال : كلّ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

الكلام في فاتحة هذه السورة قد مرّ في فاتحة الشعراء وغيرها ، فلا نعيده ، وكذلك مرّ الكلام على قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) فاسم الإشارة : مبتدأ ، خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وآيات : بدل من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب بنتلو ، والمبين المشتمل على بيان الحق من الباطل.

١٨٢

قال الزجاج : مبين الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، وهو من أبان بمعنى أظهر (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : أي نوحي إليك من خبرهما ملتبسا بالحق ، وخص المؤمنين ، لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن. وقيل : إن مفعول نتلو محذوف ، والتقدير : نتلو عليك شيئا من نبئهما ، ويجوز أن تكون من : مزيدة على رأي الأخفش ، أي : نتلو عليك نبأ موسى ، وفرعون ، والأولى : أن تكون للبيان على تقدير المفعول ، كما ذكر ، أو للتبعيض ، ولا ملجئ للحكم بزيادتها ، والحق : الصدق ، وجملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ. قال المفسرون : معنى علا تكبر ، وتجبر بسلطانه ، والمراد بالأرض : أرض مصر. وقيل معنى علا : ادعى الربوبية ، وقيل : علا عن عبادة ربه (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : فرقا وأصنافا في خدمته ، يشايعونه على ما يريد ، ويطيعونه ، وجملة (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقا ، وأصنافا ، ويجوز أن تكون صفة لطائفة ، والطائفة : هم بنو إسرائيل ، وجملة (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) بدل من الجملة الأولى ، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان ، أو حالا ، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلا منها ، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ، ويترك النساء ، لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون ، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك ، إن كان صادقا عنده ، فما ينفع القتل ، وإن كان كاذبا ، فلا معنى للقتل (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بالمعاصي ، والتجبر ، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية. واستحضار صورتها ، أي : نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم ، والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل ، والواو في «ونريد» للعطف على جملة «إن فرعون علا» وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية ، لأن بينهما تناسبا من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان. ويجوز أن تكون حالا من فاعل يستضعف ، بتقدير مبتدأ ، أي : ونحن نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ، كما في قول الشاعر :

نجوت وأرهنهم مالكا (١)

والأوّل أولى (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي : قتادة في الخير ودعاة إليه ، وولاة على الناس وملوكا فيهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك فرعون ، ومساكن القبط ، وأملاكهم ، فيكون ملك فرعون فيهم ، ويسكنون في مساكنه ، ومساكن قومه ، وينتفعون بأملاكه ، وأملاكهم (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : نجعلهم مقتدرين عليها ، وعلى أهلها ، مسلطين على ذلك يتصرّفون به كيف شاؤوا. قرأ الجمهور «نمكن» بدون لام. وقرأ الأعمش «لنمكن» بلام العلة (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) قرأ الجمهور نري بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف «ويرى» بفتح الياء

__________________

(١). البيت لعبد الله بن همام السلولي ، وصدره : فلما خشيت أظافيرهم. [شرح ابن عقيل : الشاهد رقم ١٩٢].

١٨٣

التحتية والراء ، والفاعل فرعون. والقراءة الأولى ألصق بالسياق ، لأن قبلها نريد ، ونجعل ، ونمكن بالنون. وأجاز الفراء «ويري فرعون» بضم الياء التحتية وكسر الراء : أي ويري الله فرعون ، ومعنى (مِنْهُمْ) من أولئك المستضعفين (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) الموصول : هو المفعول الثاني ، على القراءة الأولى ، والمفعول الأوّل ، على القراءة الثانية ، والمعنى : أن الله يريهم ، أو يرون هم الذين كانوا يحذرون منه ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي : ألهمناها ، وقذفنا في قلبها ، وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل ، وقيل : كان ذلك رؤيا في منامها ، وقيل : كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك.

وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية ، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع ، والأبرص ، والأعمى ، كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما ، وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة ، كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبيا ، وأن في «أن أرضعيه» هي المفسرة ، لأن في الوحي معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : بأن أرضعيه ، وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن ووصل همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين ، وحذف همزة الوصل على غير القياس (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من فرعون بأن يبلغ خبره إليه (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) وهو بحر النيل. وقد تقدّم بيان الكيفية التي ألقته في اليمّ عليها في سورة طه (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) أي : لا تخافي عليه الغرق ، أو الضيعة ، ولا تحزني لفراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) عن قريب على وجه تكون به نجاته (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين نرسلهم إلى العباد ، والفاء في قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) هي الفصيحة ، والالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب ، والمراد بآل فرعون : هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر ، وفي الكلام حذف ، والتقدير فألقته في اليمّ بعد ما جعلته في التابوت ، فالتقطه من وجده من آل فرعون ، واللام في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) لام العاقبة ، ووجه ذلك أنهم إنما أخذوه ليكون لهم ولدا ، وقرّة عين لا ليكون عدوّا ، فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوّا وحزنا ، ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم ، وثمرة له شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، ومن هذا قول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب (١)

وقول الآخر :

وللمنايا تربّي كلّ مرضعة

ودورنا لخراب الدّهر نبنيها

قرأ الجمهور وحزنا بفتح الحاء والزاي ، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف ، وحزنا : بضم الحاء ، وسكون الزاي ، واختار القراءة الأولى : أبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وهما لغتان كالعدم والعدم ،

__________________

(١). هذا صدر البيت ، وعجزه : فكلكم يضير إلى يباب.

١٨٤

والرشد والرشد ، والسقم والسقم ، وجملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) لتعليل ما قبلها ، أو للاعتراض لقصد التأكيد ؛ ومعنى خاطئين : عاصين آثمين في كل أفعالهم ، وأقوالهم ، وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب ، وقرئ خاطين بياء من دون همزة فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور ، ولكنها خففت بحذف الهمزة ، ويحتمل أن تكون من خطا يخطو ، أي : تجاوز الصواب (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) أي : قالت امرأة فرعون لفرعون ، وارتفاع قرّة : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، قاله الكسائي وغيره. وقيل : على أنه مبتدأ وخبره (لا تَقْتُلُوهُ) قاله الزجاج ، والأوّل أولى. وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها وأخرجته من التابوت ، وخاطبت بقولها «لا تقتلوه» فرعون ومن عنده من قومه ، أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له. وقرأ عبد الله بن مسعود «وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرّة عين لي ولك» ويجوز نصب قرّة بقوله لا تقتلوه على الاشتغال. وقيل : إنها قالت : لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة وليس من بني إسرائيل. ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم ، أو التبني له فقالت : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فنصيب منه خيرا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها ، وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه ، ولا يشعرون أن هلاكهم على يده ، فتكون حالا من آل فرعون ، وهي من كلام الله سبحانه ، وقيل : هي من كلام المرأة ، أي : وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه ، وهم لا يشعرون ، قاله الكلبي ، وهو بعيد جدا. وقد حكى الفراء عن السدّي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوله : «لا تقتلوه» من كلام فرعون واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ ، ويكفي في ردّه ضعف إسناده (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال المفسرون : معنى ذلك أنه فارغ من كل شيء إلا من أمر موسى ، كأنها لم تهتم بشيء سواه. قال أبو عبيدة : خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى. وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد : فارغا مما أوحي إليها من قوله : «ولا تخافي ولا تحزني» ، وذلك لما سوّل الشيطان لها من غرقه وهلاكه. وقال الأخفش : فارغا من الخوف والغمّ لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدّم من الوحي إليها ، وروي مثله عن أبي عبيدة أيضا. وقال الكسائيّ : ناسيا ذاهلا. وقال العلاء بن زياد : نافرا. وقال سعيد بن جبير : والها ، كادت تقول وابناه من شدّة الجزع. وقال مقاتل : كادت تصيح شفقة عليه من الغرق. وقيل المعنى : أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون ، طار عقلها من فرط الجزع ، والدهش. قال النحاس : وأصحّ هذه الأقوال : الأوّل ، والذين قالوه أعلم بكتاب الله ، فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي ، وقول من قال فارغا من الغمّ غلط قبيح لأن بعده «إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها» وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن «فزعا» بالفاء والزاي والعين المهملة من الفزع ، أي خائفا وجلا. وقرأ ابن عباس «قرعا» بالقاف المفتوحة والراء المهملة المكسورة والعين المهملة من قرع رأسه : إذا انحسر شعره ، ومعنى وأصبح : وصار كما قال الشاعر :

مضى الخلفاء في أمر رشيد

وأصبحت المدينة للوليد

١٨٥

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) إن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، أي : إنها كادت لتظهر أمر موسى ، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش ، والخوف والحزن ، من بدا يبدو : إذا ظهر ، وأبدى يبدي : إذا أظهر ، وقيل : الضمير في به عائد إلى الوحي الذي أوحى إليها ، والأوّل أولى. وقال الفراء : إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها ، لو لا أن ربطنا على قلبها. قال الزجاج : ومعنى الربط على القلب : إلهام الصبر وتقويته ، وجواب لو لا محذوف ، أي : لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدت ، واللام في (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق بربطنا ، والمعنى : ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله وهو قوله : «إنا رادوه إليك». وقيل : والباء في : «لتبدي به» زائدة للتأكيد. والمعنى : لتبديه كما تقول أخذت الحبل وبالحبل. وقيل المعنى : لتبدي القول به (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي : قالت أمّ موسى لأخت موسى وهي مريم (١) قصيه ، أي : تتبعي أثره واعرفي خبره ، وانظري أين وقع وإلى من صار؟ يقال قصصت الشيء : إذا اتبعت أثره متعرّفا لحاله (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي : أبصرته عن بعد ، وأصله عن مكان جنب ، ومنه الأجنبي. قال الشاعر :

فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة

فإنّي امرؤ وسط الدّيار غريب (٢)

وقيل : المراد بقوله «عن جنب» : عن جانب ، والمعنى أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة ، ويؤيد ذلك قراءة النعمان بن سالم عن جانب ، ومحلّ عن جنب : النصب على الحال إما من الفاعل ، أي : بصرت به مستخفية كائنة عن جنب ، وإما من المجرور ، أي : بعيدا منها. قرأ الجمهور «بصرت» به بفتح الباء وضم الصاد ، وقرأ قتادة بفتح الصاد وقرأ عيسى بن عمر بكسرها ، قال المبرّد : أبصرته وبصرت به بمعنى ، وقرأ الجمهور «عن جنب» بضمتين ، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن عليّ بفتح الجيم وسكون النون ، وروي عن قتادة أيضا أنه قرأ بفتحهما. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بضم الجيم ، وسكون النون. وقال أبو عمرو ابن العلاء : إن معنى «عن جنب» عن شوق. قال : وهي لغة جذام يقولون : جنبت إليك ، أي : اشتقت إليك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها تقصه ، وتتبع خبره ، وأنها أخته (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) المراضع جمع مرضع ، أي : منعناه أن يرضع من المرضعات. وقيل : المراضع جمع مرضع بفتح الضاد ، وهو الرضاع أو موضعه ، وهو الثدي ، ومعنى (مِنْ قَبْلُ) من قبل أن نردّه إلى أمه ، أو من قبل أن تأتيه أمه ، أو من قبل قصها لأثره ، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه ، فلم يرضع من واحدة منهنّ فعند ذلك (فَقالَتْ) أي : أخته لما رأت امتناعه من الرضاع (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي : يضمنون لكم القيام به ، وإرضاعه (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي : مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. وفي الكلام حذف ، والتقدير : فقالوا لها من هم؟ فقالت أمي ، فقيل لها : وهل لأمك لبن؟ قالت نعم لبن أخي هارون : فدلتهم على أمّ موسى فدفعوه إليها ، فقبل ثديها ، ورضع منه ، وذلك معنى

__________________

(١). هي مريم بنت عمران وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه‌السلام.

(٢). البيت لعلقمة بن عبدة ، قاله يخاطب به الحارث بن جبلة يمدحه ، وكان أسر أخاه شأسا ...

١٨٦

قوله سبحانه : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بولدها (وَلا تَحْزَنَ) على فراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ) أي : جميع وعده ، ومن جملة ذلك ما وعدها بقوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) حق لا خلف فيه واقع لا محالة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : أكثر آل فرعون لا يعلمون بذلك ، بل كانوا في غفلة عن القدر وسرّ القضاء ، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يردّه إليها.

وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) قال : فرّق بينهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) قال : يستعبد طائفة منهم ويدع طائفة ، ويقتل طائفة ، ويستحيي طائفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قال : يوسف وولده. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) قال : هم بنو إسرائيل (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي : ولاة الأمر (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) أي : الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) قال ما كان القوم حذروه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي : ألهمناها الذي صنعت بموسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال : قال ابن عباس في قوله : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) قال : أن يسمع جيرانك صوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال : فرغ من ذكر كل شيء من أمر الدنيا إلا من ذكر موسى. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال : خاليا من كل شيء غير ذكر موسى. وفي قوله : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) قال : تقول : يا ابناه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي : اتبعي أثره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قال : عن جانب. وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لخديجة : «أما شعرت أن الله زوّجني مريم بنت عمران ، وكلثوم أخت موسى ، وامرأة فرعون؟ قالت : هنيئا لك يا رسول الله» وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي روّاد مرفوعا بأطول من هذا ، وفي آخره أنها قالت : بالرفاء والبنين. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) قال : لا يؤتى بمرضع فيقبلها.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ

١٨٧

أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام ، وقد قال ربيعة ومالك : هو الحلم لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) (١) الآية ، وأقصاه أربع وثلاثون سنة ، كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما. وقيل : الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين ، وقيل : الاستواء هو بلوغ الأربعين ، وقيل : الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة ، وقيل : هو بمعنى واحد ، وهو ضعيف لأن العطف يشعر بالمغايرة (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) الحكم الحكمة على العموم ، وقيل : النبوة ، وقيل : الفقه في الدين. والعلم : الفهم ، قاله السديّ. وقال مجاهد : الفقه. وقال ابن إسحاق : العلم بدينه ، ودين آبائه ، وقيل : كان هذا قبل النبوّة ، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم ، والمراد العموم (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي : ودخل موسى مدينة مصر الكبرى ، وقيل : مدينة غيرها من مدائن مصر ، ومحل قوله : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) : النصب على الحال ، إما من الفاعل ، أي : مستخفيا ، وإما من المفعول. قيل : لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه فرعون ، وفشا ذلك منه ، فأخافوه فخافهم ، فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفيا قيل : كان دخوله بين العشاء ، والعتمة ، وقيل : وقت القائلة. قال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها ، فدخل على حين علم منهم ، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي : ممن شايعه على دينه ، وهم بنو إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي : من المعادين له على دينه وهم قوم فرعون (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أي : طلب أن ينصره ويعينه على خصمه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل. قيل : أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون ، فأبى عليه ، واستغاث بموسى (فَوَكَزَهُ مُوسى) الوكز : الضرب بجمع الكف ، وهكذا اللكز ، واللهز. وقيل : اللكز على اللحى ، والوكز : على القلب. وقيل : ضربه بعصاه. وقرأ ابن مسعود «فلكزه» وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان «فنكزه» بالنون. قال الأصمعي : نكزه بالنون : ضربه ودفعه. قال

__________________

(١). النساء : ٦.

١٨٨

الجوهري : اللكز الضرب على الصدر. وقال أبو زيد : في جميع الجسد : يعني أنه يقال له لكز. واللهز : الضرب بجميع اليدين في الصدر ، ومثله عن أبي عبيدة. (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله ، وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه : فقد قضيت عليه ، ومنه قول الشاعر :

قد عضّه فقضى عليه الأشجع (١)

قيل : لم يقصد موسى قتل القبطي ، وإنما قصد دفعه ، فأتى ذلك على نفسه ، ولهذا قال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وإنما قال بهذا القول ؛ مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل ، لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار. وقيل : إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأمونا عندهم ، فلم يكن له أن يغتالهم. ثم وصف الشيطان بقوله : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي : عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله ، ظاهر العداوة والإضلال. وقيل : إن الإشارة بقوله «هذا» إلى عمل المقتول لكونه كافرا مخالفا لما يريده الله. وقيل : إنه الإشارة إلى المقتول نفسه : يعني أنه من جند الشيطان وحزبه. ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ) الله (لَهُ) ذلك (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر ، وقيل : إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين ، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر ، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به ، ومعنى فاغفر لي : فاستر ذلك عليّ ، لا تطلع عليه فرعون ، وهذا خلاف الظاهر ، فإن موسى عليه‌السلام ما زال نادما على ذلك ، خائفا من العقوبة بسببه ، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول : إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقد قيل : إن هذا كان من قبل النبوّة ، وقيل : كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة ، وكل هذه التأويلات البعيدة ، محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر ، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة ، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. ثم لما أجاب الله سؤاله وغفر له ما طلب منه مغفرته (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ) هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم ، والجواب مقدر ، أي : أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ وتكون جملة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) كالتفسير للجواب ، وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرما. ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية بمحذوف ، أي : اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ ، ويكون قوله : «فلن أكون ظهيرا» مترتبا عليه ، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى ، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه و «ما» في قوله : «بما أنعمت» إما موصولة ، أو مصدرية ، والمراد بما أنعم به عليه : هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة ، أو الجميع ، وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر أو مظاهرته على ما فيه إثم. قال الكسائي والفراء : ليس قوله : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) خبرا بل هو دعاء ،

__________________

(١). البيت لجرير ، وصدره :

أيفايشون وقد رأوا حفّاثهم

ومعنى «يفايشون» : يفاخرون. والحفّاث والأشجع : من الحيّات.

١٨٩

أي : فلا تجعلني يا ربّ ظهيرا لهم. قال الكسائي ، وفي قراءة عبد الله «فلا تجعلني يا ربّ ظهيرا للمجرمين» وقال الفراء : المعنى اللهمّ! فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقال النحاس : إن جعله من باب الخبر أوفى ، وأشبه بنسق الكلام (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي : دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي ، وخائفا : خبر أصبح ، ويجوز أن يكون حالا ، والخبر : في المدينة ، ويترقب : يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا ثانية ، وأن يكون بدلا من خائفا ، ومفعول يترقب : محذوف ، والمعنى : يترقب المكروه أو يترقب الفرح (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) إذا هي الفجائية ، والموصول : مبتدأ وخبره يستصرخه ، أي : فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أراد أن يسخره ، ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس ، والاستصراخ الاستغاثة ، وهو من الصراخ ، وذلك أن المستغيث يصوّت في طلب الغوث ، ومنه قول الشاعر :

كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الجواب له قرع الظّنابيب (١)

(قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : بين الغواية ، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه ، وقيل : إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى ، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما ، وقد تقدّم معنى يبطش واختلاف القراء فيه (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) القائل : هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به ، فقال لموسى (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) فلما سمع القبطي ذلك أفشاه ، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي ، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل : إن القائل (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) هو القبطي ، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي ، وهذا هو الظاهر ، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل لأنه هو المراد بقوله عدوّ لهما ، ولا موجب لمخالفة الظاهر ، حتى يلزم عنه أنه المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى ، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه ، وأيضا إن قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لا يليق صدور مثله إلا من كافر ، وإن : في قوله : (إِنْ تُرِيدُ) هي النافية ، أي : ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. قال الزجاج : الجبار في اللغة : الذي لا يتواضع لأمر الله ، والقاتل بغير حق : جبار. وقيل : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب ، والقتل ، ولا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي : الذين يصلحون بين الناس (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) قيل : المراد بهذا الرجل حزقيل ، وهو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم موسى ، وقيل : اسمه شمعون ، وقيل : طالوت ، وقيل : شمعان. والمراد بأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ، ويسعى يجوز أن يكون

__________________

(١). الظّنابيب : جمع ظنبوب ، وهو حرف العظم اليابس من الساق ، والمراد : سرعة الإجابة.

١٩٠

في محل رفع صفة لرجل ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال ، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله : من أقصى المدينة (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أي : يتشاورون في قتلك ويتآمرون بسببك. قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك. وقال أبو عبيد : يتشاورون فيك ليقتلوك : يعني أشراف قوم فرعون. قال الأزهري : ائتمر القوم وتآمروا : أي أمر بعضهم بعضا ، نظيره قوله : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) (١) قال النمر بن تولب :

أرى الناس قد أحدثوا شيمة

وفي كلّ حادثة يؤتمر

(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) في الأمر بالخروج ، واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفا من الظالمين مترقبا لحوقهم به ، وإدراكهم له ، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلا : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : خلصني من القوم الكافرين ، وادفعهم عني ، وحل بين وبينهم (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي : نحو مدين قاصدا لها. قال الزجاج : أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها ، انتهى. يقال : دار تلقاء دار فلان ، وأصله من اللقاء ، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون ، ولهذا خرج إليها (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي : وصل إليه ، وهو الماء الذي يستقون منه (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أي : وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم ، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد ، وقد يطلق على البلوغ إليه ، وإن لم يدخل فيه ، وهو المراد هنا ، ومنه قول زهير :

فلمّا وردنا الماء زرقا حمامه (٢)

وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٣) وقيل : مدين اسم للقبيلة لا للقرية ، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي : من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها ، وقيل : معناه : في موضع أسفل منهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي : تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء ، ومعنى الذود : الدفع والحبس ، ومنه قول الشاعر :

أبيت على باب القوافي كأنّما

أذود سربا من الوحش نزّعا

أي : أحبس وأمنع ، وورد الذود : بمعنى الطرد ، ومنه قول الشاعر :

لقد سلبت عصاك بنو تميم

فما تدري بأيّ عصى تذود

__________________

(١). الطلاق : ٦.

(٢). هو من المعلقة ، وعجزه :

وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم

(٣). مريم : ٧١.

١٩١

أي : تطرد (قالَ ما خَطْبُكُما) أي : قال موسى للمرأتين : ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب : الشأن ، قيل : وإنما يقال ما خطبك لمصاب ، أو مضطهد ، أو لمن يأتي بمنكر (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي : إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء ، وينصرفوا منه حذرا من مخالطتهم ، أو عجزا عن السقي معهم. قرأ الجمهور «يصدر» بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازما ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف ، أي : يرجعون مواشيهم ، والرعاء : جمع راع. قرأ الجمهور «الرعاء» بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها. قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة ، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع. وقرئ «الرعاء» بالضم اسم جمع. وقرأ طلحة بن مصرف «نسقي» بضم النون من أسقى (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) عالي السن ، وهذا من تمام كلامهما ، أي : لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر ، فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك ، فلما سمع موسى كلامهما سقى لهما رحمة لهما ، أي : سقى أغنامهما لأجلهما ثم لما فرغ من السقي لهما تولى إلى الظل. أي انصرف إليه ، فجلس فيه ، قيل : كان هذا الظل ظل سمرة هنالك. ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب مناديا لربه : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) أي خير كان (فَقِيرٌ) أي : محتاج إلى ذلك ، قيل : أراد بذلك الطعام ، واللام في لما أنزلت معناها إلى : قال الأخفش : يقال هو فقير له ، وإليه.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال : ثلاثا وثلاثين سنة (وَاسْتَوى) قال : أربعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال : الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين ، والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قال : نصف النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عنه أيضا في الآية قال : ما بين المغرب والعشاء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) قال : إسرائيلي (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) قال : قبطي (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) الإسرائيلي (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) القبطي (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) قال : فمات ، قال فكبر ذلك على موسى. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) قال : هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الذي استنصره هو الذي استصرخه. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : من قتل رجلين فهو جبار ، ثم تلا هذه الآية؟ (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لا يكون الرجل جبارا حتى يقتل نفسين. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : خرج موسى خائفا يترقب ، جائعا ليس معه زاد حتى انتهى إلى مدين ، و (عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وامرأتان جالستان

١٩٢

بشياههما فسألهما (ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) قال : فهل قربكما ماء؟ قالتا : لا ، إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر ، قال فانطلقا فأريانيها ، فانطلقتا معه ، فقال بالصخرة بيده فنحاها ، ثم استقى لهم سجلا واحدا فسقى الغنم ، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فسمعتا ، قال : فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فأخبرتاه ، فقال لإحداهما : انطلقي فادعيه فأتت ، ف (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) فمشت بين يديه ، فقال لها امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ ، وأرشديني الطريق (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ : لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال لها أبوها : ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان ، قالت : أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلا النفر. وأما أمانته فقال امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله. قيل لابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أبرّهما وأوفاهما. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال : إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين ، قال : ما خطبكما؟ فحدّثتاه ، فأتى الحجر ، فرفعه وحده ، ثم استقى ، فلم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم ، فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدّثتاه ، وتولى موسى إلى الظلّ فقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). فقال : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة (١) (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) فقام معها موسى ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك ، فتصف لي جسدك ، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه ، فقالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين ، قال : يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت : أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال ، وأما أمانته فقال امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ، فزاده ذلك رغبة فيه ، ف (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) إلى قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت (قالَ) موسى (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) قال نعم قال (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فزوّجه وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه وما يحتاج إليه وزوجه صفورا وأختها شرفا ، وهما اللتان كانتا تذودان. قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث : إن إسناده صحيح. السلفع من النساء الجريئة السليطة. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) قال : ورد الماء حيث ورد وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : خرج موسى من مصر إلى مدين

__________________

(١). المقصود : أنها ليست جريئة على الرجال ، وأنها من اللواتي يقرن في بيوتهن.

١٩٣

وبينه وبينها ثمان ليال ، ولم يكن له طعام إلّا ورق الشجر ، وخرج حافيا ، فلما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه (١). وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : (تَذُودانِ) تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس ويخلو لهما البئر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا قال : لقد قال موسى : ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ما سأل إلا الطعام. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : سأل فلقا من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

قوله : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج : تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، فحدّثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما. فأمر الكبرى من بنتيه ، وقيل : الصغرى أن تدعوه له فجاءته وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب. وقيل : هما ابنتا أخي شعيب ، وأن شعيبا كان قد مات. والأوّل أرجح. وهو ظاهر القرآن. ومحلّ «تمشي» النصب على الحال من فاعل جاءت ، و (عَلَى اسْتِحْياءٍ) حال أخرى ، أي : كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط ، وجملة (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا قالت له لما جاءته؟ (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي : جزاء سقيك لنا (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) القصص مصدر سمى به المفعول : أي المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطيّ إلى عند

__________________

(١). قال في القاموس : الخف بالضم : ما أصاب الأرض من باطن القدم.

١٩٤

وصوله إلى ماء مدين (قالَ) شعيب (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : فرعون وأصحابه ، لأن فرعون لا سلطان له على مدين ، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عزوجل ، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلا عن الكامل ، وأشفّ ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله ، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل ، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) القائلة هي التي جاءته ، أي : استأجره ليرعى لنا الغنم ، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة. وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلّا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصمّ ، وجملة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى ، أي : إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي : القوّة ، والأمانة. وقد تقدّم في المرويّ عن ابن عباس وعمر أن أباها سألها عن وصفها له بالقوّة والأمانة ، فأجابته بما تقدّم قريبا (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) فيه مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل ، وهذه سنة ثابتة في الإسلام ، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، والقصة معروفة ، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوّة ، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي : على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين. قال الفراء : يقول على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين ، ومحل (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) النصب على الحال ، وهو مضارع أجرته ، ومفعوله الثاني : محذوف ، أي : نفسك و (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف. قال المبرد : يقال : أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدودا والأول أكثر (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي : إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك ، أي : تفضلا منك لا إلزاما مني لك ، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام ، موكولا إلى المروءة ، ومحل (فَمِنْ عِنْدِكَ) الرفع على تقدير مبتدأ ، أي : فهي من عندك (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزامك إتمام العشرة الأعوام ، واشتقاق المشقة من الشق ، أي : شق ظنه نصفين ، فتارة يقول : أطيق ، وتارة يقول : لا أطيق. ثم رغبه في قبول الإجارة فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن الصحبة والوفاء ، وقيل : أراد الصلاح على العموم ، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولا أوليا ، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضا للأمر إلى توفيق الله ومعونته. ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى ف (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما بعده ، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه ، وجملة (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) شرطية وجوابها (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) والمراد بالأجلين : الثمانية الأعوام ، والعشرة الأعوام ، ومعنى قضيت : وفيت به ، وأتممته ، والأجلين مخفوض بإضافة أيّ إليه ، وما زائدة. وقال ابن كيسان : «ما» في موضع خفض بإضافة أيّ إليها ، و «الأجلين» بدل منها ، وقرأ الحسن (أيما) بسكون الياء ، وقرأ ابن مسعود (أيّ الأجلين ما قضيت) ومعنى (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) فلا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين ، أي : كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطالب

١٩٥

بالنقصان على العشرة. وقيل المعنى : كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام ، لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام ، وهذا أظهر. وأصل العدوان : تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد : وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما ، ولكنه جمعهما ليجعل الأوّل كالأتمّ في الوفاء. قرأ الجمهور (عدوان) بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي : على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك. قيل : هو من قول موسى ، وقيل : من قول شعيب ، والأوّل أولى ، لوقوعه في جملة كلام موسى (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) هو أكملهما وأوفاهما ، وهو العشرة الأعوام كما سيأتي آخر البحث ، والفاء فصيحة (وَسارَ بِأَهْلِهِ) إلى مصر ، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أي : أبصر من الجهة التي تلي الطور نارا ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة طه مستوفى (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) وهذا تقدّم تفسيره أيضا في سورة طه وفي سورة النمل (أَوْ جَذْوَةٍ) قرأ الجمهور بكسر الجيم ، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها ، وقرأ عاصم والسلمي وزرّ بن حبيش بفتحها. قال الجوهري : الجذوة والجذوة والجذوة : الجمرة ، والجمع جذا وجذا وجذا. قال مجاهد في الآية : أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة جميع العرب. وقال أبو عبيدة : هي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن ، ومما يؤيد أن الجذوة : الجمرة قول السلمي :

وبدّلت بعد المسك والبان شقوة

دخان الجذا في رأس أشمط شاحب

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : تستدفئون بالنار (فَلَمَّا أَتاها) أي : أتى النار التي أبصرها ، وقيل : أتى الشجرة ، والأوّل أولى لعدم تقدّم الذكر للشجرة (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) من لابتداء الغاية ، والأيمن : صفة للشاطئ ، وهو من اليمن : وهو البركة ، أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى ، أي : الذي يلي يمينه دون يساره ، وشاطئ الوادي : طرفه ، وكذا شطه. قال الراغب : وجمع الشاطئ أشطاء ، وقوله : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متعلق بنودي ، أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ، و (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل اشتمال من شاطئ الواد ، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ. وقال الجوهري : يقول شاطئ الأودية ولا يجمع. قرأ الجمهور (فِي الْبُقْعَةِ) بضم الباء ، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها ، وهي لغة حكاها أبو زيد (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) أن : هي المفسرة ويجوز أن تكون هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النداء مفسرة له ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور بكسر همزة «إني» على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه. وقرئ بالفتح وهي قراءة ضعيفة ، وقوله : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) معطوف على (أَنْ يا مُوسى) وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) في سرعة حركتها مع عظم جسمها (وَلَّى مُدْبِراً) أي : منهزما ، وانتصاب مدبرا على الحال ، وقوله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) في محل نصب أيضا على الحال ، أي : لم يرجع (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) قد تقدّم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده ،

١٩٦

وكذلك قوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) جناح الإنسان : عضده ، ويقال لليد كلها : جناح ، أي : اضمم إليك يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع ، وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : الأولى : اسلك يدك في جيبك ، والثانية : واضمم إليك جناحك ، والثالثة : وأدخل يدك في جيبك. ويجوز أن يراد بالضم : التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعبانا ، ومعنى (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرهب ، وهو الخوف. قرأ الجمهور (الرّهب) بفتح الراء والهاء ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفصا بضم الراء وإسكان الهاء. وقال الفراء : أراد بالجناح : عصاه ، وقال بعض أهل المعاني : الرهب : الكمّ بلغة حمير وبني حنيفة. وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول لآخر : أعطني ما في رهبك ، فسألته عن الرهب ، فقال الكمّ. فعلى هذا يكون معناه : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ (فَذانِكَ) إشارة إلى العصا واليد (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : حجتان نيرتان ، ودليلان واضحان ، قرأ الجمهور «فذانك» بتخفيف النون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها ، قيل : والتشديد لغة قريش. وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بياء تحتية بعد نون مكسورة ، والياء بدل من إحدى النونين ، وهي لغة هذيل ، وقيل : لغة تميم ، وقوله : (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بمحذوف ، أي : كائنان منه ، وكذلك قوله (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) متعلق بمحذوف ، أي : مرسلان ، أو واصلان إليهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) متجاوزين الحد في الظلم خارجين عن الطاعة أبلغ خروج ، والجملة تعليل لما قبلها.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب في قوله : (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) قال : جاءت مستترة بكمّ درعها على وجهها. وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه. وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء ، فقال له شعيب : كل ، قال موسى : أعوذ بالله ، قال : ولم؟ ألست بجائع؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا عما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا ، قال : لا والله ولكنها عادتي ، وعادة آبائي ، نقري الضيف ونطعم الطعام ، فجلس موسى فأكل. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قصّ عليه القصص. وأخرج سعيد بن منصور وابن شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : كان صاحب موسى يثرون بن أخي شعيب النبي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال : كان اسم ختن (١) موسى يثرون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يقول أناس إنه شعيب ، وليس بشعيب ، ولكنه سيد الماء يومئذ. وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة بن المنذر السلمي قال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ سورة طسم حتّى إذا بلغ قصّة موسى قال : «إنّ موسى أجّر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفّة فرجه وطعام بطنه ، فلمّا وفّى

__________________

(١). الختن : زوج البنت أو الأخت وكل ما يكون من قبل المرأة كالأب والأخ.

١٩٧

الأجل ـ قيل : يا رسول الله أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أبرّهما وأوفاهما ـ فلمّا أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه» الحديث بطوله. وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة. وقد روي من وجه آخر وفيه نظر. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدثنا أبو زرعة ، عن يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدّثني ابن لهيعة ، عن الحارث ابن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي ، قال : سمعت عتبة بن النّدّر السلمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وابن لهيعة ضعيف ، وينظر في بقية رجال السند. وأخرج ابن جرير عن أنس طرفا منه موقوفا عليه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل : أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل. وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه ، قوله : إن رسول الله إذا قال فعل فيه نظر ، فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين بل قال : أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ. وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى قضى أتمّ الأجلين من طرق. وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذرّ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل خيرهما وأبرّهما ، وإن سئلت : أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت فقالت : يا أبت استأجره». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي جبريل : يا محمد إن سألك اليهود أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل : أوفاهما ، وإن سألوك أيّهما تزوّج؟ فقل : الصغرى منهما». وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي ذرّ «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أبرّهما وأوفاهما ، قال : وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل : الصغرى منهما» قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذرّ إلا بهذا الإسناد ، وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران ، وهو ضعيف. وأما روايات أنه قضى أتمّ الأجلين فلها طرق يقوي بعضها بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق السديّ قال : قال ابن عباس : لما قضى موسى الأجل سار بأهله ، فضلّ الطريق ، وكان في الشتاء فرفعت له نار ، فلما رآها ظنّ أنها نار ، وكانت من نور الله (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) فإن لم أجد خبرا آتيكم بشهاب قبس (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) من البرد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) لعلي أجد من يدلني على الطريق ، وكانوا قد ضلوا الطريق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (أَوْ جَذْوَةٍ) قال : شهاب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ) قال : كان النداء من السماء الدنيا ، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى ، فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها ، فإذا هي سمرة خضراء ترف ، فصليت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلمت ، فأهوى إليها بعيري وهو جائع ، فأخذ منها ملآن فيه فلاكه فلم يستطع أن يسيغه فلفظه ، فصليت على النبيّ وسلمت ، ثم انصرفت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) قال : يدك.

١٩٨

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

لما سمع موسى قول الله سبحانه : فذانك برهانان إلى فرعون طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه ، ف (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) يعني : القبطي الذي وكزه فقضى عليه (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بها (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) لأنه كان في لسان موسى حبسة كما تقدّم بيانه ، والفصاحة لغة الخلوص ، يقال : فصح اللبن وأفصح فهو فصيح ، أي : خلص من الرغوة ، ومنه فصح الرجل : جادت لغته ، وأفصح : تكلم بالعربية. وقيل : الفصيح الذي ينطق ، والأعجم الذي لا ينطق. وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة : خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس ، وفصاحة الكلام : خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد ، وانتصاب (رِدْءاً) على الحال ، والردء : المعين ، من أردأته : أي أعنته ، يقال فلان ردء فلان : إذا كان ينصره ويشدّ ظهره ، ومنه قول الشاعر :

ألم تر أنّ أصرم كان ردئي

وخير النّاس في قلّ ومال

وحذفت الهمزة تخفيفا في قراءة نافع وأبي جعفر ، ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة : إذا زاد عليها ، فكان المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي ، ومنه قول الشاعر :

وأسمر خطّيّا كأنّ كعوبه

نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر

وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى ، والقسب الصلب ، وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم ، وهو صلب النواة (يُصَدِّقُنِي) قرأ عاصم وحمزة يصدقني بالرفع على الاستئناف ، أو الصفة لردءا ، أو لحال من مفعول أرسله ، وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر ، وقرأ أبي وزيد بن عليّ (يُصَدِّقُونَ) أي : فرعون

١٩٩

وملؤه (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي : نقويك به ، فشدّ العضد كناية عن التقوية ، ويقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك ، وفي ضدّه : فتّ الله في عضدك. قرأ الجمهور (عَضُدَكَ) بفتح العين. وقرأ الحسين وزيد بن عليّ بضمها. وروي عن الحسن أيضا أنه بضمة وسكون. وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي : حجة وبرهانا. أو تسلطا عليه ، وعلى قومه (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة ، و (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف : أي تمتنعان منهم بآياتنا ، أو اذهبا بآياتنا. وقيل : الباء للقسم ، وجوابه يصلون ، وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) بآياتنا ، وأوّل هذه الوجوه : أولاها ، وفي «أنتما ومن اتبعكما الغالبون» : تبشير لهما وتقوية لقلوبهما (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) البينات : الواضحات الدلالة ، وقد تقدّم وجه إطلاق الآيات ، وهي جمع على العصا واليد في سورة طه (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي : مختلق مكذوب ، اختلقته من قبل نفسك (وَما سَمِعْنا بِهذا) الذي جئت به من دعوى النبوّة ، أو ما سمعنا بهذا السحر (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي : كائنا ، أو واقعا في آبائنا الأوّلين (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) يريد نفسه ، وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرّح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة ، والله أعلم. قرأ الجمهور (وَقالَ مُوسى) بالواو ، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن «قال موسى» بلا واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما «ومن يكون له عاقبة الدّار» بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار. والتذكير لوقوع الفصل ، ولأنه تأنيث مجازي ، وقرأ الباقون (تكون) بالفوقية ، وهي أوضح من القراءة الأولى ، والمراد بالدار هنا الدنيا وعاقبتها هي الدار الآخرة ، والمعنى : لمن تكون له العاقبة المحمودة؟ والضمير في (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) للشأن ، أي : إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون ، أي : لا يفوزون بمطلب خير ، ويجوز أن يكون المراد بعاقبة الدار : خاتمة الخير ، وقال فرعون (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) تمسك اللعين بمجرّد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه ، وقد كان يعلم أنه ربه الله عزوجل ، ثم رجع إلى تكبره وتجبره ، وإيهام قومه بكمال اقتداره ، فقال : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي : اطبخ لي الطين حتى يصير آجرا (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي : اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرا صرحا : أي قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي : أصعد إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) والطلوع ، والاطلاع : واحد ، يقال طلع الجبل واطلع (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) المراد بالأرض : أرض مصر ، والاستكبار : التعظيم بغير استحقاق ، بل بالعدوان لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى ، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي : فرعون وجنوده ، والمراد بالرجوع : البعث والمعاد ، قرأ نافع وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي «لا يرجعون» بفتح الياء وكسر الجيم مبنيا للفاعل. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنيا للمفعول ، واختار القراءة الأولى : أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية : أبو عبيد (فَأَخَذْناهُ

٢٠٠