فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

سورة العنكبوت

وقد اختلف في كونها مكية ، أو مدنية ، أو بعضها مكيا ، وبعضها مدنيا على ثلاثة أقوال : الأوّل أنها مكية كلها ، أخرجه ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر بن زيد. والقول الثاني : أنها مدنية كلها ، قال القرطبي : وهو أحد قولي ، ابن عباس ، وقتادة. والقول الثالث : أنها مكية إلا عشر آيات من أوّلها ، وهو قول يحيى بن سلام. وحكي عن عليّ بن أبي طالب أنها نزلت بين مكة والمدينة ، وهذا قول رابع. وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي في كسوف الشمس ، والقمر أربع ركعات ، وأربع سجدات ، يقرأ في الركعة الأولى : بالعنكبوت ، أو الروم ، وفي الثانية : بيس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في سورة البقرة ، والاستفهام في قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) للتقريع والتوبيخ ، و (أَنْ يُتْرَكُوا) في موضع نصب بحسب ، وهي وما دخلت عليه قائمة مقام المفعولين على قول سيبويه والجمهور ، و (أَنْ يَقُولُوا) في موضع نصب على تقدير : لأن يقولوا ، أو بأن يقولوا ، أو على أن يقولوا ، وقيل : هو بدل من أن يتركوا ، ومعنى الآية : أن الناس لا يتركون بغير اختبار ولا ابتلاء (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : وهم لا يبتلون في أموالهم ، وأنفسهم ، وليس الأمر كما حسبوا ،

٢٢١

بل لا بد أن يختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب ، فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده ، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها. قال الزجاج : المعنى : أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ، ولا يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم ، وهو قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). قال السدّي وقتادة ومجاهد : أي لا يبتلون في أموالهم ، وأنفسهم بالقتل ، والتعذيب ، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرناه ، وظاهرها شمول كلّ الناس من أهل الإيمان ، وإن كان السبب خاصا ، فالاعتبار بعموم اللفظ كما قررناه غير مرّة. قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص ، فهي باقية في أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدوّ وغير ذلك (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : هذه سنة الله في عباده ، وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة ، كما اختبر من قبلهم من الأمم ، كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء ، وما وقع مع قومهم من المحن ، وما اختبر الله به أتباعهم ، ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في قولهم : آمنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) منهم في ذلك ، قرأ الجمهور «فليعلمنّ» بفتح الياء واللام في الموضعين ، أي : ليظهرنّ الله الصادق ، والكاذب في قولهم ، ويميز بينهم ، وقرأ عليّ بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام. والمعنى : أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم ، أو يعلم الناس بصدق من صدق ، ويفضح الكاذبين بكذبهم ، أو يضع لكلّ طائفة علامة تشتهر بها ، وتتميز عن غيرها (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أي : يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون ، وهو سادّ مسدّ مفعولي حسب ، وأم هي المنقطعة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك. وقال الزجاج : «ما» في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. قال : ويجوز أن تكون «ما» في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم ، وجعلها ابن كيسان مصدرية ، أي : ساء حكمهم (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي : من كان يطمع ، والرجاء : بمعنى الطمع. قاله سعيد بن جبير. وقيل : الرجاء هنا : بمعنى الخوف. قال القرطبي : وأجمع أهل التفسير على أن المعنى : من كان يخاف الموت ، ومنه قول الهذلي :

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها (١)

قال الزجاج : معنى من كان يرجو لقاء الله : من كان يرجو ثواب لقاء الله ، أي : ثواب المصير إليه ، فالرجاء على هذا : معناه الأمل (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي : الأجل المضروب للبعث آت لا محالة. قال مقاتل : يعني يوم القيامة ، والمعنى : فليعمل لذلك اليوم كما في قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (٢) ومن في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية ، والجزاء فإن أجل الله لآت ، ويجوز أن تكون

__________________

(١). وعجز البيت :

وحالفها في بيت نوب عوامل.

(٢). الكهف : ١١٠.

٢٢٢

موصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيها لها بالشرطية. وفي الآية من الوعد والوعيد ، والترهيب والترغيب ما لا يخفى (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بما يسرونه وما يعلنونه (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي : من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه ، أي : ثواب ذلك له لا لغيره ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا يحتاج إلى طاعاتهم كما لا تضرّه معاصيهم. وقيل المعنى : ومن جاهد عدوّه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله ، فليس لله حاجة بجهاده ، والأوّل : أولى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : لنغطينها عنهم بالمغفرة ، بسبب ما عملوا من الصالحات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : بأحسن جزاء أعمالهم ، وقيل : بجزاء أحسن أعمالهم ، والمراد بأحسن : مجرّد الوصف لا التفضيل لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتا عنه ، وقيل : يعطيهم أكثر وأحسن منه كما في قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) انتصاب حسنا على أنه نعت مصدر محذوف ، أي : إيصاء حسنا على المبالغة ، أو على حذف المضاف : أي : ذا حسن. هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا ، فهو مفعول لفعل مقدّر ، ومنه قول الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنّما خافونا

أي : يوصينا أن نفعل بها خيرا ، ومثله قول الحطيئة :

وصّيت من برّة قلبا حرّا

بالكلب خيرا والحمأة شرّا

قال الزجاج : معناه ووصينا الإنسان : أن يفعل بوالديه ما يحسن ، وقيل : هو صفة لموصوف محذوف ، أي : ووصيناه أمرا ذا حسن ، وقيل : هو منتصب على أنه مفعول به على التضمين ، أي : ألزمناه حسنا ، وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي : ووصيناه بحسن ، وقيل : هو مصدر لفعل محذوف ، أي : يحسن حسنا ، ومعنى الآية : التوصية للإنسان بوالديه بالبرّ بهما ، والعطف عليهما. قرأ الجمهور «حسنا» بضم الحاء وإسكان السين ، وقرأ أبو رجاء ، وأبو العالية ، والضحاك بفتحهما ، وقرأ الجحدري «إحسانا» وكذا في مصحف أبيّ (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي : طلبا منك ، وألزماك أن تشرك بي إلها ليس لك به علم بكونه إلها فلا تطعهما ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه ، فكيف بما علم بطلانه؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له ، فعدم جوازها مع تجرّد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى ، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه ، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صحّ ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : أخبركم بصالح أعمالكم ، وطالحها ، فأجازي كلا منكم بما يستحقه ، والموصول في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في محل رفع على الابتداء وخبره

__________________

(١). الأنعام : ١٦٠.

٢٢٣

(لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : في زمرة الراسخين في الصلاح ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال ، ويجوز أن يكون المعنى : لندخلنهم في مدخل الصالحين ، وهو الجنة كذا قيل ، والأوّل أولى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي : في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان ، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات ، من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله ، والعمل بما أمر به (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى (كَعَذابِ اللهِ) أي : جزع من أذاهم. فلم يصبر عليه وجعله في الشدّة ، والعظم كعذاب الله ، فأطاع الناس كما يطيع الله ، وقيل : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر. قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي : نصر من الله للمؤمنين ، وفتح وغلبة للأعداء وغنيمة يغنمونها منهم (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي : داخلون معكم في دينكم ، ومعاونون لكم على عدوّكم ، فكذبهم الله. وقال : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي : هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشرّ ، فكيف يدّعون هذه الدعوى الكاذبة. وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف ، كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار وافقوهم. وإذا ظهرت قوّة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) وقيل : المراد بهذا ، وما قبله : المنافقون. قال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم. فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة افتتنوا. وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة ، كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك ، والظاهر أن هذا النظم من قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إلى قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) نازل في المنافقين لما يظهر من السياق ، ولقوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده : أي : ليميزن الله بين الطائفتين ، ويظهر إخلاص المخلصين ، ونفاق المنافقين ، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ، ويصبر في الله حق الصبر ، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله. والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا ، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم ، وكفر بالله عزوجل ، وإن خفقت ريح الإسلام ، وطلع نصره ، ولاح فتحه رجع إلى الإسلام ، وزعم أنه من المسلمين (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) اللام في «للذين آمنوا» هي : لام التبليغ ، أي : قالوا مخاطبين لهم كما سبق بيانه في غير موضع ، أي : قالوا لهم اسلكوا طريقتنا ، وادخلوا في ديننا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي : إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور ، كما تقولون فلنحمل ذلك عنكم ، فنؤاخذ به دونكم ، واللام في لنحمل : لام الأمر ، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقال الفراء والزجاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء ، أي : إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ، ثم ردّ الله عليهم بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى : بيانية. والثانية : مزيدة للاستغراق ، أي : وما هم بحاملين شيئا من خطيئاتهم التي التزموا بها وضمنوا لهم حملها ، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم. قال المهدوي : هذا التكذيب لهم من الله عزوجل حمل على المعنى ، لأن المعنى : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم ، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر ، أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي :

٢٢٤

أوزارهم التي عملوها ، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي : أوزارا مع أوزارهم. وهي أوزار من أضلوهم ، وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة ، ومثله قوله سبحانه : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١) ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم ، وغيره (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تقريعا وتوبيخا (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يختلقونه من الأكاذيب التي كانوا يأتون بها في الدنيا. وقال مقاتل : يعني قولهم ونحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) الآية قال : أنزلت في ناس كانوا بمكة قد أقرّوا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة ، لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ، ولا إسلام حتى تهاجروا ، قال : فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون ، فردّوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا ، فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه ، فخرجوا فاتبعهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال : نزلت في عمار بن ياسر ؛ إذ كان يعذب في الله (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) الآية. وأخرج ابن ماجة ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود قال : أوّل من أظهر الله إسلامه سبعة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، وسمية أم عمار ، وعمار ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد. فأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب ، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون ، فألبسوهم أدرع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال ، فإنه هانت عليه نفسه في الله ، وهان على قومه ، فأخذوه فأعطوه الولدان ، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول : أحد أحد. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَنْ يَسْبِقُونا) قال : أن يعجزونا. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قالت أمي لا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمّد فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا (٣) ، فنزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) وأخرجه أيضا الترمذي من حديثه ، وقال : نزلت في أربع آيات وذكر نحو هذه القصة ، وقال : حسن صحيح. وقد أخرج هذا الحديث أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي أيضا. وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه ، وابن ماجة ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أوذيت في الله وما

__________________

(١). النحل : ٢٥.

(٢). النحل : ١١٠.

(٣). الشّجر : مفتح الفم ، والمقصود : ادخلوا في شجره عودا حتى يفتحوه.

٢٢٥

يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما واراه إبط بلال». وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) قال : يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

أجمل سبحانه قصة نوح تصديقا لقوله في أوّل السورة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفيه تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قيل له : إن نوحا لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك ، وكثرة عدد أمتك. قيل : ووقع في النظم إلا خمسين عاما ، ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين ، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني ، فقد يطلق على ما يقرب منه. وقد اختلف في مقدار عمر نوح ، وسيأتي آخر البحث. وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة ، وهي لا تدل على أنها جميع عمره. فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم ، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان ، والفاء في (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) للتعقيب ، أي : أخذهم عقب تمام المدة المذكورة ، والطوفان : يقال لكل شيء كثير ، مطيف بجمع ، محيط بهم ، من مطر ، أو قتل ، أو موت قاله النحاس : وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي : هو المطر. وقال الضحاك : الغرق ، وقيل : الموت ، ومنه قول الشاعر :

أفناهم طوفان موت جارف

٢٢٦

وجملة (وَهُمْ ظالِمُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : مستمرون على الظلم ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح ، وذكرهم هذه المدّة بطولها (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي : أنجينا نوحا وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه. واختلف في عددهم على أقوال (وَجَعَلْناها) أي : السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي : عبرة عظيمة لهم ، وفي كونها آية وجوه : أحدها أنها كانت باقية على الجوديّ مدّة مديدة. وثانيها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة. وثالثها : أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد. وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية ، وقيل : إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة ، أو إلى النجاة ، أو إلى العقوبة بالغرق. (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) انتصاب إبراهيم بالعطف على نوحا. وقال النسائي : هو معطوف على الهاء في جعلناها وقيل : منصوب بمقدّر ، أي : واذكر إبراهيم. وإذ قال : منصوب على الظرفية ، أي : وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه : اعبدوا الله ، أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا ، أو واذكر إبراهيم وقت قوله ، على أن الظرف بدل اشتمال من إبراهيم (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي : أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئا (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك ، ولا خير في الشرك أبدا ، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا من العلم ، أو تعلمون علما تميزون به بين ما هو خير ، وما هو شرّ. قرأ الجمهور «وإبراهيم» بالنصب ، ووجهه ما قدّمنا. وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدّر ، أي : ومن المرسلين إبراهيم (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) بين لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضرّ ، ولا يسمع ولا يبصر ، والأوثان : هي الأصنام. وقال أبو عبيدة : الصنم ما يتخذ من ذهب ، أو فضة ، أو نحاس ، والوثن : ما يتخذ من جصّ أو حجارة. وقال الجوهري : الوثن : الصنم ، والجمع : أوثان (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي : وتكذبون كذبا على أن معنى تخلقون تكذبون ، ويجوز أن يكون معناه : تعملون وتنحتون ، أي : تعملونها وتنحتونها للإفك. قال الحسن : معنى تخلقون تنحتون ، أي : إنما تعبدون أوثانا ، وأنتم تصنعونها. قرأ الجمهور «تخلقون» بفتح الفوقية وسكون الخاء ، وضم اللام مضارع خلق ، وإفكا بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وزيد بن عليّ ، والسلمي ، وقتادة بفتح الخاء واللام مشدّدة ، والأصل تتخلقون. وروي عن زيد بن عليّ أنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة. وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان «أفكا» بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : خلقا أفكا (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي : لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي : اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله ، فهو الذي عنده الرزق كله ، فاسألوه من فضله ، ووحدوه دون غيره (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي : على نعمائه ، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها ، يقال شكرته ، وشكرت له (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) قيل : هذا من قول إبراهيم ، أي : وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم ، وقيل : هو من قول الله سبحانه : أي : وإن تكذبوا محمّدا فذلك عادة الكفار مع من سلف (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) لقومه الذين أرسل إليهم ، وليس

٢٢٧

عليه هدايتهم ، وليس ذلك في وسعه (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) قرأ الجمهور «أو لم يروا» بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم. قال أبو عبيد : كأنه قال : أو لم ير الأمم. وقرأ أبو بكر ، والأعمش ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه ، وقيل : هو خطاب من الله لقريش. قرأ الجمهور «كيف يبدئ» بضم التحتية من أبدأ يبدئ. وقرأ الزبيري ، وعيسى بن عمر ، وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ. وقرأ الزهري «كيف بدأ» والمعنى : ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء؟ نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، ثم يخرجه إلى الدنيا ، ثم يتوفاه بعد ذلك ، وكذلك سائر الحيوانات ، وسائر النباتات ، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء ، والإيجاد ، فهو القادر على الإعادة ، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم ، والواو : للعطف على مقدّر (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأنه إذا أراد أمرا قال له : كن فيكون. ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ؛ ليتفكروا ويعتبروا فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) على كثرتهم ، واختلاف ألوانهم ، وطبائعهم ، وألسنتهم ، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية ، والأمم الخالية ، وآثارهم لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. وقيل : إن المعنى : قل لهم يا محمّد : سيروا ، ومعنى قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أن الله الذي بدأ النشأة الأولى ، وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث ، والجملة عطف على جملة سيروا في الأرض ، داخلة معها في حيز القول ، وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لما قبلها. قرأ الجمهور ب «النشأة» بالقصر وسكون الشين. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالمدّ وفتح الشين ، وهما لغتان كالرأفة والرآفة. وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد ، والأصل : الإنشاءة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي : هو سبحانه بعد النشأة الآخرة ، يعذب من يشاء تعذيبة ، وهم الكفار والعصاة ، ويرحم من يشاء رحمته ، وهم المؤمنون به ، المصدّقون لرسله ، العاملون بأوامره ونواهيه (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي : ترجعون ، وتردّون لا إلى غيره (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قال الفراء : ولا من في السماء بمعجزين الله فيها. قال : وهو كما في قول حسان :

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

أي : ومن يمدحه ، وينصره سواء. ومثله قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) أي : إلا من له مقام معلوم ، والمعنى : أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ، ولا أهل السماء في السماء إن عصوه. وقال قطرب : إن معنى الآية : ولا في السماء لو كنتم فيها ، كما تقول : لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة ، يعني : ولا بالبصرة لو صار إليها. وقال المبرد : المعنى ولا من في السماء ، على أن من ليست موصولة بل نكرة ، وفي السماء صفة لها ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف ، وردّ ذلك عليّ بن سليمان وقال : لا يجوز ورجح ما قاله قطرب (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) من مزيدة للتأكيد ، أي : ليس لكم وليّ يواليكم ، ولا نصير ينصركم ، ويدفع عنكم عذاب الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) المراد بالآيات : الآيات

__________________

(١). الصافات : ١٦٤.

٢٢٨

التنزيلية ، أو التكوينية ، أو جميعهما ، وكفروا بلقاء الله ، أي : أنكروا البعث وما بعده ، ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الكافرين بالآيات واللقاء ، وهو مبتدأ ، وخبره (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي : إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ، ولا ما أخبرتهم به رسله. وقيل المعنى : أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة. والمعنى أنهم أويسوا من الرحمة (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) كرّر سبحانه الإشارة للتأكيد ، ووصف العذاب بكونه أليما للدلالة على أنه في غاية الشدّة (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قول من قال : إن قوله قل سيروا في الأرض خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما على قول من قال : إنه خطاب لإبراهيم عليه‌السلام ، فالكلام في سياقه سابقا ولا حقا ، أي : قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم : افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين ، ثم اتفقوا على تحريقه (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وجعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في إنجاء الله لإبراهيم (لَآياتٍ) بينة ، أي : دلالات واضحة ، وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله ، وبديع صنعه ، حيث أضرموا تلك النار العظيمة ، وألقوه فيها ، ولم تحرقه ، ولا أثرت فيه أثرا ، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق ، وإنما خصّ المؤمنون ، لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه ، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون. قرأ الجمهور بنصب «جواب قومه» على أنه خبر كان ، وما بعده اسمها. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان ، وما بعده في محل نصب على الخبر (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : قال إبراهيم لقومه : أي للتوادد بينكم ، والتواصل لاجتماعكم على عبادتها ، وللخشية من ذهاب المودّة فيما بينكم إن تركتم عبادتها. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي «مودّة بينكم» برفع مودّة غير منوّنة ، وإضافتها إلى بينكم. وقرأ الأعمش ، وابن وثاب «مودّة» برفعها منوّنة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر بنصب «مودة» منوّنة ونصب بينكم على الظرفية. وقرأ حمزة ، وحفص بنصب «مودّة» مضافة إلى بينكم. فأما قراءة الرفع ، فذكر الزجاج لها وجهين : الأوّل أنها ارتفعت على خبر إنّ في إنما اتخذتم ، وجعل ما موصولة ، والتقدير : إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودّة بينكم. الوجه الثاني : أن تكون على إضمار مبتدأ ، أي : هي مودّة أو تلك مودّة. والمعنى : أن المودّة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان واتخاذها. قيل : ويجوز أن تكون مودّة مرتفعة بالابتداء ، وخبرها في الحياة الدنيا. ومن قرأ برفع مودّة منوّنة : فتوجيهه كالقراءة الأولى ، ونصب بينكم على الظرفية. ومن قرأ بنصب مودّة ولم ينوّنها جعلها مفعول اتخذتم ، وجعل إنما حرفا واحدا للحصر ، وهكذا من نصبها ونوّنها. ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودّة علة ، فهي مفعول لأجله ، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفا ، أي : أوثانا آلهة ، وعلى تقدير أن ما في قوله «إنما اتخذتم» موصولة يكون المفعول الأوّل : ضميرها ، أي : اتخذتموه ، والمفعول الثاني : أوثانا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي : يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان ؛ العابدين لها بالبعض الآخر منهم ، فيتبرأ القادة من الأتباع ، والأتباع من القادة ، وقيل :

٢٢٩

المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان ، وتتبرأ الأوثان من العابدين لها (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : يلعن كلّ فريق الآخر على التفسيرين المذكورين (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي : الكفار ، وقيل : يدخل في ذلك الأوثان ، أي : هي منزلكم الذي تأوون إليه (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها بنصرتهم لكم (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي : آمن لإبراهيم لوط فصدّقه في جميع ما جاء به ، وقيل : إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه ، وكان لوط ابن أخي إبراهيم (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) قال النخعي وقتادة : الذي قال إني مهاجر إلى ربي هو إبراهيم. قال قتادة : هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارّة ، والمعنى : إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة ، وقيل : إن القائل : إني مهاجر إلى ربي هو لوط ، والأوّل أولى لرجوع الضمير في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى إبراهيم ، وكذا في قوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، وكذا في قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف ، أي : منّ الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا له ، ويعقوب ولدا لولده إسحاق ، وجعل في ذرّيته النبوّة ، والكتاب فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه ، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب ، والمراد : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن ، ومعنى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) أنه أعطي في الدنيا الأولاد ، وأخبره الله باستمرار النبوّة فيهم ، وذلك مما تقرّ به عينه ، ويزداد به سروره ، وقيل : أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدّعيه ، وتقول هو منهم. وقيل : أعطاه في الدنيا عملا صالحا ، وعاقبة حسنة ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، أي : الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة ، وكثرة العطاء من الربّ سبحانه.

وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ؛ يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه ، وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شدّاد قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه ، وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال : كرجل دخل بيتا له بابان ، فقال في وسط البيت هنيهة ، ثم خرج من الباب الآخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال : أبقاها الله آية ، فهي على الجوديّ. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) قال : تقولون كذبا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) قال : هي الحياة بعد الموت ، وهو النشور. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) قال : صدّق

٢٣٠

لوط إبراهيم. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : «أوّل من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان ابن عفّان ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صحبهما الله ، إنّ عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط». وأخرج ابن مندة ، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : هاجر عثمان إلى الحبشة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه أوّل من هاجر بعد إبراهيم ولوط». وأخرج ابن عساكر ، والطبراني ، والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كان بين عثمان وبين رقيّة وبين لوط مهاجر». وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : أوّل من هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قال : هما ولدا إبراهيم ، وفي قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون : إبراهيم ويرضون به. وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) قال : الذكر الحسن. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الولد الصالح والثناء ، وقول ابن عباس : هما ولدا إبراهيم لعله يريده ولده وولد ولده ، لأن ولد الولد بمنزلة الولد ، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس فهو حبر الأمة ، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي ، وفي الصحيحين «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم».

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

٢٣١

قوله : (وَلُوطاً) منصوب بالعطف على نوحا ، أو على إبراهيم ، أو بتقدير اذكر. قال الكسائي المعنى : وأنجينا لوطا ، أو : وأرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف للعامل في لوط (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر «أإنكم» بالاستفهام. وقرأ الباقون بلا استفهام ، والفاحشة : الخصلة المتناهية في القبح ، وجملة (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) مقرّرة لكمال قبح هذه الخصلة ، وأنهم منفردون بذلك ، لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم. ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي : تلوطون بهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) قيل : إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين ، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم ، فقطعوا السبيل بهذا السبب. قال الفراء : كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث ، وقيل : كانوا يقطعون الطريق على المارّة ، بقتلهم ونهبهم. والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سببا لقطع الطريق ، من غير تقييد بسبب خاص ، وقيل : إن معنى قطع الطريق : قطع النسل ، بالعدول عن النساء إلى الرجال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) النادي ، والنديّ ، والمنتدى : مجلس القوم ، ومتحدّثهم.

واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه ؛ فقيل : كانوا يحذفون الناس بالحصباء ، ويستخفون بالغريب ، وقيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقيل : كانوا يأتون الرجال في مجالسهم ، وبعضهم يرى بعضا ، وقيل : كانوا يلعبون بالحمام ، وقيل : كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء ، وقيل : كانوا يناقرون بين الديكة ، ويناطحون بين الكباش ، وقيل : يلعبون بالنرد ، والشطرنج ، ويلبسون المصبغات ؛ ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. قال الزجاج : وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر ، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي. ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي : فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول ؛ رجوعا منهم إلى التكذيب ، واللجاج ، والعناد ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية ، وقد تقدّم في سورة النمل (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) (١) وتقدّم في سورة الأعراف (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) (٢) وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطا كان ثابتا على الإرشاد ، ومكرّرا للنهي لهم ، والوعيد عليهم ، فقالوا له أوّلا : ائتنا بعذاب الله كما في هذه الآية ، فلما كثر منه ذلك ، ولم يسكت عنهم قالوا : أخرجوهم كما في الأعراف ، والنمل ، وقيل : إنهم قالوا أوّلا : أخرجوهم من قريتكم ، ثم قالوا ثانيا : ائتنا بعذاب الله. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه فقال : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بإنزال عذابك عليهم ، وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال ، وعمل المنكر في ناديهم ، فاستجاب الله سبحانه ، وبعث لعذابهم ملائكته ، وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم ، ولهذا قال : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي : بالبشارة بالولد ، وهو إسحاق ، وبولد الولد ، وهو يعقوب (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي : قالوا لإبراهيم هذه المقالة ، والقرية هي : قرية سدوم التي كان

__________________

(١). النمل : ٥٦.

(٢). الأعراف : ٨٢.

٢٣٢

فيها قوم لوط ، وجملة (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل للإهلاك ، أي : إهلاكنا لهم بهذا السبب (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) أي : قال لهم إبراهيم : إن في هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطا ؛ فكيف تهلكونها؟ (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) من الأخيار ، والأشرار ، ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) من العذاب. قرأ الأعمش ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي «لننجينه» بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي : الباقين في العذاب ، وهو لفظ مشترك بين الماضي والباقي ، وقد تقدّم تحقيقه ، وقيل المعنى : من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب ، فتعذب من جملتهم ، ولا تنجو فيمن نجا (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي : لما جاءت الرسل لوطا بعد مفارقتهم إبراهيم سيء بهم ، أي : جاءه ما ساءه وخاف منه ، لأنه ظنهم من البشر ، فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية ، و «أن» في أن جاءت زائدة للتأكيد (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي : عجز عن تدبيرهم ، وحزن ، وضاق صدره ، وضيق الذراع : كناية عن العجز ، كما يقال في الكناية عن الفقر : ضاقت يده ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة هود. ولما شاهد الملائكة ما حلّ به من الحزن والتضجر (قالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) أي : لا تخف علينا من قومك ، ولا تحزن ، فإنهم لا يقدرون علينا (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أخبروا لوطا بما جاءوا به من إهلاك قومه ، وتنجيته ، وأهله إلا امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وشعبة ، ويعقوب ، والأعمش «منجوك» بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. قال المبرد : الكاف في منجوك مخفوض ، ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض ، فحمل الثاني على المعنى ، وصار التقدير : وننجي أهلك (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) هذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به ، وبأهله ، والرجز : العذاب ، أي : عذابا من السماء ، وهو الرمي بالحجارة ، وقيل : إحراقهم بنار نازلة من السماء ، وقيل : هو الخسف ، والحصب كما في غير هذا الموضع ، ومعنى كون الخسف من السماء : أن الأمر به نزل من السماء. قرأ ابن عامر «منزّلون» بالتشديد. وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون بالتخفيف ، والباء في (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) للسببية ، أي : لسبب فسقهم (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) أي : أبقينا من القرية علامة ، ودلالة بينة ، وهي الآثار التي بها من الحجارة ، رجموا بها ، وخراب الديار. وقال مجاهد : هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم ، ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر ، وخص من يعقل ، لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي : وأرسلنا إليهم ، وقد تقدم ذكره ، وذكر نسبه وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود : (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : أفردوه بالعبادة ، وخصوه بها (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي : توقعوه وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم. قال يونس النحوي : معناه : اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو والعثي : أشدّ الفساد. وقد تقدّم تفسيره (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي : الزلزلة ، وتقدّم في سورة هود (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي : صيحة جبريل ، وهي سبب الرجفة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي : أصبحوا في بلدهم

٢٣٣

أو منازلهم جاثمين على الركب ميتين (وَعاداً وَثَمُودَ) قال الكسائي : قال بعضهم هو راجع إلى أوّل السورة ، أي : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وفتنا عادا وثمود ، قال : وأحبّ إليّ أن يكون على «فأخذتهم الرجفة» أي : وأخذت عادا وثمود. وقال الزجاج : التقدير وأهلكنا عادا وثمود ، وقيل المعنى : واذكر عادا وثمود ؛ إذ أرسلنا إليهم هودا وصالحا (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي : وقد ظهر لكم يا معاشر الكفار. مساكنهم بالحجر ، والأحقاف آيات بينات تتعظون بها ، وتتفكرون فيها ، ففاعل تبين : محذوف (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي يعملونها من الكفر ومعاصي الله (فَصَدَّهُمْ) بهذا التزيين (عَنِ السَّبِيلِ) أي : الطريق الواضح الموصل إلى الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي : أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستدلال. قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر ، فلم تنفعهم بصائرهم ، وقيل المعنى : كانوا مستبصرين في كفرهم ، وضلالتهم معجبين بها يحسبون أنهم على هدى ، ويرون أن أمرهم حقّ ، فوصفهم بالاستبصار على هذا ، باعتبار ما عند أنفسهم (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) قال الكسائي : إن شئت كان محمولا على «عادا» وكان فيه ما فيه ، وإن شئت كان على «فصدّهم عن السبيل» أي : وصدّ قارون ، وفرعون ، وهامان. وقيل التقدير : وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) عن عبادة الله (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي : فائتين ، يقال سبق طالبه : إذا فاته : وقيل : وما كانوا سابقين في الكفر ، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي : عاقبناه بكفره ، وتكذيبه. قال الكسائي : (فَكُلًّا أَخَذْنا) أي : فأخذنا كلا بذنبه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي : ريحا تأتي بالحصباء ، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها ، وهم قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم : ثمود ، وأهل مدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) وهم قوم نوح وقوم فرعون (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بما فعل بهم ، لأنه قد أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : مجلسكم. وأخرج الفريابي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وابن عساكر عن أمّ هانئ بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله سبحانه (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : «كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السّبيل ، ويسخرون منهم». قال الترمذي بعد إخراجه وتحسينه : ولا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وأخرج ابن مردويه ، عن جابر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الحذف ، وهو قول الله سبحانه (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : هو الحذف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : الضّراط. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في

٢٣٤

قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال : الصيحة ، وفي قوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قال : في الضلالة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) قال : قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) قال : ثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) قال : قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) قال : قوم نوح.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يوالونهم ، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله ؛ سواء كانوا من الجماد ، أو الحيوان ، ومن الأحياء ؛ أو من الأموات (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) فإن بيتها لا يغني عنها شيئا لا في حرّ ، ولا قرّ ، ولا مطر ، كذلك ما اتخذوه وليا من دون الله ، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا تضرّه ، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرّا ، ولا بردا. قال : ولا يحسن الوقف على العنكبوت ، لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء ، شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضرّ به ، وقد جوّز الوقف على العنكبوت الأخفش ، وغلطه ابن الأنباري قال : لأن : اتخذت صلة للعنكبوت كأنه قال : كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتا ، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول ، والعنكبوت تقع على الواحد ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنث ، وتجمع على عناكب وعنكبوتات ، وهي الدّويبة الصغيرة التي تنسج نسجا رقيقا. وقد يقال لها : عكنباة ، ومنه قول الشاعر :

كأنّما يسقط من لغامها

بيت عكنباة على زمامها

(وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أضعف منه ، مما يتخذه الهوامّ بيتا ، ولا يدانيه في الوهي ، والوهي شيء من ذلك (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتا ، أو لو كانوا يعلمون شيئا من العلم لعلموا بهذا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ما : استفهامية ، أو نافية : أو موصولة ، ومن : للتبعيض ؛ أو مزيدة للتوكيد. وقيل : إن هذه الجملة على إضمار القول ، أي : قل للكافرين إن الله يعلم أيّ شيء يدعون من دونه. وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية ، وعلى تقدير النفي كأنه قيل : إن الله يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء ، يعني : ما تدعونه ليس بشيء ، وعلى تقدير

٢٣٥

الموصولة : إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه ، ويجوز أن تكون ما : مصدرية ، ومن شيء : عبارة عن المصدر. قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، ويعقوب «يدعون» بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام ، والإتقان (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي : هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن ، نضربها للناس تنبيها لهم ، وتقريبا لما بعد من أفهامهم (وَما يَعْقِلُها) أي : يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله (إِلَّا الْعالِمُونَ) بالله الراسخون في العلم ، المتدبرون ، المتفكرون لما يتلى عليهم ، وما يشاهدونه (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : بالعدل ، والقسط مراعيا في خلقها مصالح عباده. وقيل : المراد بالحق : كلامه وقدرته ، ومحل بالحق : النصب على الحال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : لدلالة عظيمة ، وعلامة ظاهرة على قدرته ، وتفرّده بالإلهية ، وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي : القرآن ، وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن ، والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته ، والتفكر في معانيه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي : دم على إقامتها ، واستمرّ على أدائها كما أمرت بذلك ، وجملة «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» تعليل لما قبلها ، والفحشاء : ما قبح من العمل ، والمنكر : ما لا يعرف في الشريعة ، أي : تمنعه عن معاصي الله وتبعده منها ، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سببا للانتهاء ، والمراد هنا : الصلوات المفروضة (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي : أكبر من كل شيء ، أي : أفضل من العبادات كلها بغير ذكر. قال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي : هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك ، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله ، مراقب له. وقيل : ذكر الله أكبر من الصلاة ، في النهي عن الفحشاء ، والمنكر ، مع المداومة عليه. قال الفراء وابن قتيبة : المراد بالذكر في الآية : التسبيح والتهليل ، يقول : هو أكبر ، وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. وقيل : المراد بالذكر هنا الصلاة ، أي : وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وعبر عنها بالذكر كما في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) للدلالة على أن ما فيها من الذكر : هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات ، وقيل المعنى : ولذكر الله لكم بالثواب ، والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم ، واختار هذا ابن جرير ، ويؤيده حديث «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بالخير : خيرا ، وبالشرّ : شرّا (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن ، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عزوجل ، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه ؛ رجاء إجابتهم إلى الإسلام ، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن أفرطوا في المجادلة ، ولم يتأدّبوا مع المسلمين ، فلا بأس بالإغلاظ عليهم ، والتخشين في مجادلتهم ، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين ؛ بأن المراد بأهل الكتاب : اليهود ، والنصارى. وقيل معنى الآية : لا تجادلوا

__________________

(١). الجمعة : ٩.

٢٣٦

من آمن بمحمّد من أهل الكتاب ؛ كعبد الله بن سلام ، وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن ، يعني : بالموافقة فيما حدّثوكم به من أخبار أهل الكتاب ، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول : هم الباقون على كفرهم. وقيل : هذه الآية منسوخة بآيات القتال ، وبذلك قال قتادة ، ومقاتل. قال النحاس : من قال منسوخة احتج بأن الآية مكية ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ، ولا طلب جزية ، ولا غير ذلك. قال سعيد بن جبير ومجاهد : إن المراد بالذين ظلموا منهم : الذين نصبوا القتال للمسلمين ، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا ؛ أو يعطوا الجزية (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من التوراة ، والإنجيل ، أي : آمنا بأنهما منزلان من عند الله ، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية ، والبعثة المحمّدية ، ولا يدخل في ذلك ما حرّفوه وبدّلوه (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له ، ولا ضدّ ، ولا ندّ ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : ونحن معاشر أمة محمّد مطيعون له خاصة ، لم نقل : عزير ابن الله ، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا أربابا من دون الله ، ويحتمل أن يراد : ونحن جميعا منقادون له ، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتمّ من انقياد أهل الكتاب ، وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) الآية قال : ذاك مثل ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت. وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها». وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال : العنكبوت شيطان. وأخرج الخطيب عن عليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهنّ» وروى القرطبي في تفسيره عن علي أيضا أنه قال : طهّروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإنّ تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال : نسجت العنكبوت مرتين ، مرة على داود ، والثانية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال : في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عمران بن حصين قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فقال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له». وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا». وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» وفي لفظ «لم يزدد بها من الله إلا بعدا». وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعا نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا نحوه. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني في الشعب عنه نحوه موقوفا. قال ابن كثير في تفسيره : والأصح في هذا كله : الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وغيرهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،

٢٣٧

عن ابن عباس في قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يقول : ولذكر الله لعباده إذا ذكروه ؛ أكبر من ذكرهم إيّاه. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : سألني ابن عباس عن قول الله (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فقلت : ذكر الله بالتسبيح ، والتهليل ، والتكبير قال : لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، ثم قال : اذكروني ؛ أذكركم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير عن ابن مسعود (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله. وأخرج ابن السني ، وابن مردويه ، والديلمي عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : لها وجهان : ذكر الله أكبر مما سواه ، وفي لفظ : ذكر الله عند ما حرّمه ، وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدميّ عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع ، لأن الله يقول في كتابه العزيز (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن عنترة قال : قلت لابن عباس : أيّ العمل أفضل؟ قال : ذكر الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : بلا إله إلا الله. وأخرج البخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)». وأخرج البيهقي في الشعب ، والديلمي ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلّوا ، إما أن تصدّقوا بباطل ، أو تكذّبوا بحقّ ، والله لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتّبعني». وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن ابن مسعود قال : «لا تسألوا أهل الكتاب» وذكر نحو حديث جابر ، ثم قال : «فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه».

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ

٢٣٨

الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإشارة إلى مصدر الفعل ؛ كما بيناه في مواضع كثيرة ، أي : ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب ، وهو القرآن ، وقيل المعنى : كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ؛ كعبد الله بن سلام ، وخصهم بإيتائهم الكتاب ؛ لكونهم العاملين به ، وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه ، وجحدهم لصفات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة فيه (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الإشارة إلى أهل مكة ، والمراد أن منهم ؛ وهو من قد أسلم. من يؤمن به ، أي : بالقرآن ، وقيل : الإشارة إلى جميع العرب (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي : آيات القرآن (إِلَّا الْكافِرُونَ) المصممون على كفرهم من المشركين ؛ وأهل الكتاب (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) الضمير في قبله راجع إلى القرآن ؛ لأنه المراد بقوله : أنزلنا إليك الكتاب ؛ أي : ما كنت يا محمّد تقرأ قبل القرآن كتابا ، ولا تقدر على ذلك ؛ لأنك أمّي ؛ لا تقرأ ، ولا تكتب (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي : ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة. قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخط ، ولا يقرأ ، فنزلت هذه الآية. قال النحاس : وذلك دليل على نبوّته لأنه لا يكتب ، ولا يخالط أهل الكتاب ، ولم يكن بمكة أهل كتاب ، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي : لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة ، أو من الكتب المدوّنة في أخبار الأمم ، فلما كنت أميا لا تقرأ ، ولا تكتب ؛ لم يكن هناك موضع للريبة ، ولا محل للشك أبدا ، بل إنكار من أنكر ، وكفر من كفر ؛ مجرّد عناد ، وجحود بلا شبهة ، وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ، ووضوح معجزاته (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) يعني : القرآن (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني : المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحفظوا بعده ، وقال قتادة ومقاتل : إن الضمير يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : بل محمّد آيات بينات ، أي : ذو آيات. وقرأ ابن مسعود «بل هي آيات بينات» قال الفراء : معنى هذه القراءة : بل آيات القرآن آيات بينات ... واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل ، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميقع «بل هذا آيات بيّنات» ولا دليل في هذه القراءة على ذلك ، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القراءة كما جاز أن تكون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل ، والتقدير. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي : المجاوزون للحدّ في الظلم (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : قال المشركون هذا القول ، والمعنى : هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء ، وذلك كآيات موسى ، وناقة صالح ، وإحياء المسيح للموتى ، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها على من يشاء من عباده ، ولا قدرة لأحد على ذلك (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أنذركم كما أمرت ، وأبين لكم كما

٢٣٩

ينبغي ، ليس في قدرتي غير ذلك. قرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، وحمزة ، والكسائي «لو لا أنزل عليه آية» بالإفراد. وقرأ الباقون بالجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله «قل إنما الآيات» (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) هذه الجملة مستأنفة للردّ على اقتراحهم ، وبيان بطلانه ، أي : أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها ؛ هذا الكتاب المعجز الذي قد تحدّيتهم بأن يأتوا بمثله ؛ أو بسورة منه ؛ فعجزوا ، ولو أتيتهم بآيات موسى ، وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا ، كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كلّ زمان ، ومكان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر (لَرَحْمَةً) عظيمة في الدنيا ، والآخرة (وَذِكْرى) في الدنيا يتذكرون بها ، وترشدهم إلى الحق (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : لقوم يصدّقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي : قل للمكذبين : كفى الله شهيدا بما وقع بيني وبينكم (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه من ذلك خافية ، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : آمنوا بما يعبدونه من دون الله ، وكفروا بالحق ، وهو الله سبحانه ، أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا ، والآخرة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) استهزاء وتكذيبا منهم بذلك كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) قد جعله الله لعذابهم ، وعينه ، وهو القيامة ، وقال الضحاك : الأجل : مدّة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي : لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم. وقيل : المراد بالأجل المسمى : النفخة الأولى ، وقيل : الوقت الذي قدّره الله لعذابهم في الدنيا ، بالقتل ، والأسر يوم بدر. والحاصل أن لكل عذاب أجلا ، لا يتقدّم عليه ، ولا يتأخر عنه كما في قوله سبحانه : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (٢) وجملة (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها ، ومعنى بغتة : فجأة ، وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم لا يعلمون بإتيانه ، ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار ، فقال : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : يطلبون منك تعجيل عذابهم ، والحال أن مكان العذاب محيط بهم ، أي : سيحيط بهم عن قرب ، فإن ما هو آت قريب ، والمراد بالكافرين : جنسهم ، فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولا أوّليا ، فقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) إخبار عنهم ، وقوله ثانيا : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) تعجب منهم ، وقيل : التكرير للتأكيد. ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم ، فقال : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي : من جميع جهاتهم ، فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة ، فقد أحاطت بهم جهنم (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) القائل : هو الله سبحانه ؛ أو بعض ملائكته بأمره ، أي : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي. قرأ أهل المدينة والكوفة

__________________

(١). الأنفال : ٣٢.

(٢). الأنعام : ٦٧.

٢٤٠