فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

عن الحسن عن جابر. وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد ؛ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوما فقال في خطبته حاكيا عن الله سبحانه : «وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم ، وإنّهم أتتهم الشّياطين فأضلّتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» الحديث.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

لما بين سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة ، وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه فقال : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته أسوته ، أو لكل مكلف له مال ؛ وسع الله به عليه ، وقدم الإحسان إلى القرابة ؛ لأن خير الصدقة ما كان على قريب ، فهو صدقة مضاعفة ، وصلة رحم مرغب فيها ، والمراد : الإحسان إليهم بالصدقة ، والصلة ، والبر (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي : وآت المسكين ، وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه. ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان ، ولكون ذلك واجبا على كلّ من له مال فاضل عن كفايته ، وكفاية من يعول.

وقد اختلف في هذه الآية ؛ هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل : هي منسوخة بآية المواريث. وقيل : محكمة ؛ وللقريب في مال قريبه الغنيّ حقّ واجب ، وبه قال مجاهد وقتادة. قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج. قال مقاتل : حق المسكين : أن يتصدّق عليه ، وحق ابن السبيل : الضيافة. وقيل : المراد بالقربى : قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال القرطبي : والأوّل أصح ، فإن حقهم مبين في كتاب الله عزوجل في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) (١) وقال الحسن : إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي : ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرّب إلى الله سبحانه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالا لأمره (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) قرأ

__________________

(١). الأنفال : ٤١.

٢٦١

الجمهور «آتيتم» بمعنى أعطيتم ، وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم ، وأجمعوا على القراءة بالمدّ في قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) وأصل الربا : الزيادة ، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المدّ ، لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء ، كما تقول : أتيت خطأ وأتيت صوابا ؛ والمعنى في الآية : ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : ليزيد ، ويزكو في أموالهم (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي : لا يبارك الله فيه. قال السديّ : الربا في هذا الموضع : الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة ، لأن ذلك لا يربو عند الله ، لا يؤجر عليه صاحبه ، ولا إثم عليه ، وهكذا قال قتادة والضحاك. قال الواحدي : وهذا قول جماعة المفسرين. قال الزجاج : يعني دفع الإنسان الشيء ليعوّض أكثر منه ، وذلك ليس بحرام ، ولكنه لا ثواب فيه ، لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه. وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحدا لينتفع به في دنياه ، فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل : هذا كان حراما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخصوص لقوله سبحانه : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ومعناها : أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضا عنه. وقيل : إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية : وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه. قال عكرمة : الربا ربوان : فربا حلال ، وربا حرام ، فأما الربا الحلال : فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه ، يعني : كما في هذه الآية. وقيل : إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرّم ، فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول : لا يحكم به ، بل هو للمأخوذ منه.

قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب ، فقال مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له ؛ فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغنيّ ، وهبة الخادم للمخدوم ، وهبة الرجل لأميره ، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر. قرأ الجمهور «ليربو» بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطابا للجماعة ؛ بمعنى : لتكونوا ذوي زيادات. وقرأ أبو مالك «لتربوها» ومعنى الآية : أنه لا يزكو عند الله ، ولا يثيب عليه ، لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه ، خالصا له (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي : وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة ، وإنما تقصدون بها ما عند الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الفراء : هو نحو قولهم : مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان ، أو عطاش ، أو ضعيفة. وقرأ أبيّ «المضعفون» بفتح العين اسم مفعول (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين ، وأنه الخالق الرازق المميت المحيي ، ثم قال على جهة الاستفهام : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) ومعلوم أنهم يقولون : ليس فيهم من يفعل شيئا من ذلك ، فتقوم عليهم الحجة ، ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : نزّهوه تنزيها ، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك ، وقوله : (مِنْ شُرَكائِكُمْ) : خبر مقدّم ، ومن : للتبعيض ، والمبتدأ : هو الموصول ، أعني : من يفعل ، ومن ذلكم : متعلق بمحذوف ؛

٢٦٢

لأنه حال من شيء المذكور بعده ، ومن في «من شيء» مزيدة للتوكيد ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ، ويجعلون لهم نصيبا من أموالهم (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بين سبحانه أن الشرك والمعاصي ؛ سبب لظهور الفساد في العالم.

واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل : هو القحط ، وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ، ونحو ذلك. وقال مجاهد وعكرمة : فساد البرّ : قتل ابن آدم أخاه ، يعني : قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر : الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا.

وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب؟ فإن الآية نزلت على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعريف في الفساد : يدلّ على الجنس ، فيعم كلّ فساد واقع في حيزيّ البرّ ، والبحر ، وقال السدّي : الفساد : الشرك ، وهو أعظم الفساد. ويمكن أن يقال : إن الشرك ؛ وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه. وقيل : الفساد كساد الأسعار ، وقلة المعاش ، وقيل : الفساد قطع السبل ، والظلم ، وقيل : غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه. والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه ؛ سواء كان راجعا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم ، واقترافهم السيئات وتقاطعهم ، وتظالمهم ، وتقاتلهم ، أو راجعا إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم ، كالقحط ، وكثرة الخوف ، والموتان ، ونقصان الزرائع ، ونقصان الثمار. والبرّ والبحر : هما المعروفان المشهوران ، وقيل البرّ : الفيافي ، والبحر : القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار : البحار. قال مجاهد : البرّ : ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر : ما كان على شط نهر ، والأوّل : أولى. ويكون معنى البرّ : مدن البرّ ، ومعنى البحر : مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها ، والباء في بما كسبت : للسببية ، وما : إما موصولة ؛ أو مصدرية (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة ، أي : ليذيقهم عقاب بعض عملهم ، أو جزاء بعض عملهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم فيه من المعاصي ، ويتوبون إلى الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين ، والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل ، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ، ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم ، فإن منازلهم خاوية ، وأراضيهم مقفرة موحشة ، كعاد وثمود ، ونحوهم من طوائف الكفار ، وجملة (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها ، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وأسوته فيه ، كأن المعنى : إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم ؛ فأقم وجهك يا محمّد إلخ. قال الزجاج : اجعل جهتك اتباع الدين القيم ، وهو الإسلام المستقيم «من قبل أن يأتي يوم» يعني : يوم القيامة «لا مردّ له» لا يقدر أحد على ردّه ، والمردّ : مصدر ردّ ، وقيل المعنى : أوضح الحق ، وبالغ في الأعذار ، و «من الله» يتعلق بيأتي ، أو بمحذوف يدل عليه المصدر ، أي : لا يردّه من الله أحد ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى : لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه ، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى (يَوْمَئِذٍ

٢٦٣

يَصَّدَّعُونَ) أصله : يتصدعون ، والتصدع : التفرق ، يقال : تصدع القوم : إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر :

وكنّا كندماني جذيمة حقبة

من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا

والمراد بتفرقهم هاهنا : إن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة ، وأهل النار يصيرون إلى النار (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي : جزاء كفره ، وهو النار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي : يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح ، والمهاد : الفراش ، وقد مهدت الفراش مهدا : إذا بسطته ووطأته ، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة ، كبناء المنازل في الجنة ، وفرشها. وقيل المعنى : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمّ فرشت فأنامت ، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص. وقال مجاهد «فلأنفسهم يمهدون» في القبر ، واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) متعلقة بيصدّعون ، أو يمهدون : أي : يتفرّقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه (مِنْ فَضْلِهِ) أو يمهدون لأنفسهم ، بالأعمال الصالحة ليجزيهم ، وقيل : يتعلق بمحذوف. قال ابن عطية : تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقدّم من قوله : من عمل ومن كفر. وجعل أبو حيان قسيم قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) محذوفا لدلالة قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) عليه ، لأنه كناية عن بغضه لهم ؛ الموجب لغضبه سبحانه ، وغضبه يستتبع عقوبته (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) أي : ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدّمه كما في قوله سبحانه : (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (١) قرأ الجمهور «الرياح» وقرأ الأعمش «الريح» بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله «مبشرات» واللام في قوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) متعلقة بيرسل ، أي : يرسل الرياح مبشرات ، ويرسلها ليذيقكم من رحمته ، يعني : الغيث والخصب ، وقيل : هو متعلق بمحذوف ، أي : وليذيقكم أرسلها ، وقيل : الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك ، فتتعلق اللام بيرسل (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) معطوف على ليذيقكم من رحمته ، أي : يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها ، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله بأمره (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم ، فتفردون الله بالعبادة ، وتستكثرون من الطاعة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) الآية قال : الربا ربوان : ربا لا بأس به ، وربا لا يصلح. فأما الربا الذي لا بأس به ، فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وأضعافها. وأخرج البيهقي عنه قال : هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر ، ونهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة فقال : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٢). وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضا (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) قال : هي الصدقة ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال : البر البرية التي ليس عندها نهر ، والبحر : ما كان من المدائن ، والقرى على شط نهر. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. وأخرج

__________________

(١). الأعراف : ٥٧.

(٢). المدثر : ٦.

٢٦٤

ابن المنذر عنه أيضا : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : من الذنوب. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا (يَصَّدَّعُونَ) قال : يتفرقون.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كما أرسلناك إلى قومك (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات ، والحجج النيرات ، فانتقمنا منهم ، أي : فكفروا (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي : فعلوا الإجرام ، وهي الآثام (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه ، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ، وفيه تشريف للمؤمنين ، ومزيد تكرمة لعباده الصالحين ، ووقف بعض القراء على حقا ، وجعل اسم كان ضميرا فيها وخبرها : حقا ، أي : وكان الانتقام حقا. قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والصحيح أن نصر المؤمنين : اسمها ، وحقا : خبرها ، وعلينا : متعلق بحقا ، أو بمحذوف هو صفة له (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وابن محيصن يرسل «الريح» بالإفراد. وقرأ الباقون «الرياح» قال أبو عمرو : كل ما كان بمعنى الرحمة : فهو جمع ، وما كان بمعنى العذاب : فهو موحد ، وهذه الجملة مستأنفة ، مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح ، فتكون على هذا جملة «ولقد أرسلنا» إلى قوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) معترضة (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي : تزعجه من حيث هو (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) تارة سائرا ، وتارة واقفا ، وتارة مطبقا ، وتارة غير مطبق ، وتارة إلى مسافة بعيدة ، وتارة إلى مسافة قريبة ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة ، وفي سورة النور

٢٦٥

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) تارة أخرى ، أو يجعله بعد بسطه ؛ قطعا متفرقة ، والكسف : جمع كسفة ، والكسفة : القطعة من السحاب. وقد تقدم تفسيره واختلاف القراءة فيه (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) الودق : المطر ، ومن خلاله : من وسطه. وقرأ أبو العالية ، والضحاك «يخرج من خلل» (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي : بالمطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي : بلادهم ، وأرضهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) إذا : هي الفجائية ، أي : فاجؤوا الاستبشار ؛ بمجيء المطر ، والاستبشار : الفرح (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي : من قبل أن ينزل عليهم المطر ، وإن : هي المخففة ، وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها ، أي : وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم ، وقوله : (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد ، قاله الأخفش ، وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس. وقال قطرب : إن الضمير في قبله راجع إلى المطر ، أي : وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل المعنى : من قبل تنزيل الغيث عليهم ؛ من قبل الزرع ، والمطر ، وقيل : من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب ، أي : من قبل رؤيته ، واختار هذا النحاس. وقيل : الضمير عائد إلى الكسف ، وقيل : إلى الإرسال ، وقيل : إلى الاستبشار. والراجح : الوجه الأول ، وما بعده من هذه الوجوه كلها ؛ ففي غاية التكلف ، والتعسف ، وخبر كان : (لَمُبْلِسِينَ) أي : آيسين أو بائسين. وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) الناشئة عن إنزال المطر من النبات ، والثمار ، والزرائع التي بها يكون الخصب ، ورخاء العيش ، أي : انظر نظر اعتبار ، واستبصار لتستدل بذلك على توحيد الله ، وتفرده بهذا الصنع العجيب. قرأ الجمهور «أثر» بالتوحيد. وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي آثار بالجمع (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه ، وقيل : ضمير يعود إلى الأثر ، وهذه الجملة في محل نصب بانظر ، أي : انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض. وقرأ الجحدري وأبو حيوة «تحيي» بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع ، والإشارة بقوله : (إِنَّ ذلِكَ) إلى الله سبحانه ، أي : إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي : لقادر على إحيائهم في الآخرة ، وبعثهم ، ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : عظيم القدرة كثيرها (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) الضمير في : فرأوه يرجع إلى الزرع ، والنبات الذي كان من أثر رحمة الله ، أي : فرأوه مصفرا من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره. وقيل : راجع إلى الريح ، وهو يجوز تذكيره ، وتأنيثه. وقيل : راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار. وقيل : راجع إلى السحاب ؛ لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ، والأول أولى. واللام هي : الموطئة ، وجواب القسم : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) وهو يسدّ مسد جواب الشرط ، والمعنى : ولئن أرسلنا ريحا حارة ، أو باردة ، فضربت زرعهم بالصّفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله ، ويجحدون نعمه ، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم ، وعدم صبرهم ، وضعف قلوبهم ، وليس كذا حال أهل الإيمان. ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إذا دعوتهم ، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ، ومعرفتهم للصواب (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) إذا دعوتهم إلى الحق ، ووعظتهم بمواعظ الله ، وذكرتهم الآخرة وما فيها ، وقوله : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)

٢٦٦

بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات ، وكونهم صمّ الآذان ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النمل. ثم وصفهم بالعمى فقال : (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي ، أو لفقدهم للبصائر (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي : ما تسمع إلا هؤلاء لكونهم أهل التفكر ، والتدبر ، واستدلال بالآثار على المؤثر (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون للحق ؛ متبعون له (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ذكر سبحانه استدلالا آخر على كمال قدرته ، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة ، ومعنى من ضعف : من نطفة. قال الواحدي : قال المفسرون : من نطفة ، والمعنى : من ذي ضعف. وقيل : المراد حال الطفولية والصغر (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وهي : قوّة الشباب ، فإنه إذ ذاك تستحكم القوّة ، وتشتدّ الخلقة إلى بلوغ النهاية (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) أي : عند الكبر والهرم (وَشَيْبَةً) الشيبة : هي تمام الضعف ، ونهاية الكبر. قرأ الجمهور «ضعف» بضم الضاد في هذه المواضع. وقرأ عاصم ، وحمزة بفتحها. وقرأ الجحدري بالفتح في الأوّلين ، والضم في الثالث. قال الفراء : الضم : لغة قريش ، والفتح : لغة تميم. قال الجوهري : الضعف : والضعف خلاف القوّة ، وقيل : هو بالفتح في الرأي ، وبالضم : في الجسم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) يعني : من جميع الأشياء ، ومن جملتها : القوّة والضعف في بني آدم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بتدبيره (الْقَدِيرُ) على خلق ما يريده ، وأجاز الكوفيون «من ضعف» بفتح الضاد ، والعين (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي : القيامة ، وسميت ساعة : لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي : يحلفون ما لبثوا في الدنيا ، أو في قبورهم غير ساعة ، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدّة لبثهم ، واستقرّ ذلك في أذهانهم ، فحلفوا عليه ، وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع. وقال ابن قتيبة : إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل ، وهذا هو الظاهر لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا ، فقد علم كلّ واحد منهم مقداره ، وإن أرادوا لبثهم في القبور ، فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) يقال أفك الرجل : إذا صرف عن الصدق ، فالمعنى : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون. وقيل : المراد يصرفون عن الحق ، وقيل : عن الخير ، والأوّل أولى ، وهو دليل على أن حلفهم كذب (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم ، فقيل : الملائكة ، وقيل : الأنبياء ، وقيل : علماء الأمم ، وقيل : مؤمنو هذه الأمة ، ولا مانع من الحمل على الجميع. ومعنى في كتاب الله ، في علمه وقضائه. قال الزجاج : في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ. قال الواحدي : والمفسرون حملوا هذا على التقديم ، والتأخير على تقدير : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله ، وكان ردّ الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد ، أو للمقابلة لليمين باليمين ، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن (فَهذا) الوقت الذي صاروا فيه هو (يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق ، بل كنتم تستعجلونه تكذيبا واستهزاء (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي : لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ، ولا يفيدهم علمهم بالقيامة ، وقيل : لما ردّ عليهم المؤمنون ؛ سألوا الرجوع إلى الدنيا ، واعتذروا فلم يعذروا. قرأ الجمهور «لا تنفع» بالفوقية ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالتحتية (وَلا

٢٦٧

هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يقال : استعتبته فأعتبني ، أي : استرضيته فأرضاني ، وذلك إذا كنت جانيا عليه ، وحقيقة أعتبته : أزلت عتبة ، والمعنى : أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة ، والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : من كلّ مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله ، وصدق رسله ، واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من آيات القرآن الناطقة بذلك ، أو لئن جئتهم بآية ؛ كالعصا ، واليد (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي : ما أنت يا محمّد وأصحابك إلا مبطلون أصحاب أباطيل ؛ تتبعون السحر ، وما هو مشاكل له في البطلان (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع ؛ الذي يهتدون به إلى الحق ، وينجون به من الباطل ، ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر ؛ معللا لذلك بحقية وعد الله ، وعدم الخلف فيه ، فقال : (فَاصْبِرْ) على ما تسمعه منهم من الأذى ، وتنظره من الأفعال الكفرية ، فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم ، وإعلاء حجتك ، وإظهار دعوتك ، ووعده حق لا خلف فيه (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي : لا يحملنك على الخفة ، ويستفزنك عن دينك ، وما أنت عليه الذين لا يوقنون بالله ، ولا يصدقون أنبياءه ، ولا يؤمنون بكتبه ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقال استخف فلان فلانا : أي : استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ. قرأ الجمهور «يستخفنك» بالخاء المعجمة والفاء ، وقرأ يعقوب ، وابن أبي إسحاق : بحاء مهملة وقاف من استحقاق ، والنهي في الآية من باب : لا أرينك هاهنا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقّا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ، ثم تلا (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهو من طريق شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء عن أبي الدرداء. وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قال : قطعا بعضها فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) قال : المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) قال : من بينه. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل بدر ، والإسناد ضعيف. والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على ردّ رواية من روى من الصحابة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى أهل قليب بدر ، وهو من الاستدلال بالعام على ردّ الخاص فقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل له : إنك تنادي أجسادا بالية «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وفي مسلم من حديث أنس ؛ أنّ عمر ابن الخطاب لما سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناديهم ، فقال : يا رسول الله! تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون؟ يقول الله إنّك لا تسمع الموتى ، فقال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم ، ولكنّهم لا يطيقون أن يجيبوا».

* * *

٢٦٨

سورة لقمان

وهي مكية إلا ثلاث آيات ، وهي قوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلى الآيات الثلاث. قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه. وأخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم يستثن ، وحكى القرطبي عن قتادة أنها مكية إلا آيتين. وأخرج النسائي ، وابن ماجة عن البراء قال : كنا نصلي خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر نسمع منه الآية من سورة لقمان والذاريات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

قوله : (الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قد تقدّم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ، ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده ، وبيان مرجع الإشارة أيضا ، و (الْحَكِيمِ) إما أن يكون بمعنى مفعل ، أو بمعنى فاعل ، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله ، و (هُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحال على قراءة الجمهور. قال الزجاج : المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ، وقرأ حمزة «ورحمة» بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو هدى ورحمة ، ويجوز أن يكونا خبر تلك ، والمحسن : العامل للحسنات ، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الإحسان : فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ثم بين عمل المحسنين فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) والموصول : في محل جر على الوصف للمحسنين ، أو في محل رفع ، أو نصب على المدح ، أو القطع ، وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدة العبادات (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة ، والمعنى هنا : أن أولئك المتصفين بالإحسان ، وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات ؛ هم على طريقة الهدى ، وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري

٢٦٩

الدارين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ومن إما موصولة ، أو موصوفة ، ولهو الحديث كلّ ما يلهي عن الخير من الغناء ، والملاهي ، والأحاديث المكذوبة ، وكلّ ما هو منكر ، والإضافة بيانية. وقيل : المراد شراء القينات المغنيات ، والمغنين ، فيكون التقدير : ومن يشتري أهل لهو الحديث. قال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء ، وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك. قال القرطبي : إن أولى ما قيل في هذا الباب : هو تفسير لهو الحديث بالغناء ، قال : وهو قول الصحابة والتابعين ، واللام في (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) للتعليل. قرأ الجمهور بضم الياء من : «ليضل» أي : ليضل غيره عن طريق الهدى ، ومنهج الحق ، وإذا أضل غيره ؛ فقد ضل في نفسه. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، وحميد ، وورش ، وابن أبي إسحاق بفتح الياء ، أي : ليضل هو في نفسه. قال الزجاج : من قرأ بضم الياء ، فمعناه ليضل غيره ، فإذا أضل غيره فقد ضل هو ، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه ليصير أمره إلى الضلال ، وهو إن لم يكن يشتري الضلالة ، فإنه يصير أمره إلى ذلك ، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي. قال الطبري : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد ، وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حرام ؛ لا من ظاهرها ، ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟

قلت : قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء ، وما استدل به المحللون له ، والمحرمون له ، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها ، وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها ، وسميتها «إبطال دعوى الإجماع ، على تحريم مطلق السماع» فمن أحبّ تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها.

ومحل قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : النصب على الحال ، أي : حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه ، أو بحال ما ينفع من التجارة ، وما يضر ، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) قرأ الجمهور برفع «يتخذها» عطفا على يشتري فهو من جملة الصلة ، وقيل : الرفع على الاستئناف ، والضمير المنصوب في يتخذها : يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها ، والأول أولى. وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش «ويتخذها» بالنصب : عطفا على يضل ، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل ، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم ، والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله ، واتخاذ السبيل هزوا ، أي : مهزوءا به ، والسبيل : يذكر ويؤنث ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها ، والعذاب المهين : هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهينا (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي : وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزئ (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي : أعرض عنها حال كونه مبالغا في التكبر ، وجملة (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) في محل نصب على الحال ، أي : كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها ؛ مع أنه قد سمعها ، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع ، وجملة (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) حال ثانية ، أو بدل من التي قبلها ، أو حال من ضمير يسمعها ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والوقر : الثقل ،

٢٧٠

وقد تقدم بيانه ، وفيه مبالغة إعراض ذلك المعرض (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم ، ثم لما بيّن سبحانه حال من يعرض عن الآيات ؛ بين حال من يقبل عليها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : آمنوا بالله وبآياته ، ولم يعرضوا عنها بل قبلوها ، وعملوا بها (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أي : نعيم الجنات فعكسه للمبالغة ، جعل لهم جنات النعيم ، كما جعل للفريق الأول : العذاب المهين ، وانتصاب (خالِدِينَ فِيها) على الحال ، وقرأ زيد بن علي «خالدون فيها» على أنه خبر ثان لأن (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه ، أي : وعد الله وعدا ، والثاني : مؤكد لغيره ، وهو مضمون الجملة الأولى ، وتقديره حق ذلك حقا. والمعنى أن وعده كائن لا محالة ، ولا خلف فيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه غالب (الْحَكِيمُ) في كلّ أفعاله ، وأقواله. ثم بين سبحانه عزّته ، وحكمته بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) العمد : جمع عماد. وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد ، وترونها : في محل جرّ صفة لعمد ، فيمكن أن تكون ثمّ عمد ، ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال ، أي : ولا عمد ألبتة. قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا ، أي : ولا عمد ثم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) في محل نصب على العلة ، أي : كراهة أن تميد بكم ، والكوفيون يقدّرونه لئلا تميد ، والمعنى : أنه خلقها وجعلها مستقرّة ثابتة لا تتحرّك ؛ بجبال جعلها عليها ؛ وأرساها على ظهرها (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي : من كلّ نوع من أنواع الدوابّ ، وقد تقدّم بيان معنى البثّ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي : أنزلنا من السماء مطرا فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كلّ زوج ، أي : من كلّ صنف ، ووصفه بكونه كريما لحسن لونه ، وكثرة منافعه. وقيل : إن المراد بذلك الناس ، فالكريم منهم : من يصير إلى الجنة ، واللئيم : من يصير إلى النار. قاله : الشعبي وغيره ، والأوّل أولى. والإشارة بقوله : (هذا) إلى ما ذكر في خلق السموات والأرض ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (خَلْقُ اللهِ) أي : مخلوقه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) من آلهتكم التي تعبدونها ، والاستفهام : للتقريع ، والتوبيخ ، والمعنى : فأروني أيّ شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه؟ وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت. ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر ؛ إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر ، فقال : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ) فقرّر ظلمهم أوّلا ، وضلالهم ثانيا ، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور ، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ، ولا يهتدي إلى الحق.

وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) يعني : باطل الحديث. وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم. وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ، ويكذب بالقرآن. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه في الآية قال : باطل الحديث. وهو الغناء ونحوه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : قراءة القرآن ، وذكر الله ، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : هو الغناء ، وأشباهه. وأخرج ابن

٢٧١

جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : الجواري الضاربات. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي الصهباء قال : سألت عبد الله بن مسعود عن قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : هو والله الغناء. ولفظ ابن جرير : هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو ، يردّدها ثلاث مرات. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ، ولا خير في تجارة فيهنّ ، وثمنهنّ حرام» في مثل هذا أنزلت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية ، وفي إسناده عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ، ثم قرأ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)». وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في السنن عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل» وروياه عنه موقوفا ، وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك». وفي الباب أحاديث في كلّ حديث منها مقال. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : الرجل يشتري جارية تغنيه ليلا ونهارا. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر «أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) : إنّما ذلك شراء الرّجل اللعب والباطل». وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله ابن

عمر في طريق ، فسمع زمّارة فوضع إصبعيه في أذنيه ، ثمّ عدل عن الطريق ، فلم يزل يقول يا نافع أتسمع؟ قلت : لا. فأخرج إصبعيه من أذنيه وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ، ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه ، وشقّ جيوب ، ورنّة شيطان».

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ

٢٧٢

لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

اختلف في لقمان : هل هو عجمي ، أم عربي؟ مشتق من اللقم ، فمن قال : إنه عجمي ؛ منعه للتعريف والعجمة ، ومن قال : إنه عربي ؛ منعه للتعريف ، ولزيادة الألف والنون. واختلفوا أيضا : هو نبيّ ، أم رجل صالح؟ فذهب أكثر أهل العلم : إلى أنه ليس بنبيّ. وحكى الواحدي عن عكرمة ، والسدي والشعبي أنه كان نبيا ، والأوّل أرجح لما سيأتي في آخر البحث. وقيل : لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط ، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي ، وهو ضعيف جدا. وهو لقمان بن باعور ابن ناحور بن تارخ ، وهو آزر أبو إبراهيم ، وقيل : هو لقمان بن عنقا بن مرون ، وكان نوبيا من أهل أيلة ، ذكره السهيلي. قال وهب : هو ابن أخت أيوب. وقال مقاتل : هو ابن خالته ، عاش ألف سنة ، وأخذ عنه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود قطع الفتوى ، فقيل له ، فقال : ألا أكتفي إذ كفيت. قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل ، والحكمة التي آتاه الله : هي الفقه ، والعقل ، والإصابة في القول ، وفسر الحكمة ؛ من قال بنبوّته : بالنبوّة (أَنِ اشْكُرْ لِي) أن هي المفسرة ، لأن في إيتاء الحكمة : معنى القول. وقيل : التقدير قلنا له : أن اشكر لي. وقال الزجاج : المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن اشكر لي. وقيل بأن اشكر لي ، فشكر ، فكان حكيما بشكره ، والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة ، وطاعته فيما أمر به. ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر ، فقال : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن نفع ذلك راجع إليه ، وفائدته حاصلة له ، إذ به تستبقى النعمة ، وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : من جعل كفر النعم مكان شكرها ، فإن الله غنيّ عن شكره ؛ غير محتاج إليه ؛ حميد مستحق للحمد من خلقه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها ، ولا يحصر عددها ، وإن لم يحمده أحد من خلقه ، فإن كلّ موجود ناطق بحمده بلسان الحال. قال يحيى بن سلام : غنيّ عن خلقه ؛ حميد في فعله (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) قال السهيلي : اسم ابنه ثاران في قول ابن جرير والقتبي وقال الكلبي : مشكم. وقال النقاش : أنعم. وقيل : ماتان. قال القشيري : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما ، وهذه الجملة معطوفة على ما تقدّم ، والتقدير : آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه ، وحين جعلناه واعظا لغيره. قال الزجاج : إذ في موضع نصب بآتينا. والمعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال : قال النحاس : وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا ، وهي تمنع من ذلك ، ومعنى : (وَهُوَ يَعِظُهُ) يخاطبه بالمواعظ التي ترغّبه في التوحيد وتصدّه عن الشّرك (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قرأ الجمهور بكسر الياء. وقرأ ابن كثير بإسكانها. وقرأ حفص بفتحها ، ونهيه عن الشرك يدلّ على أنه كان كافرا كما تقدّم ، وجملة : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) تعليل لما قبلها ، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك ؛ لأنه أهمّ من غيره.

وقد اختلف في هذه الجملة ، فقيل : هي من كلام لقمان ، وقيل : هي من كلام الله ، فتكون منقطعة عما قبلها. ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أنها لما نزلت : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (١) شق ذلك

__________________

(١). الأنعام : ٨٢.

٢٧٣

على الصحابة ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه. فأنزل الله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فطابت أنفسهم. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) هذه الوصية بالوالدين ، وما بعدها إلى قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) اعتراض بين كلام لقمان ؛ لقصد التأكيد لما فيها من النهي عن الشرك بالله ، وتفسير التوصية هي قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) وما بينهما : اعتراض بين المفسر والمفسر ، وفي جعل الشكر لهما مقترنا بالشكر لله : دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد ، وأكبرها ، وأشدّها وجوبا ، ومعنى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أنها حملته في بطنها ، وهي تزداد كلّ يوم ضعفا على ضعف ، وقيل المعنى : إن المرأة ضعيفة الخلقة ، ثم يضعفها الحمل ، وانتصاب وهنا : على المصدر. وقال النحاس : على أنه مفعول ثان بإسقاط الحرف ، أي : حملته بضعف على ضعف ، وقال الزجاج : المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف ، مرّة بعد مرة ، وقيل انتصابه على الحال من أمه و «على وهن» : صفة لوهنا ، أي : وهنا كائنا على وهن. قرأ الجمهور بسكون الهاء في الموضعين. وقرأ عيسى الثقفي وهي رواية عن أبي عمرو بفتحهما وهما : لغتان. قال قعنب :

هل للعواذل من ناه فيزجرها

إنّ العواذل فيها الأين والوهن

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) الفصال : الفطام ، وهو : أن يفصل الولد عن الأم ، وهو : مبتدأ ، وخبره : الظرف. وقرأ الجحدري ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب «وفصله» وهما لغتان ، يقال انفصل عن كذا : أي : تميز ، وبه سمي الفصيل. وقد قدّمنا أن أمه في قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هي المفسرة. وقال الزجاج : هي مصدرية. والمعنى : بأن اشكر لي. قال النحاس : وأجود منه أن تكون أن مفسرة ، وجملة : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) تعليل لوجوب امتثال الأمر ، أي : الرجوع إليّ لا إلى غيري (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : ما لا علم لك بشركته (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك. وقد قدّمنا تفسير الآية ، وسبب نزولها في سورة العنكبوت ، وانتصاب (مَعْرُوفاً) : على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : وصاحبهما صحابا معروفا ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض ، والتقدير بمعروف (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي : اتبع سبيل من رجع إليّ من عبادي الصالحين بالتوبة والإخلاص (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) جميعا لا إلى غيري (فَأُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم عند رجوعكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشرّ ، فأجازي كلّ عامل بعمله. وقد قيل : إن هذا السياق من قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلى هنا : من كلام لقمان ، فلا يكون اعتراضا ، وفيه بعد. ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان ؛ في وعظه لابنه فقال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الضمير في إنها : عائد إلى الخطيئة ؛ لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله؟ فقال إنها : أي الخطيئة ، والجملة الشرطية : مفسرة للضمير ، أي : إن الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل. قال الزجاج : التقدير إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل ، وعبر بالخردلة لأنها أصغر الحبوب ، ولا يدرك بالحسّ ثقلها ، ولا ترجح ميزانا. وقيل : إن الضمير في «إنها» راجع إلى الخصلة من الإساءة ، والإحسان ، أي : إن الخصلة من الإساءة والإحسان ؛ إن تك مثقال حبة إلخ ، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها فقال : (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) فإن كونها في الصخرة قد صارت

٢٧٤

في أخفى مكان وأحرزه (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي : أو حيث كانت من بقاع السموات أو من بقاع الأرض (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي : يحضرها ، ويحاسب فاعلها عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) لا تخفى عليه خافية. بل يصل علمه إلى كلّ خفي (خَبِيرٌ) بكل شيء لا يغيب عنه شيء. قرأ الجمهور «إن تك» بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة ؛ أو المسألة ؛ أو الخصلة ؛ أو القصة. وقرءوا «مثقال» بالنصب على أنه خبر كان. واسمها هو أحد تلك المقدرات. وقرأ نافع برفع مثقال على أنه اسم كان ، وهي تامة. وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث. وقرأ الجمهور «فتكن» بضم الكاف. وقرأ الجحدري بكسرها وتشديد النون ، من الكنّ الذي هو الشيء المغطى. قال السدّي : هذه الصخرة هي صخرة ليست في السموات ولا في الأرض. ثم حكى سبحانه عن لقمان أنه أمر ابنه بإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، والصبر على المصيبة. ووجه تخصيص هذه الطاعات : أنها أمهات العبادات ، وعماد الخير كله. والإشارة بقوله : (إِنَّ ذلِكَ) إلى الطاعات المذكورة ، وخبر إنّ : قوله : (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : مما جعله الله عزيمة ، وأوجبه على عباده. وقيل المعنى : من حق الأمور التي أمر الله بها. والعزم : يجوز أن يكون بمعنى المعزوم ، أي : من معزومات الأمور ، أو بمعنى العازم كقوله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (١) قال المبرد : إن العين تبدل حاء. فيقال عزم وحزم. قال ابن جرير : ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق ، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، وصوّب هذا القرطبي (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قرأ الجمهور «تصعر» وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم «تصاعر» ، والمعنى متقارب ، والصعر : الميل ، يقال صعر خدّه وصاعر خدّه : إذا أمال وجهه ، وأعرض تكبرا ، والمعنى : لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم. ومنه قول الشاعر :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

مشينا إليه بالسّيوف نعاتبه

ورواه ابن جرير هكذا :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّما (٢)

قال الهروي (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي : لا تعرض عنهم تكبرا ، يقال أصاب البعير صعر : إذا أصابه داء يلوي عنقه ، وقيل المعنى : ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك ؛ كأنك تحتقره. وقال ابن خويز منداد : كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ، ولعله فهم من التصعير التذلل (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي : خيلاء وفرحا ، والمعنى : النهي عن التكبر ، والتجبر ، والمختال يمرح في مشية ، وهو مصدر في موضع الحال ، وقد تقدّم تحقيقه ، جملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) : تعليل للنهي ؛ لأن الاختيال : هو المرح ، والفخور : هو الذي يفتخر على الناس بماله من المال ، أو الشرف ، أو القوة ، أو غير ذلك ، وليس منه : التحدّث بنعم الله ، فإن الله يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٣) (وَاقْصِدْ فِي

__________________

(١). محمّد : ٢١.

(٢). قال ابن عطية : فتقوّم ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة ، والمعنى : فتقوّم أنت. القرطبي (١٤ / ٦٩)

(٣). الضحى : ١١.

٢٧٥

مَشْيِكَ) أي : توسط فيه ، والقصد : ما بين الإسراع والبطء. يقال قصد فلان في مشيته إذا مشى مستويا لا يدبّ دبيب المتماوتين ، ولا يثب وثوب الشياطين. وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا مشى أسرع ، فلا بدّ أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحدّ في السرعة. وقال مقاتل : معناه لا تختل في مشيتك. وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة. كقوله : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (١) (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي : أنقص منه ، واخفضه ، ولا تتكلف رفعه ، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع. وجملة : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) تعليل للأمر بالغض من الصوت ، أي : أوحشها ، وأقبحها. قال قتادة : أقبح الأصوات صوت الحمير ؛ أوّله زفير ، وآخره شهيق قال المبرد : تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود ، وإنه داخل في باب الصوت المنكر ، واللام في لصوت : للتأكيد ، ووحد الصوت مع كونه مضافا إلى الجمع : لأنه مصدر ، وهو يدلّ على الكثرة ، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : كان حبشيّا». وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي الدنيا في كتاب المملوكين ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا. وأخرج الطبراني ، وابن حبان في الضعفاء ، وابن عساكر عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّخذوا السّودان ، فإنّ ثلاثة منهم سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم ، والنّجاشيّ ، وبلال المؤذن». قال الطبراني : أراد الحبشة.

وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) يعني : العقل ، والفهم ، والفطنة في غير نبوّة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه كان نبيا ، وقد قدّمنا أن الراوي عنه جابر الجعفي ، وهو ضعيف جدا. وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لقمان الحكيم كان يقول : إنّ الله إذا استودع شيئا حفظه» وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة ، والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان ، وحكمه ، ولم يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك شيء ، ولا ثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله. وقد حكى سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الوضع ، وفيه كفاية ، وما عدا ذلك مما لم يصح ؛ فليس في ذكره إلا شغلة للحيز ، وقطيعة للوقت ، ولم يكن نبيا حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا ، ولا صحّ إسناد ما روي عنه من الكلمات ؛ حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلمات الحكمة التي هي : ضالة المؤمن. وأخرج أبو يعلى ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت فيّ هذه الآية (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) ، وقد تقدّم ذكر هذا. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) قال : شدّة بعد شدة ، وخلقا بعد خلق : وأخرج الطبراني ، وابن عديّ وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري

__________________

(١). الفرقان : ٦٣.

٢٧٦

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) فقال : ليّ الشدق. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قال : لا تتكبر فتحتقر عباد الله ، وتعرض عنهم إذا كلموك. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الذي إذا سلم عليه ؛ لوى عنقه كالمستكبر.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

لما فرغ سبحانه من قصة لقمان ، رجع إلى توبيخ المشركين ، وتبكيتهم ، وإقامة الحجج عليهم ، فقال : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قال الزجاج : معنى تسخيرها للآدميين : الانتفاع بها ، انتهى ، فمن مخلوقات السموات المسخرة لبني آدم : أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر ، والنجوم ، ونحو ذلك. ومن جملة ذلك الملائكة ، فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه ، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم : الأحجار ، والتراب ، والزرع ، والشجر ، والثمر ، والحيوانات التي ينتفعون بها ، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم ، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فالمراد بالتسخير : جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له سواء كان منقادا له وداخلا تحت تصرّفه أم لا (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي : أتمّ وأكمل عليكم نعمه ، يقال : سبغت النعمة إذا تمت وكملت. قرأ الجمهور «أسبغ» بالسين ، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة «أصبغ» بالصاد مكان السين. والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص ، وقرأ الباقون «نعمة» بسكون العين على الإفراد ، والتنوين : اسم جنس يراد به الجمع ، ويدلّ به على الكثرة ، كقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) وهي قراءة ابن عباس. والمراد بالنعم الظاهرة : ما يدرك بالعقل ، أو الحسّ ، ويعرفه من يتعرفه ، وبالباطنة : ما لا يدرك للناس ، ويخفى عليهم. وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة : المعرفة ، والعقل. وقيل : الظاهرة : ما يرى بالأبصار من المال ، والجاه ، والجمال ،

__________________

(١). إبراهيم : ٣٤.

٢٧٧

وفعل الطاعات ، والباطنة : ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله ، وحسن اليقين ، وما يدفعه الله عن العبد من الآفات. وقيل : الظاهرة : نعم الدنيا ، والباطنة : نعم الآخرة. وقيل : الظاهرة : الإسلام والجمال ، والباطنة : ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : في شأن الله سبحانه في توحيده ، وصفاته مكابرة ، وعنادا بعد ظهور الحق له ، وقيام الحجة عليه ، ولهذا قال : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من عقل ، ولا نقل (وَلا هُدىً) يهتدي به إلى طريق الصواب (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أنزله الله سبحانه ، بل مجرّد تعنت ، ومحض عناد ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي : إذا قيل لهؤلاء المجادلين ، والجمع : باعتبار معنى من ، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب ؛ تمسكوا بمجرد التقليد البحت ، و (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام ، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون بها في دينهم ، ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد ، والتبكيت (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي : يدعو آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم ، أي : يتبعونهم في الشرك ، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ، ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير ، لأنه زين لهم أتباع آبائهم ، والتدين بدينهم ، ويجوز أن يراد أن يدعو جميع التابعين ، والمتبوعين إلى العذاب ، فدعاؤه للمتبوعين : بتزيينه لهم الشرك ، ودعاؤه للتابعين : بتزيينه لهم دين آبائهم ، وجواب لو : محذوف ، أي : يدعوهم ، فيتبعونهم ، ومحل الجملة : النصب على الحال. وما أقبح التقليد ، وأكثر ضرره على صاحبه ، وأوخم عاقبته ، وأشأك عائدته على من وقع فيه. فإن الداعي إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق ، فتأبى ذلك وتهافت في نار الحريق وعذاب السعير (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي : يفوّض إليه أمره ، ويخلص له عبادته ، ويقبل عليه بكليته (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في أعماله ، لأن العبادة من غير إحسان لها ، ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها ؛ لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين : وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به ، وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله ؛ بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل ، فتمسك بأوثق عرى حبل متدلّ منه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : مصيرها إليه ؛ لا إلى غيره. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن يسار «ومن يسلّم» بالتشديد قال النحاس : والتخفيف في هذا أعرف كما قال عزوجل : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) (١) (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي : لا تحزن لذلك ، فإن كفره لا يضرك ، بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين ، ثم توعدهم بقوله : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي : نخبرهم بقبائح أعمالهم ، ونجازيهم عليها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما تسرّه صدورهم ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. فالسرّ عنده كالعلانية (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) أي : نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. فإن النعيم الزائل : هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب

__________________

(١). آل عمران : ٢٠.

٢٧٨

قليلا : على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : تمتيعا قليلا (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : نلجئهم إلى عذاب النار. فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه ، وأصيب به ، فلهذا استعير له الغلظ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : يعترفون بالله خالق ذلك ؛ لوضوح الأمر فيه عندهم. وهذا اعتراف منهم مما يدل على التوحيد ، وبطلان الشرك ، ولهذا قال : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : قل يا محمّد : الحمد لله على اعترافكم ، فكيف تعبدون غيره ، وتجعلونه شريكا له؟ أو المعنى : فقل الحمد لله على ما هدانا له من دينه ولا حمد لغيره ثم أضرب عن ذلك فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا ينظرون ، ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء ؛ هو الذي تجب له العبادة دون غيره (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا ، وخلقا فلا يستحق العبادة غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن غيره (الْحَمِيدُ) أي : المستحق للحمد ، أو المحمود من عباده بلسان المقال ، أو بلسان الحال. ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السموات والأرض ؛ أتبعه بما يدلّ على أنه له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد ، ولا يحصر بحدّ ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي : لو أن جميع ما في الأرض من الشجر : أقلام ، ووحد الشجرة لما تقرّر في علم المعاني ؛ أن استغراق المفرد أشمل ، فكأنه قال : كل شجرة أقلام حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاما ، وجمع الأقلام لقصد التكثير ، أي : لو أن يعدّ كلّ شجرة من الشجر أقلاما ، قال أبو حيان : وهو من وقوع المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (١) ، ثم قال سبحانه : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أي : يمدّه من بعد نفاذه سبعة أبحر. قرأ الجمهور «والبحر» بالرفع : على أنه مبتدأ ، ويمدّه : خبره ، والجملة في محل الحال ، أي : والحال أن البحر المحيط مع سعته يمدّه السبعة الأبحر مدّا لا ينقطع ، كذا قال سيبويه. وقال المبرد : إن البحر مرتفع بفعل مقدّر ، تقديره : ولو ثبت البحر حال كونه تمدّه من بعده سبعة أبحر ، وقيل : هو مرتفع بالعطف على أن ؛ وما في حيزها. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق ، والبحر بالنصب عطفا على اسم أن ، أو بفعل مضمر يفسره يمدّه. وقرأ ابن هرمز والحسن «يمدّه» بضم حرف المضارعة ، وكسر الميم ، ومن أمدّ. وقرأ جعفر بن محمّد والبحر «مداده» وجواب لو (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي : كلماته التي هي : عبارة عن معلوماته. قال أبو عليّ الفارسي : المراد بالكلمات ؛ والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود ، ووافقه القفال فقال : المعنى أن الأشجار لو كانت أقلاما ، والبحار مدادا ، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ، ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري : ردّ القفال معنى الكلمات إلى المقدورات ، وحمل الآية على الكلام القديم : أولى. قال النحاس : قد تبين أن الكلمات هاهنا : يراد بها العلم ، وحقائق الأشياء ، لأنه جلّ وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ؛ ما هو خالق في السموات والأرض من شيء ، وعلم ما فيه من مثاقيل الذرّ ، وعلم الأجناس كلها ، وما فيها من شعرة ، وعضو وما في الشجرة من ورقة ، وما فيها من ضروب الخلق. وقيل : إن قريشا قالت : ما أكثر كلام محمّد ، فنزلت ، قاله السدّي ، وقيل : إنها لما نزلت : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٢)

__________________

(١). البقرة : ١٠٦.

(٢). الإسراء : ٨٥.

٢٧٩

في اليهود ، قالوا كيف وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه ، فنزلت. قال أبو عبيدة : المراد بالبحر هنا : الماء العذب الذي ينبت الأقلام ، وأما الماء المالح ، فلا ينبت الأقلام. قلت : ما أسقط هذا الكلام ، وأقلّ جدواه (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : غالب لا يعجزه شيء ، ولا يخرج عن حكمته ، وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال النحاس : كذا قدّره النحويون ، كخلق نفس مثل قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) قال الزجاج : أي : قدرة الله على بعث الخلق كلهم وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لكل ما يسمع (بَصِيرٌ) بكل ما يبصر. وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال : سألت ابن عباس عن قوله : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) الآية ، قال : هذه من كنوز علمي ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أما الظاهرة : فما سوّى من خلقك ، وأمّا الباطنة : فما ستر من عورتك ، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم». وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والديلمي ، وابن النجار عنه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) فقال : أما الظاهرة : فالإسلام وما سوّى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه ، وأمّا الباطنة : فما ستر من مساوئ عملك». وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : النعمة الظاهرة : الإسلام ، والنعمة الباطنة : كل ما يستر عليكم من الذنوب ، والعيوب ، والحدود. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال في تفسير الآية هي : لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي إسحاق ، وابن جرير ، عنه أيضا في قوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) الآية «أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة : يا محمّد! أرأيت قولك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) إيّانا تريد أم قومك؟ فقال كلّا ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء؟ فقال : إنّها في علم الله قليل ، وأنزل الله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) الآية. وأخرجه ابن مردويه عنه بأطول منه. وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن مسعود نحوه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

__________________

(١). يوسف : ٨٢.

(٢). الإسراء : ٨٥.

٢٨٠