فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة ، كما قال سبحانه : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١). وقرأ الجمهور (بِقادِرٍ) بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج ، وسلام بن المنذر ، وأبو يعقوب الحضرمي «يقدر» بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله : (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي : بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومالك بن دينار «وهو الخالق». ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته ، وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له : أحدث فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل وفي البقرة. قرأ الجمهور : (فَيَكُونُ) بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفا على يقول. ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة فقال : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال : فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة : ملكوت كلّ شيء : مفاتح كلّ شيء. قرأ الجمهور (مَلَكُوتُ) وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي «ملكة» بزنة شجرة ، وقرأ الجمهور (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفوقية على الخطاب مبنيا للمفعول. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنيا للمفعول أيضا. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل ، أي : ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في معجمه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال : يا محمّد أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ قال : «نعم ، يبعث الله هذا ، ثمّ يميتك ثمّ يحييك ثمّ يدخلك نار جهنم» فنزلت الآيات من آخر يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخر السورة. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه قال : جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير : وهذا منكر ، لأن السورة مكية وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : جاء أبيّ بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدّم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : نزلت في أبي جهل وذكر نحو ما تقدّم.

* * *

__________________

(١). غافر : ٥٧.

٤٤١

سورة الصّافّات

وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع ، وأخرج ابن الضريس ، وابن النحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت بمكة. وأخرج النسائي ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمّنا بالصّافات. قال ابن كثير : تفرّد به النسائي. وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن ، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني ، عن الضّحّاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس والصّافات يوم الجمعة ثمّ سأل الله أعطاه سؤاله». وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، والسّلفي في الطيوريات ، عن ابن عباس : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا ممّا أنزل الله قرأ (الصَّافَّاتِ صَفًّا) حتى بلغ (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ)» الحديث.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))

قوله : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وقيل : حمزة فقط بإدغام التاء من الصافات في صاد صفا ، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجرا ، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكرا ، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. قال النحاس : وهي بعيده في العربية من ثلاث جهات : الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد ، ولا من مخرج الزاي ، ولا من مخرج الدال ، ولا من أخواتهن. الجهة الثانية : أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. الثالثة : أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين ، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة. وقال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طرف اللسان. وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك ، والواو للقسم ، والمقسم به الملائكة : الصافات ، والزاجرات ، والتاليات والمراد بالصافات : التي تصفّ في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة. وقيل : إنها تصفّ

٤٤٢

أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وقال الحسن : (صَفًّا) كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل : المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) (١). والأوّل أولى ، والصف : ترتيب الجمع على خطّ كالصفّ في الصلاة ، وقيل : الصافات جماعات الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد ، ذكره القشيري. والمراد ب (فَالزَّاجِراتِ) الفاعلات للزجر من الملائكة ، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدّي ، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال قتادة : المراد بالزاجرات : الزواجر من القرآن ، وهي كلّ ما ينهى ، ويزجر عن القبيح ، والأوّل أولى. وانتصاب صفّا. و (زَجْراً) على المصدرية لتأكيد ما قبلها. وقيل : المراد بالزاجرات العلماء ، لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي. والزجر في الأصل : الدفع بقوّة ، وهو هنا : قوّة التصويت ، ومنه قول الشاعر :

زجر أبي عروة السّباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

ومنه زجرت الإبل والغنم : إذا أفزعتها بصوتك ، والمراد ب (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدّي. وقيل : المراد جبريل وحده ، فذكر بلفظ الجمع تعظيما له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة. وقال قتادة : المراد كلّ من تلا ذكر الله وكتبه. وقيل : المراد آيات القرآن ، ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوّة كما في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢) وقيل : لأن بعضها يتلو بعضها ويتبعه. وذكر الماوردي أن التاليات : هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم ، وانتصاب ذكرا على أنه مفعول به ، ويجوز أن يكون مصدرا كما قبله من قوله (صَفًّا) و (زَجْراً). قيل : وهذه الفاء في قوله : (فَالزَّاجِراتِ) ، (فَالتَّالِياتِ) إما لترتب الصفات أنفسها في الوجود أو لترتب موصوفاتها في الفضل ، وفي الكلّ نظر ، وقوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب القسم ، أي : أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك. وأجاز الكسائي فتح إن الواقعة في جواب القسم (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون بدلا من (لَواحِدٌ) وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. قال ابن الأنباري : الوقف على لواحد وقف حسن ، ثم يبتدئ ربّ السموات والأرض على معنى هو ربّ السموات والأرض. قال النحاس : ويجوز أن يكون بدلا من لواحد. والمعنى في الآية : أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ، وأنه ربّ ذلك كله ، أي : خالقه ومالكه ، والمراد بما بينهما : ما بين السموات والأرض من المخلوقات. والمراد ب (الْمَشارِقِ) مشارق الشمس. قيل : إن الله سبحانه خلق للشمس كلّ يوم مشرقا ومغربا بعدد أيام السنة ، تطلع كلّ يوم من واحد منها وتغرب من واحد ، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البرّ. وأما قوله في سورة الرحمن (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (٣) فالمراد بالمشرقين : أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في الأيام القصار ، وكذلك في المغربين. وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد به الجهة التي تشرق منها الشمس ، والجهة التي تغرب منها ، ولعله قد تقدّم لنا في هذا كلام أوسع من هذا (إِنَّا

__________________

(١). الملك : ١٩.

(٢). النمل : ٣٦.

(٣). الرحمن : ١٧.

٤٤٣

زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض ، من الدنوّ وهو القرب ، فهي أقرب السموات إلى الأرض. قرأ الجمهور (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بإضافة زينة إلى الكواكب. والمعنى : زيناها بتزيين الكواكب : أي بحسنها. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وحمزة بتنوين «زينة» وخفض (الْكَواكِبِ) على أنها بدل من الزينة على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر ، والتقدير بعد طرح المبدل منه : إنا زينا السماء بالكواكب ، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة ، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين (بِزِينَةٍ) ونصب «الكواكب» على أن الزينة مصدر وفاعله محذوف ، والتقدير : بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها ، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني ، أو بدلا من السماء بدل اشتمال ، وانتصاب حفظا على المصدرية بإضمار فعل : أي حفظناها حفظا ، أو على أنه مفعول لأجله : أي زيناها بالكواكب للحفظ ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي : متمرد خارج عن الطاعة يرمي بالكواكب ، كقوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (١) ، وجملة (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم. وقال أبو حاتم : أي لئلا يسمعوا ، ثم حذف أن فرفع الفعل ، وكذا قال الكلبي ، والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها ، وسمي الكلّ منهم أعلى بإضافته إلى ملأ الأرض ، والضمير في يسمعون إلى الشياطين. وقيل : إن جملة لا يسمعون صفة لكل شيطان ، وقيل جوابا عن سؤال مقدّر كأنه قيل : فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قرأ الجمهور «يسمعون» بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم والسين ، والأصل يتسمعون فأدغم التاء في السين ، فالقراءة الأولى تدلّ على انتفاء سماعهم دون استماعهم ، والقراءة الثانية تدلّ على انتفائهما وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢) قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. واختار أبو عبيدة القراءة الثانية ، قال : لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه ، وتقول تسمعت إليه (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً) أي : يرمون من كلّ جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع ، وانتصاب دحورا على أنه مفعول لأجله والدحور الطرد ، تقول دحرته دحرا ودحورا : طردته. قرأ الجمهور (دُحُوراً) بضم الدال ، وقرأ عليّ والسلمي ويعقوب الحضرمي ، وابن أبي عبلة بفتحها. وروى عن أبي عمرو أنه قرأ (يُقْذَفُونَ) مبنيا للفاعل ، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني ، وقيل : إن انتصاب دحورا على الحال : أي مدحورين ، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالا أيضا. وقيل : إنه مصدر لمقدّر : أي يدحرون دحورا. وقال الفراء : إن المعنى يقذفون بما يدحرهم : أي بدحور ، ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض.

__________________

(١). الملك : ٥.

(٢). الشعراء : ٢١٢.

٤٤٤

واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده ، فقال بالأوّل طائفة ، وبالآخر آخرون ، وقالت طائفة بالجمع بين القولين : إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع ، ولكن كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ، ثم بعد المبعث رميت في كلّ وقت ، ومن كلّ جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع ؛ إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ، ومعنى (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) ولهم عذاب دائم لا ينقطع ، والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب. وقال مقاتل : يعني دائما إلى النفخة الأولى ، والأوّل أولى. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم. وقال السدّي وأبو صالح والكلبي : هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب ، مأخوذ من الوصب وهو المرض ، وقيل : هو الشديد ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) هو من قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ) أو من قوله : (وَيُقْذَفُونَ). وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض. والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة. قرأ الجمهور (خَطِفَ) بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة ، وقرأ قتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغة تميم بن مرّ وبكر بن وائل. وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة. وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء ، وقيل : إن الاستثناء منقطع (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي : لحقه وتبعه شهاب ثاقب : نجم مضيء فيحرقه ، وربما لا يحرقه فيلقى إلى إخوانه ما خطفه ، وليست الشهب التي يرجم بها هي الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت ، وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا : إذا اتقدت ، وهذه الآية هي كقوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١) (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي : اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشدّ خلقا وأقوى أجساما وأعظم أعضاء ، أم من خلقنا من السموات والأرض والملائكة؟ قال الزجاج : المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أشدّ خلقا : أي أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي : إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب : أي لاصق ، يقال لزب يلزب لزوبا : إذا لصق. وقال قتادة وابن زيد : اللازب اللازق. وقال عكرمة : اللازب اللزج. وقال سعيد بن جبير : اللازب الجيد الذي يلصق باليد. وقال مجاهد : هو اللازم ، والعرب تقول : طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم ، واللازم الثابت كما يقال : صار الشيء ضربة لازب ، ومنه قول النابغة :

لا تحسبون الخير لا شرّ بعده

ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب

وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم ، واللاتب : الثابت. قال الأصمعي. واللاتب : اللاصق مثل اللازب. والمعنى في الآية : أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلقون من هذا الخلق الضيف

__________________

(١). الحجر : ١٨.

٤٤٥

ولم ينكره من هو مخلوق خلقا أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتمّ. وقيل اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك. قرأ الجمهور (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) بتشديد الميم وهي أم المتصلة ، وقرأ الأعمش بالتخفيف ، وهو استفهام ثان على قراءته. قيل : وقد قرئ لازم ولاتب ، ولا أدري من قرأ بذلك. ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال : (بَلْ عَجِبْتَ) يا محمّد من قدرة الله سبحانه (وَيَسْخَرُونَ) منك بسبب تعجبك ، أو يسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد. قرأ الجمهور بفتح التاء من (عَجِبْتَ) على الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ حمزة والكسائي بضمها ، ورويت هذه القراءة عن عليّ وابن مسعود وابن عباس ، واختارها أبو عبيد والفراء. قال الفراء : قرأها الناس بنصب التاء ورفعها ، والرفع أحبّ إليّ لأنها عن عليّ وعبد الله وابن عباس قال : والعجب إن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد. قال الهروي : وقال بعض الأئمة : معنى قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) بل جازيتهم على عجبهم ، لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) (١) وقالوا : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢) (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) (٣) وقال عليّ بن سليمان : معنى القراءتين واحد ، والتقدير : قل يا محمّد بل عجبت لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطب بالقرآن. قال النحاس : وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. وقيل : إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين. قال الهروي : ويقال معنى عجب ربكم : أي رضي ربكم وأثاب ، فسماه عجبا ، وليس بعجب في الحقيقة ، فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي. وحكى النقاش أن معنى بل عجبت : بل أنكرت. قال الحسن بن الفضل : التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه ، وهو لغة العرب ، وقيل معناه : أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها ، والواو في (وَيَسْخَرُونَ) للحال ؛ أي : بل عجبت والحال أنهم يسخرون ، ويجوز أن تكون للاستئناف (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي : وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يذكرون ، أي : لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها. قال سعيد بن المسيب : أي إذا ذكر لهم ما حلّ بالمكذّبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي معجزة من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يبالغون في السخرية. قال قتادة : يسخرون ويقولون إنها سخرية ، يقال سخر واستسخر بمعنى ، مثل قرّ واستقرّ ، وعجب واستعجب. والأوّل أولى ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى. وقيل معنى يستسخرون : يستدعون السخرية من غيرهم. وقال مجاهد : يستهزئون (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) الاستفهام للإنكار : أي أنبعث إذا متنا؟ فالعامل في إذا هو ما دلّ عليه (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) وهو أنبعث ، لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه ، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم واستهزءوا بما جاءوا به من المعجزات ، وقد تقدّم تفسير معنى هذه الآية في مواضع (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) هو : مبتدأ ، وخبره : محذوف ، وقيل : معطوف على محل إن واسمها ، وقيل : على

__________________

(١). ص : ٤.

(٢). ص : ٥.

(٣). يونس : ٢.

٤٤٦

الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو ، وقرأ ابن عامر وقالون بسكونها على أن أو هي العاطفة ، وليست الهمزة للاستفهام ، ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتا لهم ، فقال : (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي : نعم تبعثون ، وأنتم صاغرون ذليلون. قال الواحدي : والدخور أشدّ الصغار ، وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال. ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) الضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها ، أي : إنما قصة البعث أو البعثة زجرة واحدة ، أي : صيحة واحدة من إسرافيل بنفخة في الصور عند البعث (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي : يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب. وقال الحسن : هي النفخة الثانية ، وسميت الصيحة زجرة ، لأن المقصود منها الزجر ، وقيل معنى ينظرون : ينتظرون ما يفعل بهم ، والأوّل أولى.

وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، من طرق عن ابن مسعود (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قال : الملائكة (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) قال : الملائكة (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قال : الملائكة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله. وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) مخففة. وقال : إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : (عَذابٌ واصِبٌ) قال : دائم. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا إذا رمي الشهاب لم يخطئ من رمي به وتلا (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضا (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) قال : لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون ، ولكنها تحرق ، وتخبل ، وتجرح في غير قتل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال : ملتصق. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضا (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال : اللزج الجيد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : اللازب ، والحمأ ، والطين واحد : كان أوّله ترابا ثم صار حمأ منتنا ، ثم صار طينا لازبا ، فخلق الله منه آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود أنه كان يقرأ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) بالرفع للتاء من عجبت.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ

٤٤٧

لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

قوله : (وَقالُوا يا وَيْلَنا) أي : قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا : يا ويلنا ، دعوا بالويل على أنفسهم. قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، وقال الفراء : إن أصله ياوي لنا ، ووي بمعنى الحزن كأنه قال : يا حزن لنا. قال النحاس : ولو كان كما قال لكان منفصلا ، وهو في المصحف متصل ، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا ، وجملة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم ، والدين الجزاء ، فكأنهم قالوا هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجاب عليهم الملائكة بقولهم : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض ، والفصل الحكم والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء ، وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين وأزواجهم ، وهم أشباههم في الشرك ، والمتابعون لهم في الكفر ، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل ، كذا قال قتادة وأبو العالية. وقال الحسن ومجاهد : المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم. وقال الضحاك : أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كلّ كافر مع شيطانه ، وبه قال مقاتل (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والشياطين ، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة ، فإنها عبارة عن المعبودين ، لا عن العابدين كما قيل مخصوص ، لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح ، ومنهم من عبد الملائكة فيخرجون بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١) ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها وتخجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضرّ (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي عرّفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها ، يقال هديته الطريق وهديته إليها : أي دللته عليها ، وفي هذا تهكم بهم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي احبسوهم ، يقال وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا يتعدّى ولا يتعدّى ، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم : أي وقوفهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك ، وجملة (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي : أي : مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم. وقال الضحاك : عن خطاياهم ، وقيل : عن لا إله إلا الله ، وقيل : عن ظلم العباد ، وقيل : هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي : أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ، وهذا توبيخ لهم وتقريع وتهكم بهم ، وأصله تتناصر وفطرحت إحدى التاءين تخفيفا. قرأ

__________________

(١). الأنبياء : ١٠١.

٤٤٨

الجمهور (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) بكسر الهمزة ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي : أي لأنهم أو بأنهم ، وقيل : الإشارة بقوله (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) إلى قول أبي جهل يوم بدر (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (١) ثم اضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي : منقادون لعجزهم عن الحيلة. قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله. وقال الأخفش : ملقون بأيديهم ، يقال استسلم للشيء : إذا انقاد له وخضع (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي : أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون. قيل : هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة. وقال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين. وقال قتادة : هو قول الإنس للجنّ ، والأوّل أولى لقوله : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي : كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين : أي من جهة الحقّ والدين والطاعة وتصدّونا عنها. قال الزجاج : كنتم تأتوننا من قبل الدين ، فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به ، واليمين عبارة عن الحق ، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) (٢) قال الواحدي : قال أهل المعاني : إن الرّؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم ؛ فمعنى (تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها. قال : والمفسرون على القول الأوّل. وقيل المعنى : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرّونا بذلك عن جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل اليمين بمعنى القوّة ، أي : تمنعوننا بقوّة وغلبة وقهر كما في قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٣) أي : بالقوّة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وكذلك جملة : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر ؛ والمعنى : أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين : كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان. والمعنى : أنكم لم تكونوا مؤمنين قطّ حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من الكفر (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي : متجاوزين الحدّ في الكفر والضلال ، وقوله : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) من قول المتبوعين ، أي : وجب علينا وعليكم ، ولزمنا قول ربنا ، يعنون قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤) إنا لذائقو العذاب : أي إنا جميعا لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد. قال الزجاج : أي إن المضلّ والضّال في النار (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي أضللناكم عن الهدى ، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغيّ ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) فلا عتب علينا في تعرّضنا لإغوائكم ، لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية ؛ ومعنى الآية : أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، فأقرّوا هاهنا بأنهم تسببوا لإغوائهم ، لكن لا بطريق القهر والغلبة ، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم ، فقالوا : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع والمتبوعين بقوله : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية (إِنَّا

__________________

(١). القمر : ٤٤.

(٢). الأعراف : ١٧.

(٣). الصافات : ٩٣.

(٤). ص : ٨٥.

٤٤٩

كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين ، أي : أهل الإجرام ، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي : إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله يستكبرون عن القول ، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان ، أو الرفع على أنه خبر إن ، وكان ملغاة (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لقول شاعر مجنون ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي : صدّقهم فيما جاءوا به من التوحيد والوعيد ، وإثبات الدار الآخرة ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي : إنكم بسبب شرككم وتكذيبكم لذائقوا العذاب الشديد الألم. قرأ الجمهور (لَذائِقُوا) بحذف النون وخفض العذاب ، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم وأبو السمال بحذفها ونصب العذاب ، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون والنصب للعذاب قول الشاعر :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وأجاز سيبويه أيضا (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) بنصب الصلاة على هذا التوجيه. وقد قريء بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل. ثم بين سبحانه أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم ، فقال : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي ، أو إلا بما كنتم تعملون. ثم استثنى المؤمنين فقال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) قرأ أهل المدينة والكوفة (الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام ، أي : الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده. وقرأ الباقون بكسرها ، أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد ، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلّفين ، أو منقطع ، أي : لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المخلصين ، وهو : مبتدأ ، وخبره قوله : (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي : لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه وطيبه ، وعدم انقطاعه. قال قتادة : يعني الجنة ، وقيل : معلوم الوقت ، وهو أن يعطوا منه بكرة وعشية كما في قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١) وقيل هو المذكور في قوله بعده (فَواكِهُ) فإنه بدل من رزق ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو فواكه ، وهذا هو الظاهر. والفواكه جمع الفاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها ، وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل. والأولى أن يقال : إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وألذّ ما تشتهيه أنفسهم. وقيل : إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة ، فذكرها يغني عن ذكر غيرها ، وجملة (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : ولهم من الله عزوجل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده ، وسماع كلامه ولقائه في الجنة قرأ الجمهور (مُكْرَمُونَ) بتخفيف الراء. وقرأ أبو مقسم بتشديدها وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يجوز أن يتعلق بمكرمون وأن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا ، وقوله : (عَلى سُرُرٍ) يحتمل أن يكون حالا ، وأن يكون خبرا ثالثا ، وانتصاب (مُتَقابِلِينَ) على الحالية من الضمير

__________________

(١). مريم : ٦٢.

٤٥٠

في مكرمون ، أو من الضمير في متعلق على سرر. قال عكرمة ومجاهد : معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وقيل : إنها تدور بهم الأسرّة كيف شاؤوا فلا يرى بعضهم قفا بعض. قرأ الجمهور (سُرُرٍ) بضم الراء. وقرأ أبو السمال بفتحها ، وهي لغة بعض تميم. ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدّر ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير متقابلين ، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكلّ إناء فيه الشراب ، فإن كان فارغا فليس بكأس. وقال الضحاك والسدّي : كل كأس في القرآن فهي الخمر. قال النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة ، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة ، ومن معين متعلق بمحذوف هو صفة لكأس. قال الزجاج : بكأس من معين ، أي : من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض ، والمعين الماء الجاري ، وقوله : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) صفتان لكأس. قال الزجاج : أي ذات لذّة فحذف المضاف ، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذّة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن له لذّة لذيذة ، يقال شراب لذّ ولذيذ كما يقال نبات غضّ وغضيض ، ومنه قول الشاعر :

بحديثها اللذّ الذي لو كلّمت

أسد الفلاة به أتين سراعا

واللذيد : كل شيء مستطاب ، وقيل البيضاء : هي التي لم يعتصرها الرجال. ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا ، فقال : (لا فِيها غَوْلٌ) أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي : يسكرون ، يقال : نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر ، ومنه قول امرئ القيس :

وإذ هي تمشي كمشي النّزيف

يصرعه بالكثيب البهر

وقال أيضا :

نزيف إذا قامت لوجه تمايلت (١)

ومنه قول الآخر :

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء. وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم ، وأنشد قول مطيع بن إياس :

__________________

(١). وعجز البيت : تراشي الفؤاد الرّخص ألّا تختّرا.

والختر : خدر يحصل عند شراب الدواء أو السّم.

٤٥١

وما زالت الكأس تغتالهم

وتذهب بالأوّل الأوّل

وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك ، يقال غاله غولا واغتاله : أي أهلكه ، والغول كلّ ما اغتالك : أي أهلكك. قرأ الجمهور (يُنْزَفُونَ) بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ، يقال أحصد الزرع : إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم : إذا حان قطافه. قال الفراء : من كسر الزاي فله معنيان ، يقال أنزف الرجل : إذا فنيت خمره ، وأنزف : إذا ذهب عقله من السكر ، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفذ شرابهم لزيادة الفائدة. قال النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصحّ في المعنى ، لأن معنى لا ينزفون عند جمهور المفسرين : لا تذهب عقولهم ، فنفى الله عزوجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى : لا ينزفون بكسر الزاي : لا يسكرون. قال المهدوي : لا يكون معنى ينزفون يسكرون ، لأن قبله (لا فِيها غَوْلٌ) أي : لا تغتال عقولهم فيكون تكريرا ، وهذا يقوّي ما قاله قتادة : إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيع عن مجاهد. وقال الحسن : إن الغول الصداع. وقال ابن كيسان : هو المغص ، فيكون معنى الآية : لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون منها. ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء ، يقال اغتاله اغتيالا : إذا أفسد عليه أمره في خفية ، ومنه الغول والغيلة القتل خفية. وقرأ ابن أبي إسحاق (يُنْزَفُونَ) بفتح الياء وكسر الزاي. وقرأ طلحة بن مصرّف بفتح الياء وضم الزاي. ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم فقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي نساء قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم ، والقصر معناه الحبس ، ومنه قول امرئ القيس :

من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا

والمحول : الصغير من الذرّ ، والأتب القميص ، وقيل القاصرات : المحبوسات على أزواجهنّ ، والأوّل أولى لأنه قال : قاصرات الطرف ، ولم يقل مقصورات ، والعين عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين. قال الزجاج : معنى (عِينٌ) كبار الأعين حسانها. وقال مجاهد : العين حسان العيون. وقال الحسن : هنّ الشديدات بياض العين الشديدات سوادها ، والأوّل أولى (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال الحسن وأبو زيد : شبههنّ ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار. فلونه أبيض في صفرة ، وهو أحسن ألوان النساء ، وقال سعيد بن جبير والسدّي : شبههنّ ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي وبه قال ابن جرير ، ومنه قول امرئ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتّعت من لهو بها غير معجل

قال المبرد : وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل

٤٥٢

المكنون : المصون عن الكسر : أي إنهنّ عذارى ، وقيل : المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ومثله قول الشاعر :

وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا

ص ميزت من جوهر مكنون

والأوّل أولى ، وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال : تقول الملائكة للزبانية هذا القول. وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع في مسنده ، وعبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال : أمثالهم الذين هم مثلهم : يجيء أصحاب الرّبا مع أصحاب الرّبا ، وأصحاب الزّنا مع أصحاب الزّنا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر ، أزواج في الجنة ، وأزواج في النار. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال : أشباههم ، وفي لفظ : نظراءهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) قال : وجهوهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : دلوهم (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) قال : طريق النار. وأخرج عنه أيضا في قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) قال : احبسوهم إنهم محاسبون. وأخرج البخاري في تاريخه ، والدارمي ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من داع دعا إلي شيء إلا كان موقوفا معه يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ، ثم قرأ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)». وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) قال : ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : (كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) قال : كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون ، (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) لا يعقل ، قال : فحكى الله صدقه فقال : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله». وأنزل الله في كتابه وذكر قوما استكبروا ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) ، وقال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) (١) وهي «لا إله إلا الله محمّد رسول الله» استكبر عنها المشركون يوم الحديبية ، يوم كاتبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قضية المدّة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.

__________________

(١). الفتح : ٢٦.

٤٥٣

عن ابن عباس في قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) قال : الخمر (لا فِيها غَوْلٌ) قال ليس فيها صداع (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قال : لا تذهب عقولهم. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فنزّه الله خمر الجنة عنها ، فقال : (لا فِيها غَوْلٌ) لا تغول عقولهم من السكر (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قال : يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (لا فِيها غَوْلٌ) قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يقول : عن غير أزواجهنّ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال : اللؤلؤ المكنون. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال : بياض البيضة ينزع عنها فوقها وغشاؤها.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على يطاف ، أي : يسأل هذا ذاك ، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا ، وذلك من تمام نعيم الجنة. والتقدير : فيقبل بعضهم على بعض ، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي : قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث وسؤال بعضهم لبعض (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي : صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما يدلّ عليه قوله : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) يعني : بالبعث والجزاء ، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن وتبكيته بإيمانه ؛ وتصديقه بما وعد الله به من البعث ، وكان هذا القول منه في الدنيا. ثم ذكر ما يدلّ على الاستبعاد للبعث عنده وفي زعمه فقال : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي : مجزيون بأعمالنا ومحاسبون بها بعد أن صرنا ترابا وعظاما وقيل معنى مدينون : مسوسون ، يقال دانه : إذا ساسه. قال سعيد بن جبير : قرينه شريكه ، وقيل : أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث ، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف ، والاختلاف في

٤٥٤

اسميهما ، قرأ الجمهور (لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بتخفيف الصاد من التصديق ، أي : لمن المصدّقين بالبعث ، وقرئ بتشديدها ، ولا أدري من قرأ بها ، ومعناها بعيد لأنها من التصدّق لا من التصديق ، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدّق بماله لطلب الثواب ، وعلل ذلك باستبعاد البعث.

وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة ، فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة ، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام ، ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين ، وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين ، والثانية بكسر الألف من غير استفهام ، والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا ، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ، وبعده ساكنة خفيفة ، وأبو عمرو مطوّلة ، وعاصم وحمزة بهمزتين. (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا ، أي : هل أنتم مطلعون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي : والاستفهام هو بمعنى الأمر ، أي : اطلعوا ، وقيل : القائل هو الله سبحانه ، وقيل : الملائكة ، والأوّل أولى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي : فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا ، فرأى قرينه في وسط الجحيم. قال الزجاج : سواء كلّ شيء وسطه. قرأ الجمهور (مُطَّلِعُونَ) بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون ، فاطلع ماضيا مبنيا للفاعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو مطلعون بسكون الطاء وفتح النون (فَاطَّلَعَ) بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضيا مبنيا للمفعول. قال النحاس : فاطلع فيه قولان على هذه القراءة أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا ، أي : فأطلع أنا ، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام ، والقول الثاني : أن يكون فعلا ماضيا ، وقرأ حماد بن أبي عمار (مُطَّلِعُونَ) بتخفيف الطاء وكسر النون فاطلع مبنيا للمفعول ، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وغيره. قال النحاس : هي لحن ، لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة ، ولو كان مضافا لقال هل أنتم مطلعيّ ، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله وأنشدا :

هم القائلون الخير والآمرونه

إذا ما خشوا من محدث الدّهر معظما

ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ورآه في النار : تالله إن كدت لتردين : أي لتهلكني بالإغواء. قال الكسائي : لتردين لتهلكني ، والردى : الهلاك. قال المبرد : لو قيل لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا. قال مقاتل : المعنى والله لقد كدت أن تغويني فانزل منزلتك ، والمعنى متقارب ، فمن أغوى إنسانا فقد أهلكه (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي : لو لا رحمة ربي ، وإنعامه عليّ بالإسلام ، وهدايتي إلى الحقّ ، وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار. قال الفراء : أي لكنت معك في النار محضرا. قال الماوردي : وأحضر لا يستعمل إلّا في الشرّ. ولما تمم كلامه مع ذلك القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) ، والهمزة للاستفهام التقريري وفيها معنى التعجيب ، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره ، أي : أنحن مخلّدون منعمون فما نحن بميتين (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدنيا ، وقوله هذا

٤٥٥

كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع وأنهم مخلدون لا يموتون أبدا ، وقوله : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هو من تمام كلامه ، أي : وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار. ثم قال مشيرا إلى ما هم فيه من النعيم (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : إن هذا الأمر العظيم ، والنعيم المقيم ، والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن الإحاطة بوصفه ، وقوله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) من تمام كلامه ؛ أي : لمثل هذا العطاء ؛ والفضل العظيم فليعمل العاملون ، فإن هذه هي التجارة الرابحة ، لا العمل للدنيا الزائلة فإنها صفقة خاسرة ، نعيمها منقطع ، وخيرها زائل ، وصاحبها عن قريب منها راحل. وقيل : إن هذا من قول الله سبحانه ، وقيل : من قول الملائكة ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور (بِمَيِّتِينَ) وقرأ زيد بن عليّ «بمايتين» وانتصاب إلا موتتنا على المصدرية ، والاستثناء مفرّغ ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. أي : لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكره من نعيم الجنة ، وهو : مبتدأ ، وخبره : خير ، ونزلا : تمييز ، والنزل في اللغة الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه ، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. قال الزجاج : المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلا أم نزل أهل النار ، وهو قوله : (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) وهو ما يكره تناوله. قال الواحدي : وهو شيء مرّ كريه يكره أهل النار على تناوله فهم يتزقمونه ، وهي على هذا مشتقة من التزقيم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا على قولين : أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا فقال قطرب : إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره : بل هو كلّ نبات قاتل. القول الثاني : أنها غير معروفة في شجر الدنيا. قال قتادة : لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا : كيف تكون في النار شجرة. فأنزل الله تعالى (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال الزجاج : حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها. وقيل : معنى جعلها فتنة لهم : أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها ، والمراد بالظالمين هنا : الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار. ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردّا على منكريها فقال : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي : في قعرها ، قال الحسن : أصلها في قعر جهنم ، وأغصانها ترفع إلى دركاتها ، ثم قال : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي : ثمرها وما تحمله كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره رؤوس الشياطين ، فشبه المحسوس بالمتخيل ، وإن كان غير مرئيّ للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه : كأنه شيطان ، وفي تشبيه من يستحسنونه : كأنه ملك ، كما في قوله : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١) ومنه قول امرئ القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقال الزجاج والفراء : الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات وأخبثها ، وأخفها جسما ، وقيل إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الاستن ، ويقال له الشيطان. قال النحاس : وليس ذلك معروفا عند العرب. وقيل : هو شجر خشن منتن مرّ منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس

__________________

(١). يوسف : ٣١.

٤٥٦

الشياطين (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) أي : من الشجرة أو من طلعها ، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم ، فهذا طعامهم ، وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) بعد الأكل منها (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) الشوب : الخلط. قال الفراء : شاب طعامه وشرابه : إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة ، والحميم : الماء الحارّ. فأخبر سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحارّ ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) قرأ الجمهور (لَشَوْباً) بفتح الشين ، وهو مصدر ، وقرأ شيبان النحوي بالضم. قال الزجاج : المفتوح مصدر ، والمضموم اسم بمعنى المشوب ، كالنقص بمعنى المنقوص (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي : مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى الجحيم ، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه ، وهو خارج الجحيم ، كما تورد الإبل ، ثم يردّون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) وقيل : إن الزقوم والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها. قال أبو عبيدة : ثم بمعنى الواو ، وقرأ ابن مسعود «ثمّ إنّ مقيلهم لإلى الجحيم» وجملة (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) أي : وجدوا (آباءَهُمْ ضالِّينَ) تعليل لاستحقاقهم ما تقدّم ذكره ، أي : صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليدا وضلالة لا لحجة أصلا (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الإهراع الإسراع ، الإهراع برعدة. وقال أبو عبيدة : يهرعون : يستحثون من خلفهم ، يقال جاء فلان يهرع إلى النار : إذا استحثه البرد إليها. وقال المفضل يزعجون من شدّة الإسراع. قال الزجاج : هرع وأهرع : إذا استحثّ وانزعج ، والمعنى : يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ضلّ قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأوّلين من الأمم الماضية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي : أرسلنا في هؤلاء الأوّلين رسلا أنذروهم العذاب وبينوا لهم الحقّ فلم ينجع ذلك فيهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي : الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار. قال مقاتل : يقول كان عاقبتهم العذاب ، يحذر كفار مكة ثم استثنى عباده المؤمنين فقال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي : إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد ، وقرئ (الْمُخْلَصِينَ) بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا لله طاعاتهم ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ). قال : اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال : لقد رأيت جماجم القوم تغلي. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : قول الله لأهل الجنة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال هنيئا : أي لا تموتون فيها فعند ذلك قالوا : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) قال : هذا قول الله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ). وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده في يدي ، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر ، ثم جثى على ركبتيه فجعل يبكي حتى بلّ الثرى ، ثم قال : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخلت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مريض يجود بنفسه فقال : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال :

٤٥٧

مرّ أبو جهل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس ، فلما بعد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (١). فلما سمع أبو جهل قال : من توعد يا محمّد؟ قال : إياك ، قال : بما توعدني؟ قال : أوعدك بالعزيز الكريم ، قال أبو جهل : أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) (٢) إلى قوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٣) فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه ، فأخرج إليهم زبدا وتمرا فقال : تزقموا من هذا ، فو الله ما يتوعدكم محمّد إلا بهذا ، فأنزل الله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) إلى قوله : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ). وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذ عنه أيضا (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً) قال : لمزجا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال في قوله : (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) يخالط طعامهم ويشاب بالحميم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة ، حتى يقيل هؤلاء ، ويقيل هؤلاء ، أهل الجنة ، وأهل النار ، وقرأ «ثمّ إنّ مقيلهم لإلى الجحيم» وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) قال : وجدوا آباءهم.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

__________________

(١). القيامة : ٣٤ و ٣٥.

(٢). الدخان : ٤٣ و ٤٤.

(٣). الدخان : ٤٩.

٤٥٨

لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فقال : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) واللام هي الموطئة للقسم ، وكذا اللام في قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي : نحن ، والمراد أن نوحا دعا ربه على قومه لما عصوه ، فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان. فالنداء هنا هو نداء الدعاء والاستغاثة به ، كقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١) وقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (٢) قال الكسائي : أي فلنعم المجيبون له كنا (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) المراد بأهله أهل دينه ، وهم من آمن معه ؛ وكانوا ثمانين ، والكرب العظيم : هو الغرق ، وقيل : تكذيب قومه له ، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل ، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ، ولم يبق منهم باقية ، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ، ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح ، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحاتم أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند ، والهند ، والنوب ، والزنج ، والحبشة ، والقبط ، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب والترك والخزر ويأجوج ومأجوج وغيرهم. وقيل : إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) (٣) وقوله : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) فيكون على هذا معنى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وذرّيته وذرية من معه دون ذرّية من كفر ، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرّية (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم ، والمتروك هذا هو قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) أي : تركنا هذا الكلام بعينه ، وارتفاعه على الحكاية ، والسلام هو الثناء الحسن ، أي : يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج : تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة ، وذلك الذكر هو قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ). قال الكسائي : في ارتفاع سلام وجهان : أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح. والوجه الثاني : أن يكون المعنى : وأبقينا عليه ، وتمّ الكلام ، ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح ، أي : سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد : أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية : يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي كقوله : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (٥) وقيل : إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكوفيون : جملة سلام على نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا ، لأنه ضمن معنى قلنا. قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود «سلاما» منصوب بتركنا ، أي : تركنا عليه ثناء حسنا ، وقيل : المراد بالآخرين أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي العالمين متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبرا ، وهو على نوح ، أي : سلام ثابت أو مستمرّ أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة والجنّ والإنس ، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قيل : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه ، وبقاء الثناء من الله عليه ، وبقاء ذريته ، أي : إنا كذلك نجزي من كان محسنا في أقواله وأفعاله راسخا في الإحسان معروفا به ، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف ، أي :

__________________

(١). نوح : ٢٦.

(٢). القمر : ١٠.

(٣). الإسراء : ٣.

(٤). هود : ٤٨.

(٥). النور : ١.

٤٥٩

جزاء كذلك الجزاء (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبدا مؤمنا مخلصا لله (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي : الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدّقوا نوحا. ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم ، وبين أنه ممن شايع نوحا فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي : من أهل دينه ، وممّن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الله ، وإلى توحيده والإيمان به. قال مجاهد : أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي : الشيعة الأعوان وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد ، وقال الفراء : المعنى وإن من شيعة محمّد لإبراهيم ، فالهاء في شيعته على هذا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال الكلبي. ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق. والظرف في قوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، وقيل : بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان : لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبيّ ، وهو إبراهيم ، والأولى أن يقال : إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها ، والقلب السليم المخلص من الشرك والشك. وقيل : هو الناصح لله في خلقه ، وقيل : الذي يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين : أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني : عند إلقائه في النار. وقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) بدل من الجملة الأولى ، أو ظرف لسليم ، أو ظرف لجاء ، والمعنى : وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار : أيّ شيء تعبدون (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) انتصاب إفكا على أنه مفعول لأجله ، وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون ، والتقدير : أتريدون آلهة من دون الله للإفك ، ودون : ظرف لتريدون ، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل : انتصاب إفكا على أنه مفعول به لتريدون ، وآلهة بدل منه ، جعلها نفس الإفك مبالغة ، وهذا أولى من الوجه الأوّل. وقيل : انتصابه على الحال من فاعل تريدون ، أي : أتريدون آلهة آفكين ، أو ذوي إفك. قال المبرد : الإفك أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ومنه ائتفكت بهم الأرض (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي : ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (١) وقيل : المعنى : أيّ شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) قال الواحدي : قال المفسرون : كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه ، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتلّ بالسقم : وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدلّ بها على حاله ، فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم ، وقال الحسن : إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكّر فيما يعمل ، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي ، أي : فيما طلع له منه ، فعلم أن كلّ شيء يسقم (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ). قال الخليل والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره : نظر في النجوم. وقيل : كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى. وقال الضحاك : معنى إني سقيم : سأسقم سقم الموت ، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت ، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارّة هي أختي ، يعني : أخوّة الدين. وقال سعيد

__________________

(١). الإنفطار : ٦

٤٦٠