فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي : أي تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) قال : فدخل عيينة بن حصن الفزاري إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين الاستئذان؟ قال : يا رسول الله! ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله : هذه عائشة أم المؤمنين ، قال : أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال : يا عيينة إن الله حرّم ذلك ، فلما أن خرج قالت عائشة : من هذا؟ قال : أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بإذن منه. وسبب النزول : ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب ، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذونا لكم ، وهو في موضع نصب على الحال ، أي : إلّا مصحوبين بالإذن ، أو بنزع الخافض ، أي : إلا بأن يؤذن لكم ، أو منصوب على الظرفية ، أي : إلا وقت أن يؤذن لكم ، وقوله : (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء ، أي : إلا أن يؤذن لكم مدعوّين إلى طعام ، وانتصاب : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) على الحال ، والعامل فيه يؤذن أو مقدّر ، أي : ادخلوا غير ناظرين ، ومعنى ناظرين : منتظرين ، وإناه : نضجه وإدراكه ، يقال : أني يأنى أنى : إذا حان وأدرك. قرأ الجمهور «غير ناظرين» بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالجرّ : صفة لطعام ، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير ولكنه جاريا على غير من هو له ، فكان حقه أن يقال غير ناظرين إناه أنتم ثم بين لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) وفيه تأكيد للمنع ، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول ، وهو عند الإذن. قال ابن العربي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم ، وأذن لكم فادخلوا ، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول ، وقيل : إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام : هو الدعوة إليه (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام ، وهو التفرّق ، والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي

٣٤١

وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) عطف على قوله غير ناظرين ، أو على مقدّر ، أي : ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين. والمعنى : النهي لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدّثون بالحديث. قال الرازي في قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره : ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم ، فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن. وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه : ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام ، فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى طعام ، فإن لم يؤذن إلى طعام ؛ فلا يجوز الدخول ، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز ، فنقول المراد : هو الثاني ليعمّ النهي عن الدخول. وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام ، فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ، ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن. وقال ابن عادل : الأولى أن يقال المراد : هو الثاني ، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، وقوله : (إِلى طَعامٍ) من باب التخصيص بالذكر ، فلا يدلّ على نفي ما عداه ، لا سيما إذا علم مثله ، فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام ، انتهى. والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال : قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذنه لغير الطعام ، وذلك معلوم لا شك فيه ، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم ، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذين نزلت فيه ، وهو القوم الذي كانوا يتحينون طعام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، وأمثالهم ، فلا تدلّ على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك ، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه ، لغير الطعام ، واللازم باطل فالملزوم مثله. قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة ، أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، والإشارة بقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ) إلى الانتظار ، والاستئناس للحديث ، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) أي : إن ذلك المذكور من الأمرين (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه ، وعلى أهله ، ويتحدّثون بما لا يريده. قال الزجاج : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر على الأذى في ذلك ، فعلم الله من يحضره الأدب ؛ فصار أدبا لهم ولمن بعدهم (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي يستحيي أن يقول لكم : قوموا ، أو اخرجوا (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي : لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ، ولا يمتنع من بيانه ، وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة. قرأ الجمهور «يستحيي» بيائين ، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة ، وهي لغة تميم يقولون : استحى يستحي : مثل استقى يستقى ، ثم ذكر سبحانه أدبا آخر متعلقا بنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) أي : شيئا يتمتع به ، من الماعون وغيره (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي : من وراء ستر بينكم وبينهنّ. والمتاع يطلق على

__________________

(١). البقرة : ٦٨.

٣٤٢

كل ما يتمتع به ، فلا وجه لما قيل من أن المراد به : العارية ، أو الفتوى ، أو المصحف ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب ، وقيل : الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع ، والأوّل أولى ، واسم الإشارة : مبتدأ ، وخبره : (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) أي : أكثر تطهيرا لها من الريبة ، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء ، وللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن ، وتحذيرا له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحلّ له ، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي : ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائنا ما كان ، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه ، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده ، وتكليم نسائه من دون حجاب (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي : ولا كان لكم ذلك بعد وفاته لأنهنّ أمهات المؤمنين ، ولا يحلّ للأولاد نكاح الأمهات ، والإشارة بقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ) إلى نكاح أزواجه من بعده (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) أي : ذنبا عظيما ، وخطبا هائلا شديدا. وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل : لو قد مات محمّد لتزوّجنا نساءه ، وسيأتي بيان ذلك (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعلم كلّ شيء من الأشياء ، ومن جملة ذلك ما تظهرونه من شأن أزواج رسوله ، وما تكتمونه في صدوركم. وفي هذا وعيد شديد ، لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرّها. ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غيرهنّ من النساء الاحتجاب منهم ، ولم يذكر العمّ والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقال الزجاج : العمّ والخال ربما يصفان المرأة لولديهما ، فإن المرأة تحلّ لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية ، وهذا ضعيف جدّا ، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها ، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهنّ يصفنها ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة من أنه للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها ، والأولى أن يقال أنه سبحانه اقتصر هاهنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدّم (وَلا نِسائِهِنَ) هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات ، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات ، والنساء كلهنّ عورة (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من العبيد والإماء ، وقيل : الإماء خاصة ، ومن لم يبلغ من العبيد ، والخلاف في ذلك معروف. وقد تقدّم في سورة النور ما فيه كفاية. ثم أمرهنّ سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله ، (وَ) المعنى (اتَّقِينَ) الله في كلّ الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لم يغب عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان ، فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته.

وقد أخرج البخاري ، ومسلم عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر فلو حجبتهنّ ، فأنزل الله آية الحجاب. وفي لفظ أنه قال عمر : يا رسول الله يدخل

٣٤٣

عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : «لما تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ، ثم جلسوا يتحدّثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآية. وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله الحجاب قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآية. وأخرج ابن سعد عن أنس قال : نزل الحجاب مبتنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش ، وذلك سنة خمس من الهجرة ، وحجب نساءه من يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة. وكذا : وأخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان ، قال : نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، وبه قال قتادة والواقدي. وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) قال : نزلت في رجل همّ أن يتزوّج بعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده. قال سفيان. وذكروا أنها عائشة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمّد عن بنات عمنا. ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجنّ نساءه من بعده ، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر عن قتادة قال : قال طلحة بن عبيد الله : لو قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتزوّجت عائشة. فنزلت. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم قال : نزلت في طلحة لأنه قال : إذا توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّجت عائشة. قال ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال القرطبي : قال شيخنا الإمام أبو العباس : وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله ، وإنما الكذب في نقله ، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال : قال رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّجت عائشة أو أمّ سلمة ، فأنزل الله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه «أنّ رجلا أتى بعض أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلّمها وهو ابن عمها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا ، فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي ، والله ما قلت لها منكرا ، ولا قالت لي ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد عرفت ذلك ، إنه ليس أحد أغير من الله ، وإنه ليس أحد أغير مني ، فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمّي! لأتزوّجنّها من بعده ، فأنزل الله هذه الآية ، فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحجّ ماشيا توبة من كلمته. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت : خطبني عليّ فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٤٤

فقالت : إن أسماء متزوّجة عليا ، فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله. وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) قال : إن تكلموا به فتقولون نتزوّج فلانة لبعض أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به ؛ يعلمه الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) إلى آخر الآية قال : أنزلت هذه في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وقوله : (نِسائِهِنَ) يعني نساء المسلمات (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من المماليك والإماء ورخص لهنّ أن يروهنّ بعد ما ضرب الحجاب عليهنّ.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

قرأ الجمهور : (وَمَلائِكَتَهُ) بنصب الملائكة عطفا على لفظ اسم إن. وقرأ ابن عباس : «وملائكته» بالرفع عطفا على محل اسم إنّ ، والضمير في قوله : (يُصَلُّونَ) راجع إلى الله ، وإلى الملائكة ، وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحدا ، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمع قول الخطيب يقول : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال : بئس خطيب القوم أنت ، قل ومن يعص الله ورسوله ، ووجه ذلك أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد ، وهذا الحديث ثابت في الصحيح. وثبت أيضا في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مناديا ينادي يوم خيبر : إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهليّة. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها ، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحدا ، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحمل الذمّ لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم منه إرادة التسوية بينهما بين الله سبحانه وبين رسوله ، فيختص المنع بمثل ذلك ، وهذا أحسن ما قيل في الجمع. وقالت طائفة : في هذه حذف ، والتقدير : إن الله يصلي وملائكته يصلون. وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد ، ولا يرد أيضا ما قيل : إن الصلاة من الله الرحمة ومن ملائكته الدعاء فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون ، ويقال على القول الأوّل أنه أريد بيصلون معنى مجازي يعمّ المعنيين ، وذلك بأن يراد بقوله يصلون يهتمون بإظهار شرفه ، أو يعظمون شأنه ، أو يعتنون بأمره. وحكى البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته ، وصلاة الملائكة الدعاء. وروى الترمذي في سننه عن سفيان الثوري ، وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا : صلاة الربّ : الرحمة ، وصلاة الملائكة : الاستغفار. وحكى الواحدي عن مقاتل أنه قال : أما صلاة الربّ : فالمغفرة ، وأما صلاة الملائكة : فالاستغفار. وقال عطاء بن أبي رباح : صلاته تبارك وتعالى سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته ، وأن الملائكة

٣٤٥

تصلي عليه ، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره ، فقال قوم من أهل العلم : إنها واجبة عند ذكره ، وقال قوم : تجب في كلّ مجلس مرة. وقد وردت أحاديث مصرّحة بذمّ من سمع ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يصلّ عليه.

واختلف العلماء في الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تشهد الصلاة المفترضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر : يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلّا صلى فيها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ترك ذلك تارك ؛ فصلاته مجزئة في مذهب مالك ، وأهل المدينة ، وسفيان الثوري ، وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم ، وهو قول جمهور أهل العلم. قال : وشذّ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان ، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته. قال الطحاوي : لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي. وقال الخطابي ، وهو من الشافعية : إنها ليست بواجبة في الصلاة. قال : وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ، ولا أعلم له في ذلك قدوة. انتهى. وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي ومقاتل بن حيان ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيرا ، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي ، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية. وقد جمعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكرت فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور ، وأشفّ ما يستدلّ به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ «إنّ الله أمرنا أن نصلّي عليك ، فكيف نصلّي عليك في صلاتنا ، فقال : قولوا ...» الحديث. فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب. وأما على بطلان الصلاة بالترك ، ووجوب الإعادة لها فلا ، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم ؛ كما يستلزم ذلك الشروط والأركان.

واعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة ، لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل ، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا» ناهيك بهذه الفضيلة الجليلة والمكرمة النبيلة. وأما صفة الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، منها ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة ، ومنها ما هو مطلق ، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها. والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل : اللهم صلّ وسلم على رسولك ، أو على محمّد أو على النبي ، أو اللهم صلّ على محمّد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه ، ويسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إليها ، فذلك أكمل ، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة ، وسيأتي بعضها آخر البحث ، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل. وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل : صليت عليه وسلمت عليه ، أو الصلاة عليه والسلام عليه ، أو عليه الصلاة والتسليم ، لأن الله سبحانه أمر بإيقاع

٣٤٦

الصلاة عليه والتسليم منا ، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا ، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول : اللهم صلّ عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن يصلي عليه ويسلم عليه. وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعارا عظيما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشريفا كريما ، وكلنا ذلك إلى الله عزوجل ، وأرجعناه إليه ، وهذا الجواب ضعيف جدّا. وأحسن ما يجاب به أن يقال : إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول : اللهم صلّ عليه وسلم ، أو نحو ذلك مما يؤدّي معناه ، كما بينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ، فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.

واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله ؛ وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعارا له يختصّ به دون غيره ، فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته ، كما يجوز لنا أن نقول : اللهم ارحم فلانا أو رحم الله فلانا ، وبهذا قال جمهور العلماء مع اختلافهم هل هو محرّم ، أو مكروه كراهة شديدة ، أو مكروه كراهة تنزيه على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس كما رواه عنه ابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار. وقال قوم : إن ذلك جائز لقوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (١) ولقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٢) ولقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهمّ صلّ عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أن يخص به من شاء ، وليس لنا أن نطلقه على غيره. وأما قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهذا ليس فيه إلا أن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله مرّة واحدة عشر صلوات ، وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعة الله في حقنا ، بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله. وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعار له ، فكذا لفظ السلام عليه. وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة ، والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة ، والترحم على من بعدهم ، والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه ، كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٣) ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قيل : المراد بالأذى : هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي لاستحالة التأذي منه سبحانه. قال الواحدي : قال المفسرون هم المشركون ، واليهود ، والنصارى وصفوا الله بالوالد فقالوا : عزير ابن الله ، والمسيح بن الله ، والملائكة بنات الله ، وكذبوا رسول الله ، وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا مجنون شاعر كذاب ساحر. قال القرطبي : وبهذا قال جمهور العلماء. وقال عكرمة : الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرّض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها. وقال جماعة : إن الآية على حذف مضاف ،

__________________

(١). التوبة : ١٠٣.

(٢). البقرة : ١٥٧.

(٣). الحشر : ١٠.

٣٤٧

والتقدير : إن الذين يؤذون أولياء الله ، وأما أذية رسوله فهي كلّ ما يؤذيه من الأقوال والأفعال ، ومعنى اللعنة : الطرد والإبعاد من رحمته ، وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك اللعن (عَذاباً مُهِيناً) يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة ، لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة. ثم لما فرغ من الذمّ لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل ، ومعنى (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أنه لم يكن ذلك لسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ، ويستحقونها به ، فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبه مما يوجب عليه حدّا أو تعزيرا أو نحوهما ، فذلك حق أثبته الشرع وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه ، وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضرب ، فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرّمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله. ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال : (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي : ظاهرا واضحا لا شك في كونه من البهتان والإثم ، وقد تقدّم بيان حقيقة البهتان ، وحقيقة الإثم.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) يبرّكون. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل يصلي ربك؟ فناداه ربه : يا موسى سألوك هل يصلي ربك؟ فقل نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي ، فأنزل الله على نبيه (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) الآية. وأخرج ابن مردويه عنه قال : إن صلاة الله على النبيّ : هي المغفرة ، إن الله لا يصلي ولكن يغفر ، وأما صلاة الناس على النبيّ فهي الاستغفار له. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قرأ صلّوا عليه كما صلى‌الله‌عليه‌وسلموا تسليما. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) الآية ، قلنا : يا رسول الله! قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال : قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وأخرجه البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديثه بلفظ : قال رجل يا رسول الله : أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال : قل اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال : قلت : يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال : قل اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صليت على إبراهيم ، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وفي الأحاديث اختلاف ، ففي بعضها على إبراهيم فقط ، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط ، وفي بعضها بالجمع بينهما كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله! كيف نصلى

٣٤٨

عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد ، وأزواجه وذرّيته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا ، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه : أن رجلا قال : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله. وجميع التعليمات الواردة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث ، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه ، وقد قال بذلك جماعة ، ونقله إمام الحرمين ، والغزالي قولا عن الشافعي كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره ، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به ، ولا وجه لقول من قال : إن هذه التعليمات الواردة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة ؛ حملا لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد ، لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلّوا على أنبياء الله ورسله ، فإنّ الله بعثهم كما بعثني» وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية قال : نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي ، وروي عنه أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله ، والمؤمنين ، والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) من : للتبعيض ، والجلابيب : جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار. قال الجوهري : الجلباب : الملحفة ، وقيل : القناع ، وقيل : هو ثوب يستر جميع بدن المرأة ، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، فقال : «لتلبسها أختها من جلبابها» قال الواحدي : قال المفسرون : يغطين وجوههنّ ورؤوسهنّ ؛ إلا عينا واحدة ، فيعلم أنهنّ حرائر فلا يعرض لهن

٣٤٩

بأذى. وقال الحسن : تغطي نصف وجهها. وقال قتادة : تلويه فوق الجبين وتشدّه ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى إدناء الجلابيب ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي : أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهنّ حرائر (فَلا يُؤْذَيْنَ) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهنّ مراقبة لهنّ ولأهلهنّ ، وليس المراد بقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أن تعرف الواحدة منهن من هي ، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء ؛ لأنه قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهنّ من ترك إدناء الجلابيب (رَحِيماً) بهن أو غفورا لذنوب المذنبين ، رحيما بهم ، فيدخلن في ذلك دخولا أوّليا. ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عما هم عليه من النفاق (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين ، وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، والمعنى : أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ، ومرض القلوب ، والإرجاف على المسلمين ، فهو على هذا من باب قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

أي : إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض هم : الزناة. والإرجاف في اللغة : إشاعة الكذب والباطل ، يقال أرجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقة ؛ لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت ، من الرجفة وهي : الزلزلة. يقال رجفت الأرض : أي تحركت ، وتزلزلت ترجف رجفا ، والرجفان : الاضطراب الشديد ، وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، ومنه قول الشاعر :

المطعمون اللحم كلّ عشيّة

حتى تغيب الشّمس في الرّجّاف

والإرجاف : واحد الأراجيف ، وأرجفوا في الشيء : خاضوا فيه ، ومنه قول شاعر :

فإنّا وإن عيّرتمونا بقلّة

وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

وقول الآخر (١) :

أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني

وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور

وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا ، وتارة بأنهم قتلوا ، وتارة بأنهم غلبوا ، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار ، فتوعدهم الله سبحانه بقوله : (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي : لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل ، والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد : قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فهذا في معنى الأمر بقتلهم وأخذهم ، أي :

__________________

(١). هو العين المنقري يهجو به العجاج بن رؤبة.

٣٥٠

هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول : ليس هذا بحسن ولا أحسن ، فإن قوله ملعونين إلخ ، إنما هو لمجرّد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم ولا تسليط له عليهم ، وقد قيل : إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم ، وجملة (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) جواب القسم ، وجملة : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) معطوفة على جملة جواب القسم ، أي : لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، وانتصاب (مَلْعُونِينَ) على الحال ، كما قال المبرد وغيره ، والمعنى مطرودين (أَيْنَما) وجدوا وأدركوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا (تَقْتِيلاً) وقيل : إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم ، والأوّل أولى. وقيل معنى الآية : أنهم إن أصرّوا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي : سنّ الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو لعن المنافقين ، وأخذهم ، وتقتيلهم ، وكذا حكم المرجفين ، وهو منتصب على المصدر. قال الزجاج : بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ، ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : تحويلا ، وتغييرا ، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي : عن وقت قيامها وحصولها ، قيل : السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون ، والمرجفون لما توعدوا بالعذاب ، سألوا عن الساعة استبعادا ، وتكذيبا (وَما يُدْرِيكَ) يا محمّد! أي : ما يعلمك ويخبرك (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي : في زمان قريب ، وانتصاب قريبا على الظرفية ، والتذكير لكون الساعة في معنى : اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها ، وهو رسول الله ، فكيف بغيره من الناس؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي : طردهم ، وأبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا (سَعِيراً) أي نارا شديدة التسعر (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) بلا انقطاع (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يواليهم ويحفظهم من عذابها (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ويخلصهم منها ، ويوم في قوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ظرف لقوله لا يجدون ، وقيل : لخالدين ، وقيل : لنصيرا ، وقيل : لفعل مقدر ، وهو الذكر. قرأ الجمهور «تقلّب» بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول. وقرأ عيسى الهمداني ، وابن أبي إسحاق «نقلّب» بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه. وقرأ عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وقرأ أبو حيوة ، وأبو جعفر ، وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب ، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية : هو تقلبها تارة على جهة منها ، وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن ، أو تغير ألوانهم بلفح النار ، فتسودّ تارة وتخضرّ أخرى ، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى ، فحينئذ (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) والجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل : يقولون ، ويجوز أن يكون المعنى : يقولون يوم تقلب وجوههم في النار : يا ليتنا إلخ. تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول ، وآمنوا بما جاء به ، لينجوا مما هم فيه من العذاب ، كما نجا المؤمنون ؛ وهذه الألف في الرسولا ، والألف التي ستأتي في «السبيلا» هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاق ، وقد سبق بيان هذا في أوّل

٣٥١

هذه السورة (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) هذه الجملة معطوفة على الجملة الأوّلى ، والمراد بالسادة والكبراء : هم الرؤساء ، والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم ، وفي هذا زجر عن التقليد شديد. وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا ، والتحذير منه ، والتنفير عنه ، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ، ويقتدي به ، وينصف من نفسه ، لا لمن هو من جنس الأنعام ، في سوء الفهم ، ومزيدة البلادة ، وشدّة التعصب. وقرأ الحسن وابن عامر «ساداتنا» بكسر التاء جمع سادة ، فهو جمع الجمع. وقال مقاتل : هم المطعمون في غزوة بدر ، والأوّل أولى ، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، والسبيل هو التوحيد ، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي : مثل عذابنا مرتين. وقال قتادة : عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الكفر ، وعذاب الإضلال (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) قرأ الجمهور «كثيرا» بالمثلثة ، أي : لعنا كثير العدد ، عظيم القدر ، شديد الموقع ، واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، والنحاس ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه ، ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة ، أي : كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ، قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا ، فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : كان نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهن فيؤذين ، فقيل ذلك للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية ، وأخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهن ، فإذا قيل له : قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زيّ الإماء ويدنين عليهم من جلابيبهنّ تخمر وجهها إلا إحدى عينيها (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) يقول : ذلك أحرى أن يعرفن. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أمّ سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها ، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة ، وليس لها معنى ، فإن المراد تشبيه الأكسية السود : بالغربان ، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رؤوسهم الطير. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية شققن مروطهن ، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس

٣٥٢

في الآية قال : كانت الحرّة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشدّه على جبينها. وأخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب في قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) يعني : المنافقين بأعيانهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك : يعني المنافقين أيضا. وأخرج ابن سعد أيضا عن عبيد ابن جبر قال : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم : المنافقون جميعا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) قال : لنسلطنك عليهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) هو قولهم : إن به أدرة أو برصا أو عيبا ، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث ، وفيه تأديب للمؤمنين ، وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله قال مقاتل : وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى. وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت هذه الآية ، فحكى النقاش أن أذيتهم محمّدا قولهم زيد بن محمّد. وقال أبو وائل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم قسما ، فقال رجل من الأنصار : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، وقيل : نزلت في قصة زيد بن ثابت ، وزينب بنت جحش ، وما سمع فيها من قالة الناس ، ومعنى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) وكان عند الله عظيما ذا وجاهة ، والوجيه عند الله : العظيم القدر ، الرفيع المنزلة ، وقيل في تفسير الوجاهة : إنه كلمه تكليما. قرأ الجمهور «وكان عند الله» بالنون على الظرفية المجازية ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبد الله» بالباء الموحدة من العبودية ، وما في قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) هي : الموصولة أو المصدرية ، أي : من الذي قالوه ، أو من قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي : في كلّ أمر من الأمور (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي : قولا صوابا وحقا. قال قتادة ومقاتل : يعني قولوا قولا سديدا في شأن زيد وزينب ، ولا تنسبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما لا يحلّ. وقال عكرمة : إن القول السديد : لا إله إلا الله. وقيل : هو الذي يوافق ظاهره باطنه ، وقيل : هو ما أريد به وجه الله دون غيره ، وقيل : هو الإصلاح بين الناس. والسديد : مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض ، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولا سديدا في جميع ما يأتونه ويذرونه ، فلا يخص ذلك نوعا دون نوع ، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم ، فالمقام يفيد هذا المعنى ، لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولا يخالف أهل الأذى. ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى ، والقول السديد من الأجر فقال : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي : يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي : يجعلها مكفرة مغفورة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ)

٣٥٣

في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي : ظفر بالخير ظفرا عظيما. ونال خير الدنيا والآخرة ، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما سبقها. ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها).

واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا ، فقال الواحدي : معنى الأمانة هاهنا في قول جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب ، وبتضييعها العقاب. قال القرطبي : والأمانة : تعمّ جميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور.

وقد اختلف في تفاصيل بعضها ، فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها ، وروي عنه أنها في كلّ الفرائض ، وأشدّها أمانة : المال. وقال أبيّ بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وقال ابن عمر : أوّل ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة أستودعكها فلا تلبسها إلا بحق ، فإن حفظتها حفظتك. فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدّي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل ، وخيانته إياه في قتله. وما أبعد هذا القول ، وليت شعري ما هو الذي سوّغ للسدّي تفسير هذه الآية بهذا ، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل ، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد ، وأوهن من بيوت العنكبوت ، وإن كان تفسير هذا عملا بما تقتضيه اللغة العربية ، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ؛ ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أوّل هذا العالم ، وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأي ، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به ، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه ، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير ، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية ، فهو قرآن عربيّ كما وصفه الله ، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تلتفت إلى غيره ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم من جملة العرب ، ومن أهل اللغة ، وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية ، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب ، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها ، فخذ هذه كلية تنتفع بها ، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا. قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت : وما فيها؟ فقال لها : إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك ، فقالت : لا. قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه ، وقيل له ذلك فقال : قد تحملتها. وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد. قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات ، والأرض ، والجبال ، وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف ،

٣٥٤

فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بدّ من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي : إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب ، أي : أن التكليف أمر عظيم ؛ حقه أن تعجز عنه السموات والأرض ، والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل ، وهذا كقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) (١) إن عرضنا بمعنى عارضنا ، أي : عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل : إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه‌السلام ، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها. وهذا أيضا تحريف لا تفسير ، ومعنى (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : التزم بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه ، كما قال سعيد بن جبير ، أو جهول بربه ، كما قال الحسن : وقال الزجاج : معنى حملها : خان فيها ، وجعل الآية في الكفار ، والفساق ، والعصاة ، وقيل معنى حملها : كلفها وألزمها ، أو صار مستعدّا لها بالفطرة ، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم ، واللام في (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) متعلق بحملها ، أي : حملها الإنسان ليعذّب الله العاصي ، ويثيب المطيع ، وعلى هذا فجملة (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمله. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : ليعذبهم بما خانوا من الأمانة ، وكذبوا من الرسل ، ونقضوا من الميثاق الذي أقرّوا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن وقتادة : هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها ، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدّوها. وقال ابن قتيبة : أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق ، وشرك المشرك ؛ فيعذبهما الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي : يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات ، ولذلك ذكر بلفظ التوبة ، فدلّ على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم. وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل ، والراجح ما قدّمنا عن الجمهور ، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ، ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة.

وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ موسى كان رجلا حييا ستّيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما تستّر هذا السّتر إلا من عيب بجلده ، إمّا برص ، وإمّا أدرة ، وإما آفة ، وإنّ الله عزوجل أراد أن يبرئ موسى ممّا قالوا : فخلا يوما وحده ، فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلمّا فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من

__________________

(١). الحشر : ٢١.

٣٥٥

بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وأبرأه ممّا يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فو الله إنّ بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا» وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن جرير ، وابن المنذر والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قال : قال له قومه إنه آدر ، فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، فخرج موسى يتبعها عريانا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة : أن الله أوحى إلى موسى إني متوفّ هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش ، وريح طيب ، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال : يا موسى إني أحبّ أن أنام على هذا السرير ، قال نم عليه ، قال نم معي ، فلما نام أخذ هارون الموت ، فلما قبض رفع ذلك البيت ، وذهبت الشجرة ، ورفع السرير إلى السماء ؛ فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون ، وحسده حبّ بني إسرائيل له ، وكان هارون أألف بهم وألين ، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم ، فلما بلغه ذلك قال : ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله ، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : قسم رسول الله ذات يوم قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحمرّ وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الظهر ثم قال : على مكانكم اثبتوا ، ثم أتى الرّجال فقال : إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولا سديدا ، ثم أتى النساء فقال : إنّ الله أمرني أن آمركنّ أن تتقين الله وأن تقلن قولا سديدا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) الآية قال الأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض ، والجبال إن أدّوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) يعني : غرّا بأمر الله. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والحاكم وصححه عنه في الآية قال : عرضت على آدم ، فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك ؛ وإن عصيت عذبتك ، قال : قبلتها بما فيها ، فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه أيضا من طريق أخرى نحوه.

* * *

٣٥٦

سورة سبإ

وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها ، وهي قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فقالت فرقة : هي مكية ، وقالت فرقة : هي مدنية ، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله ، وفيمن نزلت. وأخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة سبأ بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تعريف الحمد ، مع لام الاختصاص : مشعران باختصاص جميع أفراد الحمد بالله سبحانه على ما تقدّم تحقيقه في فاتحة الكتاب ، والموصول في محل جرّ على النعت ، أو البدل ، أو النصب على الاختصاص ، أو الرفع على تقدير مبتدأ ، ومعنى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أن جميع ما هو فيها في ملكه ، وتحت تصرفه يفعل به ما يشاء ، ويحكم فيه بما يريد ، وكلّ نعمة واصلة إلى العبد ، فهي مما خلقه له ، ومنّ به عليه ، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه لهم. ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به ؛ بين أن الحمد الأخروي مختصّ به كذلك فقال : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) وقوله : «له» متعلق بنفس الحمد ، أو بما تعلق به خبر الحمد ، أعني : في الآخرة ، فإنه متعلق بمتعلق عام هو الاستقرار ، أو نحوه ، والمعنى : أن له سبحانه على الاختصاص حمد

٣٥٧

عباده الذين يحمدون في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة ، كما في قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (١) وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٢) وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) إلى قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) وقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤) فهو سبحانه المحمود في الآخرة ، كما أنه المحمود في الدنيا وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمر الدارين (الْخَبِيرُ) بأمر خلقه فيهما ، قيل : والفرق بين الحمدين أن الحمد في الدنيا عبادة ، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج ، لأنه قد انقطع التكليف فيها. ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به من علمه من أمور السموات والأرض فقال : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : ما يدخل فيها من مطر ، أو كنز ، أو دفين (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ، ونبات ، وحيوان (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والصواعق ، والبركات ، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة ، وأعمال العباد. قرأ الجمهور «ينزل» بفتح الياء وتخفيف الزاي مسندا إلى «ما» وقرأ عليّ بن أبي طالب ، والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندا إلى الله سبحانه : (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بعباده (الْغَفُورُ) لذنوبهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق ، أو كفار مكة على الخصوص ، ومعنى لا تأتينا الساعة : أنها لا تأتي بحال من الأحوال ، إنكارا منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد ، فردّ الله عليهم وأمر رسوله أن يقول لهم : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وهذا القسم لتأكيد الإتيان ، قرأ الجمهور «لتأتينكم» بالفوقية : أي الساعة ، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت. قال طلق : سمعت أشياخنا يقرءون بالياء ، يعني : التحتية على المعنى ، كأنه قال ليأتينكم البعث أو أمره كما قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) قرأ نافع وابن عامر «عالم الغيب» بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره لا يعزب ، أو على تقدير مبتدأ ، وقرأ عاصم ، وابن كثير ، وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربّي ، وقرأ حمزة ، والكسائي علام بالجرّ مع صيغة المبالغة ، ومعنى (لا يَعْزُبُ) لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد (عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) المثقال (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ. والمعنى : إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه فهو مؤكد لنفي العزوب. قرأ الجمهور : (يَعْزُبُ) بضم الزاي ، وقرأ يحيى بن وثّاب بكسرها. قال الفراء : والكسر أحبّ إليّ ، وهما لغتان ، يقال عزب يعزب بالضم ، ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور «ولا أصغر ولا أكبر» بالرفع على الابتداء ، والخبر إلا في كتاب ، أو على العطف على مثقال ، وقرأ قتادة والأعمش بنصبهما عطفا على ذرّة ، أو على أن لا : هي : لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح ، واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) للتعليل لقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي : إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب ، والكافرين بالعقاب ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الموصول ، أي : أولئك الذي عملوا الصالحات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)

__________________

(١). الزمر : ٧٤.

(٢). الأعراف : ٤٣.

(٣). فاطر : ٣٤ و ٣٥.

(٤). يونس : ١٠.

٣٥٨

لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو الجنة بسبب إيمانهم ، وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه. ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل ، وقدحوا فيها وصدوا الناس عنها ، ومعنى «معاجزين» مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون ، وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون ، يقال عاجزه أو عجزه : إذا غالبه وسبقه. قرأ الجمهور (مُعاجِزِينَ) وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو «معجزين» أي : مثبطين للناس عن الأيمان بالآيات (أُولئِكَ) أي : الذين سعوا (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) الرجز : هو العذاب ، فمن للبيان ، وقيل : الرجز هو أسوأ العذاب وأشدّه ، والأوّل أولى ، ومن ذلك قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) قرأ الجمهور «أليم» بالجرّ صفة لرجز ، وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم بالرفع صفة لعذاب ، والأليم : الشديد الألم (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) لما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها ، ومعنى (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : يعلمون وهم الصحابة. وقال مقاتل : هم مؤمنو أهل الكتاب ، وقيل : جميع المسلمين ، والموصول : هو المفعول الأوّل ليرى ، والمفعول الثاني : الحقّ ، والضمير : هو ضمير الفصل. وبالنصب قرأ الجمهور وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر الضمير ، والجملة : في محل نصب على أنها المفعول الثاني ، وهي لغة تميم ، إنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل ، والجملة : في محل نصب على أنها المفعول الثاني ، وهي لغة تميم ، فإنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل ، وزعم الفرّاء أن الاختيار الرفع ، وخالفه غيره وقالوا النصب أكثر. قيل وقوله : (يَرَى) معطوف على ليجزي ، وبه قال الزجاج والفراء ، واعترض عليهما بأن قوله : «ليجزي» متعلق بقوله : «لتأتينكم» ولا يقال لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق ، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات ، أي : إن ذلك السعي منهم يدلّ على جهلهم لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) معطوف على الحق عطف فعل على اسم ، لأنه في تأويله كما في قوله : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أي : وقابضات كأنه قيل : وهاديا ، وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل ، وهو القرآن ، والصراط : الطريق ، أي : ويهدي إلى طريق (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَمِيدِ) عند خلقه ، والمراد : أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من كلام منكري البعث فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قال بعض لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) ، يعنون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : هل نرشدكم إلى رجل (يُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم بأمر عجيب ، ونبأ غريب هو أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرقتم كلّ تفريق وقطعتم كلّ تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتا وترابا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : تخلقون خلقا جديدا ، وتبعثون من قبوركم أحياء ، وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها ، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث ، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله من ذلك ، «وإذا» في موضع نصب بقوله : (مُزِّقْتُمْ). قال النحاس : ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إنّ لأنه لا يعمل فيما قبلها.

٣٥٩

وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا ، والتقدير : إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم ، أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم ، وقال المهدوي : لا يجوز أن يعمل فيه مزقتم لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأصل المزق : خرق الأشياء ، يقال : ثوب مزيق ، وممزق ، ومتمزق ، وممزوق. ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم ردّدوا ما وعدهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البعث بين أمرين فقالوا : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أهو كاذب فيما قاله أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله ، والهمزة في أفترى هي همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدّم في قوله : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) ثم ردّ عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق ، فكفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بما جاءهم به ، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد. ثم وبخهم سبحانه بما اجترءوا عليه من التكذيب ؛ مبينا لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض ، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ، ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات ، ومعنى (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم وقدّامهم ، وكذلك إذا نظروا في الأرض ؛ رأوها خلفهم وقدّامهم ، فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم ، وتكذيبهم لرسوله ، وإنكارهم للبعث ، فهذه الآية اشتملت على أمرين : أحدهما أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدلّ على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (١). والأمر الآخر : التهديد لهم بأن من خلق السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أي : قطعا (مِنَ السَّماءِ) كما أسقطها على أصحاب الأيكة ؛ فكيف يأمنون ذلك. قرأ الجمهور (إِنْ نَشَأْ) بنون العظمة ، وكذا نخسف ونسقط. وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة ؛ أي : إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في (نَخْسِفْ بِهِمُ). قال أبو علي الفارسي : وذلك غير جائز لأن الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء ، وقرأ الجمهور «كسفا» بسكون السين. وقرأ حفص والسلمي بفتحها (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من خلق السماء والأرض (لَآيَةً) واضحة ودلالة بينة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص وخصّ المنيب لأنه المنتفع بالتفكر.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) قال : من المطر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) قال : من النبات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) قال : من الملائكة (وَما يَعْرُجُ فِيها) قال : الملائكة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع ، وفي قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال : أصحاب محمّد. وأخرج

__________________

(١). يس : ٨١.

٣٦٠