فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

الْأُمُورِ) أي : أن ذلك منه فحذف لظهوره ، كما في قولهم :

السّمن منوان بدرهم

قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره ثوابا ، فالرغبة في الثواب أتمّ عزما. قال ابن زيد : إن هذا كله منسوخ بالجهاد ، وأنه خاصّ بالمشركين. وقال قتادة : إنه عام ، وهو ظاهر النظم القرآني (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي : فما له من أحد يلي هدايته وينصره ، وظاهر الآية العموم ، وقيل : هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعمل بما دعاه من الإيمان بالله والعمل بما شرعه ، والأوّل أولى.

وقد أخرج أحمد ، وابن راهويه ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والحكيم ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم عن عليّ بن أبي طالب : قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وسأفسرها لك يا عليّ : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا ؛ فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، وقرأ (وَما أَصابَكُمْ) الآية». وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الكفارات وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه ، وكان قد ابتلي في جسده ، فقال : إنا لنبتئس لك لما نرى فيك ، قال : فلا تبتئس لما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) إلى آخرها. وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفّر الله عنه به من سيئاته». وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر». وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله : (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) قال : يتحرّكن ولا يجرين في البحر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : رواكد قال : وقوفا (أَوْ يُوبِقْهُنَ) قال : يهلكهنّ. وأخرج النسائي ، وابن ماجة ، وابن مردويه عن عائشة. قالت : «دخلت عليّ زينب وعندي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبلت عليّ فسبتني ، فردعها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم تنته ، فقال لي : سبيها ، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ، ووجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل سرورا». وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المستبان ما قالا من شيء فعلى البادئ حتى يعتدي المظلوم» ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر ، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا» وذلك قوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينادي

٦٢١

مناد من كان له أجر على الله فليدخل الجنة مرتين ، فيقوم من عفا عن أخيه ، قال الله (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)».

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

قوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) أي : المشركين المكذبين بالبعث (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي : حين نظروا النار ، وقيل : نظروا ما أعده الله لهم عند الموت (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي : هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) أي : ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النار لما لحقهم من الذلّ والهوان ، والضمير في عليها راجع إلى العذاب وأنثه لأن العذاب هو النار وقوله : (يُعْرَضُونَ) في محل نصب على الحال ، لأن الرؤية بصرية ، وكذلك خاشعين ، ومن الذلّ : يتعلق بخاشعين ، أي : من أجله (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) من : هي التي لابتداء الغاية ، أي : يبتدئ نظرهم إلى النار ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، والطرف الخفيّ : الذي يخفى نظره كالمصبور ينظر إلى السيف لما لحقهم من الذلّ ، والخوف ، والوجل. قال مجاهد (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي : ذليل ، قال : وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا ، وعين القلب طرف خفيّ. وقال قتادة ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، والقرظي : يسارقون النظر من شدّة الخوف. وقال يونس : إن (مِنَ) في (مِنْ طَرْفٍ) بمعنى الباء ، أي : ينظرون بطرف ضعيف من الذلّ والخوف وبه قال الأخفش : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : إنّ الكاملين في الخسران : هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين في يوم القيامة. أما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذّبين بها ، وأما خسرانهم لأهليهم ؛ فلأنهم إن كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم ، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم ، وقيل خسران الأهل : أنهم لو

٦٢٢

آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) هذا يجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه ، أي : هم في عذاب دائم لا ينقطع (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب ، وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله ، بل هو المتصرف سبحانه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي : من طريق يسلكها إلى النجاة. ثم أمر سبحانه عباده بالاستجابة له وحذرهم فقال : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به ، وبكتبه ، ورسله من قبل أن يأتي يوم لا يقدر أحد على ردّه ودفعه ، على معنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، أو لا يردّه الله بعد أن حكم به على عباده ، ووعدهم به ، والمراد به : يوم القيامة ، أو : يوم الموت (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) تلجؤون إليه ، (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : إنكار ، والمعنى : ما لكم من إنكار يومئذ ، بل تعترفون بذنوبكم. وقال مجاهد : (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : ناصر ينصركم ، وقيل : النكير بمعنى المنكر ، كالأليم بمعنى المؤلم ، أي : لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب قاله الكلبي وغيره ، والأوّل أولى. قال الزجاج : معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي : حافظا تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها ، ولا موكلا بهم رقيبا عليهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي : ما عليك إلا البلاغ لما أمرت بإبلاغه ، وليس عليك غير ذلك ، وهذا منسوخ بآية السيف (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أي : إذا أعطيناه رخاء وصحة وغنى فرح بها بطرا ، والمراد بالإنسان الجنس ، ولهذا قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : بلاء وشدّة ومرض (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الذنوب (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي : كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه ، غير شكور له عليها ، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان. ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه فقال : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له التصرّف فيهما بما يريد ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الخلق (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) قال مجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وأبو مالك ، وأبو عبيدة : يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهنّ ، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناث معهم. قيل : وتعريف الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث ، ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك ، فلا دلالة في الآية على المفاضلة بل هي مسوقة لمعنى آخر. وقد دلّ على شرف الذكور قوله سبحانه : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ) (١) وغير ذلك من الأدلة الدّالة على شرف الذكور على الإناث ، وقيل : تقديم الإناث لكثرتهنّ بالنسبة إلى الذكور ، وقيل : لتطييب قلوب آبائهن ، وقيل : لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) أي : يقرن بين الإناث والذكور ويجعلهم أزواجا فيهبهما جميعا لبعض خلقه. قال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ، ثم تلد جارية ، ثم تلد غلاما ، ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنفية : هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وقال القتبي : التزويج هنا : هو الجمع بين البنين

__________________

(١). النساء : ٣٤.

٦٢٣

والبنات تقول العرب : زوجت إبلي : إذا جمعت بين الصغار والكبار ، ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله ، فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثا ، ويهب لبعض ذكورا ، ويجمع لبعض بين الذكور والإناث (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له ذكر ولا أنثى ، والعقيم الذي لا يولد له ، يقال رجل عقيم وامرأة عقيم ، وعقمت المرأة تعقم عقما ، وأصله القطع ، ويقال نساء عقم ، ومنه قول الشاعر :

عقم النّساء فما يلدن شبيهه

إنّ النّساء بمثله عقم

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي : بليغ العلم عظيم القدرة (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي : ما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلّا بأن يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه قال مجاهد : نفث ينفث في قلبه ، فيكون إلهاما منه ؛ كما أوحى إلى أم موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما كلم موسى ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى ، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي : يرسل ملكا ، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه. قال الزجاج : المعنى أن كلام الله للبشر : إما أن يكون بإلهام يلهمهم ، أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى ، أو برسالة ملك إليهم. وتقدير الكلام : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى وحيا ، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا. ومن قرأ «يرسل» رفعا أراد وهو يرسل ، فهو ابتداء واستئناف اه. قرأ الجمهور بنصب (أَوْ يُرْسِلَ) وبنصب (فَيُوحِيَ) على تقدير أن ، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحيا ، ووحيا في محل الحال ، والتقدير : أو موحيا أو مرسلا ، ولا يصح عطف أو يرسل على أن يكلمه لأنه يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا ، وهو فاسد لفظا ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف. وقرأ نافع «أو يرسل» بالرفع ، وكذلك «فيوحي» بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : أو هو يرسل ، كما قال الزجاج وغيره ، وجملة (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) تعليل لما قبلها ، أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه.

قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ، فنزلت (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي : وكالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، المراد به : القرآن ، وقيل : النبوّة. قال مقاتل : يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن ، لأنه يهتدى به ، ففيه حياة من موت الكفر. ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحى إليه فقال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) أي : أيّ شيء هو ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يقرأ ، ولا يكتب وذلك أدخل في الإعجاز ، وأدلّ على صحة نبوّته ، ومعنى (وَلَا الْإِيمانُ) أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها ، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها ، وقيل : أراد بالإيمان هنا الصلاة. قال بهذا جماعة من أهل العلم : منهم إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة ، واحتجّ بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ

٦٢٤

إِيمانَكُمْ) (١) يعني الصلاة ، فسماها إيمانا. وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبيا إلا وقد كان مؤمنا به ، وقالوا معنى الآية : ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان ، وقيل : كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلا وفي المهد. وقال الحسين بن الفضل : إنه على حذف مضاف ، أي : ولا أهل الإيمان ، وقيل : المراد بالإيمان دين الإسلام ، وقيل : الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) أي ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلا على التوحيد والإيمان نهدي به من نشاء هدايته (مِنْ عِبادِنا) ونرشده إلى الدين الحقّ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال قتادة ، والسدّي ، ومقاتل : وإنك لتدعو إلى الإسلام ، فهو الصراط المستقيم. قرأ الجمهور (لَتَهْدِي) على البناء للفاعل. وقرأ ابن حوشب على البناء للمفعول. وقرأ ابن السميقع بضمّ التاء وكسر الدّال من أهدى ، وفي قراءة أبيّ «وإنّك لتدعو» ثم بيّن الصراط المستقيم بقوله : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف من التعظيم له ، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ، ومعنى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أنه المالك لذلك والمتصرّف فيه (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي : تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق ، وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) قال : ذليل. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن محمد ابن كعب قال : يسارقون النظر إلى النار. وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى ، لأن الله قال : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ)». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) قال : الذي لا يولد له. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) قال : إلا أن يبعث ملكا يوحي إليه من عنده ، أو يلهمه فيقذف في قلبه ، أو يكلمه من وراء حجاب. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) قال : القرآن. وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، وابن عساكر عن عليّ قال : قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل عبدت وثنا قط؟ قال لا : قالوا : فهل شربت خمرا قط؟ قال لا ، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر ، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وبذلك نزل القرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ).

* * *

__________________

(١). البقرة : ١٤٣.

٦٢٥

سورة الزّخرف

قال القرطبي : هي مكية بالإجماع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة حم الزخرف بمكة ، قال مقاتل : إلا قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) يعني فإنها نزلت بالمدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

قوله : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الكلام هاهنا في الإعراب كالكلام الذي قدّمناه في (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) فإن جعلت حم قسما كانت الواو عاطفة ، وإن لم تجعل قسما فالواو للقسم ، وجواب القسم (إِنَّا جَعَلْناهُ) وقال ابن الأنباري : من جعل جواب والكتاب حم كما تقول : نزل والله ، وجب والله وقف على الكتاب المبين ، ومعنى جعلناه : أي سميناه ووصفناه ، ولذلك تعدّى إلى مفعولين. وقال السدّي : المعنى أنزلناه (قُرْآناً) وقال مجاهد : قلناه. وقال سفيان الثوري : بيناه (عَرَبِيًّا) وكذا قال الزجاج ، أي : أنزل بلسان العرب ، لأن كل نبيّ أنزل كتابه بلسان قومه. وقال مقاتل : لأن لسان أهل الجنة عربيّ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكي تفهموه وتتعقلوا معانيه وتحيطوا بما فيه. قال ابن زيد : لعلكم تتفكرون (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي : وإن القرآن في اللوح المحفوظ (لَدَيْنا) أي : عندنا (لَعَلِيٌّ

٦٢٦

حَكِيمٌ) رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ، ولا تناقض ، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم ، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها. قال الزجاج : أمّ الكتاب أصل الكتاب ، وأصل كلّ شيء : أمه ، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (١) وقال ابن جريج : المراد بقوله : (وَإِنَّهُ) أعمال الخلق من إيمان وكفر ، وطاعة ومعصية. قال قتادة : أخبر عن منزلته وشرفه وفضله ، أي : إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) يقال ضربت عنه وأضربت عنه : إذا تركته وأمسكت عنه ، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما ، وانتصاب صفحا : على المصدرية ، وقيل : على الحال ؛ على معنى : أفنضرب عنكم الذكر صافحين ، والصفح مصدر قولهم : صفحت عنه إذا أعرضت عنه ، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك ، والمراد بالذكر هنا القرآن ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. قال الكسائي : المعنى أفنضرب عنكم الذكر طيا ، فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدّي : أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم. وقال قتادة : المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وروي عنه أنه قال : المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به. وقيل الذكر : التذكير ، كأنه قال : أنترك تذكيركم (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ، قرأ نافع وحمزة والكسائي إن كنتم بكسر إن على أنها الشرطية ، والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها على التعليل ، أي : لأن كنتم قوما منهمكين في الإسراف مصرّين عليه ، واختار أبو عبيد قراءة الفتح. ثم سلى سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم هي الخبرية التي معناها التكثير ، والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كاستهزاء قومك بك (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : أهلكنا قوما أشدّ قوة من هؤلاء القوم ، وانتصاب بطشا : على التمييز ، أو الحال ، أي : باطشين (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة : عقوبتهم ، وقيل : صفتهم ، والمثل الوصف والخبر ، وفي هذا تهديد شديد ، لأنه يتضمن أن الأوّلين أهلكوا بتكذيب الرسل ، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي : لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية ؛ أقرّوا بأن الله خالقهنّ ولم ينكروا ، وذلك أسوأ لحالهم وأشدّ لعقوبتهم ، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله ، وجعلوه شريكا له ، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينفع ولا يضرّ من المخلوقات وهي : الأصنام ؛ فجعلوها شركاء لله. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم نعمته على عباده ، وكمال قدرته في مخلوقاته فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله ، ولو كان متصلا بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهادا ، والمهاد : الفراش والبساط ، وقد تقدّم بيانه ، قرأ الجمهور «مهادا» وقرأ الكوفيون (مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : طرقا تسلكونها إلى حيث تريدون ، وقيل : معايش تعيشون بها (لَعَلَّكُمْ

__________________

(١). البروج : ٢١ ـ ٢٢.

٦٢٧

تَهْتَدُونَ) بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي : بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق ، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة ، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات. قرأ الجمهور (مَيْتاً) بالتخفيف. وقرأ عيسى ، وأبو جعفر بالتشديد (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) من قبوركم ، أي : مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء ، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك ، وقد مضى بيان هذا في آل عمران ، والأعراف. قرأ الجمهور (تُخْرَجُونَ) مبنيا للمفعول وقرأ الأعمش ، ويحيى ابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وابن ذكوان عن ابن عامر مبنيا للفاعل (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) المراد بالأزواج هنا : الأصناف ، قال سعيد بن جبير : الأصناف كلها. وقال الحسن : الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسموات والأرض ، والجنة والنار ، وقيل : أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، وقيل : أزواج النبات ، كقوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (١) و (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٢) وقيل : ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشرّ ، وإيمان وكفر ، والأوّل أولى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) في البحر والبرّ ، أي : ما تركبونه (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد. وقال الفراء : أضاف الظهور إلى واحد ، لأن المراد به الجنس ، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر ، وجمع الظهر لأن المراد : ظهور هذا الجنس ، والاستواء : الاستعلاء ، أي : لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي : هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبرّ. وقال مقاتل والكلبي : هو أن يقول الحمد لله الذي رزقني هذا ، وحملني عليه (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي : ذلل هذا المركب ، وقرأ عليّ بن أبي طالب «سبحان من سخّر لنا هذا» قال قتادة : قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم ، ومعنى (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ما كنا له مطيقين ، يقال أقرن هذا البعير : إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة : مقرنين ضابطين ، وقيل : مماثلين له في القوّة ، من قولهم : هو قرن فلان إذا كان مثله في القوّة ، وأنشد قطرب قول عمرو بن معدي كرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النّائبات بمقرنينا

وقال آخر :

ركبتم صعبتي أشرا وحيفا

ولستم للصّعاب بمقرنينا

والمراد بالأنعام هنا : الإبل خاصة ، وقيل : الإبل والبقر ، والأوّل أولى (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي : راجعون إليه ، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة. ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدّم ذكرهم ، فقال : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) قال قتادة : أي عدلا ، يعني ما عبد من دون الله. وقال

__________________

(١). ق : ٧.

(٢). الشعراء : ٧.

٦٢٨

الزجاج والمبرد : الجزء هنا البنات ، والجزء عند أهل العربية البنات ، يقال قد أجزأت المرأة : إذا ولدت البنات ، ومنه قول الشاعر :

إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب

قد تجزئ المذكار أحيانا

وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير ، وصرح بأنه مكذوب على العرب. ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد ، وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها ، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) وقوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ) وقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وقيل : المراد بالجزء هنا الملائكة ؛ فإنهم جعلوهم أولادا لله سبحانه قاله مجاهد والحسن. قال الأزهري : ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولدان (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي : ظاهر الكفران مبالغ فيه ، قيل : المراد بالإنسان هنا الكافر ، فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحودا بينا. ثم أنكر عليهم هذا فقال : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) وهذا استفهام تقريع وتوبيخ. وأم هي المنقطعة ، والمعنى : أتخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما ، يقال : أصفيته بكذا ، أي : آثرته به ، وأصفيته الودّ : أخلصته له ، ومثل هذه الآية قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (١) وقوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) وجملة وأصفاكم : معطوفة على اتخذ داخلة معها تحت الإنكار. ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي : بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات ، والمعنى : أنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتمّ لذلك وظهر عليه أثره ، وهو معنى قوله : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي : صار وجهه مسودّا بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكرا مكانها (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه. قال قتادة : حزين. وقال عكرمة : مكروب ، وقيل : ساكت ، وجملة (وَهُوَ كَظِيمٌ) في محل نصب على الحال. ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) معنى ينشأ : يربى ، والنشوء : التربية ، والحلية : الزينة ، ومن في محل نصب بتقدير مقدّر معطوف على جعلوا ؛ والمعنى : أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجز عن أن يقوم بأمور نفسه ، وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ، ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف رأيه. قال المبرد : تقدير الآية : أو يجعلون له من ينشأ في الحلية. أي ينبت في الزينة. قرأ الجمهور (يُنَشَّؤُا) بفتح الياء وإسكان النون ، وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وابن وثاب ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بضم الياء ، وفتح النون ، وتشديد الشين. واختار القراءة الأولى : أبو حاتم ، واختار الثانية : أبو عبيد. قال الهروي : الفعل على القراءة الأولى لازم ، وعلى الثانية متعدّ. والمعنى : يربى ويكبر في الحلية. قال قتادة : قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. وقال ابن زيد والضحاك : الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة (وَجَعَلُوا

__________________

(١). النجم : ٢١ و ٢٢.

٦٢٩

الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الجعل هنا لمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول : جعلت زيدا أفضل الناس ، أي : قلت بذلك وحكمت له به. قرأ الكوفيون (عِبادُ) بالجمع ، وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون «عند الرحمن» بنون ساكنة ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، لأن الإسناد فيها أعلى ، ولأن الله إنما كذبهم في قوله : إنهم بنات الله فأخبرهم أنهم عباده ، ويؤيد هذه القراءة قوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (١) واختار أبو حاتم القراءة الثانية ، قال : وتصديق هذه القراءة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٢). ثم وبخهم وقرعهم فقال : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي : أحضروا خلق الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور ، وفي هذا تهكّم بهم وتجهيل لهم. وقرأ الجمهور (أَشَهِدُوا) على الاستفهام بدون واو. وقرأ نافع «أو شهدوا». وقرأ الجمهور (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بضم التاء الفوقية وبناء الفعل للمفعول ورفع شهادتهم ، وقرأ السلمي وابن السميقع وهبيرة عن حفص بالنون ، وبناء الفعل للفاعل ونصب شهادتهم ، وقرأ أبو رجاء «شهاداتهم» بالجمع ، والمعنى : سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم لنجازيهم على ذلك (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم القيامة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية ، ومعناه : لو شاء الرحمن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة ، وهذا كلام حقّ يراد به باطل ، وقد مضى بيانه في الأنعام ، فبين سبحانه جهلهم بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي : ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم ، بل تكلموا بذلك جهلا ، وأرادوا بما صورته صورة الحقّ باطلا ، وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي. ثم بين انتفاء علمهم بقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ، ويتمحلون تمحلا باطلا. وقيل : الإشارة بقوله : (بِذلِكَ) إلى قوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً). قاله قتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وقال مجاهد ، وابن جريج : أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أول ما خلق الله من شيء القلم ، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، والكتاب عنده ، ثم قرأ : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ). وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) قال : أحببتم أن يصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) قال : مطيقين. وأخرج عبد ابن حميد عنه (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) قال : هو النساء فرق بين زيّهن وزي الرجال ونقصهنّ من الميراث وبالشهادة وأمرهنّ بالقعدة وسماهنّ الخوالف. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن سعيد بن جبير قال : كنت أقرأ هذا الحرف «الذين هم عند الرّحمن إناثا»

__________________

(١). الأنبياء : ٢٦.

(٢). الأعراف : ٢٠٦.

٦٣٠

فسألت ابن عباس فقال : عباد الرحمن؟ قلت : فإنها في مصحفي «عند الرّحمن» قال : فامحها واكتبها (عِبادُ الرَّحْمنِ).

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

قوله : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أم : هي المنقطعة ، أي : بل أأعطيناهم كتابا من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يأخذون بما فيه ، ويحتجون به وسيجعلونه لهم دليلا ، ويحتمل أن تكون أم معادلة لقوله : (أَشَهِدُوا) ، فتكون متصلة ، والمعنى أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا إلخ. وقيل : إن الضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) يعود إلى ادّعائهم ، أي : أم آتيناهم كتابا من قبل ادّعائهم ينطق بصحة ما يدّعونه ، والأوّل أولى. ثم بين سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ولا شبهة ؛ ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم ، ومعنى على أمة : على طريقة ومذهب. قال أبو عبيد : هي الطريقة والدين ، وبه قال قتادة وغيره. قال الجوهري : والأمة الطريقة والدين ، يقال فلان لا أمة له : أي لا دين له ، ولا نحلة ، ومنه قول قيس بن الخطيم :

كنّا على أمّة آبائنا

ويقتدي الآخر بالأوّل

وقول الآخر :

وهل يستوي ذو أمّة وكفور

وقال الفراء وقطرب : على قبلة. وقال الأخفش : على استقامة ، وأنشد قول النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع

٦٣١

قرأ الجمهور (أُمَّةٍ) بضم الهمزة ، وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز بكسرها. قال الجوهري : والإمة بالكسر : النعمة ، والإمة : أيضا لغة في الأمة ، ومنه قول عديّ بن زيد :

ثمّ بعد الفلاح والملك والإمة

وارتهم هناك قبور

ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة وقال بها فقال : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مترفوها : أغنياؤها ورؤساؤها ، قال قتادة : مقتدون متبعون ، ومعنى الاهتداء والاقتداء متقارب ، وخصص المترفين تنبيها على أن التنعم هو سبب إهمال النظر. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يردّ عليهم ، فقال : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي : أتتبعون آباءكم ؛ ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ، قال الزجاج : المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه. قرأ الجمهور «قل أولو جئتكم» وقرأ ابن عامر وحفص (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) وهو حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم ، أي : قال كلّ منذر من أولئك المنذرين لأمته ، وقيل : إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم ، كأنه قال : لكل نبيّ قل ، بدليل قوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه ، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ، ويتبعون آثارهم ، ويقتدون بهم ، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ولا حجة واضحة ، بل بمجرّد قال ، وقيل : لشبهة داحضة ، وحجة زائفة ، ومقالة باطلة ، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك ، فإن قال لهم الداعي إلى الحقّ : قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي ، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم ولا تعبد آباءكم من قبلكم إلّا بكتابه الذي أنزله على رسوله وبما صحّ عن رسوله ، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه ، الفارق بين محكمه ومتشابهه ، فتعالوا نردّ ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١) فإن الردّ إليهما أهدى لنا ولكم من الردّ إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم ، نفروا نفور الوحوش ، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر ، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (٢) ولا قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣) فإن قال لهم القائل : هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبدا بكتاب الله وسنة رسوله ، مطلوبا منه ما هو مطلوب منكم ، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل ، فذلك رخصة له لا يحلّ أن يتبعه غيره عليها ، ولا يجوز لهم العمل بها ، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده ، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله ، أو فيما صحّ من سنة رسوله ، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا نعمل بهذا ولا سمع لك ولا طاعة ، ووجدوا في صدورهم أعظم

__________________

(١). النساء : ٥٩.

(٢). النور : ٥١.

(٣). النساء : ٦٥.

٦٣٢

الحرج من حكم الكتاب والسنة ، ولم يسلموا بذلك ولا أذعنوا له ، وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكؤون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة ، وهي أنهم يقولون : إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله ، وذلك لأن أذهانهم قد تصوّرت من يقتدون به تصورا عظيما بسبب تقدّم العصر وكثرة الأتباع ، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم ، فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدرا ، وأقدم عصرا من صاحبكم ، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء ، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصرا وأجلّ قدرا ، فإن أبيتم ذلك ، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر ، فإن أبيتم ذلك ، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجلّ خطرا وأكثر أتباعا وأقدم عصرا ، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم ورسول الله إلينا وإليكم فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر ، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت ، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا تحريف ولا تصحيف ، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه ، فتعالوا لنأخذ الحقّ من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه ، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا سمع ولا طاعة ، إما بلسان المقال أو بلسان الحال ، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته «أدب الطلب ومنتهى الأرب» فارجع إليه إن رمت أن تجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع لك سحائب التقليد (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) وذلك الانتقام : ما أوقعه الله بقوم نوح ، وعاد ، وثمود (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من تلك الأمم ، فإن آثارهم موجودة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أي : واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراء : مصدر نعت به للمبالغة ، وهو يستعمل للواحد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث. قال الجوهري : وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء ، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل ، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي : خلقني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق ، والاستثناء : إما منقطع ، أي : لكن الذي فطرني ، أو : متصل من عموم ما ، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، وإخباره بأنه سيهديه جزما لثقته بالله سبحانه ، وقوّة يقينه (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) الضمير في جعلها عائد إلى قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهي بمعنى التوحيد كأنه قال : وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذرّيته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه ، وفاعل جعلها إبراهيم ، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) (١) الآية ، وقيل : الفاعل هو الله عزوجل ، أي : وجعل الله عزوجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله ، لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة :

__________________

(١). البقرة : ١٣٢.

٦٣٣

هي الإسلام. قال ابن زيد : الكلمة هي قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) وجملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) تعليل للجعل ، أي : جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل : الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة ، أي : لعلّ أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها ... إلخ. قال السدّي : لعلهم يتوبون ، فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله ، ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) أضرب عن الكلام الأوّل إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ، فاغترّوا بالمهلة وأكبوا على الشهوات (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى مبين ظاهر الرسالة واضحها ، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه. ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحقّ فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي : جاحدون ، فسموا القرآن سحرا وجحدوه. واستحقروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) المراد بالقريتين : مكة ، والطائف ، وبالرجلين : الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وغيره : عتبة بن ربيعة من مكة ، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وقيل : غير ذلك. وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسوّد في قومه والمعنى : أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين ، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني : النبوّة أو ما هو أعمّ منها ، والاستفهام للإنكار. ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ولم نفوّض ذلك إليهم ، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده ، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوّة ، وتفويضها إلى من يشاء من خلقه. قال مقاتل : يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا. قرأ الجمهور (مَعِيشَتَهُمْ) بالإفراد ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن «معايشهم» بالجمع «و» معنى (رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق ، والرياسة ، والقوّة ، والحرية ، والعقل ، والعلم ، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض ، فقال : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي : ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغنيّ الفقير ، والرئيس المرؤوس ، والقويّ الضعيف ، والحرّ العبد ، والعاقل من هو دونه في العقل ، والعالم الجاهل ، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا ، وبه تتمّ مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كلّ واحد منهم إلى مطلوبه ، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين ، فجعل البعض محتاجا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ، ويحتاج هذا إلى هذا ، ويصنع هذا لهذا ، ويعطي هذا هذا. قال السدّي وابن زيد : سخريا : خولا وخداما ، يسخر الأغنياء الفقراء

__________________

(١). البقرة : ١٣١.

٦٣٤

فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا ، وقيل : هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء ، وهذا وإن كان مطابقا للمعنى اللغوي ، ولكنه بعيد من معنى القرآن ، ومناف لما هو مقصود السياق (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني بالرحمة : ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة ، وقيل : هي النبوّة لأنها المراد بالرحمة المتقدّمة في قوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ولا مانع من أن يراد كلّ ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولا ، أو بدلا ، ومعنى (مِمَّا يَجْمَعُونَ) ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا. ثم بين سبحانه حقارة الدنيا عنده فقال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي : لو لا أن يجتمعوا على الكفر ميلا إلى الدنيا وزخرفها (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها ، ولبيوتهم بدل اشتمال من الموصول والسقف جمع سقف. قرأ الجمهور بضمّ السين والقاف كرهن ورهن. قال أبو عبيدة : ولا ثالث لهما. وقال الفراء : هو جمع سقيف نحو كثيب وكثب ، ورغيف ورغف ، وقيل : هو جمع سقوف ، فيكون جمعا للجمع.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس. قال الحسن : معنى الآية : لو لا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله ، وقال بهذا أكثر المفسرين. وقال ابن زيد : لو لا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة. وقال الكسائي : المعنى لو لا أن يكون في الكفار غنيّ وفقير ، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) المعارج : الدرج جمع معراج ، والمعراج السلم. قال الأخفش : إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج ، مثل : مرقاة ومرقاة ، والمعنى : فجعلنا لهم معارج من فضة عليها يظهرون : أي : على المعارج يرتقون ويصعدون ، يقال ظهرت على البيت : أي علوت سطحه ، ومنه قول النابغة :

بلغنا السّماء مجدا وفخرا وسؤددا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

أي مصعدا (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً) أي : وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) أي : على السرر وهو جمع سرير ، وقيل : جمع أسرة فيكون جمعا للجمع ، والاتكاء والتوكؤ : التحامل على الشيء ، ومنه (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) (١) واتكأ على الشيء فهو متكئ ، والموضع متكأ ، والزخرف : الذهب. وقيل : الزينة أعمّ من أن تكون ذهبا أو غيره. قال ابن زيد : هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن : النقوش وأصله الزينة ، يقال : زخرفت الدار ، أي : زينتها ، (وَ) انتصاب (زُخْرُفاً) بفعل مقدّر ، أي : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا ، أو بنزع الخافض ، أي : أبوابا وسررا من فضة ومن ذهب ، فلما حذف الخافض انتصب. ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرأ الجمهور (لَمَّا) بالتخفيف وقرأ عاصم وحمزة وهاشم عن ابن عامر بالتشديد. فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وعلى القراءة الثانية هي النافية. ولما

__________________

(١). طه : ١٨.

٦٣٥

بمعنى إلا ، أي : ما كل ذلك إلا شيء يتمتع به في الدنيا. وقرأ أبو رجاء بكسر اللام من «لما» على أن اللام للعلة وما موصولة والعائدة محذوف ، أي : للذي هو متاع (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي : لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده وعمل بطاعته ، فإنها الباقية التي لا تفنى ، ونعيمها الدائم الذي لا يزول.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) قال : على دين. وأخرج عبد بن حميد عنه (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) قال : لا إله إلا الله (فِي عَقِبِهِ) قال : عقب إبراهيم ولده. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضا أنه سئل عن قول الله (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ما القريتان؟ قال : الطائف ومكة ، قيل : فمن الرجلان؟ قال : عمير بن مسعود ، وخيار قريش. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضا قال : يعني بالقريتين مكة والطائف ، والعظيم : الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعنون أشرف من محمد الوليد بن المغيرة من أهل مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآية يقول : لو لا أن أجعل الناس كلهم كفارا لجعلت لبيوت الكفار سقفا من فضة ومعارج من فضة ، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة ، زخرفا : وهو الذهب. وأخرج الترمذي وصححه ، وابن ماجة عن سهل ابن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

قوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) يقال عشوت إلى النار : قصدتها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما تقول : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه ، كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري. فالمعنى : ومن يعرض عن ذكر الرحمن. قال الزجاج : معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له ، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين. وقال الخليل : العشو النظر الضعيف ، ومنه :

لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره

إذا الرّيح هبّت والمكان جديب

٦٣٦

والظاهر أن معنى البيت القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل ، فيكون دليلا على ما قدّمنا من أنه بمعنى القصد ، وبمعنى الإعراض ؛ وهكذا ما أنشده الخليل مستشهدا به على ما قاله من قول الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

فإن الظاهر أن معناه : تقصد إلى ضوء ناره ، لا تنظر إليها ببصر ضعيف. ويمكن أن يقال : إن المعنى في البيتين المبالغة في ضوء النار وسطوعها ، بحيث لا ينظرها الناظر إلا كما ينظر من هو معشي البصر لما يلحق بصره من الضعف عند ما يشاهده من عظم وقودها. وقال أبو عبيدة والأخفش : إن معنى (وَمَنْ يَعْشُ) ومن تظلم عينه ، وهو نحو قول الخليل ، وهذا على قراءة الجمهور (وَمَنْ يَعْشُ) بضم الشين من عشا يعشو. وقرأ ابن عباس وعكرمة (وَمَنْ يَعْشُ) بفتح الشين ، يقال عشى الرجل يعشى عشيا إذا عمى ، ومنه قول الأعشى :

رأت رجلا غائب الوافدين

مختلف الخلق أعشى ضريرا

وقال الجوهري : والعشا مقصور مصدر الأعشى : وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ، والمرأة عشواء. وقرئ «يعشو» بالواو على أن «من» موصولة غير متضمنة معنى الشرط. قرأ الجمهور (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) بالنون وقرأ السلمي ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، وعصمة عن عاصم والأعمش بالتحتية مبنيا للفاعل ، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنيا للمفعول ورفع شيطان على النيابة (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي : ملازم له لا يفارقه ، أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه ، بل يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كلّ ما يوسوس به إليه (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكلّ أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنيّ من (لَيَصُدُّونَهُمْ) : أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه ، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنون صدق ما يوسوسون به ، وهو معنى قوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي : يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم ، أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون (حَتَّى إِذا جاءَنا) قرأ الجمهور بالتثنية ، أي : الكافر ، والشيطان المقارن له ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص بالإفراد ، أي : الكافر أو جاء كلّ واحد منهم (قالَ) الكافر مخاطبا للشيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي : بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب المشرق على المغرب. قال مقاتل : يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة ، والأوّل أولى ، وبه قال الفراء (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) المخصوص بالذم محذوف ، أي : أنت أيها الشيطان (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أي : لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا ، وقيل إن : (إِذْ) بدل من اليوم لأنه تبين في ذلك اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا. قرأ الجمهور (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) بفتح أن على أنها وما بعدها في محلّ رفع على الفاعلية ، أي : لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب. قال المفسرون : لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب لأن لكلّ أحد من الكفار

٦٣٧

والشياطين الحظ الأوفر منه. وقيل : إنها لنفي النفع ، أي : لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا ، ويقوّي هذا المعنى قراءة ابن عامر على اختلاف عليه فيها بكسر إن. ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الهمزة لإنكار التعجب ، أي : ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخبار له أنه لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل ، وقوله : (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على العمى ، أي : إنك لا تهدي من كان كذلك ، ومعنى الآية : أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصمّ الذين لا يعقلون ما جئت به ، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه لإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) إما في الدنيا أو في الآخرة ، وقيل المعنى : نخرجنك من مكة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب قبل موتك (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) متى شئنا عذبناهم. قال كثير من المفسرين : قد أراه الله ذلك يوم بدر. وقال الحسن وقتادة : هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفتن ، وقد كان بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنة شديدة ، فأكرم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذهب به فلم يره في أمته شيئا من ذلك ، والأوّل أولى (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي : من القرآن وإن كذّب به من كذّب (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق واضح ، والجملة تعليل لقوله : (فَاسْتَمْسِكْ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : وإن القرآن لشرف لك ولقومك من قريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم ومثله قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (١) وقيل : بيان لك ولأمتك فيما لكم إليه حاجة. وقيل : تذكرة تذكرون بها أمر الدين وتعملون به (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عما جعله الله لكم من الشرف ، كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما. وقيل : يسئلون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) قال الزهري ، وسعيد ابن جبير ، وابن زيد : إن جبريل قال ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أسري به. فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم ، وبه قال جماعة من السلف. وقال المبرد ، والزجاج ، وجماعة من العلماء : إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا. وبه قال مجاهد ، والسدّي ، والضحاك ، وقتادة ، وعطاء ، والحسن ومعنى الآية على القولين : سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل وهل سوّغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت : قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه ، فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله ، فأتاه وهو في القوم ، فقال أبو بكر : إلام تدعوني؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى. قال أبو بكر : وما اللات؟ قال : أولاد الله. قال : وما العزّى. قال : بنات الله. قال أبو بكر : فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه ، فقال لأصحابه : أجيبوا الرجل ، فسكت

__________________

(١). الأنبياء : ١٠.

٦٣٨

القوم ، فقال طلحة : قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فأنزل الله (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) الآية. وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل إنسان قرينا من الجنّ. وأخرج ابن مردويه عن عليّ في قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) قال : ذهب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقيت نقمته في عدوّه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) قال : يوم بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق عنه في قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قال : شرف لك ولقومك. وأخرج ابن عديّ ، وابن مردويه عن عليّ ، وابن عباس قالا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فكان إذا سئل قال لقريش فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك. وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن ابن عباس في قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) قال : اسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

لما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوّه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى ، وفرعون وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهي التسع التي تقدّم بيانها (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) الملأ : الأشراف (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أرسلني إليكم (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء وسخرية ، وجواب لما هو إذا الفجائية ، لأن التقدر : فاجئوا وقت ضحكهم (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي : كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها ، وأعظم قدرا مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها ، وقيل المعنى : إن الأولى تقتضي علما ، والثانية تقتضي علما ، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ، ومعنى الأخوّة بين الآيات : أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوّة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه ، أي : هما قرينتان في المعنى ، وجملة (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) في محل جرّ صفة لآية ، وقيل المعنى : أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظنّ الظانّ أنها أكبر من سائر الآيات ، ومثل هذا قول القائل :

٦٣٩

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النّجوم التي يسري بها السّاري

(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بسبب تكذيبهم بتلك الآيات ، والعذاب هو المذكور في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) (١) الآية ، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم ، ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) وكانوا يسمون العلماء سحرة ، ويوقرون السحرة ويعظمونهم ، ولم يكن السحر صفة ذم عندهم. قال الزجاج : خاطبوه بما تقدّم له عندهم من التسمية بالساحر (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي : بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب ، وقيل : المراد بالعهد النبوّة ، وقيل : استجابة الدعوة على العموم (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ، ومؤمنون بما جئت به (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) في الكلام حذف ، والتقدير : فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فلما كشف عنهم العذاب فاجؤوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء ، والنكث : النقض (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) قيل : لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى ، فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم أو أمر مناديا ينادي بقوله : (يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي : من تحت قصري ، والمراد أنهار النيل. وقال قتادة : المعنى تجري بين يديّ. وقال الحسن : تجري بأمري : أي تجري تحت أمري. وقال الضحاك : أراد بالأنهار : القوّاد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون تحت لوائه. وقيل : أراد بالأنهار الأموال ، والأوّل أولى. والواو في (وَهذِهِ) عاطفة على ملك مصر ، و (تَجْرِي) في محلّ نصب على الحال ، أو هي واو الحال ، واسم الإشارة : مبتدأ ، والأنهار : صفة له ، وتجري : خبره ، والجملة في محل نصب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ذلك وتستدلون به على قوّة ملكي ، وعظيم قدري ، وضعف موسى عن مقاومتي (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أم هي المنقطعة المقدّرة ببل التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار ، أي : بل أنا خير ، قال أبو عبيدة : أم بمعنى بل ، والمعنى : قال فرعون لقومه : بل أنا خير. وقال الفراء : إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله ، وقيل : هي زائدة ، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة ، والمعنى : أنا خير من هذا. وقال الأخفش : في الكلام حذف ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال : (أَنَا خَيْرٌ) وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش ، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على (أَمْ) على تقدير أم تبصرون ، فحذف لدلالة الأوّل عليه ، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأوّل أولى. ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

__________________

(١). الأعراف : ١٣٠.

٦٤٠