فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

«نقول» بالنون. وقرأ الباقون بالتحتية (١) ، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ) وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة «ويقال ذوقوا».

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ولا يكتب ، كان أميا ، وفي قوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال : كان الله أنزل شأن محمّد في التوراة والإنجيل لأهل العلم ، وعلمه لهم ، وجعله لهم آية فقال لهم : إن آية نبوّته أن يخرج حين يخرج ؛ ولا يعلم كتابا ، ولا يخطه بيمينه ، وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) الآية قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ، ولا يكتب. وأخرج الفريابي ، والدارمي ، وأبو داود في مراسيله ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن يحيى ابن جعدة قال : جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كفى بقوم حمقا أو ضلالة ، أن يرغبوا عمّا جاء به نبيّهم إليهم ، إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم» فنزلت (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) الآية. وأخرج الإسماعيلي في معجمه ، وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة فذكره بمعناه. وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والبيهقي في الشعب ، عن الزهري ، أن حفصة جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف ، فجعلت تقرؤه والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلوّن وجهه فقال : «والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيّكم فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم». وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن الضريس ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر ابن الخطاب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب ، أعرضها عليك ، فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغيّرا شديدا لم أر مثله قط ، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا ، فسرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «لو نزل موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنا حظّكم من النبيّين وأنتم حظي من الأمم». وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر. وأخرج البيهقي وصححه عن عمر ابن الخطاب قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تعلّم التوراة فقال : «لا تتعلمها وآمن بها ، وتعلّموا ما أنزل إليكم وآمنوا به». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) قال : جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه ، وتكون فيه الشمس والقمر ، ثم يستوقد ، فيكون هو جهنم ، وفي هذا نكارة شديدة ، فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة.

__________________

(١). جاء في كتاب السبعة في القراءات : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ونقول» بالنون وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ويقول».

٢٤١

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ، ومن المشركين ، وجمعهم في الإنذار ، وجعلهم من أهل النار اشتدّ عنادهم ، وزاد فسادهم ، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه ، فقال الله سبحانه (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفا وتكريما ، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان ، وفي مكايدة للكفار ، فاخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي ، وتتسهل عليكم. قال الزجاج : أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله ، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. وقال مطرف بن الشخير : المعنى إن رحمتي واسعة ، ورزقي لكم واسع ، فابتغوه في الأرض. وقيل المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة ، فاعبدون حتى أورثكموها. وانتصاب إياي بفعل مضمر ، أي : فاعبدوا إياي. ثم خوّفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي : كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة ، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ، ومفارقة الإخوان ، والخلان ، ثم إلى الله المرجع بالموت ، والبعث ، لا إلى غيره ، فكل حيّ في سفر إلى دار القرار ، وإن طال لبثه في هذه الدار (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) في هذا الترغيب إلى الهجرة ، وأن جزاء من هاجر ، أن يكون في غرف الجنة ، ومعنى «لنبوّئنهم» لننزلنهم غرف الجنة ، وهي علاليها ، فانتصاب غرفا على أنه المفعول الثاني ؛ على تضمين نبوئنهم معنى : ننزلنهم ، أو على الظرفية مع عدم التضمين ، لأن نبوئنهم لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد ، وإما منصوب بنزع الخافض اتساعا ، أي : في غرف الجنة ، وهو مأخوذ من المباءة : وهي الإنزال. قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، والجحدري ، وابن أبي

٢٤٢

إسحاق ، وابن محيصن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف «يا عبادي» بإسكان الياء وفتحها الباقون. وقرأ ابن عامر «إن أرضي» بفتح الياء ، وسكنها الباقون. وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم «يرجعون» بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية. وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب وحمزة ، والكسائي : «لنثوينهم» بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة ، وقرأ الباقون بالباء الموحدة ، ومعنى لنثوينهم بالمثلثة : لنعطينهم غرفا يثوون فيها ، من الثوي : وهو الإقامة. قال الزجاج : يقال ثوي الرجل : إذا أقام ، وأثويته : إذا أنزلته منزلا يقيم فيه. قال الأخفش : لا تعجبني هذه القراءات لأنك لا تقول أثويته الدار ، بل تقول في الدار ، وليس في الآية حرف جرّ في المفعول الثاني. قال أبو علي الفارسي : هو على إرادة حرف الجرّ ، ثم حذف كما تقول أمرتك الخير ، أي : بالخير. ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت الغرف (خالِدِينَ فِيها) أي : في الغرف لا يموتون أبدا ، أو في الجنة ، والأوّل : أولى (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوص بالمدح محذوف ، أي : في الغرف لا يموتون أبدا ، أو في الجنة ، والأوّل : أولى (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوب المدح محذوف ، أي : نعم أجر العاملين أجرهم ، والمعنى : العاملين للأعمال الصالحة. ثم وصف هؤلاء العاملين فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا) على مشاق التكليف وعلى أذية المشركين لهم ، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : يفوّضون أمورهم إليه في كلّ إقدام وإحجام. ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل ، وهو النظر في حال الدوابّ فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) قد تقدّم الكلام في كأين ، وأن أصلها : أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه ، وتقديرها عندهما كشيء كثير من العدد من دابة. وقيل المعنى : وكم من دابة. ومعنى «لا تحمل رزقها» لا تطيق حمل رزقها لضعفها ولا تدّخره ، وإنما يرزقها الله من فضله ، ويرزقكم ، فكيف لا يتوكلون على الله مع قوّتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. قال الحسن : تأكل لوقتها ، لا تدّخر شيئا. قال مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا (وَهُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع كلّ مسموع (الْعَلِيمُ) بكل معلوم. ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم وعجب السامع من كونهم يقرّون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ويتركون عبادة غيره فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : خلقها ، لا يقدرون على إنكار ذلك ، ولا يتمكنون من جحوده (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرّده بالإلهية ، وأنه وحده لا شريك له ، والاستفهام : للإنكار والاستبعاد. ولما قال المشركون لبعض المؤمنين : لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع سبحانه ذلك بقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي : التوسع في الرزق ، والتقدير له هو من الله الباسط القابض يبسطه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته ، وما يليق بحال عباده من القبض والبسط ، ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم ما فيه صلاح عباده ، وفسادهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَ) أي : نزّله وأحيا به الأرض الله ، يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلا. ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات ،

٢٤٣

وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك ، وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحمد الله على إقرارهم ، وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد ، وتشدّدهم في ردّ كلّ ما جاء به رسول الله من التوحيد فقال : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي : احمد الله على أن جعل الحقّ معك ، وأظهر حجتك عليهم ، ثم ذمهم فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الأشياء التي يتعقلها العقلاء. فلذلك لا يعملون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ما هي عليه عند كلّ عاقل. ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو ، وأن الدار على الحقيقة : هي دار الآخرة فقال : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ). قال ابن قتيبة ، وأبو عبيدة : إن الحيوان : الحياة. قال الواحدي : وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن معنى الحيوان هاهنا : الحياة ، وأنه مصدر بمنزلة الحياة ، فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير : وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان ، أو ذات الحيوان ، أي : دار الحياة الباقية التي لا تزول ، ولا ينغصها موت ، ولا مرض ، ولا همّ ، ولا غمّ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) شيئا من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة. ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرّد تأثير الحياة فقال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : إذا انقطع رجاؤهم من الحياة ، وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة ، فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم ، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدّة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي : فاجؤوا المعاودة إلى الشرك ، ودعوا غير الله سبحانه. والركوب : هو الاستعلاء ، وهو متعدّ بنفسه ، وإنما عدّي بكلمة : في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة ، واللام في (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) وفي قوله : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) للتعليل ؛ أي : فاجؤوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله ، وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي ، وقيل : هما لاما الأمر تهديدا ووعيدا ، أي : اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا ، ويدلّ على هذه القراءة قراءة أبيّ «وتمتعوا» وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو ، وابن عامر وعاصم ، وورش بكسر اللام ، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر ، وفي قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد عظيم لهم أي : فسيعلمون عاقبة ذلك ، وما فيه من الوبال عليهم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) أي : ألم ينظروا ، يعني : كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرما آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة ، والقتل ، والسبي ، والنهب فصاروا في سلامة ، وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب ، فإنهم في كلّ حين تطرقهم الغارات ، وتجتاح أموالهم الغزاة ، وتسفك دماءهم الجنود ، وتستبيح حرمهم ، وأموالهم شطار العرب ، وشياطينها ، وجملة (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) في محل نصب على الحال ، أي : يختلسون من حولهم بالقتل ، والسبي ، والنهب ، والخطف : الأخذ بسرعة ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) يجعلون كفرها مكان شكرها ، وفي هذا الاستفهام من التقريع ، والتوبيخ ما لا يقادر قدره (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : لا أحد أظلم منه ،

٢٤٤

وهو من زعم أن لله شريكا (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي : كذّب بالرسول الذي أرسل إليه ، والكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدّي : كذّب بالتوحيد ، والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق. ثم هدّد المكذبين وتوعدهم فقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي : مكان يستقرّون فيه ، والاستفهام للتقرير ، والمعنى : أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا ما فعلوا؟ ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين ، فقال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي : جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ، ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا ، أي : الطريق الموصل إلينا. قال ابن عطية : هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي (١) ، وإنما هو جهاد عامّ في دين الله وطلب مرضاته ، وقيل : الآية هذه نزلت في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والعون ، ومن كان معه لم يخذل ، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسما ، أو على أنها حرف ، ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول : إن زيدا لفي الدار ، والبحث مقرّر في علم النحو.

وقد أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٢) ؛ قلت : يا ربّ أيموت الخلائق كلّهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)». وينظر كيف صحة هذا ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) يعلم أنه ميت ، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا ، وأنه خاتم الأنبياء ، فكيف ينشأ عن هذه الآية ما رواه عنه عليّ رضي الله عنه من قوله : «أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء» فلعلّ هذه الرواية لا تصح مرفوعة ، ولا موقوفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وابن عساكر ، قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط التّمر ويأكل ، فقال لي : مالك لا تأكل؟ قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : لكنّي أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين. قال : فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله لم يأمرني بكنز الدّنيا ولا باتّباع الشّهوات ، ألا وإنّي لا أكنز دينارا ولا درهما ، ولا أخبأ رزقا لغد». وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجوزي ، وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) قال : باقية. وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الحيوان ، وهو يسعى لدار الغرور» وهو مرسل.

__________________

(١). قتال الأعداء.

(٢). الزمر : ٣٠.

٢٤٥

سورة الرّوم

قال القرطبي كلها مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة الروم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد. قال السيوطي بسند حسن عن رجل من الصحابة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بهم الصبح ، فقرأ فيها سورة الروم. وأخرج البزار عن الأغرّ المدني مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وأحمد ، وابن قانع من طريق عبد الملك بن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة ، وزاد : يتردّد فيها ، فلما انصرف قال : «إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور ، من شهد الصلاة فليحسن الطهور».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة ، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب ، ومحل أمثالها في غير موضع من فواتح السور ، قرأ الجمهور (غُلِبَتِ الرُّومُ) بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنيا للمفعول ، وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو سعيد الخدري ، ومعاوية بن قرّة وابن عمر ، وأهل الشام بفتح الغين واللام مبنيا للفاعل. قال النحاس : قراءة أكثر الناس (غُلِبَتِ) بضم الغين وكسر اللام. قال أهل التفسير : غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا : الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب ، وافتخروا على المسلمين وقالوا : نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. ومعنى (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) في أقرب أرضهم من أرض العرب ، أو في أقرب

٢٤٦

أرض العرب منهم ، قيل : هي أرض الجزيرة ، وقيل : أذرعات ، وقيل : كسكر ، وقيل : الأردن ، وقيل : فلسطين ، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها ، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب ، وقيل إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه ، والتقدير : في أدنى أرضهم ، فيعود الضمير إلى الروم ، ويكون المعنى : في أقرب أرض الروم من العرب. قال ابن عطية : إن كانت الوقعة بأذرعات ، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وإن كانت الوقعة بالجزيرة ، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن ، فهي أدنى إلى أرض الروم (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي : والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس ، والتغلب والغلبة لغتان ، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور ، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم. قرأ الجمهور «سيغلبون» مبنيا للفاعل وقرأ علي ، وأبو سعيد ، ومعاوية بن قرّة ، وابن عمر ، وأهل الشام على البناء للمفعول ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين. وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميقع «من بعد غلبهم» بسكون اللام (فِي بِضْعِ سِنِينَ) متعلق بما قبله ، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف ، والمراد به هنا : ما بين الثلاثة إلى العشرة (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : هو المنفرد بالقدرة ، وإنفاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ، ووقت غالبيتهم ، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه ، قرأ الجمهور «من قبل ومن بعد» بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة ، والتقدير : من قبل الغلب ومن بعده ، أو من قبل كلّ أمر ، ومن بعده. وحكى الكسائي من قبل ومن بعد بكسر الأوّل منوّنا وضم الثاني بلا تنوين. وحكى الفراء من قبل ومن بعد بكسرهما من غير تنوين ، وغلطه النحاس. قال شهاب الدين : قد قرئ بكسرهما منوّنين. قال الزجاج : ومعنى الآية : من متقدّم ومن متأخر (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي : يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين ؛ يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم : أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب ، بخلاف فارس ؛ فإنه لا كتاب لهم ، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم ، وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين ، فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، والأوّل أولى. قال الزجاج : وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون ، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أن ينصره (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القاهر (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة لعباده المؤمنين ، وقيل : المراد بالرحمة هنا : الدنيوية ، وهي شاملة للمسلم والكافر (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي : وعد الله وعدا لا يخلفه ، وهو ظهور الروم على فارس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله لا يخلف وعده ، وهم الكفار ، وقيل : كفار مكة على الخصوص (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها ، وأمر معاشهم ، وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية ، وقيل : هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع ، وقيل : الظاهر الباطل (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي النعمة الدائمة ، واللذة الخالصة (هُمْ غافِلُونَ) لا يلتفتون إليها ، ولا يعدون لها ما يحتاج إليه ، أو غافلون عن الإيمان بها ، والتصديق بمجيئها (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

٢٤٧

وَما بَيْنَهُما) الهمزة للإنكار عليهم والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، وفي أنفسهم ظرف للتفكر ، وليس مفعولا للتفكر والمعنى : أن أسباب التفكر حاصلة لهم ، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي ، لعلموا وحدانية الله ، وصدق أنبيائه ، وقيل : إنها مفعول للتفكر. والمعنى : أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئا ، و «ما» في «ما خلق الله» نافية ، أي : لم يخلقها إلا بالحق الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض ، أي : بما خلق الله ، والعامل : إما العلم الذي يؤدي إليه التفكّر وقال الزجاج في الكلام حذف : أي فيعلموا ، فجعل ما معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول عليه ، والباء في (إِلَّا بِالْحَقِ) إما للسببية ، أو هي ومجرورها : في محل نصب على الحال ، أي : ملتبسة بالحق. قال الفراء : معناه إلا للحق ، أي : للثواب والعقاب ، وقيل : بالحق بالعدل ، وقيل : بالحكمة ، وقيل : بالحق ، أي : أنه هو الحق وللحق خلقها (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) معطوف على الحق ، أي : وبأجل مسمى للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه ، وهو يوم القيامة ، وفي هذا تنبيه على الفناء ، وأن لكل مخلوق أجلا لا يجاوزه. وقيل معنى : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) أي : لكافرون بالبعث بعد الموت ، واللام هي المؤكدة ، والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق ، أو كفار مكة (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، لعدم تفكرهم في الآثار ، وتأملهم لمواقع الاعتبار ، والفاء في (فَيَنْظُرُوا) للعطف على يسيروا داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ ، والمعنى : أنهم قد ساروا وشاهدوا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله ، وجحودهم للحق ، وتكذيبهم للرسل ، وجملة (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) مبينة للكيفية التي كانوا عليها ، وأنهم أقدر من كفار مكة ، ومن تابعهم على الأمور الدنيوية ، ومعنى (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) حرثوها وقلبوها للزراعة ، وزاولوا أسباب ذلك ، ولم يكن أهل مكة أهل حرث (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء ، لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارا ، وأقوى أجساما ، وأكثر تحصيلا لأسباب المعاش. فعمروا الأرض بالأبنية ، والزراعة ، والغرس (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات ، وقيل : بالأحكام الشرعية (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بتعذيبهم على غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر ، والتكذيب (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي : عملوا السيئات من الشرك والمعاصي (السُّواى) هي فعلى من السوء تأنيث الأسوأ ، وهو : الأقبح ، أي : كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات ، وقيل : هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، ويجوز أن تكون مصدرا كالبشرى ، والذكرى. وصفت به العقوبة مبالغة. قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع ، على أنها اسم كان ، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازيا ، والخبر : السوأى ، أي : الفعلة ؛ أو الخصلة ؛ أو العقوبة السّوأى ، أو الخبر (أَنْ كَذَّبُوا) أي : كان آخر أمرهم التكذيب ، وقرأ الباقون : «عاقبة» بالنصب على خبر كان ، والاسم السّوأى ، أو أن كذبوا ، ويكون التقدير : ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ، والسوأى مصدر أساؤوا ، أو صفة لمحذوف. وقال الكسائي : إن قوله : (أَنْ كَذَّبُوا) في محل نصب على العلة ، أي : لأن

٢٤٨

كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله ، أو بأن كذبوا ، ومن القائلين بأن السوأى جهنم : الفراء ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وأكثر المفسرين ، وسميت سوأى : لكونها تسوء صاحبها. قال الزجاج : المعنى : ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم ، وجملة (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) عطف على كذبوا داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين ، أو في حكم الاسمية لكان ، أو الخبرية لها على القول الآخر.

وقد أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم كانوا أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أصحاب كتاب ، فذكروه لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنّهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ألا جعلته ـ أراه قال ـ دون العشر ، فظهرت الروم بعد ذلك ، فذلك قوله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) فغلبت ، ثم غلبت بعد بقول الله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. وأخرج أبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه. وزاد أنه لما مضى الأجل ، ولم تغلب الروم فارسا ، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة ، وكرهه وقال : «ما دعاك إلى هذا؟» قال : تصديقا لله ، ولرسوله فقال : «تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين» ، فأتاهم أبو بكر فقال : هل لكم في العود فإن العود أحمد؟ قالوا نعم ، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسا ، وربطوا خيولهم بالمدائن ، وبنوا رومية ، فقمر أبو بكر ، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، فقال : «هذا السحت ، تصدّق به». وأخرج الترمذي وصححه ، والدارقطني في الأفراد ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والبيهقي في الشعب ، عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك يقول الله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم ؛ وإياهم ليسوا أهل كتاب ، ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية ؛ خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر ، والمشركون ، وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه ، قال : فسموا بينهم ستّ سنين ، فمضت

__________________

(١). أي : ربح أبو بكر الرهان وأخذ ما راهن عليه ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٤٩

الستّ قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين لأن الله قال : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) فأسلم عند ذلك ناس كثير. وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لأبي بكر : «ألا احتطت يا أبا بكر ، فإنّ البضع ما بين ثلاث إلى تسع». وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه. وأخرج الفريابي ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) قرأها بالنصب : يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ). قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس ، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه ، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال : سيجيء أقوام يقرءون (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) يعني بفتح الغين ، وإنما هي غلبت : يعني بضمها ، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني : معايشهم متى يغرسون ، ومتى يزرعون ، ومتى يحصدون. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قال : كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

٢٥٠

قوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : يخلقهم أولا ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ، كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى موقف الحساب ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وأفرد الضمير في يعيده : باعتبار لفظ الخلق ، وجمعه في ترجعون : باعتبار معناه. قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو «يرجعون» بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، والالتفات المؤذن بالمبالغة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) قرأ الجمهور «يبلس» على البناء للفاعل. وقرأ السلمي على البناء للمفعول ، يقال أبلس الرجل : إذا سكت ، وانقطعت حجته. قال الفراء والزجاج : المبلس : الساكت المنقطع في حجته ؛ الذي أيس أن يهتدي إليها ، ومنه قول العجاج :

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا (١)

وقال الكلبي : أي يئس المشركون من كلّ خير ؛ حين عاينوا العذاب ، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٢) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي : لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله (وَكانُوا) في ذلك الوقت (بِشُرَكائِهِمْ) أي : بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء الله (كافِرِينَ) أي : جاحدين لكونهم آلهة ؛ لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، وقيل إن معنى الآية : كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم ، والأوّل أولى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي : يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) المراد بالتفرّق : أن كلّ طائفة تنفرد ، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة ، والكافرون إلى النار ، وليس المراد :

تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر ، ومثله قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٣) وذلك بعد تمام الحساب ، فلا يجتمعون أبدا. ثم بين سبحانه كيفية تفرّقهم فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال النحاس : سمعت الزجاج يقول معنى «أما» دع ما كنا فيه وخذ في غيره ، وكذا قال سيبويه : إن معناها مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه ، والروضة : كل أرض ذات نبات ، قال المفسرون : والمراد بها هاهنا : الجنة ، ومعنى يحبرون : يسرون ، والحبور والحبرة : السرور ، أي : فهم في رياض الجنة ينعمون. قال أبو عبيد : الروضة : ما كان في سفل ، فإذا كان مرتفعا : فهو ترعة. وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع ، ومنه قول الأعشى :

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

وقيل : معنى «يحبرون» يكرمون. قال النحاس : حكى الكسائي حبرته : أي أكرمته ونعمته ، والأولى تفسير يحبرون : بالسرور كما هو المعنى العربيّ ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم ، وفي السرور زيادة على ذلك. وقيل : التحبير التحسين فمعنى يحبرون : يحسن إليهم ، وقيل : هو السماع الذي يسمعونه

__________________

(١). المكرس : الذي قد بعّرت فيه الإبل وبوّلت ، فركب بعضه بعضا.

(٢). الأنعام : ٤٤.

(٣). الشورى : ٧.

٢٥١

في الجنة ، وقيل : غير ذلك ، والوجه ما ذكرناه (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) كذّبوا ب (لِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : البعث ، والجنة ، والنار ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى المتصفين بهذه الصفات ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي : مقيمون فيه ، وقيل : مجموعون ، وقيل : نازلون ، وقيل : معذبون ، والمعاني متقاربة ، والمراد : دوام عذابهم. ثم لما بين عاقبة طائفة المؤمنين ، وطائفة الكافرين ، أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر ، والخير العام فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فإذا علمتم ذلك ؛ فسبحوا الله ، أي : نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح ، والمساء ، وفي العشي ، وفي وقت الظهيرة. وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس ، فقوله «حين تمسون» صلاة المغرب والعشاء ، وقوله : «وحين تصبحون» صلاة الفجر ، وقوله : «وعشيا» صلاة العصر ، وقوله : «وحين تظهرون» صلاة الظهر ، كذا قال الضحاك ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، قال الواحدي قال المفسرون : إن معنى «فسبحان الله» فصلوا لله. قال النحاس : أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال : وسمعت محمّد بن يزيد يقول : حقيقته عندي : فسبحوا الله في الصلوات ، لأن التسبيح يكون في الصلاة ، وجملة (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد ، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح ، كما في قوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (١) وقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) (٢) وقيل : معنى وله الحمد : أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد ، وقرأ عكرمة «حينا تمسون وحينا تصبحون» والمعنى : حينا تمسون فيه ، وحينا تصبحون فيه ، والعشيّ : من صلاة المغرب إلى العتمة. قال الجوهري ، وقال قوم : هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، ومنه قول الشاعر :

غدونا غدوة سحرا بليل

عشيّا بعد ما انتصف النّهار

وقوله : (عَشِيًّا) معطوف على حين ، وفي السماوات متعلق بنفس الحمد ؛ أي : الحمد به يكون في السماوات والأرض (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة ، والطير من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة ، والبيضة من الحيوان. وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران. قيل : ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها ؛ أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت ، وهو النوم إلى شبه الوجود ، وهو اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس ، وهو شبيه بإخراج الحيّ من الميت (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي : ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم. قرأ الجمهور «تخرجون» على البناء للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل ، فأسند الخروج إليهم كقوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) (٣) (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم ، أي : خلق أباكم آدم من تراب ، وخلقكم في ضمن خلقه ، لأن الفرع مستمد من

__________________

(١). الحجر : ٩٨.

(٢). البقرة : ٣٠.

(٣). المعارج : ٤٣.

٢٥٢

الأصل ومأخوذ منه ، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام ، وإن : في موضع رفع بالابتداء ، ومن آياته : خبره (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) إذا : هي الفجائية ، أي : ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في الأرض ، وإذا الفجائية : وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء ، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة ، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع ، من كونه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما مكسوّا لحما ، فاجأ بالبشرية والانتشار ، ومعنى تنتشرون : تنصرفون فيما هو قوام معايشكم (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث : أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، أي : من جنسكم في البشرية ، والإنسانية ، وقيل : المراد حوّاء ، فإنه خلقها من ضلع آدم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي : تألفوها ، وتميلوا إليها ، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ، ولا يميل قلبه إليه (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي : ودادا وتراحما بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض ؛ من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة ؛ فضلا عن مودّة ورحمة. وقال مجاهد : المودّة : الجماع ، والرحمة : الولد ، وبه قال الحسن. وقال السدّي : المودّة : المحبة ، والرحمة : الشفقة. وقيل : المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة : رحمته إياها من أن يصيبها بسوء. وقوله «أن خلق لكم» : في موضع رفع على الابتداء ، ومن آياته : خبره (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور سابقا. (لَآياتٍ) عظيمة الشأن ؛ بديعة البيان ؛ واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث ، والنشور (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال ؛ لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه ، وأما الغافلون عن التفكر ؛ فما هم إلا كالأنعام (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة التي هي أجرام السموات والأرض ، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار ، وخلق فيها من عجائب الصنع ، وغرائب التكوين ما هو عبرة للمعتبرين ؛ قادر على أن يخلقكم بعد موتكم ، وينشركم من قبوركم (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي : لغاتكم : من عرب ، وعجم ، وترك ، وروم ، وغير ذلك من اللغات (وَأَلْوانِكُمْ) من البياض ، والسواد ، والحمرة ، والصفرة ، والزرقة ، والخضرة ، مع كونكم أولاد رجل واحد ، وأم واحدة ، ويجمعكم نوع واحد ، وهو : الإنسانية ، وفصل واحد ، وهو : الناطقية ، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم ، لا يلتبس هذا بهذا ، بل في كلّ فرد من أفرادكم ؛ ما يميزه عن غيره من الأفراد ، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمون ، ولا يفهمه إلا المتفكرون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) الذين هم من جنس هذا العالم ، من غير فرق بين برّ وفاجر ، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين. وقرأ حفص وحده بكسرها. قال الفراء : وله وجه جيد لأنه قد قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١) (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٢). (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ومن آياته منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار. وقيل : المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير ، أي : ومن آياته العظيمة ؛ أنكم تنامون بالليل ، وتنامون في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، فإن

__________________

(١). آل عمران : ١٩٠.

(٢). العنكبوت : ٤٣.

٢٥٣

كل واحد منهما يقع فيه ذلك ، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار : أكثر. والأوّل : هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى ، والآخر : هو المناسب للنظم القرآني هاهنا. ووجه ذكر النوم ، والابتغاء هاهنا ، وجعلهما من جملة الأدلة على البعث أن النوم شبيه بالموت ، والتصرّف في الحاجات ، والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يسمعون الآيات والمواعظ ، سماع متفكّر متدبر ، فيستدلون بذلك على البعث (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) المعنى : أن يريكم ، فحذف أن لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة :

ألا أيهذا اللّائمي أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي

والتقدير : أن أحضر ، فلما حذف الحرف في الآية ، والبيت ؛ بطل عمله ، ومنه المثل المشهور «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وقيل هو على التقديم والتأخير ، أي : ويريكم البرق من آياته ، فيكون : من عطف جملة فعلية على جملة اسمية ، ويجوز أن يكون : «يريكم» صفة لموصوف محذوف ، أي : من آياته آية يريكم بها وفيها البرق ، وقيل التقدير : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته. قال الزجاج : فيكون من عطف جملة على جملة. قال قتادة : خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم ، وقال الضحاك : خوفا من الصواعق ، وطمعا في الغيث. وقال يحيى بن سلام : خوفا من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعا في المطر أن يحيي الزرع. وقال ابن بحر : خوفا أن يكون البرق برقا خلبا لا يمطر ، وطمعا أن يكون ممطرا ، وأنشد :

لا يكن برقك برقا خلّبا

إنّ خير البرق ما الغيث معه

وانتصاب خوفا وطمعا على العلة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : يحييها بالنبات بعد موتها باليباس (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدلّ بها على القدرة الباهرة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي : قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه ، وقدرته بلا عمد يعمدهما ، ولا مستقرّ يستقران عليه. قال الفراء : يقول أن تدوما قائمتين بأمره (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي : ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور ؛ إذا دعاكم دعوة واحدة ؛ فاجأتم الخروج منها بسرعة من غير تلبث ، ولا توقف ، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع. ومن الأرض : متعلق بدعاء ، أي : دعاكم من الأرض التي أنتم فيها ، كما يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة ، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون ، أي : خرجتم من الأرض ، ولا يجوز أن يتعلق بتخرجون ، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، وهذه الدعوة هي : نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه ، وقد أجمع القراء على فتح التاء في «تخرجون» هنا ، وغلط من قال إنه قرئ هنا بضمها على البناء للمفعول ، وإنما قرئ بضمها في الأعراف (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من جميع المخلوقات ملكا وتصرّفا وخلقا ، ليس لغيره في ذلك شيء (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون طاعة انقياد ، وقيل : مقرّون بالعبودية ، وقيل : مصلون ، وقيل : قائمون يوم القيامة كقوله : (يَوْمَ

٢٥٤

يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) : أي للحساب ، وقيل : بالشهادة أنهم عباده ، وقيل : مخلصون (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي : هين عليه لا يستصعبه ، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم ، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض ، وإلا فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض ، بل كلّ الأشياء مستوية يوجدها بقوله : كن فتكون. قال أبو عبيد : من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٢) وبقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٣) والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيرا كما في قول الفرزدق :

إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

أي : عزيزة طويلة ؛ وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي : لست بواحد ، ومثله قول الآخر :

لعمرك إن الزّبرقان لباذل

لمعروفه عند السنين وأفضل

أي : وفاضل ، وقرأ عبد الله بن مسعود «وهو عليه هين» وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن الإعادة أهون عليه ، أي : على الله من البداية ، أي : أيسر وإن كان جميعه هينا. وقيل : المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية ، وقيل : الضمير في عليه للخلق ، أي : وهو أهون على الخلق لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ، ويقال لهم : كونوا فيكونون ، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) قال الخليل : المثل : الصفة ، أي : وله الوصف الأعلى (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كما قال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (٤) أي : صفتها. وقال مجاهد : المثل الأعلى : قول لا إله إلا الله ، وبه قال قتادة ، وقال الزجاج (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : قوله «وهو أهون عليه» قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل. وقيل المثل الأعلى : هو أنه ليس كمثله شيء ، وقيل : هو أن ما أراده كان بقول كن ، وفي السموات والأرض : متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة. والمعنى : أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ، ووصف به في السموات والأرض ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى ، أو من المثل ، أو من الضمير في الأعلى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) في أقواله ، وأفعاله.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يُبْلِسُ) قال : يبتئس. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم (يُبْلِسُ) قال : يكتئب ، وعنه الإبلاس : الفضيحة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يُحْبَرُونَ) قال : يكرمون. وأخرج الديلمي عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة قال الله : أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم ، وأبصارهم عن مزامير الشيطان

__________________

(١). المطففين : ٦.

(٢). النساء : ١٦٩.

(٣). البقرة : ٢٥٥.

(٤). الرعد : ٣٥.

٢٥٥

ميزوهم ، فيميزون في كثب المسك والعنبر ؛ ثم يقول للملائكة : أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي ، قال : فيسبّحون بأصوات لم يسمع السّامعون بمثلها قطّ». وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال : ينادي مناد يوم القيامة فذكر نحوه ، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي ، والأصبهاني في الترغيب عن محمّد بن المنكدر نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا ، والضياء المقدسي ، كلاهما في صفة الجنة ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال : «في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام ، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم ، فيتحدّثون في ظلها ، فيشتهي بعضهم ، ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا». وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج الفريابي ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة». وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، فقرأ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح (وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر ، وقرأ (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) (١). وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة ، (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال : المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر. وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن السني في عمل يوم وليلة ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلّما أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج أبو داود ، والطبراني ، وابن السني ، وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي : أدرك ما فاته في ليلته» وإسناده ضعيف. وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) يقول مطيعون : يعني الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال : أيسر. وأخرج ابن الأنباري عنه أيضا في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال : الإعادة أهون على المخلوق ، لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون ، وابتدأ الخلقة من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ليس كمثله شيء.

__________________

(١). النور : ٥٨.

٢٥٦

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً) قد تقدّم تحقيق معنى المثل ، ومن في (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها : في محلّ نصب صفة لمثلا ، أي : مثلا منتزعا ومأخوذا من أنفسكم ، فإنها أقرب شيء منكم ، وأبين من غيرها عندكم ، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة ، وأعظم وضوحا. ثم بين المثل المذكور فقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) «من» في «مما ملكت» : للتبعيض ، وفي «من شركاء» : زائدة للتأكيد ، والمعنى هل لكم شركاء فيما رزقناكم ؛ كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم ، وهم : العبيد ، والإماء ، والاستفهام للإنكار ، وجملة : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي ، ومحققة لمعنى الشركة بينهم ، وبين العبيد ، والإماء المملوكين لهم في أموالهم ، أي : هل ترضون لأنفسكم ، والحال أن عبيدكم وإماءكم ، وأمثالكم في البشرية أن يساووكم في التصرّف بما رزقناكم من الأموال ، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الكاف نعت مصدر محذوف ، أي : تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم ، أي : كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية ، وملك الأموال ، وجواز التصرف ، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة : الشركة بينهم وبين المملوكين ، والاستواء معهم ، وخوفهم إيّاهم. وليس المراد : ثبوت الشركة ، ونفي الاستواء ، والخوف كما قيل في قولهم : ما تأتينا فتحدّثنا. والمراد : إقامة الحجة على المشركين ، فإنهم لا بدّ أن يقولوا لا نرضى بذلك ، فيقال لهم : فكيف تنزّهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية ، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد ، وساداتهم ، فيما يملكه السادة بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه ، والخلق كلهم عبيد الله تعالى ، ولم يبق إلا أنه الربّ وحده لا شريك له. وقرأ الجمهور «أنفسكم» بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله (كَذلِكَ

٢٥٧

نُفَصِّلُ الْآياتِ) تفصيلا واضحا ، وبيانا جليا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية ، والتكوينية باستعمال عقولهم ، في تدبرها والتفكر فيها. ثم أضرب سبحانه على مخاطبة المشركين ، وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل فقال : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : لم يعقلوا الآيات بل اتبعوا أهواءهم الزائغة ، وآراءهم الفاسدة الزائفة ، ومحل «بغير علم» : النصب على الحال ، أي : جاهلين بأنهم على ضلالة (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي : لا أحد يقدر على هدايته ، لأن الرشاد والهداية بتقدير الله ، وإرادته (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم ، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه. ثم أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه وإقباله عليه ، وانتصاب حنيفا : على الحال من فاعل أقم ؛ أو من مفعوله : أي : مائلا إليه ؛ مستقيما عليه ، غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) الفطرة في الأصل : الخلقة ، والمراد بها هنا : الملة ، وهي : الإسلام والتوحيد. قال الواحدي : هذا قول المفسرين في فطرة الله ، والمراد بالناس هنا : الذين فطرهم الله على الإسلام ، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام ، وهذا الخطاب ؛ وإن كان خاصا برسول الله ، فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل : والأولى : حمل أناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم ، وكافرهم ، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك لو لا عوارض تعرض لهم ، فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة». وفي رواية : «على هذه الملّة ، ولكنّ أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ). وفي رواية «حتّى تكونوا أنتم تجدعونها». وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضدا لحديث أبي هريرة هذا ، فكل فرد من أفراد الناس مفطور : أي مخلوق على ملة الإسلام ، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين ، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان ، وهذا قول جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم ، وقول جماعة من المفسرين ؛ وهو الحق. والقول بأن المراد بالفطرة هنا : الإسلام هو مذهب جمهور السلف. وقال آخرون : هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها ، فإن ابتدأهم للحياة والموت ، والسعادة والشقاوة. والفاطر في كلام العرب هو المبتدئ ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة ، وإهمال معناها شرعا. والمعنى الشرعيّ ؛ مقدّم على المعنى اللغوي ؛ باتفاق أهل الشرع ، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب ، أو السنة في بعض المواضع مرادا بها المعنى اللغوي كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) أي : خالقهما ومبتديهما ، وكقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) (٢) إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا ، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة ، وهو ما ذكره الأوّلون كما بيناه ، وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج : فطرة منصوب بمعنى : اتبع فطرة الله ، قال : لأن معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) : اتبع

__________________

(١). فاطر : ١.

(٢). يس : ٢٢.

٢٥٨

الدين ، واتبع فطرة الله. وقال ابن جرير : هي مصدر من معنى «فأقم وجهك» لأن معنى ذلك : فطرة الله الناس على الدين ، وقيل : هي منصوبة على الإغراء ، أي : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، وردّ هذا الوجه أبو حيان وقال : إن كلمة الإغراء لا تضمر ؛ إذ هي عوض عن الفعل ، فلو حذفها لزم حذف العوض ، والمعوّض عنه ، وهو إجحاف. وأجيب بأن هذا رأي البصريين ، وأما الكسائي وأتباعه ، فيجيزون ذلك. وجملة (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة ، أي : هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه. وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي : لا تبدّلوا خلق الله. قال مجاهد وإبراهيم النخعي : معناه لا تبديل لدين الله. قال قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، وابن زيد : هذا في المعتقدات. وقال عكرمة : إن المعنى لا تغيير لخلق الله في البهائم ؛ بأن تخصى فحولها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم ، أو لزوم الفطرة : هو الدين القيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي : راجعين إليه بالتوبة ، والإخلاص ، ومطيعين له في أوامره ، ونواهيه. ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :

فإن تابوا فإنّ بني سليم

وقومهم هوازن قد أنابوا

قال الجوهري : أناب إلى الله : أقبل وتاب ، وانتصابه على الحال من فاعل أقم. قال المبرد : لأن معنى أقم وجهك : أقيموا وجوهكم. قال الفراء : المعنى فأقم وجهك ، ومن معك منيبين ، وكذا قال الزجاج وقال تقديره : فأقم وجهك ، وأمتك ، فالحال من الجميع. وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه. وقيل : هو منصوب على القطع ، وقيل : على أنه خبر لكان محذوفة ، أي : وكونوا منيبين إليه لدلالة (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على ذلك. ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة ، فقال : (وَاتَّقُوهُ) أي : باجتناب معاصيه ، وهو معطوف على الفعل المقدر ناصبا لمنيبين (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي أمرتم بها (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله. وقوله : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) هو بدل مما قبله بإعادة الجار ، والشيع : الفرق ، أي : لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقا في الدين ، يشايع بعضهم بعضا من أهل البدع والأهواء : وقيل المراد بالذين فرقوا دينهم شيعا : اليهود والنصارى. وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا دينهم» ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب ، أي : فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد. وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : كل فريق بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب ، مسرورون مبتهجون ، يظنون أنهم على الحق ، وليس بأيديهم منه شيء. وقال الفراء : يجوز أن يكون قوله : «من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا» مستأنفا ، كما يجوز أن يكون متصلا بما قبله (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) أي : قحط وشدّة (دَعَوْا رَبَّهُمْ) أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي : راجعين إليه ملتجئين به لا يعولون على غيره ، وقيل : مقبلين عليه بكل قلوبهم (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) بإجابة دعائهم ، ورفع تلك الشدائد عنهم (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) إذا : هي الفجائية ، وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب ، أي : فاجأ فريق منهم الإشراك ، وهم الذين

٢٥٩

دعوه فخلصهم مما كانوا فيه. وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم ، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد ، والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم ، واللام في (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هي لام كي ، وقيل : لام لقصد الوعيد والتهديد ، وقيل : هي لام العاقبة. ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم. قرأ الجمهور «فتمتعوا» على الخطاب. وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول ، وفي مصحف ابن مسعود «فليتمتعوا» (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أم : هي المنقطعة ، والاستفهام : للإنكار ، والسلطان : الحجة الظاهرة (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) أي : يدل كما في قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (١) قال الفراء : إن العرب تؤنث السلطان ، يقولون : قضت به عليك السلطان. فأما البصريون : فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث عندهم جائز ؛ لأنه بمعنى الحجة ، وقيل : المراد بالسلطان : الملك (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي : ينطق بإشراكهم بالله سبحانه ، ويجوز أن تكون الباء سببية ، أي : بالأمر الذي بسببه يشركون (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي : خصبا ونعمة ، وسعة وعافية (فَرِحُوا بِها) فرح بطر ، وأشر ، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ثم قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة على أي صفة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) القنوط : الإياس من الرحمة ، كذا قال الجمهور. وقال الحسن : القنوط : ترك فرائض الله سبحانه. قرأ الجمهور «يقنطون» بضم النون. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده ، ويوسع له (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له ، وفي التضييق على من ضيق عليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق.

وقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، فأنزل الله (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال هي في الآلهة ، وفيه يقول تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : دين الله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) قال : القضاء القيم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن الأسود ابن سريع ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة إلى خيبر فقاتلوا المشركين ، فانتهى القتل إلى الذريّة ، فلمّا جاءوا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حملكم على قتل الذريّة؟ قالوا : يا رسول الله! إنّما كانوا أولاد المشركين ، قال : وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانها». وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يعبّر عنه لسانه ، فإذا عبّر عنه لسانه إمّا شاكرا وإما كفورا» رواه أحمد عن الربيع بن أنس

__________________

(١). الجاثية : ٢٩.

٢٦٠