فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

أي : بل أنت. وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ «أما أنا خير» أي : ألست خيرا من هذا الذي هو مهين : أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عزّ له (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الكلام لما في لسانه من العقدة ، وقد تقدم بيانه في سورة طه (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي : فهلا حلي بأساورة الذهب إن كان عظيما ، وكان الرجل فيهم إذا سوّدوه سوّروه بسوار من ذهب ، وطوّقوه بطوق من ذهب. قرأ الجمهور (أَسْوِرَةٌ) جمع أسورة جمع سوار. وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار ، وهي لغة في سوار. وقرأ حفص (أَسْوِرَةٌ) جمع سوار ، وقرأ أبيّ : أساور ، وابن مسعود أساوير. قال مجاهد : كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوارين وطوّقوه بطوق ذهب علامة لسيادته (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) معطوف على ألقي ، والمعنى : هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين ؛ إن كان صادقا يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوّة ، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بدّ أن يكونوا على هيئة الجبابرة ، ومحفوفين بالملائكة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) أي : حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله ، وكيده ، وغروره. فأطاعوه فيما أمرهم به ، وقبلوا قوله وكذبوا موسى (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي : خارجين عن طاعة الله. قال ابن الأعرابي : المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم ، وقلة عقولهم ، يقال استخفه الفرح : أي أزعجه ، واستخفه : أي حمله ، ومنه (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (١) وقيل استخفّ قومه : أي وجدهم خفاف العقول ، وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) قال المفسرون : أغضبونا ، والأسف : الغضب ، وقيل : أشدّ الغضب ، وقيل : السخط ، وقيل المعنى : أغضبوا رسلنا. ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال : (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في البحر (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي : قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب. قرأ الجمهور : سلفا بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم ، ورصد وراصد ، وحرس وحارس ، يقال سلف يسلف : إذا تقدّم ومضى. قال الفراء والزجاج : جعلناهم متقدّمين ليتعظ بهم الآخرون ، وقرأ حمزة والكسائي : سلفا بضم السين واللام. قال الفراء : هو جمع سليف ، نحو سرر وسرير. وقال أبو حاتم : هو جمع سلف نحو خشب وخشب. وقرأ علي ، وابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو وائل ، والنخعي ، وحميد بن قيس بضم السين ، وفتح اللام جمع سلفة ، وهي : الفرقة المتقدّمة نحو غرف وغرفة ، كذا قال النضر بن شميل (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي : عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم ، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) قال : كانت بموسى لثغة في لسانه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه (فَلَمَّا آسَفُونا) قال : أسخطونا. وأخرجا عنه أيضا آسفونا قال : أغضبونا ، وفي قوله : (سَلَفاً) قال : أهواء مختلفة. وأخرج أحمد ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معصية فإنما ذلك استدراج منه له ، وقرأ (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)». وأخرج ابن المنذر ،

__________________

(١). الروم : ٦٠.

٦٤١

وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ، فلما آسفونا انتقمنا منهم.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

لما قال سبحانه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد إلّا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ، فأنزل الله (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) كذا قال قتادة ومجاهد. وقال الواحدي : أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) فقال ابن الزبعرى : خصمتك وربّ الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة؟ ففرح بذلك من قوله ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢) ونزلت هذه الآية المذكورة هنا ، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء. ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعرى مندفع من أصله وباطل برمته ، فإن الله سبحانه قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح ، وعزير ، والملائكة (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي : إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدّون ، أي : يضجون ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب ، والمراد بقوله هنا : كفار قريش. قرأ الجمهور «يصدّون» بكسر الصاد ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي بضمها. قال الكسائي ، والفراء ، والزجاج ، والأخفش : هما لغتان ومعناهما : يضجون قال الجوهري : صدّ يصدّ صديدا : أي ضجّ. وقيل : إنه بالضم ، الإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب. قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود

__________________

(١). الأنبياء : ٩٨.

(٢). الأنبياء : ١٠١.

٦٤٢

عن الحق لقال : إذا قومك عنه يصدّون. قال الفراء : هما سواء منه وعنه. وقال أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون ، ومن كسر فمعناه يضجون (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي : أآلهتنا خير أم المسيح؟ قال السدي وابن زيد : خاصموه وقالوا : إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وقال قتادة : يعنون محمدا ، أي : أآلهتنا خير أم محمد؟ ويقوّي هذا قراءة ابن مسعود : أآلهتنا خير أم هذا. قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين ، وقرأ الكوفيون ويعقوب بتحقيقها. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي : ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك ؛ على أن جدلا منتصب على العلة ، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال ، وقرأ ابن مقسم «جدالا» (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي : شديد والخصومة كثير واللدد عظيمو الجدل. ثم بين سبحانه أن عيسى ليس بربّ ، وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوّته فقال : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بما أكرمناه به (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : آية وعبرة لهم يعرفون به قدرة الله سبحانه ، فإنه كان من غير أب ، وكان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وكل مريض (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي : لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ، أي : يخلفونكم فيها. قال الأزهري : ومن قد تكون للبدل كقوله : (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) يريد بدلا منكم. وقيل المعنى : لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة. والأوّل أولى. ومقصود الآية : أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا. وقيل معنى «يخلفون» يخلف بعضهم بعضا (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال مجاهد والضحاك والسدّي وقتادة : إن المراد المسيح ، وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطا من أشراطها ، لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة ، كما أن خروج الدّجال من أعلام الساعة. وقال الحسن وسعيد بن جبير : المراد القرآن ، لأنه يدلّ على قرب مجيء الساعة ، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها ، وقيل المعنى : أن حدوث المسيح من غير أب ، وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث. وقيل : الضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور «لعلم» بصيغة المصدر جعل المسيح علما مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله ، وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، والضحاك ، وزيد بن علي بفتح العين واللام ، أي : خروجه علم من أعلامها ، وشرط من شروطها ، وقرأ أبو نضرة وعكرمة : «وإنّه للعلم» بلامين مع فتح العين واللام ، أي : للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي : فلا تشكنّ في وقوعها ولا تكذبنّ بها ، فإنها كائنة لا محالة (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي : اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك ، وفرائض الله التي فرضها عليكم ، هذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيم موصل إلى الحقّ. قرأ الجمهور بحذف الياء من «اتبعون» وصلا ووقفا ، وكذلك قرءوا بحذفها في الحالين في «أطيعون» وقرأ يعقوب بإثباتها وصلا ووقفا فيهما ، وقرأ أبو عمرو وهي رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي : لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي ، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه. ثم علل نهيهم عن أن يصدّهم الشيطان ببيان عداوته

٦٤٣

لهم فقال : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي : مظهر لعداوته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدلّ على ذلك ما وقع بينه وبين آدم وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) أي : جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع. قال قتادة : البينات هنا : الإنجيل (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي : النبوّة ، وقيل : الإنجيل ، وقيل : ما يرغّب في الجميل ويكفّ عن القبيح (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة. وقال قتادة : يعني اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى. قال الزجاج : الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه ، فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل : إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم. وقال أبو عبيدة : إن البعض هنا بمعنى الكلّ كما في قوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) وقال مقاتل : هو كقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) : يعني ما أحلّ في الإنجيل مما كان محرّما في التوراة كلحم الإبل ، والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت ، واللام في : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) معطوفة على مقدّر كأنه قال : قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم. ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : اتقوا معاصيه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من التوحيد والشرائع (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي عبادة الله وحده والعمل بشرائعه (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ). قال مجاهد والسدّي : الأحزاب هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقال الكلبي ومقاتل : هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى. قال قتادة : ومعنى «من بينهم» : أنهم اختلفوا فيما بينهم ، وقيل : اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى ، والأحزاب هي الفرق المحزبة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء المختلفين ، وهم الذين أشركوا بالله ، ولم يعملوا بشرائعه (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي : أليم عذابه وهو يوم القيامة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي : هل يرتقب هؤلاء الأحزاب وينتظرون إلا الساعة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يفطنون بذلك ، وقيل : المراد بالأحزاب : الذين تحزّبوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوه ، وهم المرادون بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) والأوّل أولى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي : الأخلاء في الدنيا المتحابون فيها يوم تأتيهم الساعة بعضهم لبعض عدوّ ، أي : يعادي بعضهم بعضا ، لأنها قد انقطعت بينهم العلائق ، واشتغل كل واحد منهم بنفسه ، ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسبابا للعذاب فصاروا أعداء. ثم استثنى المتقين فقال : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة ، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب ، فبقيت خلتهم على حالها (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي : يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة فيذهب عند ذلك خوفهم ، ويرتفع حزنهم (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الموصول : يجوز أن يكون نعتا لعبادي ، أو : بدلا منه ، أو : عطف بيان له ، أو : مقطوعا عنه في محل نصب على المدح ، أو : في محل رفع بالابتداء ، وخبره : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) على تقدير : يقال لهم ادخلوا الجنة. والأوّل أولى ، وبه قال الزجاج. قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد

٦٤٤

يا عبادي لا خوف عليكم ، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم ، فيقال : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين. قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو يا عبادي بإثبات الياء ساكنة وصلا ووقفا ، وقرأ أبو بكر وزرّ بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين ، وقرأ الباقون بحذفها في الحالين (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) المراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات ، وقيل : قرناؤهم من المؤمنين ، وقيل : زوجاتهم من الحور العين (تُحْبَرُونَ) تكرمون ، وقيل : تنعمون ، وقيل : تفرحون ، وقيل : تسرون ، وقيل : تعجبون ، وقيل : تلذذون بالسماع ، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) الصحاف جمع صفحة : وهي القصعة الواسعة العريضة. قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة ، وهي تشبع عشرة ، ثم الصحفة ، وهي تشبع خمسة ، ثم المكيلة وهي تشبع الرجلين والثلاثة ، والمعنى : أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في صحاف الذهب (وَ) لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في ال (أَكْوابٍ) وهي جمع كوب. قال الجوهري. الكوب كوز لا عروة له ، والجمع أكواب. قال الأعشى :

صريفيّة طيّب طعمها

لها زبد بين كوب ودنّ

وقال آخر :

متّكئا تصفق أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب

قال قتادة : الكوب المدوّر القصير العنق ؛ القصير العروة ، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش : الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب : هي الأباريق التي ليست لها عرا (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) قرأ الجمهور «تشتهي» وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات الضمير العائد على الموصول ، والمعنى : ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه كائنا ما كان ، وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذّ بها وتطلب مشاهدتها ، تقول لذّ الشيء يلذ لذاذا ولذاذة : إذا وجده لذيذا والتذّ به ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «تشتهيه الأنفس وتلذّه الأعين» (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) لا تموتون ولا تخرجون منها (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة : أي : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة ، واسم الإشارة : مبتدأ ، والجنة : صفته ، والتي أورثتموها : صفة للجنة ، والخبر : بما كنتم تعملون ، وقيل الخبر : الموصول مع صلته ، والأوّل أولى (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) الفاكهة معروفة ، وهي : الثمار كلها رطبها ويابسها ، أي : لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف (مِنْها تَأْكُلُونَ) من تبعيضية أو ابتدائية ، وقدّم الجار لأجل الفاصلة.

وقد أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقريش : «إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير ، قالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله

٦٤٥

صالحا وقد عبدته النصارى؟ فإن كنت صادقا فإنه كآلهتهم ، فأنزل الله (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قلت : وما يصدّون؟ قال : يضجون (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال : خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة». وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ، ثم تلا هذه الآية (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)». وقد ورد في ذمّ الجدال بالباطل أحاديث كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس «أن المشركين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أرأيت ما نعبد من دون الله أين هم؟ قال : في النار ، قالوا : والشمس والقمر؟ قال : والشمس والقمر قالوا : فعيسى بن مريم قال : قال الله (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ)». وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور ، ومسدّد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني من طرق عنه في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال : خروج عيسى قبل يوم القيامة. وأخرجه الحاكم ، وابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام ، وقلت الأنساب ، وذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله ، وذلك قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)». وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وحميد بن زنجويه في ترغيبه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) قال : خليلان مؤمنان ، وخليلان كافران توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة ، فذكر خليله وقال : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ ، وينبئني أني ملاقيك ، اللهم لا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني ، وترضى عنه كما رضيت عني ، فيقال له : اذهب ؛ فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا ، ولبكيت قليلا ، ثم يموت الآخر فيجمع بين رواحهما فيقال : ليثن كل واحد منكما على صاحبه ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : نعم الأخ ، ونعم الصاحب ، ونعم الخليل ؛ وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار ، فيذكر خليله ، فيقول : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ، ويأمرني بالشرّ ، وينهاني عن الخير ، وينبئني أني غير ملاقيك ، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت عليّ ، فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال : ليثن كلّ واحد منكما على صاحبه ، فيقول كلّ منهما لصاحبه : بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الأكواب الجرار من الفضة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة ، وذلك قوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها).

٦٤٦

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) أي : أهل الإجرام الكفرية ، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) لا ينقطع عنهم العذاب أبدا (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي : لا يخفف عنهم ذلك العذاب ، والجملة في محل نصب على الحال (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي : آيسون من النجاة ، وقيل : ساكتون سكوت يأس ، وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي : ما عذبناهم بغير ذنب ، ولا بزيادة على ما يستحقونه (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب. قرأ الجمهور «الظّالمين» بالنصب على أنه خبر كان ، والضمير ضمير فصل. وقرأ أبو زيد النحوي «الظّالمون» بالرفع على أن الضمير : مبتدأ ، وما بعده : خبره ، والجملة خبر كان (وَنادَوْا يا مالِكُ) أي : نادى المجرمون هذا النداء ، ومالك هو خازن النار. قرأ الجمهور «يا مالك» بدون ترخيم. وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش «يا مال» بالترخيم (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) بالموت توسلوا بمالك إلى الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي : مقيمون في العذاب ، قيل : سكت عن إجابتهم ثمانين سنة ، ثم أجابهم بهذا الجواب ، وقيل : سكت عنهم ألف عام ، وقيل مائة سنة ، وقيل أربعين سنة (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ، ويحتمل أن يكون من كلام مالك ، والأوّل أظهر ؛ والمعنى : إنا أرسلنا إليكم الرسل ، وأنزلنا عليهم الكتب ، فدعوكم فلم تقبلوا ، ولم تصدّقوا ، وهو معنى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لا يقبلونه ، والمراد بالحق : كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه. وقيل : هو خاص بالقرآن. وقيل ومعنى أكثركم : كلكم. وقيل : أراد الرؤساء والقادة ، ومن عداهم أتباع لهم (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أم : هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي : بل أأبرموا أمرا. وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء ، وإبرام : الإتقان والإحكام ، يقال أبرمت الشيء : أحكمته وأتقنته ، وأبرم الحبل : إذا أحكم فتله ، والمعنى : بل أحكموا كيدا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، ومثل هذا قوله تعالى :

٦٤٧

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (١) وقيل المعنى : أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب قاله الكلبي. (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي : بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرّون به في أنفسهم ، أو ما يتحدثون به سرّا في مكان خال ، وما يتناجون به فيما بينهم (بَلى) نسمع ذلك ونعمل به (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي : الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو معطوفة على الجملة التي تدلّ عليها بلى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للكفار قولا يلزمهم به الحجة ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي : إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أوّل من عبد الله وحده ، لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد ، كذا قال ابن قتيبة. وقال الحسن والسدّي : إن المعنى ما كان للرحمن ولد ، ويكون قوله : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ابتداء كلام ، وقيل المعنى : قل يا محمد إن ثبت لله ولد ، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه ، وأتمّ عبارة ، وأحسن أسلوب ، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره : إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أوّل من يعتقد ويقول به ، فتكون «إن» في «إن كان» شرطية ، ورجح هذا ابن جرير وغيره. وقيل معنى العابدين : الآنفين من العبادة ، وهو تكلف لا ملجئ إليه ، ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني «العبدين» بغير ألف ، يقال عبد يعبد عبدا بالتحريك : إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة مثل الأنفة ، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وليس بمستبعد ولا مستنكر. وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أنه من الأنف والغضب. وحكاه المارودي عن الكسائي والقتبي ، وبه قال الفراء : وكذا قال ابن الأعرابي : إن معنى العابدين الغضاب الآنفين. وقال أبو عبيدة : معناه الجاحدين ، وحكى عبدني حقي : أي جحدني ، وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق :

أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم

وأعبد أن يهجى كليبا بدارم

وقوله أيضا :

أولئك ناس لو هجوني هجوتهم

وأعبد أن يهجى كليب بدارم

ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجئ إليه ومن التعسف الواضح. وقد ردّ ابن عرفة ما قالوه فقال : إنما يقال عبد يعبد فهو عبد ، وقلّ ما يقال عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. قرأ الجمهور «ولد» بالإفراد ، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما «ولد» بضم الواو وسكون اللام (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي : تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا ويفترون

__________________

(١). الطور : ٤٢.

(٢). سبأ : ٢٤.

٦٤٨

عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه ، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه عما قالوه ، وإن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضمّ إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي : اترك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم ، ويلهوا في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة ، وقيل : العذاب في الدنيا ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف ، وقيل : هو غير منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد. قرأ الجمهور «يلاقوا» وقرأ مجاهد ، وابن محيصن ، وابن السميقع «حتّى يلقوا» بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود أو مستحق للعبادة ، والمعنى : وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض ، أو مستحق للعبادة في السماء ، والعبادة في الأرض. قال أبو عليّ الفارسي : وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو الذي في السماء هو إله ، وفي الأرض هو إله ، وحسن حذفه لطول الكلام ، قال : والمعنى على الإخبار بإلاهيته ، لا على الكون فيهما. قال قتادة : يعبد في السماء والأرض ، وقيل في : بمعنى على ، أي : هو القادر على السماء والأرض كما في قوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (١) وقرأ عمر ابن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي : البليغ الحكمة الكثير العلم (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) تبارك تفاعل من البركة وهي كثرة الخيرات ، والمراد بما بينهما : الهواء وما فيه من الحيوانات (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : علم الوقت الذي يكون قيامها فيه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازي كلّ أحد بما يستحقه من خير وشرّ ، وفيه وعيد شديد. قرأ الجمهور «ترجعون» بالفوقية ، وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي بالتحتية (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) أي : لا يملك من يدعونه من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم. قرأ الجمهور «يدعون» بالتحتية ، وقرأ السلمي وابن وثاب بالفوقية (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) أي : التوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي : هم على علم وبصيرة بما شهدوا به ، والاستثناء يحتمل أن يكون متصلا ، والمعنى : إلا من شهد بالحق ، وهم المسيح وعزير وبصيرة بما شهدوا به ، والاستثناء يحتمل أن يكون متصلا ، والمعنى : إلا من شهد بالحق ، وهم المسيح وعزير والملائكة ، فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها. وقيل : هو منقطع ، والمعنى : لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء. ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفا ، أي : لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق. قال سعيد بن جبير وغيره : معنى الآية : أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق ، وآمن على علم وبصيرة. وقال قتادة : لا يشفعون لعابديها ، بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية. وقيل : مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاما لكل ما يعبد من دون الله ، ومدار الانقطاع على جعله خاصا بالأصنام (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) اللام هي الموطئة للقسم ، والمعنى : لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقرّوا واعترفوا بأن خالقهم الله ،

__________________

(١). طه : ٧١.

٦٤٩

ولا يقدرون على الإنكار ، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره ، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف ، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم ، أو حيوان وعبده مع الله ، أو عبده وحده فقد عبد بعض مخلوقات الله ، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره. يقال أفكه يأفكه إفكا : إذا قلبه وصرفه عن الشيء. وقيل المعنى : ولئن سألت المسيح وعزيرا والملائكة من خلقهم ليقولنّ الله ، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لها آلهة. وقيل المعنى : ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعا. قرأ الجمهور (وَقِيلِهِ) بالنصب عطفا على محلّ الساعة ، كأنه قيل : إنه يعلم الساعة ويعلم قيله أو عطفا على سرّهم ونجواهم ، أي : يعلم سرّهم ونجواهم ويعلم قيله ، أو عطفا على مفعول يكتبون المحذوف ، أي : يكتبون ذلك ، ويكتبون قيله ، أو عطفا على مفعول يعلمون المحذوف ، أي : يعلمون ذلك ، ويعلمون قيله ، أو هو مصدر ، أي : قال قيله ، أو منصوب بإضمار فعل ، أي : الله يعلم قيل رسوله ، أو هو معطوف على محل بالحقّ ، أي : شهد بالحق وبقيله ، أو منصوب على حذف حرف القسم. ومن المجوّزين للوجه الأوّل المبرد وابن الأنباري ، ومن المجوّزين للثاني الفراء والأخفش ، ومن المجوّزين للنصب على المصدرية الفراء والأخفش أيضا. وقرأ حمزة وعاصم «وقيله» بالجرّ عطفا على لفظ الساعة ، أي : وعنده علم الساعة ، وعلم قيله ، والقول والقال والقيل بمعنى واحد ، أو : على أن الواو للقسم. وقرأ قتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وأبو قلابة ، والأعرج ، وابن هرمز ، ومسلم بن جندب «وقيله» بالرفع عطفا على علم الساعة ، أي : وعنده علم الساعة ، وعنده قيله ، أو : على الابتداء ، وخبره : الجملة المذكورة بعده ، أو : خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت ، أو : وقيله مسموع. قال أبو عبيد : يقال قلت قولا وقيلا وقالا ، والضمير في وقيله راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه ، وقيل : الضمير عائد إلى المسيح ، وعلى الوجهين فالمعنى : أنه قال مناديا لربه (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ) الذين أرسلتني إليهم (قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ). ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي أعرض عن دعوتهم (وَقُلْ سَلامٌ) أي : أمري تسليم منكم ، ومتاركة لكم. قال عطاء : يريد مداراة حتى ينزل حكمي ، ومعناه : المتاركة. كقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ). وقال قتادة : أمره بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخا بالسيف ، وقيل : هي محكمة لم تنسخ (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فيه تهديد شديد ، ووعيد عظيم من الله عزوجل. قرأ الجمهور «يعلمون» بالتحتية ، وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية. قال الفراء : إن سلام مرفوع بإضمار عليكم.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ) قال : يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها ، قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، فقال واحد منهم : ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد منهم : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، فنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم

٦٥٠

عن ابن عباس في قوله : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) يقول : إن يكن للرحمن ولد (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قال : الشاهدين. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) قال : هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط : أي ما كان. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.

* * *

٦٥١

سورة الدّخان

هي تسع وخمسون ، وقيل سبع وخمسون آية ، قال القرطبي هي مكية باتفاق إلا قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير أن سورة الدخان نزلت بمكة. وأخرج الترمذي ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك». قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن أبي خثعم ضعيف. قال البخاري : منكر الحديث. وأخرج الترمذي ، ومحمد بن نصر ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدّخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له». قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهشام بن المقدام يضعّف ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة ، كذا قال أيوب ، ويونس بن عبيد ، وعلي بن زيد ، ويشهد له ما أخرجه ابن الضريس ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، وما أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعا بنحوه وهو مرسل ، وما أخرجه الدارمي ، ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال : من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوّج من الحور العين. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة حم الدّخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

قوله : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) قد تقدّم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى وإعرابا ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) جواب القسم ، وإن جعلت الجواب حم كانت هذه الجملة مستأنفة ، وقد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جوابا للقسم لأنها صفة للمقسم به ؛ ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم ، وقال الجواب (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) واختاره ابن عطية ، وقيل إن قوله : (إِنَّا

٦٥٢

كُنَّا مُنْذِرِينَ) جواب ثان ، أو : جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال ، وفي حكم العلة له كأنه قال : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار ، والضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب المبين وهو القرآن. وقيل : المراد بالكتاب سائر الكتب المنزّلة ، والضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة أنه أنزل القرآن ، والأوّل أولى. والليلة المباركة : ليلة القدر كما في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة القدر. قال عكرمة : الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان. وقال قتادة : أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) وقال مقاتل : كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام ، ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها ، وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا ، ولكونها تتنزّل فيها الملائكة والروح ، كما سيأتي في سورة القدر ، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه هاهنا بقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ومعنى يفرق : يفصل ويبين من قولهم : فرقت الشيء أفرقه فرقا ، والأمر الحكيم : المحكم ، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت وبسط وخير وشرّ وغير ذلك ، كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم : وهذه الجملة : إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض ، أو : مستأنفة لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور «يفرق» بضمّ الياء وفتح الراء مخففا ، وقرأ الحسن والأعمش والأعرج بفتح الياء وضم الراء ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل. والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ، لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وبقوله في سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) قال الزجاج والفراء : انتصاب أمرا بيفرق ، أي : يفرق فرقا ، لأن أمرا بمعنى فرقا. والمعنى : إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك يضرب ضربا. قال المبرد : أمرا في موضع المصدر ، والتقدير أنزلناه إنزالا. وقال الأخفش : انتصابه على الحال ، أي : آمرين. وقيل : هو منصوب على الاختصاص ، أي : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، وفيه تفخيم لشأن القرآن ، وتعظيم له. وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا اثني عشر وجها أظهرها ما ذكرناه. وقرأ زيد بن علي «أمر» بالرفع ، أي : هو أمر (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) هذه الجملة : إما بدل من قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أو : جواب ثالث للقسم ، أو : مستأنفة ، قال الرازي : المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) انتصاب رحمة على العلة ، أي : أنزلناه للرحمة ، قاله الزجاج. وقال المبرد : إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين ، أي : إنا كنا مرسلين رحمة. وقيل : هي مصدر في موضع الحال ، أي : راحمين ، قاله الأخفش. وقرأ الحسن «رحمة» بالرفع على تقدير : هي رحمة

__________________

(١). القدر : ١.

(٢). البقرة : ١٨٥.

٦٥٣

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لمن دعاه (الْعَلِيمُ) بكل شيء. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة فقال : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) قرأ الجمهور «رب» بالرفع عطفا على السميع العليم ، أو : على أنه مبتدأ ، وخبره : لا إله إلا هو ، أو : على أنه خبر ، لمبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ ، وقرأ الكوفيون (رَبِ) بالجرّ : على أنه بدل من ربك ، أو : بيان له ، أو نعت (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأنه ربّ السموات والأرض وما بينهما ، وقد أقرّوا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع ، وجملة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، أو خبر ربّ السموات كما مرّ ، وكذلك جملة : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ ، أي : هو ربكم ، أو : على أنه بدل من ربّ السموات ، أو : بيان ، أو نعت له ، وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه ، وابن محيصن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، والحسن بالجرّ ، ووجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في ربّ السموات (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد والبعث ، وفي إقرارهم بأن الله خلقهم ، وخالق سائر المخلوقات ، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو ، ومحلّ يلعبون : الرفع على أنه خبر ثان ، أو : النصب على الحال (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك ؛ والمعنى : فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين ، وقيل المعنى : احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.

وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل إنه من أشراط الساعة ، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما. وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة ، وقيل : إنه أمر قد مضى ، وهو ما أصاب قريشا بدعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا ، وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما : وذلك حين دعا عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، وكان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، وقيل : إنه يوم فتح مكة ، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال. وقوله : (يَغْشَى النَّاسَ) صفة ثانية لدخان ، أي : يشملهم ، ويحيط بهم (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : يقولون هذا عذاب أليم ، أو : قائلين ذلك ، أو : يقول الله لهم ذلك (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي : يقولون ذلك ، وقد روي أنهم أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا ، والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان ، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة ، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد ، وشدّة الجوع ، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة ، فإن ذلك دخان آخر ولا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة ، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم (وَ) الحال أن (قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا

٦٥٤

(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه ، بل جاوزوه (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي : قالوا : إنما يعلمه القرآن بشر وقالوا إنه مجنون ، فكيف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) أي : إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا ، أو زمانا قليلا ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك ، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي : إلى ما كنتم عليه من الشرك ، وقد كان الأمر هكذا ، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد ، وقيل المعنى : إنكم عائدون إلينا بالبعث والنشور ، والأوّل أولى (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) الظرف منصوب بإضمار اذكر ، وقيل : هو بدل من يوم تأتي السماء ، وقيل : هو متعلق بمنتقمون ، وقيل : بما دلّ عليه منتقمون وهو ننتقم. والبطشة الكبرى : هي يوم بدر ، قاله الأكثر. والمعنى : أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن وعكرمة : المراد بها عذاب النار ، واختار هذا الزجاج ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور (نَبْطِشُ) بفتح النون وكسر الطاء : أي : نبطش بهم ، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة ، وقرأ أبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ونزل به جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما لجواب الناس. وأخرج محمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال : يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت ، وحياة ومطر ، حتى يكتب الحاج : يحج فلان ، ويحج فلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال : أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة ، فإنه في كتاب الله لا يبدّل ولا يغير. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب [عن ابن عباس] (١) قال : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآية ، يعني ليلة القدر ، قال : ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق ، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها. وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان ، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى». وأخرجه ابن أبي الدنيا ، وابن جرير عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس ، وهذا مرسل ولا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن. وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح. وقد أورد ذلك صاحب الدرّ المنثور. وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان ، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبطئوا عن الإسلام قال : اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ

__________________

(١). ما بين حاصرتين مستدرك من : الدر المنثور (٧ / ٤٠٠)

٦٥٥

مُبِينٌ) الآية ، فأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فانتقم الله منهم يوم بدر ، فقد مضى البطشة والدخان واللزام. وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه ، وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال : دخلت على ابن عباس فقال : لم أنم هذه الليلة ، فقلت لم؟ قال : طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح ، وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية. وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع ، وبين كون الدّخان من آيات الساعة وعلاماتها وأشراطها. فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك ، وليس فيها أنه سبب نزول الآية ، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها ، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول ، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره ، وهكذا يندفع قول من قال إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال : كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية ، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : قال ابن عباس قال ابن مسعود : البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة. قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح. وقال ابن كثير قبل هذا : فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر ، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم ، وروي أيضا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه وعن أبيّ ابن كعب وجماعة وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشه كبرى أيضا انتهى.

قلت : بل الظاهر أنه يوم بدر ، وإن كان يوم القيامة يوم بطشه أكبر من كل بطشة ، فإن السياق مع قريش ، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجنّ.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ

٦٥٦

(٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي : ابتليناهم ، ومعنى الفتنة هنا أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله ، وأمروهم بما شرعه لهم فكذبوهم ، أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا وبغوا. قال الزجاج : بلوناهم ، والمعنى : عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم ، وقرئ (فَتَنَّا) بالتشديد (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي : كريم على الله كريم في قومه. وقال مقاتل : حسن الخلق بالتجاوز والصفح. وقال الفراء : كريم على ربه إذ اختصه بالنبوّة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أن هذه هي المفسرة لتقدّم ما هو بمعنى القول ، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، والمعنى : أن الشأن والحديث أدّوا إليّ عباد الله ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : بأن أدّوا ؛ والمعنى : أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل. قال مجاهد : المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب ، فعباد الله على هذا مفعول به. وقيل : المعنى : أدّوا إليّ عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله ، فيكون منصوبا على أنه منادى مضاف. وقيل : أدّوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) هو تعليل لما تقدّم ، أي : رسول من الله إليكم أمين على الرسالة غير متهم (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي : لا تتجبروا وتتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته ، ومتابعة رسله ، وقيل : لا تبغوا على الله ، وقيل : لا تفتروا عليه ، والأوّل أولى ، وبه قال ابن جريج ، ويحيى بن سلام ، وجملة : (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) تعليل لما قبله من النهي ، أي : بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. وقال قتادة : بعذر بين. والأوّل أولى ، وبه قال يحيى بن سلام. قرأ الجمهور بكسر همزة (إِنِّي) وقرئ بالفتح بتقدير اللام (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل ، والمعنى : من أن ترجمون. قال قتادة : ترجموني بالحجارة ، وقيل : تشتمون ، وقيل : تقتلون (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي : إن لم تصدّقوني ؛ وتقرّوا بنبوّتي ؛ فاتركوني ولا تتعرّضوا لي بأذى. قال مقاتل : دعوني كفافا لا عليّ ولا لي ، وقيل : كونوا بمعزل عني ، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا ، وقيل : فخلوا سبيلي ، والمعنى متقارب. ثم لما لم يصدّقوه ولم يجيبوا دعوته ، رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجرّ : أي : دعاه بأن هؤلاء ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول ، وفي الكلام حذف ، أي : فكفروا فدعا ربه ، والمجرمون : الكافرون ، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرّد كونهم مجرمين ، لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أجاب الله سبحانه دعاءه ، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلا ، يقال سرى وأسرى لغتان ، قرأ الجمهور (فَأَسْرِ) بالقطع ، وقرأ أهل الحجاز بالوصل ، ووافقهم ابن كثير ، فالقراءة الأولى من أسرى ، والثانية من سرى ، والجملة بتقدير القول : أي فقال الله لموسى أسر بعبادي (إِنَّكُمْ

٦٥٧

مُتَّبَعُونَ) أي : يتبعكم فرعون وجنوده ، وقد تقدّم في غير موضع خروج فرعون بعدهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي : ساكنا ، يقال رها يرهو رهوا : إذا سكن لا يتحرّك. قال الجوهري : يقال افعل ذلك رهوا ، أي : ساكنا على هيئتك ، وعيش راه : أي ساكن ، ورها البحر سكن ، وكذا قال الهروي وغيره ، وهو المعروف في اللغة ، ومنه قول الشاعر :

والخيل تمرح رهوا في أعنّتها

كالطير تنجو من الشرنوب ذي الوبر

أي : والخيل تمرح في أعنتها ساكنة ، والمعنى : اترك البحر ساكنا على صفته بعد أن ضربته بعصاك ، ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك وبعد بني إسرائيل فينطبق عليهم فيغرقون. وقال أبو عبيدة : رها بين رجليه يرهو رهوا : أي فتح .. قال ، ومنه قوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) والمعنى : اتركه منفرجا كما كان بعد دخولكم فيه ، وكذا قال أبو عبيد : وبه قال مجاهد وغيره. قال ابن عرفة : وهما يرجعان إلى معنى واحد ، وإن اختلف لفظاهما ، لأن البحر إذا سكن جريه انفرج. قال الهروي : ويجوز أن يكون رهوا نعتا لموسى ، أي : سر ساكنا على هيئتك. وقال كعب والحسن رهوا : طريقا. وقال الضحاك : والربيع سهلا. وقال عكرمة : يبسا كقوله : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) وعلى كل تقدير ، فالمعنى اتركه ذا رهو أو اتركه رهوا على المبالغة في الوصف بالمصدر (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي : إن فرعون وقومه مغرقون. أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ويطمئن جأشه. قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك ، وقرئ بالفتح على تقدير لأنهم (كَمْ) هي الخبرية المفيدة للتكثير ، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء. قرأ الجمهور (وَمَقامٍ) بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام ، وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميقع ، وروي عن نافع بضمها اسم مكان الإقامة (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) النعمة بالفتح التنعم : يقال نعمه الله وناعمه فتنعم ، وبالكسر المنة ، وما أنعم به عليك ، وفلان واسع النعمة : أي واسع المال ذكر معنى هذا الجوهري. قرأ الجمهور (فاكِهِينَ) بالألف. وقرأ أبو رجاء ، والحسن ، وأبو الأشهب ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة «فكهين» بغير ألف ، والمعنى على القراءة الأولى : متنعمين طيبة أنفسهم ، وعلى القراءة الثانية : أشرين بطرين. قال الجوهري : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا ، والفكه أيضا : الأشر البطر. قال : وفاكهين : أي ناعمين. وقال الثعلبي : هما لغتان كالحاذر والحذر ، والفاره والفره. وقيل إن الفاكه : هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. قال الزجاج : أي الأمر كذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب ، والإشارة إلى مصدر فعل يدلّ عليه تركوا ، أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، وقيل : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، وقيل : مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم. فعلى الوجه الأوّل يكون قوله : (وَأَوْرَثْناها) معطوفا على (تَرَكُوا) وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفا على الفعل المقدّر. والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل ، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصاروا لها وارثين : أي أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث ، ومثل هذا قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ

٦٥٨

الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١) (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم : قال المفسرون : أي إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم به ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب تبكي عليهم به ، والمعنى : أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض ، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ، أي : عمت مصيبته ، ومن ذلك قول جرير :

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

ومنه قول النابغة :

بكى حارث الجولان من فقد ربّه

وحوران منه خاشع متضائل

وقال الحسن : في الكلام مضاف محذوف : أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس. وقال مجاهد : إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحا ، وقيل إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي : ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدّة عنادهم (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي خلصناهم بإهلاك عدوّهم مما كانوا فيه من الاستبعاد ، وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم للأعمال الشاقة ، وقوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب إما على حذف مضاف ، أي : من عذاب فرعون ، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب فأبدل منه ، أو على أنه حال من العذاب تقديره صادرا من فرعون ، وقرأ ابن عباس : «من فرعون» بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه أو نسبه : من أنت؟ ثم بين سبحانه حاله فقال : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي : عاليا في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر بالله وارتكاب معاصيه كما في قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٢) ولما بين سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني إسرائيل بين ما أكرمهم به فقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي : اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك ، وليس المراد أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣) وقيل : على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم ، ومحل على علم : النصب على الحال من فاعل اخترناهم ، أي : حال كون اختيارنا لهم على علم منا ، وعلى العالمين متعلق باخترناهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) أي : معجزات موسى (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي : اختبار ظاهر ، وامتحان واضح لننظر كيف يعملون. وقال قتادة : الآيات إنجاؤهم من الغرق ، وفلق البحر لهم ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ والسلوى لهم. وقال ابن زيد : الآيات هي الشرّ الذي كفهم عنه ، والخير الذي أمرهم به. وقال الحسن وقتادة : البلاء المبين : النعمة الظاهرة كما في قوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) (٤) ومنه قول زهير :

فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

__________________

(١). الأعراف : ١٣٧.

(٢). القصص : ٤.

(٣). آل عمران : ١١٠.

(٤). الأنفال : ١٧.

٦٥٩

والإشارة بقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ) إلى كفار قريش ، لأن الكلام فيهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي : ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا ولا حياة بعدها ولا بعث ، وهو معنى قوله : (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي : بمبعوثين ، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى ، بل المراد ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، قال الرازي : المعنى : أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى ، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلا ، وهو حجة داحضة ، فقالوا (فَأْتُوا بِآبائِنا) أي : ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولونه وتخبرونا به من البعث. ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أي : أهم خير في القوّة والمنعة : أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه ، وغلب أهلها وقهرهم ، وفيه وعيد شديد. وقيل : المراد بقوم تبع جميع أتباعه لا واحد بعينه. وقال الفراء : الخطاب في قوله : (فَأْتُوا بِآبائِنا) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده كقوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) (١) والأولى أنه خطاب له ولأتباعه من المسلمين (وَ) المراد ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عاد ، وثمود ، ونحوهم ، وقوله : (أَهْلَكْناهُمْ) جملة مستأنفة لبيان حالهم وعاقبة أمرهم ، وجملة : (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) تعليل لإهلاكهم ، والمعنى : أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء بسبب كونهم مجرمين ، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرما مع ضعفه وقصور قدرته بالأولى.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا) قال : ابتلينا (قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) قال : هو موسى (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أرسلوا معي بني إسرائيل (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) قال : لا تعثوا (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال : بعذر مبين (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال : بالحجارة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي خلوا سبيلي. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) قال : يقول اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق ، وفي قوله : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) قال : لا تفتروا وفي قوله : (أَنْ تَرْجُمُونِ) قال : تشتمون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (رَهْواً) قال : سمتا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (رَهْواً) قال : كهيئته وامض. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه سأل كعبا عن قوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) قال : طريقا. وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس أيضا قال : الرّهو أن يترك كما كان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) قال : المنابر. وأخرج ابن مردويه عن جابر مثله. وأخرج الترمذي ، وابن أبي الدنيا ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من عبد إلا وله بابان : باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه ، وتلا هذه الآية : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ، ولا من عملهم كلام صالح فتفقدهم فتبكي عليهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي

__________________

(١). المؤمنون : ٩٩.

٦٦٠