فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية ، وهي لغة معروفة حسنة ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال أبو عبيدة : يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قترا ، وأقتر يقتر إقتارا ، ومعنى الجميع : التضييق في الإنفاق. قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معنى الآية : أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار ، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعري ، ولا ينفق نفقة يقول الناس : قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب : أولئك أصحاب محمد ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ، ويقوّيهم على عبادة الله ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ، ويقيهم الحرّ والبرد. وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ، ولم يبخلوا كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١) قرأ حسان بن عبد الرحمن (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) بكسر القاف ، وقرأ الباقون بفتحها ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : القوام بالكسر : ما يدوم عليه الشيء ويستقرّ ، وبالفتح : العدل والاستقامة ، قاله ثعلب. وقيل بالفتح : العدل بين الشيئين ، وبالكسر : ما يقام به الشيء ، لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل بالكسر : السداد والمبلغ ، واسم كان مقدّر فيها ، أي : كان إنفاقهم بين ذلك قواما ، وخبرها قواما ، قاله الفراء. وروي عن الفراء قول آخر ، وهو أن اسم كان بين ذلك ، وتبنى بين على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة. وقال النحاس : ما أدري ما وجه هذا ، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت.

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) قال : قل لهم يا محمد : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر ، يقول عرض من عرض الدنيا. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضا في قوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قال : هي هذه الاثنا عشر برجا : أولها : الحمل ، ثم الثور ، ثم الجوزاء ، ثم السرطان ، ثم الأسد ، ثم السنبلة ، ثم الميزان ، ثم العقرب ، ثم القوس ، ثم الجدي ، ثم الدلو ، ثم الحوت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) قال : أبيض وأسود. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار : ومن النهار أدركه بالليل. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن أن عمر أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ، فقال : إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه ، أو قال أقضيه ، وتلا هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) قال : هم المؤمنون (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) قال : بالطاعة والعفاف والتواضع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : (هَوْناً) علما وحلما. وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) قال : الدائم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم

__________________

(١). الإسراء : ٢٩.

١٠١

عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله ، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال : والذين لا يدعون مع الله سبحانه ربا من الأرباب. والمعنى : لا يشركون به شيئا ، بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي : حرّم قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بما يحقّ أن تقتل به النفوس ، من كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس (وَلا يَزْنُونَ) أي : يستحلون الفروج المحرّمة بغير نكاح ، ولا ملك يمين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : شيئا مما ذكر (يَلْقَ) في الآخرة (أَثاماً) والأثام في كلام العرب : العقاب. قال الفراء : آثمه الله يؤثمه أثاما وآثاما ، أي : جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد : إن أثاما واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. وقال السدّي : جبل فيها. وقرئ «يلقّ» بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقرأ الحسن يلق أياما جمع يوم : يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام ، وما أظن هذه القراءة تصح عنه (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي (يُضاعَفْ) ، و (يَخْلُدْ) بالجزم ، وقرأ ابن كثير «يضعف» بتشديد العين وطرح الألف والجزم ، وقرأ طلحة ابن سليمان «نضعّف» بضم النون وكسر العين المشدّدة والجزم ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بالفوقية خطابا للكافر. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ (وَيَخْلُدْ) بضم الياء التحتية وفتح اللام. قال أبو عليّ الفارسي : وهي غلط من جهة الرواية ، ووجه الجزم في يضاعف : أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى ، ومثله قول الشاعر :

إنّ عليّ الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا

والضمير في قوله : (وَيَخْلُدْ فِيهِ) راجع إلى العذاب المضاعف ، أي : يخلد في العذاب المضاعف

١٠٢

(مُهاناً) ذليلا حقيرا (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) قيل : هو استثناء متصل ، وقيل : منقطع. قال أبو حيان : لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب ، فيصير التقدير : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا يضاعف له العذاب ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال : والأولى عندي أن يكون منقطعا ، أي : لكن من تاب. قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين. وقد تقدّم بيانه في النساء والمائدة ، والإشارة بقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) إلى المذكورين سابقا ، ومعنى تبديل السيئات حسنات ، أنه يمحو عنهم المعاصي ، ويثبت لهم مكانها طاعات. قال النحاس : من أحسن ما قيل في ذلك : أنه يكتب موضع كافر مؤمن ، وموضع عاص مطيع. قال الحسن : قوم يقولون التبديل في الآخرة ، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا ، يبدل الله لهم إيمانا مكان الشرك ، وإخلاصا من الشك ، وإحصانا من الفجور ، قال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة. وقيل : إن السيئات تبدّل بحسنات ، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وقيل : التبديل عبارة عن الغفران ، أي : يغفر الله لهم تلك السيئات ، لا أن يبدلها حسنات. وقيل : المراد بالتبديل : أن يوفقه لأضداد ما سلف منه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) هذه الجملة مقرّرة لما قبله من التبديل (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي : من تاب عما اقترف وعمل عملا صالحا بعد ذلك ، فإنه يتوب بذلك إلى الله متابا ، أي : يرجع إليه رجوعا صحيحا قويا. قال القفال : يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين ، ولهذا قال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) ثم عطف عليه من تاب من المسلمين ، وأتبع توبته عملا صالحا ، فله حكم التائبين أيضا. وقيل : أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله ، فليست تلك التوبة نافعة ، بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة ، فهو الذي تاب إلى الله متابا ، أي : تاب حقّ التوبة ، وهي النصوح ، ولذلك أكد بالمصدر ، ومعنى الآية : من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله ، فالخبر في معنى الأمر ، كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء ، فإنه لا يقال من تاب فإنه يتوب ، ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات فقال : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي : لا يشهدون الشهادة الكاذبة ، أو لا يحضرون الزور ، والزور : هو الكذب والباطل ، ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج : الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا : بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ، ففي الكلام مضاف محذوف ، أي : لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور ، كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه ، فقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، وقال محمد بن الحنفية : لا يحضرون اللهو والغناء ، وقال ابن جريج : الكذب. وروى عن مجاهد أيضا ، والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور ، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائنا ما كان (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي : معرضين عنه غير ملتفتين إليه ، واللغو : كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن : اللغو : المعاصي كلها ، وقيل : المراد

١٠٣

مرّوا بذوي اللغو ، يقال : فلان يكرم عما يشينه ، أي : يتنزّه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : بالقرآن ، أو بما فيه موعظة وعبرة (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي : لم يقعوا عليها حال كونهم صما وعميانا ، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين ، وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة : المعنى لم يتغافلوا عنها ، كأنهم صمّ لم يسمعوها ، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير : ليس ثم خرور ، بل كما يقال قعد يبكي ، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية : كأن المستمع للذكر قائم ، فإذا أعرض عنه كان ذلك خرورا ، وهو السقوط على غير نظام. قيل المعنى : إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم ، فخروا سجدا وبكيا ، ولم يخرّوا عليها صما وعميانا. قال الفراء : أي لم يقعدوا على حالهم الأول ، كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف : ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفي للصمم والعمى ، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) من : ابتدائية ، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن (وَذُرِّيَّاتِنا) بالجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى «وذرّيتنا» بالإفراد ، والذرّية : تقع على الجمع ، كما في قوله : (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) (١) وتقع على الفرد كما في قوله : ذرّية طيبة ، وانتصاب قرّة أعين على المفعولية ، يقال : قرّت عينه قرة. قال الزجاج : يقال أقرّ الله عينك ، أي : صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل : في قرّة العين ثلاثة أقوال : أحدها : برد دمعها ، لأنه دليل السرور والضحك ، كما أن حرّه دليل الحزن والغمّ. والثاني : نومها ، لأنه يكون مع فراغ الخاطر ، وذهاب الحزن. والثالث : حصول الرضا. (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي : قدوة يقتدى بنا في الخير ، وإنما قال : إماما ، ولم يقل أئمة ، لأنه أريد به الجنس. كقوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٢) قال الفراء : قال إماما ، ولم يقل أئمة ؛ كما قال للاثنين (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) يعني : أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. وقال الأخفش : الإمام جمع أمّ من أمّ يؤم جمع على فعال ، نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام. وقيل : إن إماما مصدر ، يقال : أمّ فلان فلانا إماما ، مثل الصيام والقيام. وقيل أرادوا : اجعل كل واحد منا إماما ، وقيل أرادوا : اجعلنا إماما واحدا لاتحاد كلمتنا ، وقيل : إنه من الكلام المقلوب ، وأن المعنى : واجعل المتقين لنا إماما ، وبه قال مجاهد. وقيل : إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد ، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماما ، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) (٤) وفي هذا إبقاء إماما على حاله ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي

إنّ العواذل ليس لي بأمين

أي : أمناء. قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد ، كأنه قيل : اجعلنا حجة للمتقين ، ومثله البينة ، يقال : هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري : قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية

__________________

(١). النساء : ٩.

(٢). الحج : ٥.

(٣). الشعراء : ١٦.

(٤). المؤمنون : ٥١.

١٠٤

مما يجب أن تطلب ويرغب فيها ، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ، ويقتدى بهم ، والإشارة بقوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) إلى المتصفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة مستأنفة. وقيل : إن (أُوْلئِكَ) وما بعده خبر لقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) كذا قال الزجاج ، والغرفة : الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ، وهي في الأصل لكلّ بناء مرتفع ، والجمع غرف. وقال الضحاك : الغرفة الجنة ، والباء في «بما صبروا» سببية ، وما مصدرية ، أي : يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى ابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (يُلَقَّوْنَ) بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختار هذه القراءة الفراء ، قال : لأن العرب تقول : فلان يلقى بالسلام والتحية والخير ، وقلّ ما يقولون يلقى. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) والمعنى : أنه يحيّي بعضهم بعضا ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام ، قيل : التحية البقاء الدائم والملك العظيم ، وقيل : هي بمعنى السلام ، وقيل : إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم ، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم ، ومن ذلك قوله سبحانه : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (١) وقيل معنى التحية : الدعاء لهم بطول الحياة ، ومعنى السلام : الدعاء لهم بالسلامة من الآفات ، وانتصاب (خالِدِينَ فِيها) على الحال ، أي : مقيمين فيها من غير موت (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي : حسنت الغرفة مستقرّا يستقرّون فيه ، ومقاما يقيمون به ، وهذا في مقابل ما تقدّم من قوله : ساءت مستقرّا ومقاما (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) بيّن سبحانه أنه غنّي عن طاعة الكلّ ، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف ، يقال : ما عبأت بفلان ، أي : ما باليت به ، ولا له عندي قدر ، وأصل يعبأ من العبء ، وهو الثقل. قال الخليل : ما أعبأ بفلان : أي : ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ، ويدّعي أن وجوده وعدمه سواء ، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي). يريد : أيّ وزن يكون لكم عنده. والعبء : الثقل ، وما استفهامية أو نافية ، وصرح الفراء بأنها استفهامية. قال ابن الشجري : وحقيقة القول عندي أن موضع (ما) نصب والتقدير : أيّ عبء يعبأ بكم ، أي : أيّ مبالاة يبالي بكم (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي : لو لا دعاؤكم إياه لتعبدوه ، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو اختيار الفراء ، وفاعله محذوف ، وجواب لولا محذوف ، تقديره : لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ، ويؤيد هذا قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) والخطاب لجميع الناس ، ثم خصّ الكفار منهم فقال : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) وقرأ ابن الزبير «فقد كذّب الكافرون» وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل : إن المصدر مضاف إلى الفاعل ، أي : لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى : ما يعبأ بكم ، أي : بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما ، وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتبي والفارسي قالا : والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه ،

__________________

(١). الأحزاب : ٤٤.

(٢). الذاريات : ٥٦.

١٠٥

وجواب لولا محذوف تقديره على هذا الوجه : لولا دعاؤكم لم يعذبكم ، ويكون معنى (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) على الوجه الأوّل : فقد كذبتم بما دعيتم إليه ، وعلى الوجه الثاني : فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي : فسوف يكون جزاء التكذيب لازما لكم ، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا : ما لزم المشركين يوم بدر ، وقالت طائفة : هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة : لزاما فيصلا ، أي : فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. قال الزجاج : فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التوبة ، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاما ، وأنشد أبو عبيدة لصخر :

فإمّا ينجو من خسف أرض

فقد لقيا حتوفهما لزاما

قال ابن جرير لزاما : عذابا دائما ، وهلاكا مفنيا ، يلحق بعضكم ببعض ، كقول أبي ذؤيب :

ففاجأه بعادية لزام

كما يتفجّر الحوض اللّفيف

يعني باللزام : يتبع بعضه بعضا ، وباللفيف : المتساقط من الحجارة المنهدمة. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال : سمعت أبا السماك يقرأ «لزاما» بفتح اللام. قال أبو جعفر يكون مصدر لزم ، والكسر أولى.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ الذنب أكبر؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك. قلت : ثم أيّ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت : ثم أيّ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ، فأنزل الله تصديق ذلك (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)». وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) الآية ، ونزلت (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله : (يَلْقَ أَثاماً) قال : واد في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية. اشتدّ ذلك على المسلمين ، فقالوا : ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنا ، فأنزل الله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية ، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك ، ثم نزلت هذه الآية (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) فأبدلهم الله بالكفر الإسلام ، وبالمعصية الطاعة ، وبالإنكار المعرفة ، وبالجهالة العلم. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنين (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ثم نزلت (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرح بشيء قط فرحه بها ، وفرحه ب (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٢) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال : هم المؤمنون

__________________

(١). الزمر : ٥٣.

(٢). الفتح : ١.

١٠٦

كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحوّلهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا كذا ، وهو يقرّ ، ليس ينكر ، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء ، فيقال : أعطوه بكلّ سيئة عملها حسنة» والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال : إن الزور كان صنما بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مرّوا به مرّوا كراما لا ينظرون إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال : يعنون من يعمل بالطاعة فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال : أئمة هدى يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، لأنه قال لأهل السعادة : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (١) ولأهل الشقاوة : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٢). وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) قال : الغرفة من ياقوتة حمراء ، أو زبرجدة خضراء ، أو درّة بيضاء. ليس فيها فصم ولا وصم .. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) يقول : لولا إيمانكم ، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين. ولو كانت له بهم حاجة لحبّب إليهم الإيمان ، كما حبّبه إلى المؤمنين (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) قال : موتا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ : فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير وابن مردويه (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) قال : القتل يوم بدر ، وفي الصحيحين عنه قال : خمس قد مضين : الدخان ، والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللّزام.

* * *

__________________

(١). الأنبياء : ٧٣.

(٢). القصص : ٤١.

١٠٧

سورة الشّعراء

وهي : مكية عند الجمهور ، وكذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : سورة الشعراء أنزلت بمكة ، سوى خمس آيات آخرها نزلت بالمدينة ، وهي [الآية : ١٩٧ و] (١) (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى آخرها. وأخرج القرطبي في تفسيره عن البراء أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أعطاني السّبع الطّوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني الطّواسين مكان الزّبور ، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ، ما قرأهنّ نبيّ قبلي». وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت السّورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّل نافلة». قال ابن كثير في تفسيره : ووقع في تفسير مالك المرويّ عنه تسميتها بسورة الجمعة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

قوله : (طسم) قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء ، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ الباقون بالفتح مشبعا. وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من «طسم» في الميم ، وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها. قال الثعلبي : الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال النحاس : وحكى الزجاج في كتابه

__________________

(١). ما بين حاصرتين مستدرك من تفسير الجلالين ، وبه يصح الكلام.

١٠٨

فيما يجري وما لا يجري أنه يجوز أن يقال : «طا سين ميم» بفتح النون وضم الميم كما يقال : هذا معدي كرب. وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء. وفي مصحف عبد الله بن مسعود «ط س م» هكذا حروفا مقطعة فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره ، وكذلك قرأ أبو جعفر ، ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسما للسورة ، كما ذهب إليه الأكثر أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير : اذكر أو اقرأ. وأما إذا كان مسرودا على نمط التعديد كما تقدّم في غير موضع من هذا التفسير فلا محل له من الإعراب. وقد قيل : إنه اسم من أسماء الله سبحانه ، وقيل : اسم من أسماء القرآن ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى السورة ، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا طسم مبتدأ ، وإن جعلناه خبرا لمبتدأ محذوف فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من طسم ، والمراد بالكتاب هنا : القرآن ، والمبين : المبيّن المظهر ، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي : قاتل نفسك ومهلكها (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لعدم إيمانهم بما جئت به ، والبخع في الأصل : أن يبلغ بالذبح النخاع ، بالنون ، قاموس ، وهو عرق في القفا ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف ، وقرأ قتادة «باخع نفسك» بالإضافة ، وقرأ الباقون بالقطع. قال الفراء : أن في قوله : (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) في موضع نصب لأنها جزاء ، قال النحاس : وإنما يقال : إن مكسورة لأنها جزاء ، هكذا المتعارف ؛ والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن : إنها في موضع نصب ، مفعول لأجله ، والمعنى : لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان حريصا على إيمان قومه ، شديد الأسف لما يراه من إعراضهم : وجملة (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) مستأنفة ، مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية ، والمعنى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان ، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك ، ومعنى (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أنهم صاروا منقادين لها ، أي : فتظل أعناقهم إلخ ، قيل : وأصله فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير ، لأن الأعناق موضع الخضوع ، وقيل : إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ، ووصفت بما يوصفون به. قال عيسى بن عمر : خاضعين وخاضعة هنا سواء ، واختاره المبرد ، والمعنى : إنها إذا ذلت رقابهم ذلوا ، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها ، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأوّل ، ويخبر عن الثاني ، ومنه قول الراجز :

طول الليالي أسرعت في نقضي

طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول ، ومنه قول جرير :

أرى مرّ السنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال

وقال أبو عبيد والكسائي : إن المعنى خاضعيها هم ، وضعفه النحاس. وقال مجاهد : أعناقهم : كبراؤهم. قال النحاس : وهذا معروف في اللغة ، يقال جاءني عنق من الناس : أي رؤساء منهم. وقال أبو زيد والأخفش : أعناقهم : جماعاتهم ، يقال جاءني عنق من الناس : أي جماعة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا

١٠٩

كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال ، وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود ، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء ، ومن في (مِنْ ذِكْرٍ) مزيدة لتأكيد العموم ، و «من» في «من ربهم» لابتداء الغاية ، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم ، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض. وقيل : إن الإعراض بمعنى التكذيب ، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذّبه ، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم ، على وجه التصريح ، والأوّل أولى ، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه. ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه ، وهو التصريح بالتكذيب ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه ، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا ، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ولم يقل ما كانوا عنه معرضين ، أو ما كانوا به يكذّبون ، لأن الاستهزاء أشدّ منهما ومستلزم لهما ، وفي هذا وعيد شديد ، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية ، التي يحصل بها للمتأمل فيها ، والناظر إليها ، والمستدلّ بها أعظم دليل ، وأوضح برهان ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الهمزة للتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، فنبه سبحانه على عظمته وقدرته ، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد ، والمراد بالزوج هنا الصنف. وقال الفراء : هو اللون. وقال الزجاج : معنى زوج : نوع ، وكريم : محمود ، والمعنى : من كل زوج نافع ، لا يقدر على إنباته إلا ربّ العالمين ، والكريم في الأصل : الحسن الشريف ، يقال : نخلة كريمة : أي كثيرة الثمرة ، ورجل كريم : شريف فاضل ، وكتاب كريم : إذا كان مرضيا في معانيه ، والنبات الكريم : هو المرضي في منافعه. قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة ، فهو كريم ، ومن صار منهم إلى النار ، فهو لئيم ، والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى المذكور قبلة ، أي : إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة ، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعته. ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا. وقال سيبويه : إن (كانَ) هنا صلة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي : الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم ، مع كونه كثير الرحمة ، ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ، أو المعنى : أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه ، وجملة (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) إلخ مستأنفة ، مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء ، والعامل في الظرف محذوف تقديره : واتل إذ نادى أو اذكر ، والنداء : الدعاء ، و (أَنِ) في قوله : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يجوز أن تكون مفسرة ، وأن تكون مصدرية ، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم ، وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم ، كاستبعاد بني إسرائيل ، وذبح أبنائهم ،

١١٠

وانتصاب (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) على أنه بدل ، أو عطف بيان من القوم الظالمين ، ومعنى (أَلا يَتَّقُونَ) ألا يخافون عقاب الله سبحانه ، فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. وقيل المعنى : قل لهم ألا تتقون ، وجاء بالياء التحتية لأنهم غيب وقت الخطاب ، وقرأ عبيد بن عمير وأبو حازم «ألا تتّقون» بالفوقية ، أي : قال لهم ذلك ، ومثله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) (١) بالتحتية ، والفوقية (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي : قال موسى هذه المقالة ، والمعنى : أخاف أن يكذبوني في الرسالة (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) معطوفا على أخاف ، أي : يضيق صدري لتكذيبهم إياي ، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة ، قرأ الجمهور برفع (يَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ) بالعطف على أخاف كما ذكرنا ، أو على الاستئناف ، وقرأ يعقوب وعيسى بن عمرو وأبو حيوة بنصبهما عطفا على يكذبون. قال الفراء : كلا القراءتين له وجه. قال النحاس : الوجه الرفع ، لأن النصب عطف على يكذبون وهذا بعيد (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي : أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولا مؤازرا مظاهرا معاونا ، ولم يذكر المؤازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع ، كقوله في طه : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) (٢) وفي القصص (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) (٣) ، وهذا من موسى عليه‌السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه ، لا من باب الاستعفاء من الرسالة ، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) الذنب : هو قتله للقبطي ، وسماه ذنبا بحسب زعمهم : فخاف موسى أن يقتلوه به ، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلا عن الفضلاء ، ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الردع ، وطرف من الزجر (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا) وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه ، كما يدلّ عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال : ارتدع يا موسى عن ذلك واذهب أنت ومن استدعيته ولا تخف من القبط (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) وفي هذا تعليل للردع عن الخوف ، وهو كقوله سبحانه : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤) وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما وأنه متولّ لحفظهما وكلاءتهما وأجراهما مجرى الجمع ، فقال : «معكم» لكون الاثنين أقلّ الجمع ، على ما ذهب إليه بعض الأئمة ، أو لكونه أراد موسى ، وهارون ، ومن أرسلا إليه ، ويجوز أن يكون المراد هنا : مع بني إسرائيل ، ومعكم ، ومستمعون : خبران لأنّ ، أو الخبر مستمعون ، ومعكم متعلق به ، ولا يخفى ما في المعية من المجاز : لأن المصاحبة من صفات الأجسام ، فالمراد معية النصرة والمعونة (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ووحد الرسول هنا ولم يثنه كما في قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) (٥) لأنه مصدر بمعنى رسالة ، والمصدر يوحد ، وأما إذا كان بمعنى المرسل ، فإنه يثنى مع المثنى ، ويجمع مع الجمع. قال أبو عبيدة : رسول بمعنى رسالة ، والتقدير على هذا : إنا ذوا رسالة ربّ العالمين ، ومنه قول الشاعر :

ألا أبلغ بني عمرو رسولا

فإنّي عن فتاحتكم غني

__________________

(١). آل عمران : ١٢.

(٢). طه : ٢٩.

(٣). القصص : ٣٤.

(٤). طه : ٤٦.

(٥). طه : ٤٧.

١١١

أي : رسالة. وقال العباس بن مرداس :

ألا من مبلغ عنّي خفافا

رسولا بيت أهلك منتهاها

أي : رسالة. قال أبو عبيدة أيضا : ويجوز أن يكون الرسول بمعنى : الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، وهذان رسولي ووكيلي ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، ومنه : قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) وقيل معناه : إن كل واحد منا رسول ربّ العالمين ، وقيل : إنهما لما كان متعاضدين متساندين في الرسالة ، كانا بمنزلة رسول واحد. و (أَنْ) في قوله : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) أي : قال فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به ، ومعنى «فينا» أي : في حجرنا ومنازلنا ، أراد بذلك المنّ عليه ، والاحتقار له ، أي : ربيناك لدينا صغيرا ، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) فمتى كان هذا الذي تدّعيه؟ قيل : لبث فيهم ثماني عشرة سنة ، وقيل : ثلاثين سنة ، وقيل : أربعين سنة ، ثم قرّره بقتل القبطي فقال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) الفعلة بفتح الفاء : المرّة من الفعل ، وقرأ الشعبي (فَعْلَتَكَ) بكسر الفاء ، والفتح : أولى ، لأنها للمرّة الواحدة لا للنوع ، والمعنى : أنه لما عدّد عليه النعم ذكر له ذنوبه ، وأراد بالفعل قتل القبطي ، ثم قال : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلا من أصحابي ، وقيل المعنى : من الكافرين بأن فرعون إله ، وقيل : من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم ، والجملة في محل نصب على الحال (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : قال موسى مجيبا لفرعون : فعلت هذه الفعلة التي ذكرت ، وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الضالين : أي : الجاهلين ، فنفى عليه‌السلام عن نفسه الكفر ، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل ؛ قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله. وقيل المعنى : من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل. وقال أبو عبيدة : من الناسين (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) أي : خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : نبوّة ، أو علما وفهما. وقال الزّجاج : المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قيل : هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه قال : نعم تلك التربية نعمة تمنّ بها عليّ ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي ، وبهذا قال الفراء وابن جرير ، وقيل : هو من موسى على جهة الإنكار ، أي : أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا ، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم وهم قومي؟. قال الزجاج : المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى ، واللفظ لفظ خبر ، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى : أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل ، لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليمّ ، فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سببا له ، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه. وقال المبرد : يقول التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد ، أي : تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. وقيل : إن في الكلام تقدير الاستفهام ، أي : أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش ، وأنكره النحاس. قال الفراء : ومن قال إن الكلام إنكار قال معناه : أو تلك نعمة؟ ومعنى (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : اتخذتهم عبيدا ،

١١٢

يقال : عبدته وأعبدته بمعنى. كذا قال الفراء ، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة ، والجر بإضمار الباء ، والنصب بحذفها.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) قال : ذليلين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) قال : قتل النفس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) قال : للنعمة ، إن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر؟ وفي قوله : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال : من الجاهلين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : قهرتهم ، واستعملتهم.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

لما سمع فرعون قول موسى وهارون : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال مستفسرا لهما عن ذلك ، عازما على الاعتراض لما قالاه ، فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : أيّ شيء هو؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول ، ويطلب بها تعيين الجنس ، فلما قال فرعون ذلك (قالَ) موسى (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) فعين له ما أراد بالعالمين ، وترك جواب ما سأل عنه فرعون ، لأنه سأله عن جنس ربّ العالمين ، ولا جنس له ، فأجابه موسى بما يدلّ على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ ولا ربّ غيره (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي : إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان (قالَ) فرعون

١١٣

(لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) أي : لمن حوله من الأشراف ، ألا تستمعون ما قاله ، يعني : موسى معجبا لهم من ضعف المقالة كأنه قال : أتسمعون وتعجبون ، وهذا من اللعين مغالطة ، لما لم يجد جوابا عن الحجة التي أوردها عليه موسى ، فلما سمع موسى ما قال فرعون ، أو رد عليه حجة أخرى ، هي مندرجة تحت الحجة الأولى ، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا ربّ كما يدّعيه ، والمعنى : أن هذا الربّ الذي أدعوكم إليه ، هو الذي خلق آباءكم الأوّلين وخلقكم ، فكيف تعبدون من هو واحد منكم ، مخلوق كخلقكم ، وله آباء قد فنوا كآبائكم ، فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به ، بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء ، ف (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) قاصدا بذلك المغالطة ، وإيقاعهم في الحيرة ، مظهرا أنه مستخفّ بما قاله موسى ، مستهزىء به ، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأوّل ، ف (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون ، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب ، وما بينهما ، وإن كان ذلك داخلا تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض ، وما بينهما ، لكن فيه تصريح بإسناد حركات السموات وما فيها ، وتغيير أحوالها وأوضاعها ، تارة بالنور ، وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه ، وتثنية الضمير في (وَما بَيْنَهُما) الأوّل لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر :

تنقّلت في أشرف التّنقّل

بين رماحي نهشل ومالك

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : شيئا من الأشياء ، أو إن كنتم من أهل العقل ، أي : إن كنت يا فرعون ، ومن معك من العقلاء عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك. ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب ، ف (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي : لأجعلنك من أهل السجن ، وكان سجن فرعون أشدّ من القتل لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت ، فلما سمع موسى عليه‌السلام ذلك لاطفه طمعا في إجابته ؛ وإرخاء لعنان المناظرة معه ، مريدا لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوّة ، وهي إظهار المعجزة ، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة ف (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي : أتجعلني من المسجونين ، ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ، ويظهر عنده صحة دعواي ، والهمزة : هنا للاستفهام ، والواو : للعطف على مقدّر كما مرّ مرارا ، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه موسى ف (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك ، وهذا الشرط : جوابه محذوف ، لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه فعند ذلك أبرز موسى المعجزة (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف ، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانثعب : أي فجرته فانفجر ، وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان : بالحية بقوله (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (١) وفي موضع : بالجانّ ، فقال : (كَأَنَّها جَانٌّ) (٢) والجانّ : هو المائل إلى الصغر ، والثعبان : هو المائل إلى الكبر ، والحية : جنس يشمل

__________________

(١). طه : ٢٠.

(٢). النمل : ١٠.

١١٤

الكبير والصغير ، ومعنى (فَما ذا تَأْمُرُونَ) ما رأيكم فيه ، وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفا لهم ، واستجلابا لمودتهم ، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال ، وقارب ما كان يغرّر به عليهم الاضمحلال ، وإلا فهو أكبر تيها ، وأعظم كبرا من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم ، وواحد منهم ، مع كونه قبل هذا الوقت يدّعي أنه إلههم ، ويذعنون له بذلك ويصدّقونه في دعواه ، ومعنى (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخر أمرهما ، من أرجأته إذا أخرته ، وقيل : المعنى احبسهما (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) وهم الشرط الذين يحشرون الناس ، أي : يجمعونهم (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) هذا ما أشاروا به عليه ، والمراد بالسحار العليم : الفائق في معرفة السحر وصنعته (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هو يوم الزينة كما في قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) (١) (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) حثا لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ولمن تكون الغلبة ، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور وطلبا أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم ، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده ، لأنه يعلم أن حجة الله : هي الغالبة ، وحجة الكافرين : هي الداحضة ، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس ، زيادة في الاستظهار للمحقين ، والانقهار للمبطلين ، ومعنى (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) نتبعهم في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) والمراد باتباع السحرة في دينهم : هو البقاء على ما كانوا عليه ، لأنه دين السحرة إذ ذاك ، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى ، فعند ذلك طلب السحرة من موسى الجزاء على ما سيفعلونه ف (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي : لجزاء تجزينا به ؛ من مال أو جاه ، وقيل : أرادوا إن لنا ثوابا عظيما ، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى ، فقالوا : (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) فوافقهم فرعون على ذلك و (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي : نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه ، وهي كونكم من المقرّبين لديّ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وفي آية أخرى (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (٢) فيحمل ماهنا على أنه قال لهم : ألقوا بعد أن قالوا هذا القول ، ولم يكن ذلك من موسى عليه‌السلام أمرا لهم بفعل السحر ، بل أراد أن يقهرهم بالحجة ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا) عند الإلقاء (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) يحتمل قولهم بعزّة فرعون وجهين : الأوّل أنه قسم ، وجوابه : إنا لنحن الغالبون ، والثاني : متعلق بمحذوف ، والباء : للسببية ، أي : نغلب بسبب عزّته ، والمراد بالعزّة العظمة (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) قد تقدّم تفسير هذا مستوفى. والمعنى : أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك ، بإخراج الشيء عن صورته الحقيقة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي : لما شاهدوا ذلك ، وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر ، ولا من تمويه السحرة ، آمنوا بالله ، وسجدوا له وأجابوا دعوة موسى ، وقبلوا نبوّته ، وقد تقدّم بيان معنى ألقى ، ومن فاعله لوقوع التصريح به ، وعند سجودهم (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) ربّ موسى عطف بيان لربّ العالمين ، وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما

__________________

(١). طه : ٥٩.

(٢). الأعراف : ١١٥.

١١٥

القائمان بالدعوة في تلك الحال. وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس بربّ ، وأن الربّ في الحقيقة هو هذا ، فلما سمع فرعون ذلك منهم ورأى سجودهم لله (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي : بغير إذن مني ، ثم قال مغالطا للسحرة الذين آمنوا ، وموهما للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وإنما اعترف له بكونه كبيرهم ، مع كونه لا يحبّ الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى ، لأنه قد علم كل من حضر ، أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة ، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم ، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة ، فهو فعل كبيرهم ، ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة ، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر ، وأنه من فعل الربّ الذي يدعو إليه موسى ، ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله ، فقال : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أجمل التهديد أوّلا : للتهويل ، ثم فصله فقال : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) فلما سمعوا ذلك من قوله : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي : لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا ، فإن ذلك يزول ، وننقلب بعده إلى ربنا ، فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحدّ ، ولا يوصف. قال الهروي : لا ضير ولا ضرر ولا ضرّ بمعنى واحد ، وأنشد أبو عبيدة :

فإنّك لا يضورك بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (١)

قال الجوهري : ضاره يضوره ضيرا وضورا : أي ضرّه. قال الكسائي : سمعت بعضهم يقول : لا ينفعني ذلك ولا يضورني (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) ثم عللوا هذا بقولهم : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بنصب أن ، أي : لأن كنا أوّل المؤمنين. وأجاز الفراء والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة ، ومعنى أوّل المؤمنين : أنهم أوّل من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية. وقال الفراء : أول مؤمني زمانهم ، وأنكره الزجاج ، وقال : قد روي أنه آمن معهم ستّمائة ألف وسبعون ألفا ، وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ).

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) يقول : مبين : له خلق حية (وَنَزَعَ يَدَهُ) يقول : وأخرج موسى يده من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) تلمع (لِلنَّاظِرِينَ) لمن ينظر إليها ويراها. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) قال : كانوا بالإسكندرية. قال : ويقال بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ. قال : وهربوا وأسلموا فرعون ، وهمت به ، فقال : خذها يا موسى ، وكان مما بلي الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا ، أي : يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذ تحته. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (لا ضَيْرَ) قال : يقولون لا يضيرنا الذي تقول ، وإن صنعت بنا وصلبتنا (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) يقولون : إنا إلى ربنا راجعون ، وهو

__________________

(١). البيت لخداش بن زهير ، ومعناه : لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع ، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.

١١٦

مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا ، وثباتنا على توحيده ، والبراءة من الكفر ، وفي قوله : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) قالوا كانوا كذلك يومئذ ، من آمن بآياته حين رأوها.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

قوله : (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا ، وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى ، وبما جاء به ، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف ، وجملة (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) تعليل للأمر المتقدّم ، أي : يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم ، و (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) وذلك حين بلغه مسيرهم ، والمراد بالحاشرين : الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون ، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) يريد بني إسرائيل ، والشرذمة : الجمع الحقير القليل ، والجمع : شراذم ، قال الجوهري : الشرذمة : الطائفة من الناس ، والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم : أي قطع ، ومنه قول الشاعر :

جاء الشّتاء وقميصي أخلاق

شراذم يضحك منها النّوّاق (١)

قال الفراء : يقال عصبة قليلة وقليلون ، وكثيرة وكثيرون. قال المبرّد : الشرذمة : القطعة من الناس غير الكثير ، وجمعها : الشراذم. قال المفسرون : وكان الشرذمة الذين قللهم ستّمائة ألف ولا يحصى عدد أصحاب فرعون (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) يقال : غاظني كذا وأغاظني ، والغيظ : الغضب ، ومنه : التغيظ والاغتياظ ، أي : غاظونا بخروجهم من غير إذن مني (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) قرئ حذرون وحاذرون وحذرون بضم الذال ، حكى ذلك الأخفش. قال الفراء : الحاذر : الذي يحذرك الآن ، والحذر : المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا. وقال الزجاج : الحاذر : المستعد ، والحذر : المتيقظ ، وبه قال الكسائي ، ومحمد بن يزيد. قال النحاس : حذرون قراءة المدنيين ، وأبي عمرو ، وحاذرون : قراءة أهل الكوفة ، قال : أبو عبيدة يذهب إلى معنى : حذرون وحاذرون واحد ، وهو قول سيبويه ، وأنشد سيبويه :

حذر أمورا لا تضير وحاذر

ما ليس ينجيه من الأقدار

__________________

(١). النّوّاق : من الرجال الذي يروّض الأمور ويصلحها ؛ قاله في الصّحاح. وجاء في اللسان : «التّواق» وهو : ابنه.

١١٧

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) يعني : فرعون ، وقومه ، أخرجهم الله من أرض مصر ، وفيها الجنات ، والعيون ، والكنوز ، وهي : جمع جنة ، وعين ، وكنز ، والمراد بالكنوز : الخزائن ، وقيل : الدفائن ، وقيل : الأنهار ، وفيه نظر لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين : عيون الماء ، فيدخل تحتها الأنهار.

واختلف في المقام الكريم ؛ فقيل : المنازل الحسان ، وقيل : المنابر ، وقيل : مجالس الرؤساء والأمراء ، وقيل : مرابط الخيل ، والأوّل أظهر ، ومن ذلك قول الشاعر :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) يحتمل أن يكون كذلك في محل نصب ، أي : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ، ويحتمل أن يكون في محل جرّ على الوصفية ، أي : مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، ومعنى وأورثناها بني إسرائيل : جعلناها ملكا لهم ، وهو معطوف على فأخرجناهم (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) قراءة الجمهور : بقطع الهمزة ، وقرأ الحسن ، والحارث الديناري بوصلها ، وتشديد التاء ، أي : فلحقوهم حال كونهم مشرقين ، أي : داخلين في وقت الشروق. يقال شرقت الشمس شروقا. إذا طلعت كأصبح وأمسى ؛ أي : دخل في هذين الوقتين ، وقيل : داخلين نحو المشرق ، كأنجد ، وأتهم ، وقيل : معنى مشرقين : مضيئين. قال الزجاج : يقال شرقت الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت : إذا أضاءت (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) قرأ الجمهور (تَراءَا) بتخفيف الهمزة ، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز ، والمعنى : تقابلا ، بحيث يرى كلّ فريق صاحبه ، وهو تفاعل من الرؤية ، وقرئ (تَراءَتِ الْفِئَتانِ)(قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي : سيدركنا جمع فرعون ، ولا طاقة لنا بهم. قرأ الجمهور (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) اسم مفعول من أدرك ، ومنه (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (١) وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشددة وكسر الراء. قال الفراء : هما بمعنى واحد. قال النحاس : ليس كذلك يقول النحويون الحذاق ، إنما يقولون مدركون بالتخفيف : ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم. قال : وهذا معنى قول سيبويه. وقال الزمخشري : إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال موسى هذه المقالة زجرا لهم وردعا ، والمعنى : أنهم لا يدركونكم ، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر ، والمعنى : إن معي ربي بالنصر والهداية سيهدين ، أي : يدلني على طريق النجاة ، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ، ورأوا من الجيوش مالا طاقة لهم به ، وأمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه ، وذلك قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) لما قال موسى : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) بين الله سبحانه له طريق الهداية ، فأمره بضرب البحر ، وبه نجا بنو إسرائيل ، وهلك عدوّهم ، والفاء في (فَانْفَلَقَ) فصيحة ، أي :

__________________

(١). يونس : ٩٠.

١١٨

فضرب ، فانفلق ، فصار اثني عشر فلقا ، بعدد الأسباط ، وقام الماء عن يمين الطريق ، وعن يساره كالجبل العظيم ، وهو معنى قوله : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) والفرق : القطعة من البحر ، وقريء فلق بلام بدل الراء ، والطود : الجبل ، قال امرؤ القيس :

فبينا المرء في الأحياء طود

رماه النّاس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر :

حلّوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي : قرّبناهم إلى البحر ، يعني : فرعون وقومه. قال الشاعر :

وكلّ يوم مضى أو ليلة سلفت

فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

قال أبو عبيدة : أزلفنا : جمعنا ، ومنه قيل لليلة المزدلفة : ليلة جمع ، وثم : ظرف مكان للبعيد. وقيل إن المعنى : وأزلفنا : قربنا من النجاة ، والمراد بالآخرين : موسى وأصحابه ، والأوّل أولى ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وزلفنا ثلاثيا ، وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث «وأزلقنا» بالقاف : أي أزللنا وأهلكنا من قولهم : أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) بمرورهم في البحر ، بعد أن جعله الله طرقا يمشون فيها (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يعني : فرعون وقومه ، أغرقهم الله باطباق البحر عليهم ، بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه ، والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى ما تقدّم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية ، ففي ذلك آية عظيمة ، وقدرة باهرة من أدلّ العلامات على قدرة الله سبحانه ، وعظيم سلطانه (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين ، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل ، كحزقيل وابنته ، وآسية امرأة فرعون ، والعجوز التي دلت على قبر يوسف ، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى ، فإنهم هلكوا في البحر جميعا ؛ بل المراد من كان معه من الأصل ومن كان متابعا له ومنتسبا إليه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال. وقال سيبويه وغيره : إنّ (كانَ) زائدة ، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي : المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) قال : ستّمائة ألف وسبعون ألفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا ستّمائة ألف. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطا ، فكان في كلّ طريق إثنا عشر ألفا كلّهم ولد يعقوب» وأخرج ابن مردويه عنه أيضا بسند. قال السيوطي : واه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان فرعون عدوّ الله ، حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائدا ، مع كلّ قائد سبعون ألفا ، وكان موسى مع سبعين ألفا ، حيث عبروا

١١٩

البحر». وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستّمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم.

وأقول : هذه الروايات المضطربة ، قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف ، ولا يصحّ منها شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) قال : المنابر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (كَالطَّوْدِ) قال : كالجبل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَأَزْلَفْنا) قال : قربنا. وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق ، فقال لبني إسرائيل : ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل : إنّ يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا ، فقال لهم موسى : أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا : ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل ، فأرسل إليها موسى فقال : دلّينا على قبر يوسف؟ فقالت : لا والله حتّى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك؟ قالت : أن أكون معك في الجنة ، فكأنّه ثقل عليه ذلك ، فقيل له : أعطها حكمها ، فأعطاها حكمها ، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء ، فقالت لهم : انضبوا عنها الماء. ففعلوا ، قالت : احفروا ، فحفروا ، فاستخرجوا قبر يوسف ، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار».

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) معطوف على العامل في قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) وقد تقدّم ، والمراد بنبإ إبراهيم : خبره ، أي : اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه ، و (إِذْ قالَ) منصوب بنبإ إبراهيم ،

١٢٠