فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

الخطاب بقوله : (أَلَمْ تَرَ) لكلّ أحد يصلح لذلك ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي : يدخل كلّ واحد منهما في الآخر ، وقد تقدّم تفسيره في سورة : الحج ، والأنعام (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي : ذللهما ، وجعلهما منقادين بالطلوع ، والأفول تقديرا للآجال ، وتتميما للمنافع ، والجملة معطوفة على ما قبلهما مع اختلافهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) اختلف في الأجل المسمى ماذا هو؟ فقيل : هو يوم القيامة ، وقيل : وقت الطلوع : ووقت الأفول ، والأوّل : أولى ، وجملة : (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) معطوفة على أن الله يولج ، أي : خبير بما تعملونه من الأعمال ؛ لا تخفى عليه منها خافية ، لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة ، فقدرته على العلم بما تعملونه بالأولى ، قرأ الجمهور : «تعملون» بالفوقية ، وقرأ السلمي ونصر بن عامر والدوري عن أبي عمرو : بالتحتية على الخبر ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره ، والباء في (بِأَنَّ اللهَ) للسببية ، أي : ذلك بسبب أنه سبحانه (هُوَ الْحَقُ) وغيره الباطل ، أو متعلقة بمحذوف ، أي : فعل ذلك ليعلموا أنه الحق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) قال مجاهد : الذي يدعون من دونه هو الشيطان ، وقيل : ما أشركوا به من صنم ، وهذا أولى (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) معطوفة على جملة «أن الله هو الحق» والمعنى : أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدّمة للاستدلال به على حقية الله ، وبطلان ما سواه ، وعلوّه وكبريائه : هو العليّ في مكانته ، ذو الكبرياء في ربوبيته ، وسلطانه. ثم ذكر من عجيب صنعه ، وبديع قدرته نوعا آخر فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي : بلطفه بكم ، ورحمته لكم ، وذلك من أعظم نعمه عليكم لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق ، وقرأ ابن هرمز «بنعمات الله» جمع نعمة (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) من للتبعيض ، أي : ليريكم بعض آياته. قال يحيى بن سلام : وهو جري السفن في البحر بالريح. وقال ابن شجرة : المراد بقوله : «من آياته ما يشاهدونه من قدرة الله. وقال النقاش : ما يرزقهم الله في البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : إن فيما ذكر لآيات عظيمة لكل من له صبر بليغ ، وشكر كثير يصبر عن معاصي الله ويشكر نعمه (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) شبه الموج لكبره : بما يظلّ الإنسان من جبل ، أو سحاب ، أو غيرهما ، وإنما شبه الموج وهو واحد بالظلل. وهي جمع ، لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ، ويركب بعضه بعضا. وقيل : إن الموج في معنى الجمع ؛ لأنه مصدر ، وأصل الموج : الحركة ، والازدحام ، ومنه يقال : ماج البحر ، وماج الناس. وقرأ محمّد ابن الحنفية «موج كالظلال» جمع ظلّ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : دعوا الله وحده ؛ لا يعوّلون على غيره في خلاصهم ؛ لأنهم يعلمون أنه لا يضرّ ، ولا ينفع سواه ، ولكنه تغلب على طبائعهم العادات ، وتقليد الأموات ، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله ، وأخلصوا دينهم له طلبا للخلاص ، والسلامة مما وقعوا فيه (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) صاروا على قسمين : فقسم (مُقْتَصِدٌ) أي : موف بما عاهد الله في البحر من إخلاص الدين له ؛ باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر ، وأخرجه إلى البرّ سالما. قال الحسن : معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد ، والطاعة. وقال مجاهد : مقتصد في القول ؛ مضمر للكفر ،

٢٨١

والأولى ما ذكرناه ، ويكون في الكلام حذف ، والتقدير : فمنهم مقتصد ، ومنهم كافر ، ويدلّ على هذا المحذوف قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الختر : أسوأ الغدر وأقبحه ، ومنه قول الأعشى :

بالأبلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختّار

قال الجوهري : الختر : الغدر ، يقال خترة ؛ فهو ختار. قال الماوردي : وهذا قول الجمهور. وقال ابن عطية : إنه الجاحد ، وجحد الآيات : إنكارها ، والكفور : عظيم الكفر بنعم الله سبحانه (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي : لا يغني الوالد عن ولده شيئا ، ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه. وقد تقدّم بيان معناه في البقرة (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ذكر سبحانه فردين من القرابات ، وهو الوالد ، والولد ، وهما الغاية في الحنوّ والشفقة على بعضهم البعض ، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى ، فكيف بالأجانب. اللهمّ اجعلنا ممن لا يرجو سواك ، ولا يعوّل على غيرك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا يتخلف ؛ فما وعد به من الخير وأوعد به من الشرّ ، فهو كائن لا محالة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وزخارفها ، فإنها زائلة ذاهبة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قرأ الجمهور «الغرور» بفتح الغين المعجمة ، والغرور : هو الشيطان ، لأن من شأنه أن يغرّ الخلق ، ويمنيهم بالأماني الباطلة ، ويلهيهم عن الآخرة ، ويصدّهم عن طريق الحق. وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين مصدر غرّ يغرّ غرورا ، ويجوز أن يكون مصدرا ؛ واقعا وصفا للشيطان على المبالغة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : علم وقتها الذي تقوم فيه. قال الفراء : إن معنى هذا الكلام النفي ، أي : ما يعلمه أحد إلا الله عزوجل. قال النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي لما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (١) إنها هذه (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في الأوقات التي جعلها معينة لإنزاله ولا يعلم ذلك غيره (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من الذكور والإناث ، والصلاح والفساد (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة ، والأنبياء ، والجنّ ، والإنس (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من كسب دين أو كسب دنيا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي : بأيّ مكان يقضي الله عليها بالموت. قرأ الجمهور «وينزل الغيث» مشدّدا. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي مخففا. وقرأ الجمهور «بأيّ أرض» وقرأ أبيّ بن كعب وموسى الأهوازي «بأية» وجوّز ذلك الفراء وهي لغة ضعيفة. قال الأخفش : يجوز أن يقال مررت بجارية أيّ جارية. قال الزجاج : من ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ختار) قال : جحاد. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قال : هو الشيطان. وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : «جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني

__________________

(١). الأنعام : ٥٩.

٢٨٢

متى أموت؟ فأنزل الله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية». وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه وزاد : وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وزاد أيضا أنه سأله عن قيام الساعة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا متى تقوم السّاعة إلا الله ، ولا ما في الأرحام إلا الله ، ولا متى ينزل الغيث إلا الله ، وما تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله» ، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث سؤاله عن الساعة وجوابه بأشراطها ، ثم قال : «خمس لا يعلمهنّ إلا الله» ثم تلا هذه الآية. وفي الباب أحاديث.

* * *

٢٨٣

سورة السّجدة

وهي مكية كما رواه ابن الضريس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ، ورواه ابن مردويه عن ابن الزبير. وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال : هي مكية سوى ثلاث آيات (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلى تمام الآيات الثلاث ، وكذا قال الكلبي ، ومقاتل ، وقيل : إلا خمس آيات من قوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) إلى قوله : (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وقد ثبت عند مسلم ، وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ب «الم تنزيل» السجدة ، و «هل أتى على الإنسان» (١). وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه أيضا. وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن جابر قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ «الم تنزيل» السّجدة ، و «تبارك الذي بيده الملك» (٢)». وأخرج أبو نصر والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة قرأ في الركعتين الأوليين «قل يا أيها الكافرون» و «قل هو الله أحد» وفي الركعتين الأخريين «تبارك الذي بيده الملك» و «الم تنزيل» السجدة كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ «تبارك الذي بيده الملك» و «الم تنزيل» السجدة ، بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنّما قام ليلة القدر». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ في ليلة «الم تنزيل» السجدة ، و «يس» و «اقتربت الساعة» و «تبارك الذي بيده الملك» كنّ له نورا وحرزا من الشيطان ، ورفع في الدرجات إلى يوم القيامة». وأخرج ابن الضريس عن المسيب بن رافع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الم تنزيل» تجيء لها جناحان يوم القيامة تظل صاحبها وتقول : لا سبيل عليه ، لا سبيل عليه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ

__________________

(١). الإنسان : ١.

(٢). الملك : ١.

٢٨٤

وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

قوله : (الم) قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة ، وعلى محلها من الإعراب في سورة البقرة ، وفي مواضع كثيرة من فواتح السور ، وارتفاع (تَنْزِيلُ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر ؛ على تقدير أن : الم في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو خبر لقوله : الم على تقدير أنه اسم للسورة ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون ارتفاع تنزيل على أنه مبتدأ ؛ وخبره لا ريب فيه ، ومن ربّ العالمين في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون هذه كلها أخبارا للمبتدأ قبل تنزيل ، أو لقوله : الم على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه حروف مسروده على نمط التعديد. قال مكي : وأحسن الوجوه أن تكون «لا ريب فيه» : في موضع الحال ، و «من رب العالمين» : الخبر ، والمعنى على هذه الوجوه : أن تنزيل الكتاب المتلوّ لا ريب فيه ، ولا شكّ ، وأنه منزل من ربّ العالمين ، وأنه ليس بكذب ، ولا سحر ، ولا كهانة ، ولا أساطير الأوّلين ، و «أم» في (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) هي : المنقطعة التي بمعنى : بل والهمزة ، أي : بل أيقولون هو مفترى ، فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ ، ومعنى «افتراه» : افتعله ، واختلقه. ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب فقال : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء ، ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم العرب ، وكانوا أمة أمية لم يأتهم رسول ، وقيل : قريش خاصة ، والمفعول الثاني : لتنذر محذوف ، أي : لتنذر قوما العقاب ، وجملة ما أتاهم من نذير في محل نصب على الحال ، ومن قبلك : صفة لنذير. وجوّز أبو حيان أن تكون ما موصولة ، والتقدير : لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير قبلك ، وهو ضعيف جدّا ، فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله ، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذر بما أنذرهم به ، وقيل : المراد بالقوم : أهل الفترة ما بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) رجاء أن يهتدوا ، أو كي يهتدوا (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف ، والمراد من ذكرها هنا : تعريفهم كمال قدرته ، وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ، ويتأملوه ، ومعنى خلق : أوجد وأبدع. قال الحسن : الأيام هنا هي من أيام الدنيا ، وقيل : مقدار اليوم : ألف سنة في سني الدنيا ، قاله الضحاك. فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة ؛ لا من أيام الدنيا ، وليست ثم للترتيب في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي : ليس لكم من دون الله ، أو من دون عذابه من وليّ يواليكم ، ويردّ عنكم عذابه ، ولا شفيع يشفع لكم عنده (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) تذكر تدبر

٢٨٥

وتفكر ، وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل حتى تنتفعوا بها (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) لما بين سبحانه خلق السموات والأرض ، وما بينهما بين تدبيره لأمرها ، أي : يحكم الأمر بقضائه وقدره من السماء إلى الأرض ، والمعنى : ينزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة كما قال سبحانه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) (١) ومسافة ما بين سماء الدنيا والأرض التي تحتها نزولا وطلوعا ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل المراد بالأمور : المأمور به من الأعمال ، أي : ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض. وقيل : يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة ، وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض. وقيل : ينزل الوحي مع جبريل. وقيل : العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ... (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) (٢) وما دون السموات موضع التصرّف. قال الله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) (٣) ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي : ثم يرجع ذلك الأمر ويعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء ، والطلوع من الأرض كما قدّمنا. وقيل : إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا ، ويموت من فيها. وقيل : هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة ، والمعنى : أنه يثبت ذلك عنده ، ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كلّ وقت من الأوقات ؛ إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. وقيل : معنى يعرج إليه : يثبت في علمه موجودا بالفعل في برهة من الزمان ؛ هي مقدار ألف سنة ، والمراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث ، وحدوثها من الزمان ، وقيل : يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ ؛ فتنزل بها الملائكة ، ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل : يقضي قضاء ألف سنة فتنزل به الملائكة ، ثم تعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل : المراد أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه ، وينزل بها ملائكته ، ثم لا يعرج إليه منها إلا الخالص بعد مدّة متطاولة لقلّة المخلصين من عباده. وقيل : الضمير في يعرج يعود إلى الملك وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق ، وقد جاء صريحا في قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (٤) والضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها ، أو إلى مكان الملك الذي يرجع إليه ، وهو الذي أقرّه الله فيه. وقيل المعنى : يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ، ورجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة. وقيل المعنى : إن الملك يعرج إلى الله في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة ، لأن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام ، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض ، والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام ، وقد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير. وقيل : مسافة النزول ألف سنة ، ومسافة الطلوع ألف سنة ، روي ذلك عن الضحاك. وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة ، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدّة النهار بين ليلتين ، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر :

__________________

(١). الطلاق : ١٢.

(٢). الرعد : ٢.

(٣). الفرقان : ٥٠.

(٤). المعارج : ٤.

٢٨٦

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب (١)

فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين ، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين ، فعبر عن كلّ واحد من الشطرين بيوم. قرأ الجمهور «يعرج» على البناء للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة على البناء للمفعول ، والأصل يعرج به ، ثم حذف حرف الجار فاستتر الضمير. وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢) فقيل في الجواب إن يوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، ولكنه باعتبار صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة ، والعرب تصف كثيرا يوم المكروه بالطول ، كما تصف يوم السرور بالقصر كما قال الشاعر (٣) :

ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر

وقول الآخر :

ويوم كإبهام القطاة قطعته

وقيل : إن يوم القيامة فيه أيام ؛ فمنها ما مقداره ألف سنة ، ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل : هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة ، ثم ينقل إلى نوع آخر فيعذب به خمسين ألف سنة. وقيل : مواقف القيامة خمسون موقفا كلّ موقف ألف سنة ، فيكون معنى (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات ، أو موقف من تلك المواقف. وحكى الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، والمراد : أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ، في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا ، وأراد بقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) المسافة التي بين الأرض وبين سماء الدنيا هبوطا وصعودا ، فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع ؛ لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة ، فقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) يعني : يدبر الأمر في زمان ، يوم منه : ألف سنة. فكم يكون الشهر منه؟ وكم تكون السنة منه؟ وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة ، وبين خمسين ألف سنة. وقيل : غير ذلك. وقد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين ، كما سيأتي في آخر البحث إن شاء الله. قرأ الجمهور (مِمَّا تَعُدُّونَ) بالفوقية على الخطاب ، وقرأ الحسن والسلمي وابن وثاب والأعمش بالتحتية على الغيبة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف ، وهو مبتدأ وخبره (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : العالم بما غاب عن الخلق ، وما حضرهم. وفي هذا : معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم

__________________

(١). التأويب : سير النهار كله إلى الليل ، يقال : أوّب القوم تأويبا ، أي ساروا إلى الليل ، والبيت لسلامة بن جندل.

(٢). المعارج : ٤.

(٣). هو شرمة بن الطفيل.

٢٨٧

بما يغيب وما يحضر ، فهو مجاز لكل عامل بعمله ، أو : فهو يدبر الأمر بما تقضيه حكمته (الْعَزِيزُ) القاهر الغالب (الرَّحِيمُ) بعباده ، وهذه أخبار لذلك المبتدأ ، وكذلك قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) هو خبر آخر. قرأ الجمهور «خلقه» بفتح اللام. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بإسكانها ، فعلى القراءة الأولى : هو فعل ماض نعتا لشيء ، فهو في محل جرّ ، وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ويجوز أن تكون صفة للمضاف ، فيكون في محل نصب. وأما على القراءة الثانية : ففي نصبه أوجه : الأوّل أن يكون بدلا من كلّ شيء بدل اشتمال ، والضمير عائد إلى كلّ شيء ، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة. الثاني : أنه بدل كلّ من كلّ ، والضمير راجع إلى الله سبحانه ؛ ومعنى أحسن : حسن ، لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة ، فكل المخلوقات حسنة. الثالث : أن يكون كلّ شيء هو المفعول الأوّل ، وخلقه : هو المفعول الثاني على تضمين أحسن : معنى أعطى ، والمعنى : أعطى كلّ شيء خلقه الذي خصه به. وقيل : على تضمينه معنى ألهم. قال الفراء : ألهم خلقه كلّ شيء مما يحتاجون إليه. الرابع : أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، أي : خلقه خلقا كقوله : (صُنْعَ اللهِ) (١) وهذا قول سيبويه ، والضمير : يعود إلى الله سبحانه. والخامس : أنه منصوب بنزع الخافض ، والمعنى أحسن كلّ شيء في خلقه ، ومعنى الآية : أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته ، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها ، فهي متقنة محكمة ، فتكون هذه الآية معناها معنى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) (٢) أي : لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ، ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان ، وقيل : هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى ، أي : أحسن خلق كلّ شيء حسن (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني : آدم خلقه من طين ، فصار على صورة بديعة ، وشكل حسن (جَعَلَ نَسْلَهُ) أي : ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) سميت الذرية سلالة : لأنها تسلّ من الأصل ، وتنفصل عنه ، وقد تقدم تفسيرها في سور المؤمنين ؛ ومعنى (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) من ماء ممتهن ؛ لا خطر له عند الناس وهو المنيّ. وقال الزجاج : من ماء ضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي : الإنسان الذي بدأ خلقه من طين ، وهو آدم ، أو جميع النوع ، والمراد : أنه عدل خلقه ، وسوّى شكله ، وناسب بين أعضائه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) الإضافة للتشريف ، والتكريم ، وهذه الإضافة تقوّي أن الكلام في آدم ، لا في ذريته ، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع. ثم خاطب جميع النوع فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي : خلق لكم هذه الأشياء تكميلا لنعمته عليكم ، وتتميما لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم ، فتسمعون كلّ مسموع ، وتبصرون كلّ مبصر ، وتتعقلون كلّ متعقل ، وتفهمون كلّ ما يفهم ، وأفرد السمع لكونه مصدرا يشمل القليل والكثير ، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر ، والفؤاد بذكرهما بالاسم ولهذا جمعا ، لأن السمع قوّة واحدة ولها محل واحد ، وهو الأذن ولا اختيار لها فيه ، فإن الصوت يصل إليها ، ولا تقدر على رده ، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض ؛ بخلاف الأبصار فمحلها العين وله فيه اختيار ، فإنها تتحرّك إلى جانب المرئي دون غيره ، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء ؛ وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه ،

__________________

(١). النمل : ٨٨.

(٢). طه : ٥٠.

٢٨٨

فيتعقل هذا دون هذا ، ويفهم هذا دون هذا. قرأ الجمهور «وبدأ» بالهمز ، والزهري بألف خالصة بدون همز ، وانتصاب (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : شكرا قليلا ، أو صفة زمان محذوف ، أي : زمانا قليلا. وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله ، وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) قد تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة ، وفي الهمزة التي بعدها ، والضلال : الغيبوبة ، يقال : ضلّ الميت في التراب إذا غاب وبطل ، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره قد ضلّ. ومنه قول الأخطل :

كنت القذى في موج أكدر مزبد

قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

قال قطرب : معنى ضللنا في الأرض : غبنا في الأرض. قرأ الجمهور «ضللنا» بفتح ضاد معجمة ، ولام مفتوحة بمعنى : ذهبنا وضعنا ، وصرنا ترابا ، وغبنا عن الأعين ، وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء «ضللنا» بكسر اللام ، وهي لغة العالية من نجد. قال الجوهري : وأهل العالية يقولون : ضللت بالكسر. قال وأضله : أي أضاعه وأهلكه ، يقال ضلّ الميت إذا دفن. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، والحسن والأعمش ، وأبان بن سعيد «صللنا» بصاد مهملة ولام مفتوحة : أي أنتنا. قال النحاس : ولا يعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال : صلّ اللحم : إذا أنتن. قال الجوهري : صلّ اللحم يصلّ بالكسر صلولا : إذا أنتن ، مطبوخا كان أو نيئا ، ومنه قول الحطيئة :

ذاك فتى يبذل ذا قدرة

لا يفسد اللّحم لديه الصّلول

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : نبعث ، ونصير أحياء ، والاستفهام : للاستنكار. وهذا قول منكري البعث من الكفار ، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه ، وهو كفرهم بلقاء الله ، فقال : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي : جاحدون له مكابرة وعنادا ، فإن اعترافهم بأنه المبتدئ للخلق ؛ يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة. ثم أمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين لهم الحق ويردّ عليهم ما زعموه من الباطل ، فقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) يقال : توفاه الله واستوفى روحه : إذا قبضه إليه ، وملك الموت : هو عزرائيل ، ومعنى وكلّ بكم : وكلّ بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي : تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره ؛ فيجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) الآية قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة إليه في يوم مقداره ألف سنة. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال : دخلت على عبد الله بن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان

٢٨٩

ابن عفان ، فقال له ابن فيروز : يا أبا عباس. قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) فكأن ابن عباس اتهمه فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال : إنما سألتك لتخبرني ، فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم ، فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب ، فسأله عنهما إنسان ؛ فلم يخبره ولم يدر. فقلت : ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس؟ قال : بلى ، فأخبرته فقال للسائل : هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيها ، وهو أعلم مني. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : لا ينتصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم حتى يقضى بين العباد ، فينزل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) من أيامكم هذه ، ومسيرة ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وأخرج ابن أبي شيبة ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أما رأيت القردة ليست بحسنة ، ولكنه أحكم خلقها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية أنه قال : أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها ، وقال (خَلَقَهُ) صورته. وقال (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) القبيح والحسن ، والعقارب والحيات ، وكلّ شيء مما خلق ، وغيره لا يحسن شيئا من ذلك. وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لقينا عمرو ابن زرارة الأنصاريّ في حلّة قد أسبل ، فأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناحية ثوبه ، فقال : يا رسول الله! إني أحمش السّاقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمرو بن زرارة إنّ الله عزوجل قد أحسن كلّ شيء خلقه ، يا عمرو بن زرارة إنّ الله لا يحبّ المسبلين». وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال : أبصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا قد أسبل إزاره ، فقال : ارفع إزارك ، فقال : يا رسول الله إني أحنف ، تصطكّ ركبتاي ، فقال : ارفع إزارك كلّ خلق الله حسن».

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ

٢٩٠

تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) المراد بالمجرمين : هم القائلون أإذا ضللنا ، والخطاب هنا لكل من يصلح له ، أو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يراد بالمجرمين : كل مجرم ، ويدخل فيه أولئك القائلون دخولا أوليا ، ومعنى : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) مطأطئوها حياء وندما على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله ، والعصيان له ، ومعنى عند ربهم : عند محاسبته لهم. قال الزجاج : والمخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة لأمته ، فالمعنى : ولو ترى يا محمّد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : يقولون : ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به ، وسمعنا ما كنا ننكره ، وقيل : أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك ، فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر ، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) كما أمرتنا (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي : مصدّقون ، وقيل : مصدقون بالذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن ؛ طمعا فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا ، وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) وقيل معنى : (إِنَّا مُوقِنُونَ) أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا لما رأوا ما رأوا ، وسمعوا ما سمعوا ، ويجوز أن يكون معنى (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) صرنا ممن يسمع ويبصر ، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول ، ويجوز أن يكون صالحا مفعولا لنعمل ، كما يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، وجواب لو محذوف ؛ أي : لرأيت أمرا فظيعا وهولا هائلا (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) هذا ردّ عليهم لما طلبوا الرجعة ، أي : لو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها ، فهدينا الناس جميعا فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس : في معنى هذا قولان : أحدهما أنه في الدنيا ، والآخر أنه في الآخرة : أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وجملة لو شئنا : مقدّرة بقول معطوف على المقدّر قبل قوله : «أبصرنا» أي : ونقول : لو شئنا ، ومعنى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي : نفذ قضائي وقدري ، وسبقت كلمتي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هذا هو القول الذي وجب من الله ، وحقّ على عباده ، ونفذ فيه قضاؤه ، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كلّ نفس هداها ، وإنما قضى عليهم بهذا ، لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة ، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى ، والفاء في قوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله ، والباء في «بما نسيتم» للسببية ، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدّم ، بل بذاك وهذا.

واختلف في النسيان المذكور هنا ، فقيل : هو النسيان الحقيقي ، وهو الذي يزول عنده الذكر ؛ وقيل : هو الترك. والمعنى على الأوّل : أنهم لم يعملوا لذلك اليوم ، فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه. وعلى الثاني : لا بدّ من تقدير مضاف قبل لقاء ، أي : ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا ، ورجح الثاني : المبرد وأنشد :

__________________

(١). الأنعام : ٢٨.

٢٩١

كأنه خارجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عند مفتأد (١)

أي تركوه ، وكذا قال الضحاك ، ويحيى بن سلام : إن النسيان هنا : بمعنى الترك. قال يحيى بن سلام : والمعنى : بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم تركناكم من الخير ، وكذا قال السدّي ، وقال مجاهد : تركناكم في العذاب. وقال مقاتل : إذا دخلوا النار. قالت لهم الخزنة : ذوقوا العذاب بما نسيتم ، واستعار الذوق للإحساس ، ومنه قول طفيل :

فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب

وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تكرير لقصد التأكيد ، أي : ذوقوا العذاب الدائم الذي لا ينقطع أبدا بما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي. قال الرازي في تفسيره : إن اسم الإشارة في قوله : (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يحتمل ثلاثة أوجه : أن يكون إشارة إلى اللقاء ، وأن يكون إشارة إلى اليوم ، وأن يكون إشارة إلى العذاب ، وجملة : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) مستأنفة لبيان ما يستحق الهداية إلى الإيمان ، ومن لا يستحقها ؛ إنما يصدق بآياتنا وينتفع بها (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) لا غيرهم ممن يذكر بها ، أي : يوعظ بها ولا يتذكر ولا يؤمن بها ، ومعنى «خرّوا سجدا» سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيما لآيات الله ، وخوفا من سطوته وعذابه : (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : نزّهوه عن كلّ ما لا يليق به متلبسين بحمده على نعمه التي أجلّها وأكملها : الهداية إلى الإيمان ، والمعنى : قالوا في سجودهم : سبحان الله وبحمده ، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده. وقال سفيان : المعنى : صلوا حمدا لربهم ، وجملة : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم خاضعين لله ، متذللين له ؛ غير مستكبرين عليه (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي : ترتفع وتنبو يقال : جفى الشيء عن الشيء ، وتجافى عنه : إذا لم يلزمه ونبا عنه ، والمضاجع : جمع المضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع فيه. قال الزجاج والرماني : التجافي والتجفي إلى جهة فوق ، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سبّ ونحوه ، والجنوب : جمع جنب ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : متجافية جنوبهم عن مضاجعهم ، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، والجمهور ، والمراد بالصلاة صلاة التنفل ، بالليل من غير تقييد. وقال قتادة وعكرمة : هو التنفل ما بين المغرب والعشاء ، وقيل : صلاة العشاء فقط ، وهو رواية عن الحسن وعطاء. وقال الضحاك : صلاة العشاء والصبح في جماعة ، وقيل : هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضا من الضمير الذي في جنوبهم ، فهي حال بعد حال ، ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم ، والمعنى : تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم خوفا من عذابه ، وطمعا في رحمته

__________________

(١). السّفود : حديدة يشوى عليها اللحم. والشّرب : جماعة القوم يشربون.

والمفتأد : موضع النار الذي يشوى فيه. والبيت من معلقة النابغة الذبياني.

٢٩٢

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : من الذي رزقناهم أو من رزقهم ، وذلك الصدقة الواجبة ، وقيل : صدقة النفل ، والأولى : الحمل على العموم ، وانتصاب خوفا وطمعا : على العلة ، ويجوز أن يكونا مصدرين منتصبين بمقدّر (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، أي : لا تعلم نفس من النفوس ـ أي نفس كانت ـ ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين تقدّم ذكرهم بما تقرّ به أعينهم ، قرأ الجمهور قرّة بالإفراد. وقرأ ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وأبو الدرداء «من قرّات» بالجمع ، وقرأ حمزة ما أخفي بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه ، وقرأ الباقون بفتحها فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود «ما نخفي» بالنون مضمومة ، وقرأ الأعمش «يخفى» بالتحتية مضمومة. قال الزجاج في معنى قراءة حمزة ، أي : منه ما أخفى الله لهم ، وهي قراءة محمّد بن كعب ، و «ما» في موضع نصب. ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة فقال : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا ، أو جوزوا جزاء بذلك (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) الاستفهام : للإنكار؟ أي : ليس المؤمن كالفاسق فقد ظهر ما بينهما من التفاوت ، ولهذا قال : (لا يَسْتَوُونَ) ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام. قال الزجاج : جعل الاثنين جماعة حيث قال : (لا يَسْتَوُونَ) لأجل معنى من ، وقيل : لكون الاثنين أقل الجمع ، وسيأتي بيان سبب نزولها آخر البحث. ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين ، وبدأ بالمؤمنين فقال : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) قرأ الجمهور «جنات» بالجمع ، وقرأ طلحة بن مصرف «جنة المأوى» بالإفراد ، والمأوى هو الذي يأوون إليه ، وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي ، وقيل : المأوى جنة من الجنات ، وقد تقدّم الكلام على هذا ، ومعنى : (نُزُلاً) أنها معدّة لهم عند نزولهم ، وهو في الأصل ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب ، كما بيناه في آل عمران ، وانتصابه على الحال. وقرأ أبو حيوة «نزلا» بسكون الزاي ، والباء في (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) للسببية ، أي : بسبب ما كانوا يعملونه ، أو بسبب عملهم. ثم ذكر الفريق الآخر فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي : خرجوا عن طاعة الله ، وتمرّدوا عليه وعلى رسله (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : منزلهم الذي يصيرون إليه ، ويستقرّون فيه هو النار (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي : إذا أرادوا الخروج منها ردّوا إليها راغمين مكرهين ، وقيل : إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها ردّوا إلى مواضعهم (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) والقائل لهم هذه المقالة : هو خزنة جهنم من الملائكة ، أو القائل لهم : هو الله عزوجل ، وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وهو عذاب الدنيا. قال الحسن وأبو العالية والضحاك والنخعي : هو مصائب الدنيا ، وأسقامها ، وقيل : الحدود ، وقيل : القتل بالسيف يوم بدر ، وقيل : سنين الجوع بمكة ، وقيل : عذاب القبر ، ولا مانع من الحمل على الجميع (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه. وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال : إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر

٢٩٣

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي : لا أحد أظلم منه لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة ، فجعل الإعراض مكان ذلك ، والمجيء بثمّ للدلالة على استبعاد ذلك ، وأنه مما ينبغي أن لا يكون (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي : من أهل الإجرام على العموم ، فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولا أوّليا.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) قال : تركناكم. وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال : نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) أي : أتوها (وَسَبَّحُوا) أي : صلوا بأمر ربهم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن إتيان الصلاة في الجماعات. وأخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، ومحمّد بن نصر في كتاب الصلاة عن أنس بن مالك أن هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن مردويه عنه قال : نزلت في صلاة العشاء. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء. وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن مردويه عنه أيضا قال : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راقدا قط قبل العشاء ، ولا متحدّثا بعدها ، فإن هذه الآية نزلت في ذلك (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تتجافى جنوبهم عن المضاجع قال : هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم. فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه ، فوقتها قبل أن ينام الصغير ، ويكسل الكبير. وأخرج ابن مردويه عن بلال قال : كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون بعد المغرب العشاء ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن عديّ ، وابن مردويه عن أنس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، ومحمّد بن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أنس في قوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قال : كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون. وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن معاذ ابن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) قال : قيام العبد من الليل». وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن نصر في كتاب الصلاة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر حديثا وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات وقال فيه : «وصلاة الرّجل في جوف اللّيل ، ثم قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ)». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا في حديث قال فيه : «وصلاة المرء في جوف اللّيل ، ثمّ تلا هذه الآية». وأخرج ابن مردويه عن أنس في الآية قال : كان لا تمرّ عليهم ليلة إلا أخذوا منها. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد من طريق أبي عبد الله الجدلي عن عبادة بن الصامت عن كعب قال : «إذا حشر النّاس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع» الحديث.

٢٩٤

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول : تتجافى لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في القيام أو القعود. أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله. وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمّد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء فاتخذ جنة لنفسه ، ثم اتخذ دونها أخرى ، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة ، ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (١) لم يعلم الخلق ما فيهما. وهي التي قال الله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) تأتيهم منها كلّ يوم تحفة. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة : لقد أعدّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع : ما لم تر عين ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولا يعلم ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، وإنه لفي القرآن (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الله تعالى : «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». قال أبو هريرة. واقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)». وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة ، وهي معروفة فلا نطول بذكرها. وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ، والواحدي ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعليّ بن أبي طالب : أنا أحدّ منك سنانا ، وأنشط منك لسانا ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال له عليّ : اسكت فإنما أنت فاسق ، فنزلت (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) يعني بالمؤمن : عليا ، وبالفاسق : الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر عنه في الآية نحوه. وروي نحو هذا عن عطاء بن يسار والسدّي وعبد الرحمن بن أبي ليلي. وأخرج الفريابي ، وابن منيع ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود في قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) قال : يوم بدر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) قال : يوم القيامة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : لعلّ من بقي منهم أن يتوب فيرجع. وأخرج ابن أبي شيبة ، والنسائي ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود في الآية قال : العذاب الأدنى سنون أصابتهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : يتوبون. وأخرج مسلم ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو عوانة في صحيحه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبيّ بن كعب في قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) قال : مصائب الدنيا ، والروم ، والبطشة ، والدخان. وأخرج ابن جرير عنه قال : يوم بدر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) قال : الحدود (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : يتوبون. وأخرج ابن منيع ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف عن معاذ بن جبل : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثلاث من فعلهنّ فقد أجرم :

__________________

(١). الرحمن : ٦٢.

٢٩٥

من عقد لواء في غير حقّ ، أو عقّ والديه ، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم ، يقول الله : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)». قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة (فَلا تَكُنْ) يا محمّد (فِي مِرْيَةٍ) أي : شك وريبة (مِنْ لِقائِهِ) قال الواحدي : قال المفسرون : وعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيلقى موسى قبل أن يموت ، ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسرى به. وهذا قول مجاهد والكلبي والسدّي. وقيل : فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها. وقيل : فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب قاله الزجاج. قال الحسن : إن معناه : ولقد آتينا موسى الكتاب فكذّب وأوذي ، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى ، فيكون الضمير في لقائه على هذا عائدا على محذوف ، والمعنى : من لقاء ما لاقى موسى. قال النحاس : وهذا قول غريب. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ، فلا تكن في مرية من لقائه ، فجاء معترضا بين (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وبين (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقيل : الضمير راجع إلى الكتاب الذي هو الفرقان كقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) (١) والمعنى : أنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره ، وما أبعد هذا ، ولعلّ الحامل لقائله عليه قوله : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فإن الضمير راجع إلى الكتاب ، وقيل : إن الضمير في لقائه عائد إلى الرجوع المفهوم من قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي : لا تكن في مرية من لقاء الرجوع ، وهذا بعيد أيضا.

واختلف في قوله : (وَجَعَلْناهُ) فقيل : هو راجع إلى الكتاب ، أي : جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل ، قاله الحسن وغيره. وقال قتادة : إنه راجع إلى موسى ، أي : وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي : قتادة يقتدون به في دينهم ، وقرأ الكوفيون «أئمة» قال النحاس : وهو لحن عند جميع النحويين ، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة ، ومعنى (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليه من أحكام التوراة ومواعظها بأمرنا ، أي : بأمرنا لهم بذلك ، أو لأجل أمرنا. وقال قتادة : المراد

__________________

(١). النمل : ٦.

٢٩٦

بالأئمة : الأنبياء منهم. وقيل : العلماء (لَمَّا صَبَرُوا) قرأ الجمهور «لما» بفتح اللام وتشديد الميم ، أي : حين صبروا ، والضمير : للأئمة ، وفي : لما ، معنى الجزاء ، والتقدير : لما صبروا ؛ جعلناهم أئمة. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وورش عن يعقوب ويحيى بن وثاب بكسر اللام وتخفيف الميم : أي جعلناهم أئمة لصبرهم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد مستدلا بقراءة ابن مسعود «بما صبروا» بالباء ، وهذا الصبر هو صبرهم على مشاقّ التكليف ، والهداية للناس ، وقيل : صبروا عن الدنيا (وَكانُوا بِآياتِنا) التنزيلية (يُوقِنُونَ) أي : يصدّقونها ، ويعلمون أنها حق ، وأنها من عند الله لمزيد تفكرهم ، وكثرة تدبرهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي : يقضي بينهم ، ويحكم بين المؤمنين والكفار (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وقيل : يقضي بين الأنبياء وأممهم ، حكاه النقاش (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي : أو لم يبين لهم ، والهمزة للإنكار ، والفاعل ما دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي : أو لم نبين لهم كثرة إهلاكنا من قبلهم. قال الفراء : كم في موضع رفع بيهد. وقال المبرد : إن الفاعل الهدى المدلول عليه بيهد : أي : أو لم يهد لهم الهدى. وقال الزجاج : كم في موضع نصب بأهلكنا ، قرأ الجمهور «أو لم يهد» بالتحتية ، وقرأ السلمي ، وقتادة ، وأبو زيد عن يعقوب بالنون ، وهذه القراءة واضحة. قال النحاس : والقراءة بالياء التحتية فيها إشكال لأنه يقال : الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدّمنا ذكره ، والمراد بالقرون : عاد وثمود ونحوهم ، وجملة (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) في محل نصب على الحال من ضمير لهم ، أي : والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين ويشاهدونها ، وينظرون ما فيها من العبر وآثار العذاب ، ولا يعتبرون بذلك ، وقيل : يعود إلى المهلكين ، والمعنى : أهلكناهم حال كونهم ماشين في مساكنهم ، والأوّل أولى (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) عظيمات (أَفَلا يَسْمَعُونَ) ها ويتعظون بها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي : أو لم يعلموا بسوقنا الماء إلى الأرض التي لا تنبت إلا بسوق الماء إليها؟ وقيل : هي اليابسة ، وأصله من الجرز : وهو القطع ، أي : التي قطع نباتها لعدم الماء ، ولا يقال للتي لا تنبت أصلا كالسباخ جرز لقوله : (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) قيل : هي أرض اليمن ، وقيل : أرض عدن. وقال الضحاك : هي الأرض العطشى ، وقال الفراء : هي الأرض التي لا نبات فيها. وقال الأصمعي : هي الأرض التي لا تنبت شيئا. قال المبرد : يبعد أن تكن لأرض بعينها لدخول الألف واللام ، وقيل : هي مشتقة من قولهم رجل جروز : إذا كان لا يبقي شيئا إلا أكله ، ومنه قول الراجز :

خب جروز وإذا جاع بكى

ويأكل التمر ولا يلقي النّوى

وكذلك ناقة جروز : إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده. وقال مجاهد : إنها أرض النيل ، لأن الماء إنما يأتيها في كلّ عام (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي : بالماء (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) أي : من الزرع كالتبن ، والورق ، ونحوهما مما لا يأكله الناس (وَأَنْفُسُهُمْ) أي : يأكلون الحبوب الخارجة في الزرع مما يقتاتونه ، وجملة (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) في محلّ نصب على الحال (أَفَلا يُبْصِرُونَ) هذه النعم ويشكرون المنعم ، ويوحدونه لكونه المنفرد بإيجاد ذلك (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) القائلون : هم الكفار على العموم ،

٢٩٧

أو كفار مكة على الخصوص ، أي : متى الفتح الذي تعدونا به ، يعنون بالفتح : القضاء ، والفصل بين العباد ، وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين عباده ، قاله مجاهد وغيره. وقال الفراء والقتبي : هو فتح مكة. قال قتادة : قال أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكفار : إن لنا يوما ننعم فيه ، ونستريح ، ويحكم الله بيننا وبينكم ، يعنون : يوم القيامة ، فقال الكفار : متى هذا الفتح؟ وقال السدّي : هو يوم بدر ، لأن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون للكفار : إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم ، ومتى في قوله : (مَتى هذَا الْفَتْحُ) في موضع رفع ، أو في موضع نصب على الظرفية. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عليهم فقال : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وفي هذا دليل على أن يوم الفتح هو يوم القيامة ، لأن يوم فتح مكة ويوم بدرهما مما ينفع فيه الإيمان ، وقد أسلم أهل مكة يوم الفتح ، وقبل ذلك منهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون ، ولا يؤخرون ، ويوم في (يَوْمَ الْفَتْحِ) منصوب على الظرفية ، وأجاز الفراء الرفع (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : عن سفههم وتكذيبهم ولا تجبهم إلا بما أمرت به (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي : وانتظر يوم الفتح ، وهو يوم القيامة ، أو يوم إهلاكهم بالقتل إنهم منتظرون بك حوادث الزمان من موت ، أو قتل ، أو غلبة كقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١) ويجوز أن يراد : إنهم منتظرون لإهلاكهم ، والآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : غير منسوخة ، إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال. وقرأ ابن السميقع «إنهم منتظرون» بفتح الظاء مبنيا للمفعول ، ورويت هذه القراءة عن مجاهد وابن محيصن. قال الفراء : لا يصح هذا إلّا بإضمار ، أي : إنهم منتظر بهم. قال أبو حاتم : الصحيح الكسر ، أي : انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.

وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طويلا جعدا كأنّه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس ، ورأيت مالكا خازن جهنّم والدّجال» في آيات أراهنّ الله إياه. قال : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) فكان قتادة يفسرها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لقي موسى (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل. وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) قال : من لقاء موسى ، قيل أو لقي موسى؟ قال : نعم ، ألا ترى إلى قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) (٢) وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال : الجرز التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا إلا ما يأتيها من السيول. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال : أرض باليمن. قال القرطبي في تفسيره : والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه. وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال : يوم بدر فتح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت.

__________________

(١). التوبة : ٥٢.

(٢). الزخرف : ٤٥.

٢٩٨

سورة الأحزاب

أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن منيع والنسائي وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والدارقطني في الأفراد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن زرّ قال : قال لي أبيّ بن كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأين تعدّها؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية ، فقال أقط؟ لقد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة ، أو أكثر من سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع. قال ابن كثير : وإسناده حسن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيّها الناس إنّ الله بعث محمّدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله. وقد روي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال : قال لي عمر بن الخطاب : كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت : ثنتين أو ثلاثا وسبعين ؛ قال : إن كانت لتقارب سورة البقرة ، وإن كان فيها لآية الرجم. وأخرج البخاري في تاريخه عن حذيفة قال : قرأت سورة الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها. وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري ، وابن مردويه عن عائشة ، قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدّر منها إلا على ما هو الآن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

٢٩٩

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي : دم على ذلك ، وازدد منه : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة ، ومن هو على مثل كفرهم (وَالْمُنافِقِينَ) أي : الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر قال الواحدي : إنه أراد سبحانه بالكافرين : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور السلمي ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفض ذكر آلهتنا ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها. قال : والمنافقين عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. وسيأتي آخر البحث بيان سبب نزول الآية : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي : كثير العلم والحكمة بليغهم ، قال النحاس : ودلّ بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) على أنه كان يميل إليهم : يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استدعاء لهم إلى الإسلام ، والمعنى : أن الله عزوجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنهم لأنه حكيم ، ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها ، ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى ، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والمعنى : أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحا ، أو فسادا لكثرة علمه ، وسعة حكمته (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن : أي : اتبع الوحي في كلّ أمورك ، ولا تتبع شيئا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين ، ولا من الرأي البحت ، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك ، وجملة : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليك ، والأمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر لأمته ، فهم مأمورون باتباع القرآن ، كما هو مأمور باتباعه ، ولهذا جاء بخطابه ، وخطابهم في قوله : (بِما تَعْمَلُونَ) على قراءة الجمهور بالفوقية للخطاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ أبو عمرو والسلمي ، وابن أبي إسحاق بالتحتية (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : اعتمد عليه وفوّض أمورك إليه ، وكفى به حافظا يحفظ من توكل عليه. ثم ذكر سبحانه مثلا توطئة وتمهيدا لما يتعقبه من الأحكام القرآنية ، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي ، وقيل : هي مثل ضربه الله للمظاهر ، أي : كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمّان ، وكذلك لا يكون الدعيّ ابنا لرجلين. وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا ، فنزلت الآية لردّ النفاق ، وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام ، كما لا يجتمع قلبان ، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله ، وجعلها محلا للعلم (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) وقرأ الكوفيون ، وابن عامر «اللائي» : بياء ساكنة بعد همزة ، وقرأ أبو عمرو ، والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة. قال أبو عمرو بن العلاء : إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها ، وقرأ قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء. قرأ عاصم تظاهرون بضم الفوقية ، وكسر الهاء بعد ألف ؛ مضارع ظاهر ، وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء ، وتشديد الظاء مضارع تظاهر ، والأصل تتظاهرون وقرأ الباقون «تظّهرون» بفتح الفوقية وتشديد الظاء بدون ألف ، والأصل : تتظهرون ، والظهار مشتق من الظهر ، وأصله أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، والمعنى : وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهنّ هذا القول كأمهاتكم في التحريم ، ولكنه منكر من القول وزور (وَ) كذلك (ما جَعَلَ) الأدعياء الذين تدّعون أنهم (أَبْناءَكُمْ) أبناء لكم ، والأدعياء جمع دعيّ ، وهو الذي

٣٠٠