فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

سورة الشّورى

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت (حم عسق) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وكذا قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر. وروي عن ابن عباس ، وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلى آخرها. وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، ونعيم بن حماد ، والخطيب عن أرطأة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس وعنده حذيفة ابن اليمان فقال : أخبرني عن تفسير حم عسق ، فأعرض عنه ، ثم كرّر مقالته فأعرض عنه وكرر مقالته ، ثم كرّرها الثالثة فلم يجبه ، فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها لم كررتها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد إله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق ، يبني عليه مدينتين ، يشقّ النهر بينهما شقا ، يجتمع فيهما كل جبار عنيد ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة ، قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : (حم عسق) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم. عين ، يعني عدلا منه ، سين : يعني سيكون ، ق : واقع لهاتين المدينتين. أقول : هذا الحديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات ، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم. وأخرج أبو يعلى وابن عساكر قال السيوطي بسند ضعيف : قلت بل بسند موضوع ومتن مكذوب عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر حم عسق فوثب ابن عباس فقال : إن حم اسم من أسماء الله ، قال : فعين قال : عاين المذكور عذاب يوم بدر ، قال : فسين ، قال : فسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. قال : فقاف فسكت ، فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس وقال : قاف قارعة من السماء تصيب الناس. قال ابن كثير في الحديث الأوّل : إنه غريب عجيب منكر ، وفي الحديث الثاني : إنه أغرب من الحديث الأوّل. وعندي أنهما موضوعان مكذوبان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ

٦٠١

لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

قوله : (حم عسق) قد تقدّم الكلام في أمثال هذه الفواتح ، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع (حم عسق) ، ولم يقطع كهيعص فقال : لأنها سور أوّلها حم فجرت مجرى نظائرها ، فكأن حم مبتدأ وعسق خبره ، ولأنهما عدا آيتين ، وأخواتهما مثل : (كهيعص) و (المر) و (المص) آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير ، واختلفوا في حم فقيل معناها حم : أي قضى كما تقدّم. وقيل : إن ح حلمه وم مجده ، وع علمه ، وس سناه ، وق قدرته ، أقسم الله بها. وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدلّ عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة ، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له ، والحق ما قدّمناه لك في فاتحة سورة البقرة. وقيل : هما اسمان للسورة ، وقيل : اسم واحد لها ، فعلى الأوّل يكونان خبرين لمبتدأ محذوف ، وعلى الثاني يكون خبرا لذلك المبتدأ المحذوف. وقرأ ابن مسعود وابن عباس (حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله ، أي : مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة. وقيل : إن حم عسق أو حيت إلى من قبله من الأنبياء ، فتكون الإشارة بقوله : (كَذلِكَ) إليها. قرأ الجمهور (يُوحِي) بكسر الحاء مبنيا للفاعل وهو الله. وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بفتحها مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك ، والتقدير : مثل ذلك الإيحاء هو إليك ، أو القائم مقام الفاعل : إليك ، أو الجملة المذكورة ، أي : يوحى إليك هذا اللفظ أو القرآن أو مصدر يوحي ، وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل من يوحي؟ فقيل : الله العزيز الحكيم. وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظة والمعنى ، وقد تقدّم مثل هذا في قوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) (١) وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان «نوحي» بالنون فيكون قوله : (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في محلّ نصب ، والمعنى : نوحي إليك هذا اللفظ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف وهو ملك جميع ما في السموات والأرض لدلالته على كمال قدرته ونفوذ تصرّفه في جميع مخلوقاته (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) قرأ الجمهور (تَكادُ) بالفوقية ، وكذلك «تتفطّرن» قرءوه بالفوقية

__________________

(١). النور : ٣٦ و ٣٧.

٦٠٢

مع تشديد الطاء. وقرأ نافع والكسائي ، وابن وثاب : «يكاد» (يَتَفَطَّرْنَ) بالتحتية فيهما ، وقرأ أبو عمرو ، والمفضل ، وأبو بكر ، وأبو عبيد ، «ينفطرن» بالتحتية والنون من الانفطار كقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) والتفطر : التشقق. قال الضحاك والسدّي : يتفطرن يتشققن من عظمة الله وجلاله من فوقهنّ. وقيل المعنى : تكاد كلّ واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين : اتخذ الله ولدا ، وقيل من فوقهنّ : من فوق الأرضين ، والأوّل أولى. ومن في «من فوقهنّ» لابتداء الغاية : أي : يبتدئ التفطر من جهة الفوق. وقال الأخفش الصغير : إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار ، أي : من فوق جماعات الكفار وهو بعيد جدا ، ووجه تخصيص جهة الفوق أنها أقرب إلى الآيات العظيمة ، والمصنوعات الباهرة ، أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق ، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده. وقيل : إن التسبيح موضوع موضع التعجب ، أي : يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل معنى : (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) بأمر ربهم قاله السدّي (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من عباد الله المؤمنين. كما في قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٢) وقيل : الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم ، وتأخير عقوبتهم طمعا في إيمان الكافر ، وتوبة الفاسق فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين ، وإن كانوا داخلين فيها دخولا أوّليا (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه ، أو لجميع عباده ؛ فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع مغفرته ورحمته (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : أصناما يعبدونها (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي : يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم ، ولا وكل إليك هدايتهم ، وإنما عليك البلاغ. قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : مثل ذلك الإيحاء أو حينا إليك ، وقرآنا مفعول أوحينا ؛ والمعنى : أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك كما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي : مكة ، والمراد : أهلها (وَمَنْ حَوْلَها) من الناس والمفعول الثاني محذوف ، أي : لتنذرهم العذاب (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي : ولتنذر بيوم الجمع : وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق. وقيل : المراد جمع الأرواح بالأجساد ، وقيل : جمع الظالم والمظلوم ، وقيل : جمع العامل والعمل (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شك فيه ، والجملة معترضة مقررة لما قبلها ، أو صفة ليوم الجمع ، أو حال منه (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) قرأ الجمهور برفع (فَرِيقٌ) في الموضعين ، إما : على أنه مبتدأ ، وخبره : الجار والمجرور ، وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل ، أو : على أن الخبر مقدّر قبله ، أي : منهم فريق في الجنة ، ومنهم فريق في السعير ، أو أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع ، أي : هم فريق في الجنة وفريق في السعير. وقرأ زيد بن علي «فريقا» بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة ، أي : افترقوا حال كونهم كذلك ، وأجاز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقا (وَلَوْ شاءَ اللهُ

__________________

(١). الانفطار : ١.

(٢). غافر : ٧.

٦٠٣

لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قال الضحاك : أهل دين واحد ، إما على هدى وإما على ضلالة ، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية ، وهو معنى قوله : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) في الدين الحق : وهو الإسلام (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : المشركون ما لهم من وليّ يدفع عنهم العذاب ، ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام ، ومثل هذا قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٢) وهاهنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم فدبوا عليه من بعدهم وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق ويدور مع مدلولات النظم الشريف ، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه ، وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه ، وجملة : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين وليا ونصيرا ، وأم : هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل المفيدة للانتقال وبالهمزة المفيدة للإنكار ، أي : بل أتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أي : هو الحقيق بأن يتخذوه وليا ، فإنه الخالق الرازق الضار النافع. وقيل الفاء جواب شرط محذوف ، أي : إن أرادوا أن يتخذوا وليا في الحقيقة فالله هو الوليّ (وَهُوَ) أي : ومن شأنه أنه (يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : يقدر على كل مقدور ، فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) هذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين ، فإن حكمه ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ويفصل خصومة المختصمين فيه ، وعند ذلك يظهر المحقّ من المبطل ، ويتميز فريق الجنة وفريق النار. قال الكلبي. وما اختلفتم فيه من شيء : أي من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه. وقال مقاتل : إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن ، وآمن به بعضهم فنزلت ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويمكن أن يقال : معنى حكمه إلى الله : أنه مردود إلى كتابه ، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يردّ إلى كتاب الله ، ومثله قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٣) وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام ، وأن القرآن حق ، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار ، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقا إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة (ذلِكُمُ) الحاكم بهذا الحكم (اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اعتمدت عليه في جميع أموري ، لا على غيره وفوّضته في كلّ شؤوني (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي : أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قرأ الجمهور بالرفع : على أنه خبر آخر لذلكم ، أو : خبر مبتدأ محذوف. أو : مبتدأ ، وخبره ما بعده : أو : نعت لربي لأن الإضافة محضة ، ويكون (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) معترضا بين الصفة والموصوف. وقرأ زيد بن عليّ (فاطِرُ) بالجرّ على أنه نعت للاسم الشريف في قوله : (إِلَى اللهِ) وما بينهما اعتراض ، أو بدل من الهاء في عليه ، أو إليه ، وأجاز الكسائي النصب على النداء ، وأجازه غيره على المدح. والفاطر : الخالق المبدع ، وقد تقدّم تحقيقه (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : خلق لكم من جنسكم نساء ،

__________________

(١). الأنعام : ٣٥.

(٢). السجدة : ١٣.

(٣). النساء : ٥٩.

٦٠٤

أو المراد : حوّاء لكونها خلقت من ضلع آدم. وقال مجاهد : نسلا بعد نسل (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي : وخلق للأنعام من جنسها إناثا ، أو : وخلق لكم من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث ، وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي : يبثكم ، من الذرء : وهو البثّ ، أو يخلقكم وينشئكم ، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين ، والأنعام إلا أنه غلب فيه العقلاء ، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل ، وقيل : راجع إلى ما ذكر من التدبير. وقال الفراء والزجاج وابن كيسان : معنى يذرؤكم فيه يكثركم به : أي يكثركم بجعلكم أزواجا لأن ذلك سبب النسل. وقال ابن قتيبة : يذرؤكم فيه ، أي : في الزوج ، وقيل : في البطن ، وقيل : في الرحم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) المراد بذكر المثل هنا : المبالغة في النفي بطريق الكناية ، فإنه إذا نفي عمن يماثله كان نفيه عنه أولى. كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، وقيل : إن الكاف زائدة للتوكيد ، أي : ليس مثله شيء ، وقيل : إن مثل زائدة ، قاله ثعلب وغيره كما في قوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (١) أي : بما آمنتم به ، ومنه قول أوس بن حجر :

وقتلى كمثل جذوع النّخيل

يغشاهم مطر منهمر

أي : كجذوع ، والأوّل أولى ، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ، ومهيع مألوف لهم ، ومنه قول الشاعر :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر :

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن بات من ليلى على اليأس طاويا

وقال آخر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم

فما كمثلهم في النّاس من أحد

قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثل مقام النفس ، فتقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي : أنا لا يقال لي. وقال أبو البقاء مرجحا لزيادة الكاف : إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال ، إذ يكون المعنى : أن له مثلا وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل ، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال ، وهذا تقرير حسن ، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجا مخرج الكناية ، ومن فهم هذه الآية الكريمة حقّ فهمها ، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة ، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين ، وشفاء الصدور ، وانثلاج القلوب ، فاقدر يا طالب الحقّ قدر هذه الحجة النيرة ، والبرهان القويّ ، فإنك تحطم بها كثيرا من البدع ، وتهشم بها رؤوسا من الضلالة ، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين ، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢)

__________________

(١). البقرة : ١٣٧.

(٢). طه : ١١٠.

٦٠٥

فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمّونه علم الكلام ، وعلم أصول الدين :

ودع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديث ما حديث الرّواحل

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خزائنهما أو مفاتيحهما ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة الزمر ، وهي جمع إقليد ، وهو المفتاح جمع على خلاف القياس. قال النحاس : والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات والأرض ذكر بعده البسط والقبض فقال : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي : يوسعه لمن يشاء من خلقه ، ويضيقه على من يشاء (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (عَلِيمٌ) فلا تخفى عليه خافية ، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي ، فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير وشرّ.

وقد أخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عبد الله ابن عمرو. قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان. فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ؛ ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال : سدّدوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل له. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديه فنبذهما ، ثم قال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» قال الترمذي بعد إخراجه : حديث حسن صحيح غريب. وروى ابن جرير طرفا منه عن ابن عمر موقوفا عليه. قال ابن جرير : وهذا الموقوف أشبه بالصواب. قلت : بل المرفوع أشبه بالصواب ، فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح ، ويقوّي الرّفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء. قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يده كتاب ينظر فيه قالوا : انظروا إليه كيف وهو أميّ لا يقرأ ، قال : فعلمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم ولا ينقص منهم ، وقال : فريق في الجنة ، وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد».

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ

٦٠٦

يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

الخطاب في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : بين وأوضح لكم من الدين (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل وتوافقت عليها الكتب (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن ، وشرائع الإسلام ، والبراءة من الشرك ، والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه ، وخص ما شرعه لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيحاء مع كون ما بعده ، وما قبله مذكورا بالتوصية للتصريح برسالته (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) مما تطابقت عليه الشرائع. ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي : توحيد الله ، والإيمان به ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، وأن : هي المصدرية : وهي وما بعدها : في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما ذلك الذي شرعه الله؟ فقيل : هو إقامة الدين ، أو : هي في محل نصب بدلا من الموصول ، أو : في محل جرّ بدلا من الدين ، أو : هي المفسرة ، لأنه قد تقدمها ما فيه معنى القول. قال مقاتل : يعني أنه شرع لكم ، ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا. قال مقاتل : يعني التوحيد. قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا قط إلا وصّاه بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم. وقال قتادة : يعني تحليل الحلال ، وتحريم الحرام ، وخصّ إبراهيم ، وموسى ، وعيسى بالذكر مع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم أرباب الشرائع. ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين ، نهاهم عن الاختلاف فيه فقال : (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي : لا تختلفوا في التوحيد ، والإيمان بالله ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع ، وتوافقت فيها الأديان ، فلا ينبغي الخلاف في مثلها ، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة ، وتتعارض فيها الأمارات ، وتتباين فيها الأفهام ، فإنها من مطارح الاجتهاد ، ومواطن الخلاف. ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شقّ على المشركين فقال : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي : عظم وشق عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ورفض الأوثان. قال قتادة : كبر على المشركين ، واشتدّ عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده ، وضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن ينصرها ، ويعليها ، ويظهرها ، ويظفرها على من ناوأها. ثم خصّ أولياءه فقال : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يختار ، والاجتباء : الاختيار ، والمعنى : يختار لتوحيده والدخول في دينه من يشاء من عباده (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي : يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ، ويقبل إلى عبادته. ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرّق والاختلاف فقال : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : ما تفرّقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة ، ففعلوا ذلك التفرّق للبغي بينهم بطلب الرياسة وشدّة الحمية ، قيل : المراد قريش هم الذين تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم ،

٦٠٧

وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَغْياً) منهم عليه ، وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) (١) الآية ، وبقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٢) وقيل : المراد أمم الأنبياء المتقدمين ، وأنهم فيما (بَيْنَهُمْ) اختلفوا لما طال بهم المدى فآمن قوم ، وكفر قوم ، وقيل : اليهود والنصارى خاصة كما في قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٣) (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير العقوبة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة كما في قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٤) وقيل : إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر ، والذلّ والقهر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة ، وقيل : لقضي بين من آمن منهم ، ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ، ونجاة المؤمنين (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن ، أو من محمد (مُرِيبٍ) موقع في الريب ولذلك لم يؤمنوا. وقال مجاهد : معنى من بعدهم : من قبلهم : يعني من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود والنصارى. وقيل المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، وصفهم بأنهم في شك من القرآن مريب. قرأ الجمهور (أُورِثُوا) وقرأ زيد بن عليّ «ورثوا» بالتشديد (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) أي : فلأجل ما ذكر من التفرّق والشكّ ، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع فادع واستقم ؛ أي : فادع إلى الله وإلى توحيده واستقم على ما دعوت إليه. قال الفراء والزجاج : المعنى فإلى ذلك فادع كما تقول : دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع. قال قتادة : استقم على أمر الله. وقال سفيان : استقم على القرآن. وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة (كَما أُمِرْتَ) بذلك من جهة الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الباطلة وتعصباتهم الزائغة ، ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في ذكر الله (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله ، لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في أحكام الله إذا ترافعتم إليّ ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله ، أو بنقصان منه ، وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو ، واللام لام كي ، أي : أمرت بذلك الذي أمرت به لكي أعدل بينكم ، وقيل : هي زائدة ، والمعنى : أمرت أن أعدل. والأوّل أولى. قال أبو العالية : أمرت لأسوّي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول. والظاهر أن الآية عامة في كل شيء ، والمعنى : أمرت لأعدل بينكم في كل شيء (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي : إلهنا وإلهكم ، وخالقنا وخالقكم (لَنا أَعْمالُنا) أي : ثوابها وعقابها خاصّ بنا (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي : ثوابها وعقابها خاصّ بكم (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي : لا خصومة بيننا وبينكم ، لأن الحق قد ظهر ووضح (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) في المحشر (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : المرجع يوم القيامة فيجازي كلا بعمله : وهذا منسوخ بآية السيف. قيل : الخطاب لليهود ، وقيل : للكفار على العموم (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي :

__________________

(١). فاطر : ٤٢.

(٢). البقرة : ٨٩.

(٣). التين : ٤.

(٤). القمر : ٤٦.

٦٠٨

يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ، ودخلوا فيه. قال مجاهد : من بعد ما أسلم الناس. قال : وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة : هم اليهود والنصارى ، ومحاجتهم قولهم : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب ، وأنهم أولاد الأنبياء ، وكان المشركون يقولون : أيّ الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ فنزلت هذه الآية ، والموصول : مبتدأ ، وخبره : الجملة بعده وهي (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه ، يقال : دحضت حجته دحوضا : بطلت ، والإدحاض : الإزلاق ، ومكان دحض : أي زلق ، ودحضت رجله : زلقت. وقيل : الضمير في له راجع إلى الله. وقيل : راجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأوّل أولى (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي : غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) المراد بالكتاب : الجنس فيشمل جميع الكتب المنزّلة على الرسل. وقيل : المراد به القرآن خاصة ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي : ملتبسا بالحق ، وهو الصدق (وَ) المراد ب (الْمِيزانَ) العدل ، كذا قال أكثر المفسرين ، قالوا وسمى العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق. وقيل : الميزان ما بين في الكتب المنزّلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به. وقيل : هو الجزاء على الطاعة بالثواب ، وعلى المعصية بالعقاب. وقيل : إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء ، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس كما في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) وقيل : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي : أيّ شيء يجعلك داريا بها ، عالما بوقتها لعلها شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو ذات قرب. وقال قريب ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي. قال الزجاج : المعنى لعلّ البعث أو لعلّ مجيء الساعة قريب. وقال الكسائي : قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) ومنه قول الشاعر :

وكنّا قريبا والدّيار بعيدة

فلمّا وصلنا نصب أعينهم غبنا

قيل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين ، فقالوا متى تكون الساعة؟ تكذيبا لها فأنزل الله الآية ، ويدلّ على هذا قوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء منهم بها ، وتكذيبا بمجيئها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي : خائفون وجلون من مجيئها. قال مقاتل : لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه. وقال الزجاج : لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي : أنها آتية لا ريب فيها ، ومثل هذا قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٣). ثم بين ضلال الممارين فيها فقال : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة ، من المماراة وهي : المخاصمة والمجادلة ، أو من المرية : وهي الشك والريبة (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم ، ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة.

__________________

(١). الحديد : ٢٥.

(٢). الأعراف : ٥٦.

(٣). المؤمنون : ٦٠.

٦٠٩

وقد أخرج ابن جرير عن السدّي (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) قال : اعملوا به. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) قال : ألا تعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ). قال : استكبر المشركون أن قيل لهم : لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) قال : يخلص لنفسه من يشاء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) قال : هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال : هم قوم من أهل الضلالة وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) الآية. قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (١) قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجا ؛ فاخرجوا من بين أظهرنا فنزلت (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) الآية.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))

قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أي : كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم. قال مقاتل : لطيف بالبارّ والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. قال عكرمة : بار بهم. وقال السدّي : رفيق بهم ، وقيل : حفيّ بهم. وقال

__________________

(١). أي : سورة النصر.

٦١٠

القرطبي : لطيف بهم في العرض والمحاسبة ، وقيل : غير ذلك. والمعنى : أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ، ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا ، وهو معنى قوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) منهم كيف يشاء ، فيوسع على هذا ، ويضيق على هذا (وَهُوَ الْقَوِيُ) العظيم القوّة الباهرة القادرة (الْعَزِيزُ) الذي يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الحرث في اللغة : الكسب ، يقال هو يحرث لعياله ويحترث : أي يكتسب. ومنه سمي الرجل حارثا ، وأصل معنى الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، فأطلق على ثمرات أعمال وفوائدها بطريق الاستعارة : والمعنى : من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وقيل : معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها ، وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا وقسم له في قضائنا. قال قتادة : معنى (نُؤْتِهِ مِنْها) نقدّر له ما قسم له كما قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) (١). وقال قتادة أيضا : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر ، وهو تخصيص بغير مخصص. ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار ، والهمزة : لاستفهام التقرير والتقريع ، وضمير شرعوا عائد إلى الشركاء ، وضمير لهم إلى الكفار ، وقيل العكس ، والأوّل أولى. ومعنى (ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) ما لم يأذن به من الشرك والمعاصي (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي تأخير عذابهم حيث قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٢) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة ، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين ، أو إلى المشركين وشركائهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : المشركين والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ مسلم ، والأعرج ، وابن هرمز بفتحها عطفا على كلمة الفصل (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات ، وذلك الخوف والوجل يوم القيامة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج ، أي : وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا ، والجملة في محل نصب على الحال. ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) روضات جمع روضة. قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين الواو ، ولغة هذيل فتحها ، والروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة ، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم ، وروضة الجنة : أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من صنوف النعم وأنواع المستلذّات ، والعامل في عند ربهم يشاءون ، أو العامل في روضات الجنات وهو الاستقرار ،

__________________

(١). الإسراء : ١٨.

(٢). القمر : ٤٦.

٦١١

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر للمؤمنين قبله ، وخبره الجملة المذكورة بعده وهي : (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي : الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إلى الفضل الكبير ، أي : يبشرهم به. ثم وصف العباد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فهؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه هم المبشرون بتلك البشارة. قرأ الجمهور (يُبَشِّرُ) مشدّدا من بشر. وقرأ مجاهد ، وحميد بن قيس بضم التحتية وسكون الموحدة وكسر الشين من أبشر. وقرأ بفتح التحتية وضم الشين بعض السبعة ، وقد تقدّم بيان القراءات في هذه اللفظة. ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه أمره بأنه يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثوابا منهم فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي : قل يا محمد : لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا نفعا (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) هذا الاستثناء يجوز أن يكون متصلا ، أي : إلا أن تودّوني لقرابتي بينكم أو تودّوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون منقطعا. قال الزجاج : إلا المودّة استثناء ليس من الأوّل : أي : إلا أن تودّوني لقرابتي فتحفظوني ، والخطاب لقريش ، وهذا قول عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والشعبي ، فيكون المعنى على الانقطاع : لا أسألكم أجرا قط ، ولكن أسألكم المودّة في القربى التي بيني وبينكم ، ارقبوني فيها ولا تعجلوا إليّ ودعوني والناس ، وبه قال قتادة ، ومقاتل ، والسدّي ، والضحاك ، وابن زيد وغيرهم ، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي. وقال سعيد بن جبير وغيره : هم آل محمد ، وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا. وقال الحسن وغيره : معنى الآية : إلا التودّد إلى الله عزوجل ، والتقرّب بطاعته. وقال الحسن بن الفضل : ورواه ابن جرير عن الضحاك إن هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم الله بمودّته ، فلما هاجر أوته الأنصار ونصروه ، فأنزل الله عليه (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) وأنزل عليه (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (٢) وسيأتي في آخر البحث ما يتضح به الثواب ويظهر به معنى الآية إن شاء الله (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أصل القرف : الكسب ، يقال فلان يقرف لعياله : أي يكتسب ؛ والاقتراف : الاكتساب ، مأخوذ من قولهم رجل قرفة : إذا كان محتالا. والمعنى : من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسنا بمضاعفة ثوابها. قال مقاتل : المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسنا نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا. وقيل : المراد بهذه الحسنة هي المودّة في القربى ، والحمل على العموم أولى ، ويدخل تحته المودّة في القربى دخولا أوّليا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي : كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين. قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدّي : غفور لذنوب آل محمد (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أم هي المنقطعة ، أي : بل أيقولون افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ، والإنكار للتوبيخ. ومعنى افتراء الكذب : اختلاقه. ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي : لو افترى على الله الكذب لشاء عدم صدوره منه وختم على قلبه بحيث لا يخطر

__________________

(١). الشعراء : ١٠٩.

(٢). سبأ : ٤٧.

٦١٢

بباله شيئا مما كذب فيه كما تزعمون. قال قتادة : يختم على قلبك فينسيك القرآن ، فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية. وقال مجاهد ومقاتل : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم. وقيل الخطاب له ، والمراد الكفار ، أي : إن يشأ يختم على قلوب الكفار ، ويعاجلهم بالعقوبة ، ذكره القشيري. وقيل المعنى : لو حدّثتك نفسك أن تفتري على الله كذبا لطبع على قلبك ، فإنه لا يجترئ على الكذب إلا من كان مطبوعا على قلبه ، والأوّل أولى ، وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) استئناف مقرّر لما قبله من نفي الافتراء. قال ابن الأنباري : يختم على قلبك تامّ ، يعني وما بعده مستأنف. وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، أي : والله يمحو الباطل. وقال الزجاج : أم يقولون افترى على الله كذبا تامّ. وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) احتجاج على من أنكر ما أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لو كان ما أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطلا لمحاه. كما جرت به عادته في المفترين (وَيُحِقُّ الْحَقَ) أي الإسلام فيبينه (بِكَلِماتِهِ) أي : بما أنزل من القرآن (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عالم بما في قلوب العباد ، وقد سقطت الواو من ويمحو في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي : يقبل من المذنبين من عباده توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي واقترفوا من السيئات ، والتوبة الندم على المعصية والعزم على عدم المعاودة لها. وقيل : يقبل التوبة عن أوليائه وأهل طاعته. والأوّل أولى ، فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم وكافرهم ؛ إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية ، وعزيمة صحيحة (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) على العموم لمن تاب عن سيئته (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير وشرّ فيجازى كلا بما يستحقه. قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف (تَفْعَلُونَ) بالفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ، واختار القراءة الثانية أبو عبيدة ، وأبو حاتم لأن هذا الفعل وقع بين خبرين (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الموصول في موضع نصب ، أي : يستجيب الله للذين آمنوا ويعطيهم ما طلبوه منه ، يقال أجاب واستجاب بمعنى. وقيل : المعنى يقبل عبادة المخلصين ، وقيل : التقدير ويستجيب لهم ، فحذف اللام كما حذف في قوله : (وَإِذا كالُوهُمْ) أي : كالوا لهم ، وقيل : إن الموصول في محل رفع : أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) (١) قال المبرد : معنى (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ويستدعي الذين آمنوا الإجابة ، هكذا حقيقة معنى استفعل ، فالذين في موضع رفع ، والأوّل أولى (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : يزيدهم على ما طلبوه منه ، أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلا منه ، وقيل : يشفعهم في إخوانهم (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هذا للكافرين مقابلا ما ذكره للمؤمنين فيما قبله (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي : لو وسع الله لهم رزقهم لبغوا في الأرض : لعصوا فيها ، وبطروا النعمة ، وتكبروا ، وطلبوا ما ليس لهم طلبه ، وقيل المعنى : لو جعلهم سواء في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض ، ولتعطلت الصنائع ، والأوّل أولى. والظاهر عموم أنواع الرزق ، وقيل : هو المطر خاصة (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي : ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته ، وما تقتضيه حكمته

__________________

(١). الأنفال ٢٤.

٦١٣

البالغة (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ) بأحوالهم (بَصِيرٌ) بما يصلحهم من توسيع الرزق ، وتضييقه ، فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ، ويكفه عن الفساد بالبغي في الأرض (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي : المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق وأعمها فائدة وأكثرها مصلحة (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي : من بعد ما أيسوا عن ذلك فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمته لهم ، ويشكرون له ما يجب الشكر عليه (وَهُوَ الْوَلِيُ) للصالحين من عباده بالإحسان إليهم وجلب المنافع لهم ، ودفع الشرور عنهم (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصا وعموما.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) قال : عيش الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) الآية. قال : من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلا النار ، ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له ، وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والنصر والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب». وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة : قال تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية ، ثم قال : يقول الله : ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك ، وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن عليّ قال : الحرث حرثان ، فحرث الدنيا المال والبنون ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه من طريق طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد. قال ابن عباس : عجلت ، إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عنه قال : قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أسألكم عليه أجرا إلّا أن تودّوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم». وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان واسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة ، فقال الله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) على ما أدعوكم إليه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أن تودوني لقرابتي منكم ، وتحفظوني بها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة من جميع قريش ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : «يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم». وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عنه نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضا نحوه. وأخرج ابن مردويه

٦١٤

عنه أيضا نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا من طريق أخرى نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق مقسم عن ابن عباس قال : قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا ، فقال العباس : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أفلا تجيبون؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك؟ ألم يكذّبوك فصدّقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله ، فنزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، والأولى أن الآية مكية لا مدنية ، وقد أشرنا في أوّل السورة إلى قول من قال إن هذه الآية وما بعدها مدنية ، وهذا متمسكهم. وأخرج أبو نعيم ، والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي : تحفظوني في أهل بيتي وتودونهم بي». وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه. قال السيوطي : بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وولدهما» وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله قل لهم يا محمد (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) يعني : على ما أدعوكم إليه (أَجْراً) عرضا من الدنيا (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلا الحفظ لي في قرابتي فيكم ، فلما هاجر إلى المدينة أحبّ أن يلحقه بإخوته من الأنبياء فقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (١) يعني ثوابه وكرامته في الآخرة كما قال نوح (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وكما قال هود ، وصالح ، وشعيب لم يستثنوا أجرا كما استثنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فردّه عليهم ، وهي منسوخة. وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية : قل لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله وأن تتقرّبوا إليه بطاعته. هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية. والمعنى الأوّل هو الذي صح عنه ، ورواه عنه الجمع الجمّ من تلامذته فمن بعدهم ، ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ ، فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يودّه كفار قريش لما بينه وبينهم من القربى ويحفظوه بها ، ثم ينسخ ذلك ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدلّ عليه ما ذكرنا مما يدلّ على أنه لم يسأل على التبليغ أجرا على الإطلاق ، ولا يقوى ما روي من حملها على آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة ، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة ، والمزايا الجميلة ، وقد بينا بعض ذلك عند تفسيرنا لقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٢) وكما لا يقوى هذا على المعارضة ، فكذلك لا يقوى ما روي عنه أن المراد بالمودّة في القربى أن

__________________

(١). سبأ : ٤٧.

(٢). الأحزاب : ٣٣.

٦١٥

يودوا الله وأن يتقرّبوا إليه بطاعته ، ولكنه يشدّ من عضد هذا أنه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسناده عند أحمد في المسند هكذا : حدّثنا حسن بن موسى حدّثنا قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة به. وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي هانئ الخولاني قال : سمعت عمر بن حريث وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) وذلك أنهم قالوا لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا. وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ مثله.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

ذكر سبحانه بعض آياته على كمال قدرته الموجبة لتوحيده ، وصدق ما وعد به من البعث ، فقال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خلقهما على هذه الكيفية العجيبة ، والصنعة الغريبة (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) يجوز عطفه على خلق ، ويجوز عطفه على السموات ، والدابة : اسم لكل ما دبّ. قال الفراء : أراد ما بث في الأرض دون السماء كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقال أبو عليّ الفارسي : تقديره وما بثّ في أحدهما ، فحذف المضاف. قال مجاهد : يدخل في هذا الملائكة والناس ، وقد قال تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢) (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي : حشرهم يوم القيامة (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير قال أبو البقاء ؛ لأن ذلك يؤدي : وهو على جمعهم قدير إذا يشاء ، فتتعلق القدرة بالمشيئة ، وهو محال. قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه كونه محالا على

__________________

(١). الرحمن : ٢٢.

(٢). النحل : ٨.

٦١٦

مذهب أهل السنة ، فإن كان يقول بقول المعتزلة وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : وما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي. قرأ نافع ، وابن عامر «بما كسبت» بغير فاء ، وقرأ الباقون بالفاء ، (وَما) في (أَصابَكُمْ) هي الشرطية ، ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور ، ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور ، وجوّز الأخفش الحذف كما في قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١) وقول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان

وقيل : هي الموصولة ، فيكون الحذف والإثبات جائزين ، والأوّل أولى. قال الزجاج : إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط ، ومن حذف الفاء فعلى أن : ما ، في معنى : الذي ، والمعنى : الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم. قال الحسن : المصيبة هنا الحدود على المعاصي ، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي ، ودخول من الاستغراقية عليها (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من المعاصي التي يفعلها العباد ؛ فلا يعاقب عليها ، فمعنى الآية : أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ، ويعفو عن كثير من الذنوب. وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه ، أو يكفر عنه من ذنوبه. وقيل : هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى : أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرا عنهم لذنب ولا محصلا لثواب ، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة. والأولى حمل الآية على العموم ، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطاب به. قال الواحدي : وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم لا يرجع في عفوه ، فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : بفائتين عليه هربا في الأرض ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يواليكم فيمنع عنكم ما قضاه الله (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) قرأ نافع ، وأبو عمرو «الجواري» بإثبات الياء في الوصل ، وأما في الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف ، وهي السفن واحدتها جارية ، أي : سائرة (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي : الجبال جمع علم وهو الجبل ، ومنه قول الخنساء :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

قال الخليل : كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم. وقال مجاهد : الأعلام القصور واحدها علم (إِنْ

__________________

(١). الأنعام : ١٢١.

٦١٧

يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) قرأ الجمهور بهمز (يَشَأْ) وقرأ ورش عن نافع بلا همز. وقرأ الجمهور (الرِّيحَ) بالإفراد ، وقرأ نافع «الرياح» على الجمع : أي يسكن الريح التي تجري بها السفن (فَيَظْلَلْنَ) أي : السفن (رَواكِدَ) أي : سواكن ثوابت (عَلى ظَهْرِهِ) البحر ، يقال ركد الماء ركودا : سكن ، وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد. قرأ الجمهور (فَيَظْلَلْنَ) بفتح اللام الأولى ، وقرأ قتادة بكسرها ، وهي لغة قليلة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من أمر السفن (لَآياتٍ) دلالات عظيمة (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء. قال قطرب : الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلى صبر. قال عون بن عبد الله :

فكم من منعم عليه غير شاكر

وكم من مبتلى غير صابر

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) معطوف على يسكن : أي يهلكهنّ بالغرق ، والمراد أهلكهنّ بما كسبوا من الذنوب ، وقيل : بما أشركوا. والأوّل أولى ، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك ، يقال أوبقه : أي أهلكه (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق. قرأ الجمهور (يَعْفُ) بالجزم عطفا على جواب الشرط. قال القشيري : وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد أو يهلكها بذنوب أهلها فلا يحسن عطف (يَعْفُ) على هذا ، لأنه يصير المعنى : إن يشأ يعف وليس المعنى ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى ، وقد قرأ قوم «ويعفوا» بالرفع وهي جيدة في المعنى. قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب ، والمعنى : إلا أنه تعالى أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم ، وقرأ الأعمش «ويعفوا» بالرفع ، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والشّهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

بنصب ونأخذ (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) قرأ الجمهور بنصب (يَعْلَمَ) قال الزجاج : على الصرف ، قال : ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى ، قال : وذلك أنه لما لم يحسن عطف ، ويعلم ، مجزوما على ما قبله إذ يكون المعنى : إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار أن لتكون مع الفعل في تأويل اسم ، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريبا ، وكما قال الزجاج. قال المبرّد وأبو عليّ الفارسي : واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته. وقيل : النصب على العطف على تعليل محذوف ، والتقدير : لينتقم منهم ويعلم. واعترضه أبو حيان بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن تقدير لينتقم منهم. وقرأ نافع ، وابن عامر برفع «يعلم» على الاستئناف وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ. وقرئ بالجزم عطفا على المجزوم قبله على معنى : وإن

٦١٨

يشأ يجمع بين الإهلاك ، والنجاة ، والتحذير ، ومعنى (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ما لهم من فرار ولا مهرب ، قاله قطرب. وقال السدي : ما لهم من ملجأ ، وهو مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة : إذا رمى به ، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق ، أي : يميل عنه (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا ، أي : ما أعطيتهم من الغنى والسعة في الرزق فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ويذهب. ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي : ما عند الله من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا وأبقى لأنه دائم لا ينقطع ، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة. ثم بين سبحانه لمن هذا فقال : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : يفوّضون إليه أمورهم ، ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) الموصول في محل جرّ معطوف على الذين آمنوا ، أو بدلا منه ، أو في محلّ نصب بإضمار : أعني والأوّل : أولى ، والمعنى : أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون. والمراد بكبائر الإثم : الكبائر من الذنوب ، وقد قدّمنا تحقيقها في سورة النساء. قرأ الجمهور (كَبائِرَ) بالجمع ، وقرأ حمزة والكسائي «كبير» بالإفراد وهو يفيد مفاد الكبائر ، لأن الإضافة للجنس كاللام. والفواحش هي من الكبائر ، ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها ، وذلك كالقتل ، والزنا ، ونحو ذلك. وقال مقاتل : الفواحش موجبات الحدود. وقال السدّي : هي الزنا (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ، ويكظمون الغيظ ، ويحملون على من ظلمهم ، وخص الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان ، وغلبته عليه شديدة ، فلا يغفر عند سورة الغصب إلا من شرح الله صدره وخصه بمزية الحلم ، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله : في آل عمران (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (١) قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنفا يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم ، وصنفا ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : أجابوه إلى ما دعاهم إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة. قال ابن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبا منهم قبل الهجرة ، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي : يتشاورون فيما بينهم ، ولا يعجلون ، ولا ينفردون بالرأي ، والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى. قال الضحاك : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل : المراد تشاورهم في كلّ أمر يعرض لهم ؛ فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي ، وما أحسن ما قاله بشار بن برد :

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي لبيب أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة

فريش الخوافي قوّة للقوادم

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاور أصحابه في أموره ، وأمره الله سبحانه بذلك فقال : (وَشاوِرْهُمْ فِي

__________________

(١). آل عمران : ١٣٤.

٦١٩

الْأَمْرِ) (١) وقد قدّمنا في آل عمران كلاما في الشورى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : ينفقونه في سبيل الخير ويتصدّقون به على المحاويج. ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق ، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) فالانتصار عند البغي فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء ، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة ، وظاهر هذا العموم. وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان : إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره. وقال مجاهد والسدّي : هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك الله من غير أن يعتدي ، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابههما في الصورة. ثم لما بين سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز ؛ بين فضيلة العفو فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه ، أي : أن الله سبحانه يأجره على ذلك ، وأبهم الأجر تعظيما لشأنه ، وتنبيها على جلالته. قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة ، وقد بينا هذا في سورة آل عمران. ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : المبتدئين بالظلم قال مقاتل : يعني من يبدأ بالظلم ، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل : لا يحبّ من يتعدّى في الاقتصاص ويجاوز الحدّ فيه لأن المجاوزة ظلم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بعد أن ظلمه الظالم له ، واللام هي لام الابتداء. وقال ابن عطية : هي لام القسم ، والأوّل أولى. ومن : هي الشرطية ، وجوابه : (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بمؤاخذة وعقوبة ، ويجوز أن تكون من : هي الموصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيها للموصولة بالشرطية ، والأوّل أولى. ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يتعدّون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر. وقال ابن جريج : أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : يعملون في النفوس والأموال بغير الحقّ كذا قال الأكثر. وقال مقاتل : بغيهم : عملهم بالمعاصي ، وقيل : يتكبرون ويتجبرون. وقال أبو مالك : هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام دينا ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الذين يظلمون الناس ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم. ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) أي : صبر على الأذى وغفر لمن ظلمه ولم ينتصر ، والكلام في هذه اللام ومن كالكلام في ولمن انتصر (إن ذلك) الصبر والمغفرة (لَمِنْ عَزْمِ

__________________

(١). آل عمران : ١٥٩.

(٢). المنافقون : ٨.

٦٢٠