فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

في ترك الاستئذان ، فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال : (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) يعني : الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والكاف : نعت مصدر محذوف ، أي : استئذانا كما استأذن الذين من قبلهم ، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الآية. والمعنى : أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء ، ثم كرّر ما تقدم للتأكيد فقال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وقرأ الحسن (الْحُلُمَ) فحذف الضمة لثقلها. قال عطاء : واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال الزهري : يستأذن الرجل على أمه ، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية ، والمراد بالقواعد من النساء : العجائز اللاتي قعدن عن الحيض ، والولد من الكبر ، واحدتها قاعد بلا هاء ليدلّ حذفها على أنه قعود الكبر ، كما قالوا : امرأة حامل ليدلّ بحذف الهاء على أنه حمل حبل ، ويقال : قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها. قال الزجاج : هن اللاتي قعدن عن التزويج ، وهو معنى قوله : (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي : لا يطمعن فيه لكبرهنّ. قال أبو عبيدة : اللاتي قعدن عن الولد ، وليس هذا بمستقيم ، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع. ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي : الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه ، لا الثياب التي على العورة الخاصة ، وإنما جاز لهنّ ذلك لانصراف الأنفس عنهنّ ، إذ لا رغبة للرجال فيهنّ ، فأباح الله سبحانه لهنّ ما لم يبحه لغيرهنّ ، ثم استثنى حالة من حالاتهنّ فقال : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي : غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) والمعنى : من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهنّ ، ولا متعرّضات بالتزين ، لينظر إليهنّ الرجال. والتبرّج التكشف والظهور للعيون ، ومنه : (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (١) وبروج السماء ، ومنه قولهم : سفينة بارجة ، أي : لا غطاء عليها (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي : وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهنّ من وضعها. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس «أن يضعن من ثيابهن» بزيادة من ، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن» بغير سين (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كثير السماع والعلم أو بليغهما (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ قال بالأوّل : جماعة من العماء ، وبالثاني : جماعة. قيل : إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غيب ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ؛ فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم ، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. قال النحاس : وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف. وقيل : إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت. وقيل : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج

__________________

(١). النساء : ٧٨.

٦١

فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي ، على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه. وقيل : المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو ، أي : لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو. وقيل : كان الرجل إذا أدخل أحدا من هؤلاء الزمنى إلى بيته فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته ، فيتحرج الزمنى من ذلك فنزلت. ومعنى قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين (أَنْ تَأْكُلُوا) أنتم ومن معكم ، وهذا ابتداء كلام ، أي : ولا عليكم أيها الناس. والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء ، أو دخول بيوتهم فيكون (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) متصلا بما قبله ، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض ، فقوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ابتداء كلام غير متصل بما قبله. ومعنى (مِنْ بُيُوتِكُمْ) البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الأولاد كذا قال المفسّرون ، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته ، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد ، وذكر بيوت الآباء ، وبيوت الأمهات ، ومن بعدهم. قال النحاس : وعارض بعضهم هذا فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء. ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد ، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث «أنت ومالك لأبيك» وحديث «ولد الرجل من كسبه» ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات ، بل بيوت الأعمام والعمات ، بل بيوت الأخوال والخالات ، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم. وقال آخرون : لا يشترط الإذن. قيل : وهذا إذا كان الطعام مبذولا ، فإن كان محرزا دونهم لم يجز لهم أكله. ثم قال سبحانه : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي : البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها ، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزّان ، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه. وقيل : المراد بها بيوت المماليك. قرأ الجمهور (مَلَكْتُمْ) بفتح الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها. وقرأ أيضا «مفاتيحه» بياء بين التاء والحاء. وقرأ قتادة (مَفاتِحَهُ) على الإفراد ، والمفاتح : جمع مفتح ، والمفاتيح : جمع مفتاح (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة ، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه ، والصديق يطلق على الواحد والجمع ، ومنه قول جرير :

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا

بأسهم أعداء وهنّ صديق

ومثله العدوّ والخليط والقطين والعشير ، ثم قال سبحانه : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) من بيوتكم (جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) انتصاب جميعا وأشتاتا على الحال. والأشتات : جمع شتّ ، والشتّ المصدر : بمعنى التفرّق ، يقال شتّ القوم ، أي : تفرقوا ، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله ، أي : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين ، وقد كان بعض العرب يتحرّج

٦٢

أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا يؤاكله فيأكل معه ، وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف ، ومنه قول حاتم :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) هذا شروع في بيان أدب آخر أدّب به عباده ، أي : إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدّم ذكرها (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم. وقيل : المراد البيوت المذكورة سابقا. وعلى القول الأوّل ، فقال الحسن والنخعي : هي المساجد ، والمراد سلموا على من فيها من صنفكم ، فإن لم يكن في المساجد أحد ، فقيل يقول : السلام على رسول الله ، وقيل يقول : السلام عليكم مريدا للملائكة ، وقيل يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال بالقول الثاني : أعني أنها البيوت المذكورة سابقا جماعة من الصحابة والتابعين ، وقيل : المراد بالبيوت هنا هي كلّ البيوت المسكونة وغيرها ، فيسلم على أهل المسكونة ، وأما على غير المسكونة فيسلم على نفسه. قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح ، وانتصاب (تَحِيَّةً) على المصدرية ، لأن قوله فسلموا معناه فحيوا ، أي : تحية ثابتة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : إن الله حياكم بها. وقال الفرّاء : أي : إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له ، ثم وصف هذه التحية فقال : (مُبارَكَةً) أي : كثيرة البركة والخير ، دائمتهما (طَيِّبَةً) أي : تطيب بها نفس المستمع ، وقيل : حسنة جميلة. وقال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب ، ثم كرّر سبحانه فقال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) تأكيدا لما سبق. وقد قدّمنا أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعاما ، فقالت أسماء : يا رسول الله! ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها ، وهما في ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن ، فأنزل الله في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : العبيد والإماء (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال : من أحراركم من الرجال والنساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في هذه الآية قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ، ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن. وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العورات الثلاث ، فقال : إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم ، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن ، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ، ومن قبل صلاة الصّبح». وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب عن عبد الله بن سويد من قوله. وأخرج نحوه أيضا ابن سعد عن سويد بن النعمان. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن ، وإني لآمر جاريتي هذه ، ـ لجارية قصيرة قائمة على رأسه ـ أن تستأذن عليّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ،

٦٣

قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، والآية التي في سورة النساء (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية ، والآية التي في الحجرات (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١). وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة ، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك. ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن ، وهو قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) فأما من بلغ الحلم ، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال ، وهو قوله (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وأخرج أبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن بسند صحيح من طريق عكرمة عنه أيضا : أن رجلا سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : «إنّ الله ستير يحب الستر» وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم ، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط عليهم في الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال : هي على الذكور دون الإناث ، ولا وجه لهذا التخصيص ، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذن علينا. وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال : هي في النساء خاصة ، الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال : لا. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس أأستأذن على أختي؟ قال : نعم ، قلت : إنها في حجري وإني أنفق عليها ، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال : نعم. إن الله يقول : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) الآية ، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هؤلاء العورات الثلاث ، قال : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر نحوه. وأخرج ابن جرير والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار أن رجلا قال : «يا رسول الله! أأستأذن على أمّي؟ قال : نعم ، قال : إني معها في البيت ، قال : أستأذن عليها ، قال : إني خادمها

__________________

(١). الحجرات : ١٣.

٦٤

أفأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال : أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال لا ، قال : فاستأذن عليها» وهو مرسل. وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أيضا مرسل. وأخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) الآية ، فنسخ واستثنى من ذلك (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار ، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله ، وهو قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ). وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي عن ابن عباس أنه كان يقرأ «أن يضعن من ثيابهنّ» ويقول : هو الجلباب. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) قال : الجلباب والرداء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون إنه لا يبصر موضع الطعام ، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون الصحيح يسبقه إلى المكان ولا يستطيع أن يزاحم ، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح ، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) يعني : في الأكل مع الأعمى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته ، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه ، فكانوا يقولون إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس ، وإنما نحن زمنى ، فأنزل الله (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا) إلى قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكفّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) إلى قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته ، والذي رخص الله : أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن ، وكانوا أيضا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان أهل المدينة

__________________

(١). النساء : ٢٩.

٦٥

قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا؟ أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، يقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون لا ندخلها وهم غيب. فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجل يسوق الزود الحفّل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كان الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم ، فنزلت رخصة لهم. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية ، قال خرج الحارث غازيا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلف على أهله خالد بن يزيد ، فحرج أن يأكل من طعامه ، وكان مجهودا فنزلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته ، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قال : هذا شيء قد انقطع ، إنما كان هذا في أوّله ولم يكن لهم أبواب ، وكانت الستور مرخاة ، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله. وقال : ذهب ذلك ، اليوم البيوت فيها أهلها ، فإذا خرجوا أغلقوا ، فقد ذهب ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) يقول : إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو السلام ، لأنه اسم الله ، وهو تحية أهل الجنة. وأخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله (مُبارَكَةً طَيِّبَةً). وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) قال : هو المسجد إذا دخلته فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن ابن عمر قال : إذا دخل البيت غير المسكون ، أو المسجد فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

٦٦

يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

جملة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدّمها من الأحكام ، و «إنما» من صيغ الحصر ، والمعنى : لا يتمّ إيمان ولا يكمل حتى يكون (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وجملة (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) معطوفة على آمنوا داخلة في حيز الصلة ، أي : إذا كانوا مع رسول الله على أمر جامع ، أي : على أمر طاعة يجتمعون عليها ، نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد ، وأشباه ذلك ، وسمى الأمر جامعا : مبالغة (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) قال المفسرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن يشاء منهم. قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده. قال الزجاج : أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه ، وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على ما يرى لقوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) وقرأ اليماني : على أمر جميع. والحاصل أن الأمر الجامع ، أو الجميع ، هو الذي يعمّ نفعه أو ضرره ، وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب. قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، ثم قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فبين سبحانه أن المستأذنين : هم المؤمنون بالله ورسوله ، كما حكم أوّلا بأن المؤمنين الكاملي الإيمان : هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي : إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض الأمور التي تهمّهم ، فإنه يأذن لمن شاء منهم ، ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم ، وفيه إشارة إلى أن الاستئذان إن كان لعذر مسوّغ ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، أي : لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض ، في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة أو الرجوع بغير استئذان ، أو رفع الصوت. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : المعنى قولوا : يا رسول الله! في رفق ولين ، ولا تقولوا : يا محمد بتجهّم. وقال قتادة : أمرهم أن يشرّفوه ويفخموه. وقيل المعنى : لا تتعرّضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه ، فإن دعوته موجبة (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) التسلل : الخروج في خفية ، يقال تسلل فلان من بين أصحابه : إذا خرج من بينهم ، واللواذ من الملاوذة ، وهو أن تستتر بشيء ، مخافة من يراك ، وأصله أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا ، واللوذ ما يطيف بالجبل ، وقيل : اللواذ الزوغان من شيء إلى شيء في خفية. وانتصاب لواذا على الحال ، أي : متلاوذين ، يلوذ بعضهم ببعض ، وينضمّ إليه ، وقيل :

٦٧

هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة ، أي : يلوذون لواذا. وقرأ زيد بن قطيب (لِواذاً) بفتح اللام. وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين ، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ، ينضم بعضهم إلى بعض استتارا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين ، لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة ، فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية ، ويستتر بعضهم ببعض ، وينضم إليه. وقيل اللواذ : الفرار من الجهاد وبه قال الحسن ، ومنه قول حسان :

وقريش تجول منّا لواذا

لم تحافظ وخفّ منها الحلوم

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : يخالفون أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك العمل بمقتضاه ، وعدّى فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّيا بنفسه ، لتضمينه معنى الإعراض أو الصدّ ، وقيل : الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة ، و (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) مفعول يحذر ، وفاعله : الموصول. والمعنى : فليحذر المخالفون عن أمر الله ، أو أمر رسوله ، أو أمرهما جميعا ، إصابة فتنة لهم (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : في الآخرة ، كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم ، هي في الدنيا ، وكلمة أو لمنع الخلوّ. قال القرطبي : احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية. ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الآية ، فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته ، والفتنة هنا : غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن ، وقيل : هي القتل ، وقيل : الزلازل ، وقيل : تسلط سلطان جائر عليهم ، وقيل : الطبع على قلوبهم. قال أبو عبيدة والأخفش : عن في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه : ليست بزائدة ، بل هي بمعنى بعد ، كقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١) أي : بعد أمر ربه ، والأولى : ما ذكرناه من التضمين (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من المخلوقات بأسرها ، فهي ملكه : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها ، فيجازيكم بحسب ذلك ، ويعلم هاهنا : بمعنى علم (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) معطوف على ما أنتم عليه ، أي : يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم ترجعون إليه فيجازيكم فيه بما عملتم ، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه ، لأن العلم بوقت وقوع الشيء ، يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي : يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر ، والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالهم.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة : بئر بالمدينة ، قائدها أبو سفيان ، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه المسلمون ، وأبطأ رجال من المنافقين ، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل ، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١). الكهف : ٥٠.

٦٨

ولا إذن ، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له ، فإذا قضى حاجته رجع ، فأنزل الله في أولئك (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : هي في الجهاد والجمعة والعيدين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) قال : من طاعة الله عام. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ) الآية قال : يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه ، ولكن وقروه وقولوا له : يا رسول الله! يا نبيّ الله!. وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضا في الآية قال : لا تصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم ، ولكن كما قال الله في الحجرات (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (١). وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل ، قال : كان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بيده ، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج. فأنزل الله (الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) الآية. وأخرج أبو عبيد في فضائله والطبراني ـ قال السيوطي بسند حسن ـ عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور ـ وهو جاعل إصبعيه تحت عينيه ـ يقول : بكل شيء بصير.

* * *

__________________

(١). الحجرات : ٣.

٦٩

سورة الفرقان

وهي مكية كلها في قول الجمهور ، وكذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير. قال القرطبي : وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة. وهي : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآيات. وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حيان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله ، أقرئنا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت» : ثم قال : «أقرئنا عمر» ، فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت. إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسّر منه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة ، ثم في المعاد ، لأنه الخاتمة. وأصل تبارك : مأخوذ من البركة ، وهي النماء والزيادة ، حسية كانت أو عقلية. قال الزجاج : تبارك تفاعل ، من البركة. قال : ومعنى البركة : الكثرة من كل ذي خير ، وقال الفراء : إن تبارك وتقدّس في العربية واحد ، ومعناهما : العظمة. وقيل المعنى : تبارك عطاؤه ، أي : زاد وكثر ، وقيل المعنى : دام وثبت. قال النحاس : وهذا أولاها في اللغة ، والاشتقاق من برك الشيء : إذا ثبت ، ومنه : برك الجمل ، أي : دام وثبت. واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة ، وليس من ذا في شيء. قال العلماء :

٧٠

هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه ، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي ، والفرقان : القرآن ، وسمى فرقانا ، لأنه يفرق بني الحقّ والباطل بأحكامه ، أو بين المحق والمبطل ، والمراد بعبده نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم علل التنزيل (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال ، والمراد : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الفرقان ، والمراد بالعالمين هنا : الإنس والجنّ ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل إليهما ، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلا إلى الثقلين ، والنذير : المنذر ، أي : ليكون محمد منذرا ، أو ليكون إنزال القرآن منذرا ، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة ، أي : ليكون إنزاله إنذارا ، وجعل الضمير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى ، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ، ومن القرآن مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور. وقيل : إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع : الأولى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون غيره فهو المتصرّف فيهما ، ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلا ، أو بيانا للموصول الأوّل ، والوصف أولى ، وفيه تنبيه على افتقار الكلّ إليه في الوجود وتوابعه من البقاء وغيره. والصفة الثانية : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وفيه ردّ على النصارى واليهود. والصفة الثالثة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وفيه ردّ على طوائف المشركين من الوثنية ، والثنوية ، وأهل الشرك الخفي. والصفة الرابعة : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الموجودات (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي : قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد ، وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي : قال المفسرون : قدر له تقديرا من الأجل والرزق ، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل : أريد بالخلق هنا مجرّد الإحداث ، والإيجاد مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر ، فيكون المعنى : أوجد كل شيء فقدّره لئلا يلزم التكرار ، ثم صرّح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدّم لهم ذكر ، لدلالة نفي الشريك عليهم ، أي : اتخذ المشركون لأنفسهم ـ متجاوزين الله ـ آلهة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) والجملة في محل نصب : صفة لآلهة ، أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء ، وغلب العقلاء على غيرهم ، لأن في معبودات الكفار : الملائكة ، وعزير ، والمسيح (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : يخلقهم الله سبحانه. وقيل : عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جريا على اعتقاد الكفار أنها تضرّ وتنفع. وقيل : معنى (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أن عبدتهم يصوّرونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة ، وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ولا يدفعوا عنها ضررا ، وقدّم ذكر الضرّ لأن دفعه أهمّ من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع ، فيما يتعلق بأنفسهم ، فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) أي : لا يقدرون على إماتة الأحياء ، ولا إحياء الموتى ، ولا بعثهم من القبور ، لأن النشور : الإحياء بعد الموت ، يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، ومنه قول الأعشى :

حتّى يقول الناس ممّا رأوا

يا عجبا للميّت الناشر

__________________

(١). الإسراء : ٩.

٧١

ولما فرغ من بيان التوحيد ، وتزييف مذاهب المشركين ، شرع في ذكر شبه منكري النبوّة. فالشبهة الأولى : ما حكاه عنهم بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) أي : كذب (افْتَراهُ) أي : اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإشارة بقوله هذا : إلى القرآن (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي : على الاختلاق (قَوْمٌ آخَرُونَ) يعنون من اليهود. قيل وهم : أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي ، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى ، وجبر مولى ابن عامر ، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود ، وقد مرّ الكلام على مثل هذا في النحل. ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي : فقد قالوا ظلما هائلا عظيما وكذبا ظاهرا ، وانتصاب ظلما بجاؤوا ، فإن جاء : قد يستعمل استعمال أتى ، ويعدّى تعديته. وقال الزجاج : إنه منصوب بنزع الخافض ، والأصل ، جاءوا بظلم. وقيل : هو منتصب على الحال ، وإنما كان ذلك منهم ظلما لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الظلم ، وأما كون ذلك منهم زورا فظاهر ، لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة. ثم ذكر الشبهة الثانية فقال : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديث الأوّلين ، وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج : واحد الأساطير : أسطورة ، مثل : أحاديث ، وأحدوثة ، وقال غيره : أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال (اكْتَتَبَها) أي : استكتبها أو كتبها لنفسه ، ومحل اكتتبها : النصب على أنه حال من أساطير ، أو محله الرفع على أنه خبر ثان ، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه أساطير الأوّلين اكتتبها ، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ ، واكتتبها خبره ، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب ، وهو الجمع ، لا من الكتابة بالقلم. والأوّل : أولى. وقرأ طلحة (اكْتَتَبَها) مبنيا للمفعول ، والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى ضمير فصار اكتتبها إياه ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه ، فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا ، كذا قال في الكشاف ، واعترضه أبو حيان (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي : تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه ، ويجوز أن يكون المعنى اكتتبها أراد اكتتابها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) لأنه يقال : أمليت عليه فهو يكتب (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) غدوة وعشيا كأنهم قالوا : إن هؤلاء يعلمون محمدا طرفي النهار ، وقيل : معنى بكرة وأصيلا : دائما في جميع الأوقات ، فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم ، وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأوّلين ، بل هو أمر سماويّ أنزله الذي يعلم كلّ شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه ، وخصّ السرّ للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر ، والسرّ : الغيب ، أي : يعلم الغيب الكائن فيهما ، وجملة (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل لتأخير العقوبة ، أي : إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله والظلم له ، فإنه لا يعجل عليكم بذلك ، لأنه كثير المغفرة والرحمة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (تَبارَكَ) تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد

٧٢

وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) قال يهود (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) قال : كذبا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) هو القرآن ، فيه حلاله وحرامه ، وشرائعه ودينه ، وفرق الله بين الحق والباطل (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) قال : بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذيرا من الله لينذر الناس بأس الله ، ووقائعه بمن خلا قبلكم (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) قال : بين لكل شيء من خلقه صلاحه ، وجعل ذلك بقدر معلوم (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) قال : هي الأوثان التي تعبد من دون الله (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وهو الله الخالق الرزاق ، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئا ولا تضرّ ولا تنفع ، ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا : يعني بعثا (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا قول مشركي العرب (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) هو الكذب (افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي : على حديثه هذا ، وأمره (قَوْمٌ آخَرُونَ) ، (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) كذب الأوّلين وأحاديثهم.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ، ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسموه رسولا استهزاء وسخرية (يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي : ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردّد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردّد ، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الطعام والكسب ، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء ، والاستفهام للاستنكار ، وخبر المبتدأ لهذا الرسول ، وجملة يأكل في محل نصب على الحال ، وبها تتمّ فائدة الإخبار كقوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١) والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقيق المسبب ، وهو الأكل والمشي ، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكما واستهزاء. والمعنى : أنه إن صحّ ما يدّعيه من النبوّة فما باله لم يخالف حاله حالنا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ

__________________

(١). المدثر : ٤٩.

٧٣

نَذِيراً) طلبوا أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصحوبا بملك يعضده ويساعده ، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملكا مستغنيا عن الأكل والكسب ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدّقه ويشهد له بالرسالة. قرأ الجمهور (فَيَكُونَ) بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ «فيكون» بالرفع على أنه معطوف على أنزل ، وجاز عطفه على الماضي لأنه المراد به المستقبل (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) معطوف على أنزل ، ولا يجوز عطفه على فيكون ، والمعنى : أو هلا يلقى إليه كنز ، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء ليستغنى به عن طلب الرزق (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) قرأ الجمهور (تَكُونُ) بالمثناة الفوقية ، وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالتحتية ، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ «نأكل» بالنون حمزة وعليّ وخلف ، وقرأ الباقون (يَأْكُلُ) بالمثناة التحتية ، أي : بستان نأكل نحن من ثماره ، أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس : والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين ، لأنه قد تقدّم ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، فعود الضمير إليه بين (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) المراد بالظالمون هنا : هم القائلون بالمقالات الأولى ، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به ، أي : ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر ، وقيل : ذا سحر ، وهي الرئة ، أي : بشرا له رئة لا ملكا ، وقد تقدّم بيان مثل هذا في سبحان (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ليتوصلوا بها إلى تكذيبك ، والأمثال : هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة ، وهي ما ذكروه هاهنا (فَضَلُّوا) عن الصواب فلا يجدون طريقا إليه ، ولا وصلوا إلى شيء منه ، بل جاءوا بهذه المقالات التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزا ، ولهذا قال : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي : لا يجدون إلى القدح في نبوّة هذا النبيّ طريقا من الطرق (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلا خيرا من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير فقال : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فجنات بدل من خيرا (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) معطوف على موضع جعل ، وهو الجزم ، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع (يَجْعَلْ) على أنه مستأنف ، وقد تقرّر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرئ بالنصب. وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين. وقرئ بترك الإدغام لأن الكلمتين منفصلتان ، والقصر : البيت من الحجارة ، لأن الساكن به مقصور على أن يوصل إليه ، وقيل : هو بيت الطين وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه على توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله. وهو تكذيبهم بالساعة ، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها. ثم ذكر سبحانه ما أعدّه لمن كذب بالساعة فقال : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) أي : نارا مشتعلة متسعرة ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : بل كذبوا بالساعة ، والحال أنا أعتدنا. قال أبو مسلم : أعتدنا ، أي : جعلناه عتيدا ومعدّا لهم (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها

٧٤

تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار ، قيل : معنى إذا رأتهم : إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد ، وقيل المعنى : إذا رأتهم خزنتها ، وقيل : إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ والزفير ، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم ، قيل : بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ : أن لها صوتا يدل على التغيظ على الكفار ، أو لغليانها صوتا يشبه صوت المغتاظ. والزفير : هو الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج : المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت ، أي : سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. وقال قطرب : أراد علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ، كما قال الشاعر : متقلدا سيفا ورمحا ، أي : وحاملا رمحا ، وقيل المعنى : سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين كما قال : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١) وفي واللام متقاربان ، تقول : افعل هذا في الله (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة وتناهي البلاء عليهم ، وانتصاب (مُقَرَّنِينَ) على الحال ، أي : إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين ، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع ، مصفّدين بالحديد ، وقيل : مكتفين ، وقيل : قرنوا مع الشياطين ، أي : قرن كل واحد منهم إلى شيطانه ، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم (دَعَوْا هُنالِكَ) أي : في ذلك المكان الضيق (ثُبُوراً) أي : هلاكا. قال الزجاج : وانتصابه على المصدرية ، أي : ثبرنا ثبورا ، وقيل : منتصب على أنه مفعول له ، والمعنى : أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما حلّ بهم من البلاء ، فأجيب عليهم بقوله : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي : فيقال لهم هذه المقالة ، والقائل لهم هم الملائكة ، أي : اتركوا دعاء ثبور واحد ، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم ، كذا قال الزجاج : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) والثبور : مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع ، ومثله : ضربته ضربا كثيرا ، وقعد قعودا طويلا ، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به ، لا بحسب كثرته في نفسه ، فإنه شيء واحد. والمعنى : لا تدعوا على أنفسكم بالثبور واحدا وادعوه أدعية كثيرة ، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه ، وقيل : هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك ، من غير أن يكون هناك فول ، وقيل : إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع ، والأولى : أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه. ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخا بالغا على لسان رسوله فقال : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) والإشارة بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة ، أي : أتلك السعير خير أم جنة الخلد ، وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه ، ومعنى (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) التي وعدها المتقون ، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلا ، لأن العرب قد تقول ذلك ، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون : السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة؟ وقيل : ليس هذا من باب التفضيل ، وإنما هو كقولك : عنده خير. قال النحاس : وهذا قول حسن كما قال :

__________________

(١). هود : ١٠٦.

٧٥

أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخيركما الفداء

ثم قال سبحانه : (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي : كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم ومصيرا يصيرون إليه (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي : ما يشاءونه من النعيم ، وضروب الملاذ ، كما في قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) (١) وانتصاب خالدين على الحال ، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي : كان ما يشاءونه ، وقيل : كان الخلود ، وقيل : كان الوعد المدلول عليه بقوله : وعد المتقون ، ومعنى الوعد المسؤول : الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (٢) وقيل : إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله : (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) (٣) وقيل : المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر ابن الحارث وأبا البختري والأسود عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله ابن أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه ، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، قال : فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا ، جمعنا لك من أموالنا ، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسوّدك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بي ممّا تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشّرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل عليّ كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلّغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم ؛ قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك ، أو قالوا : فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضّة تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربّك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربّه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكنّ الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فأنزل الله في ذلك (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ). (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي : جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبيّ قبلك ، ولا نعطها أحدا بعدك ، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئا ، وإن شئت

__________________

(١). فصلت : ٣١.

(٢). آل عمران : ١٩٤.

(٣). غافر : ٨.

٧٦

جمعتها لك في الآخرة ، فقال : اجمعها لي في الآخرة ، فأنزل الله سبحانه (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً). وأخرج نحوه عن ابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يقل عليّ ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا ، قيل : يا رسول الله! وهل لها من عينين؟ قال : نعم ، أما سمعتم يقول : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)». وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال : من مسيرة مائة عام ، وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، يشدّ بكل زمام سبعون ألف ملك ، لو تركت لأتت على كل برّ وفاجر (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا بدت ، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ القلوب الحناجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قول الله (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قال : «والذي نفسي بيده إنّهم ليستكرهون في النّار كما يستكره الوتد في الحائط». وأخرج ابن جرير وابن أبي المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) قال : ويلا (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) يقول : لا تدعوا اليوم ويلا واحدا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أوّل من يكسى حلته من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذرّيته من بعده ، وهو ينادي : يا ثبوراه! ويقولون : يا ثبورهم! حتى يقف على الناس فيقول : يا ثبوراه! ويقولون : يا ثبورهم! فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا». وإسناد أحمد هكذا. حدّثنا عفان عن حميد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وفي عليّ بن زيد بن جدعان مقال معروف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يقول : سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

٧٧

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الظرف منصوب بفعل مضمر ، أي : واذكر ، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مرّ مرارا. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوريّ «يحشرهم» بالياء التحتية ، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أوّل الكلام (كانَ عَلى رَبِّكَ) والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج فإنه قرأ «نحشرهم» بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدى أقيس من يفعل بضمها ، وردّه أبو حيان باستواء المضموم والمكسور إلا أن يشتهر أحدهما ؛ اتّبع (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) معطوف على مفعول نحشر ، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيها على أنها جميعا مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة ، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها ، فغلبت اعتبارا بكثرة من يعبدها ، وقال مجاهد وابن جريج : المراد الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير ، بدليل خطابهم ، وجوابهم فيما بعد. وقال الضحاك وعكرمة والكلبي : المراد الأصنام خاصة ، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة ، (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) قرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن كثير وحفص «فنقول» بالنون ، وقرأ الباقون بالياء التحتية ، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم ، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله : أأنتم أضللتم للتوبيخ والتقريع. والمعنى : أكان ضلالهم بسببكم ، وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم ، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب وجملة (قالُوا سُبْحانَكَ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ومعنى سبحانك : التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة أو أنبياء معصومين ، أو جمادات لا تعقل ، أي : تنزيها لك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي : ما صح ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم ، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك ، والوليّ يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع ، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور نتخذ مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر «نتخذ» مبنيا للمفعول ، أي : ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر : لا تجوز هذه القراءة ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال أبو عبيدة : لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر «من» مرتين ، ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل : إن «من» الثانية زائدة. ثم حكى عنهم سبحانه بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل ، ولم يضلهم غيرهم ، والمعنى : ما أضللناهم ، ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم ، ووسعت عليهم الرزق ، وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ، ونسوا موعظتك ، والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك ، وغرائب مخلوقاتك. وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ «ينبغي» مبنيا للمفعول. قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنها لغة. وقيل : المراد بنسيان الذكر هنا هو ترك الشكر (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي : وكان هؤلاء الذين أشركوا بك وعبدوا غيرك

٧٨

في قضائك الأزليّ قوما بورا ، أي : هلكى ، مأخوذ من البوار وهو الهلاك ؛ يقال : رجل بائر وقوم بور ، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل : البوار : الفساد. يقال : بارت بضاعته ، أي : فسدت ، وأمر بائر ، أي : فاسد وهي لغة الأزد. وقيل : المعنى : لا خير فيهم ، مأخوذ من بور الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير ، وقيل : إن البوار الكساد ، ومنه بارت السلعة إذا كسدت (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) في الكلام حذف ، والتقدير : فقال الله عند تبري المعبودين مخاطبا للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم ، أي : فقد كذبكم المعبودون بما تقولون ، أي : في قولكم إنهم آلهة (فَما تَسْتَطِيعُونَ) أي : الآلهة (صَرْفاً) أي : دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه ، وقيل : حيلة (وَلا نَصْراً) أي : ولا يستطيعون نصركم ، وقيل : المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفا للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصرا من الله ، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ «تستطيعون» بالفوقية وهي قراءة حفص ، وقرأ الباقون بالتحتية. وقال ابن زيد : المعنى : فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا فمعنى بما تقولون : ما تقولون : ما تقولونه من الحق. وقال أبو عبيد : المعنى فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم إليه ، ولا نصرا لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور «بما تقولون» بالتاء الفوقية على الخطاب. وحكى الفراء أنه يجوز أن يقرأ «فقد كذبوكم» مخففا بما يقولون ، أي : كذبوكم في قولهم وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد والبزي (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحته الذي فيهم السياق دخولا أوليا ، والعذاب الكبير عذاب النار ، وقرئ «يذقه» بالتحتية ، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة. ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحا لبطلان ما تقدّم من قوله : يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فقال : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) قال الزجاج : الجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف ، والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله من المرسلين دليلا عليه ، نظيره ـ وما منا إلا له مقام معلوم ـ أي : وما منا أحد. وقال الفراء : لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ، والتقدير : إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة ، ومثله قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) أي : إلا من يردها ، وبه قرأ الكسائي. قال الزجاج : هذا خطأ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري : إنها في محل نصب على الحال ، والتقدير : إلا وأنهم ، فالمحذوف عنده الواو. قرأ الجمهور «إلا إنهم» بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو ، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس : إلا أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجوز في إنّ هذه الفتح وإن كن بعدها اللام وأحسبه وهما. وقرأ الجمهور. «يمشون» بفتح الياء وسكون الميم ، وتخفيف الشين. وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة ، وهي بمعنى القراءة الأولى ، قال الشاعر :

__________________

(١). مريم : ٧١.

٧٩

ومشّى بأعطان المباءة وابتغى

قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير :

منه تظلّ سباع الجوّ ضامزة

ولا تمشّى بواديه الأراجيل (١)

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) هذا الخطاب عامّ للناس ، وقد جعل سبحانه بعض عبيدة فتنة لبعض فالصحيح فتنة للمريض والغنيّ فتنة للفقير وقيل : المراد بالبعض الأوّل : كفار الأمم ، وبالبعض الثاني : الرسل ، ومعنى الفتنة : الابتلاء والمحنة. والأوّل أولى ، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به ؛ فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة ، والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره ، والغنيّ مبتلى بالفقير يواسيه ، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده ، ونحو هذا مثله. وقيل : المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده. فيكون له عليّ السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ، ذلك افتتان بعضهم لبعض ، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا ، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة (أَتَصْبِرُونَ) هذا الاستفهام للتقرير ، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون ، أي : أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم. قيل : موقع هذه الجملة الاستفهامية هاهنا موقع قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٢) ثم وعد الصابرين بقوله : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي : بكل من يصير ومن لا يصبر ، فيجازي كلا منهما بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون : اصبروا مثل قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٣) أي : انتهوا (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة ، والجملة معطوفة على (وَقالُوا ما لِهذَا) أي : وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر :

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما

على أيّ جنب كان في الله مصرعي

أي لا أبالي ، وقيل : المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل

أي : لم يخف ، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف ، وقيل : لا يأملون ، ومنه قول الشاعر :

أترجو أمة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب

والحمل على المعنى الحقيقي أولى ، فالمعنى : لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب ، ومعلوم

__________________

(١). الجوّ : البر الواسع. وضامزة : ساكتة ، وكل ساكت فهو ضامز. والأراجيل : جمع أرجال ، وأرجال جمع رجل.

يصف الشاعر أسدا ؛ بأن الأسود والرّجال تخافه.

(٢). هود : ٧.

(٣). المائدة : ٩١.

٨٠