فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

أخرى مما قالوا فقال : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المؤمنين بالله الموحدين له ، المحسنين في أعمالهم ، وانتصاب أكون : إما لكونه معطوفا على كرّة فإنها مصدر وأكون في تأويل المصدر : كما في قول الشاعر :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

وأنشد الفرّاء على هذا :

فما لك منها غير ذكرى وخشية

وتسأل عن ركبانها أين يمّموا

وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً). ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية المتعللة بغير علة فقال : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ). المراد بالآيات : هي الآيات التنزيلية وهو القرآن ، ومعنى التكذيب بها قوله : إنها ليست من عند الله وتكبر عن الإيمان بها ، وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله. وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله : جاءتك وكذّبت واستكبرت وكنت ، لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد : تقول العرب نفس واحد ، أي : إنسان واحد ، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور. وقرأ الجحدري ، وأبو حيوة ، ويحيى ابن يعمر بكسرها في جميعها ، وهي قراءة أبي بكر ، وابنته عائشة ، وأمّ سلمة ، ورويت عن ابن كثير (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي : ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولدا وجوههم مسودّة لما أحاط بهم من العذاب ، وشاهدوه من غضب الله ونقمته ، وجملة «وجوههم مسودّة» في محل نصب على الحال. قال الأخفش : ترى غير عامل في وجوههم مسوّدة ، إنما هو مبتدأ وخبر ، والأولى أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية ، فجملة «وجوههم مسودّة» حالية ، وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى ، والاستفهام في قوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) للتقرير ، أي : ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله ، والكبر هو بطر الحقّ وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : اتقوا الشرك ومعاصي الله ، والباء في (بِمَفازَتِهِمْ) متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول ، أي : متلبسين بمفازتهم. قرأ الجمهور بمفازتهم بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز : الظفر بالخير ، والنجاة من الشرّ. قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة ، وإن جمع فحسن : كقولك السعادة والسعادات. والمعنى ينجيهم الله بفوزهم ، أي : بنجاتهم من النار ، وفوزهم بالجنة. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر بمفازاتهم جمع مفازة ، وجمعها مع كونها مصدر لاختلاف الأنواع ، وجملة (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) في محل نصب على الحال من الموصول ، وكذلك جملة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في محل نصب على الحال : أي ينفي السوء والحزن عنهم ويجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية ، أي : بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم ، وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله ، وأمنوا من عقابه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت (قُلْ يا

٥٤١

عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية في مشركي أهل مكة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئا ، عرفوا الله وآمنوا به وصدّقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولونه لأنفسهم ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أنزل الله فيهم (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآيات ؛ قال ابن عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعد قال : لما أسلم وحشي أنزل الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١) قال وحشيّ وأصحابه : قد ارتكبنا هذا كله ، فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال : «خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدّثون فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ثم انصرف وأبكى القوم ، وأوحى الله إليه : يا محمد لم تقنط عبادي؟ فرجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أبشروا وسدّدوا وقاربوا». وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن افتتن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك. وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ثوبان : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الآية ، فقال رجل ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات». وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم ، وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم». وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مرّ على قاض يذكر الناس فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ، ثم قرأ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال عليّ : أيّ آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) (٢) الآية ونحوها ، فقال عليّ : ما في القرآن أوسع من (يا عِبادِيَ) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ، ومن زعم أن عزيرا ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث لهؤلاء (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء من (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٣) وقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٤) قال ابن عباس ؛ ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،

__________________

(١). الفرقان : ٦٨.

(٢). النساء : ١١٠.

(٣). النازعات : ٢٤.

(٤). القصص : ٣٨.

٥٤٢

وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا ، وعلمهم قبل أن يعلموا.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائنا ما كان من غير فرق بين شيء وشيء ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في الأنعام (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه كأساطير ، وهي مفاتيح السموات والأرض ، والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث : المقلاد الخزانة ، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض ، وبه قال الضحاك والسدّي. وقيل : خزائن السموات : المطر ، وخزائن الأرض : النبات. وقيل : هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها ، والأوّل أولى. قال الجوهري : الإقليد المفتاح ، ثم قال : والجمع مقاليد ، وقيل : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وقيل : غير ذلك (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده ، ومعنى الخاسرون : الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) الاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، وغير منصوب بأعبد ، وأعبد معمول لتأمروني على تقدير أن المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها ، والأصل : أفتأمروني أن أعبد غير الله. قاله الكسائي وغيره. ويجوز أن يكون غير : منصوبا بتأمروني ، وأعبد : بدل منه بدل اشتمال ، وأن مضمرة معه أيضا. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر ، أي : أفتلزموني غير الله ، أي : عبادة غير الله ، أو أعبد غير الله أعبد. أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام ، وقالوا هو

٥٤٣

دين آبائك. قرأ الجمهور «تأمرونّي» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها. وقرأ نافع «تأمروني» بنون خفيفة وفتح الياء ، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بالفك وسكون الياء (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : من الرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل ، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك ، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير ، والإنذار للعباد من الشرك ، لأنه إذا كان موجبا لإحباط عمل الأنبياء على الفرض ، والتقدير : فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى. قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ولقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. قال مقاتل : أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف ، قال : لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك ، وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقيل إفراد الخطاب في قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) باعتبار كل واحد من الأنبياء ، كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام ، وهو لئن أشركت ، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (١) وقيل : هذا خاص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنبا من الشرك من غيرهم ، والأوّل أولى ، ثم أمر الله سبحانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوحيده ، فقال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) وفي هذا ردّ على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام ، ووجه الردّ ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج : لفظ اسم الله منصوب باعبد قال : ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال الفراء : هو منصوب بإضمار فعل ، وروي مثله عن الكسائي ، والأوّل أولى. قال الزجاج : والفاء في فاعبد للمجازاة. وقال الأخفش : زائدة. قال عطاء ومقاتل معنى فاعبد : وحد ، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال المبرد : أي عظموه حق عظمته ، من قولك فلان عظيم القدر ، وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وعيسى بن عمر قدّروا بالتشديد (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك ، فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون : هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرّف فيه وإن لم يقبض عليه ، وكذا قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه ، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته ، نحو قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (٢) أي : ما كانت لكم قدرة عليه ، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد ، ومنه قوله سبحانه : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٣) أي : بالقوّة والقدرة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما راية نصبت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

__________________

(١). البقرة : ٢١٧.

(٢). النساء : ٣.

(٣). الحاقة : ٤٥.

٥٤٤

وقول الآخر :

ولمّا رأيت الشمس أشرق نورها

تناولت منها حاجتي بيمين

وقول الآخر :

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثّريّا قاعدا غير قائم

وجملة (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) في محل نصب على الحال ، أي : ما عظموه حق تعظيمه ، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع «قبضته» على أنها خبر المبتدأ ، وقرأ الحسن بنصبها ، ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية : وقرأ الجمهور «مطويّات» بالرفع على أنها خبر المبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها ، وبيمينه متعلق بمطويات ، أو حال من الضمير في مطويات أو خبر ثان ، وقرأ عيسى والجحدري بنصب «مطويات» ، ووجه ذلك أن السموات معطوفة على الأرض ، وتكون قبضته خبرا عن الأرض والسموات ، وتكون مطويات حالا ، أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدّر ، وبيمينه الخبر ، وخصّ يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة ، لأن الدعاوى تنقطع فيه كما قال سبحانه : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١) وقال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٢) ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) هذه هي النفخة الأولى ، والصور : هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، وقد تقدّم غير مرة ، ومعنى صعق : زالت عقولهم فخرّوا مغشيا عليهم ، وقيل : ماتوا. قال الواحدي : قال المفسرون مات من الفزع ؛ وشدة الصوت أهل السموات والأرض. قرأ الجمهور (الصُّورِ) بسكون الواو ، وقرأ قتادة وزيد بن علي بفتحها جمع صورة ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) متصل ، والمستثنى جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وقيل : رضوان ، وحملة العرش ، وخزنة الجنة والنار (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) يجوز أن يكون أخرى في محل رفع على النيابة وهي صفة لمصدر محذوف ، أي : نفخة أخرى ، ويجوز أن يكون في محل نصب والقائم مقام الفاعل فيه (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) يعني الخلق كلهم على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم ، أو ينتظرون ذلك. قرأ الجمهور «قيام» بالرفع على أنه خبر ، وينظرون في محل نصب على الحال ، وقرأ زيد بن عليّ بالنصب على أنه حال ، والخبر ينظرون ، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية. قال الكسائي كما تقول خرجت فإذا زيد جالسا (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) الإشراق الإضاءة ، يقال أشرقت الشمس : إذا أضاءت ، وشرقت : إذا طلعت ، ومعنى بنور ربها : بعدل ربها ، قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك : بحكم ربها ، والمعنى : أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها ، وما قضى به من الحق فيهم ، فالعدل نور والظلم ظلمات. وقيل : إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض ؛ فتشرق به غير نور الشمس والقمر ، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي ، فإن الله سبحانه هو نور السموات

__________________

(١). الحج : ٥٦.

(٢). الفاتحة : ٤.

٥٤٥

والأرض. قرأ الجمهور «أشرقت» مبنيا للفاعل ، وقرأ ابن عباس ، وأبو الجوزاء ، وعبيد بن عمير على البناء للمفعول (وَوُضِعَ الْكِتابُ) قيل : هو اللوح المحفوظ. وقال قتادة : يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ، وكذا قال مقاتل. وقيل : هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أي : وضع الكتاب للحساب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) أي : جيء بهم إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم (وَالشُّهَداءِ) الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١) وقيل : المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله ، فيشهدون يوم القيامة لمن ذبّ عن دين الله. وقيل : هم الحفظة كما قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : وقضى بين العباد بالعدل والصدق ، والحال أنهم لا يظلمون : أي لا ينقصون من ثوابهم ، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير وشرّ (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ، ولا حاسب ، ولا شاهد ، وإنما وضع الكتاب ، وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة. ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي : سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمرا ، أي : جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضا. قال أبو عبيدة والأخفش ، زمرا : جماعات متفرّقة بعضها إثر بعض ، ومنه قول الشاعر :

وترى الناس إلى أبوابه

زمرا تنتابه بعد زمر

واشتقاقه من الزمر ، وهو الصوت ، إذ الجماعة لا تخلو عنه (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي : فتحت أبواب النار ليدخلوها ، وهي سبعة أبواب ، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) جمع خازن نحو سدنة وسادن (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي : من أنفسكم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) التي أنزلها عليهم (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يخوّفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه ، قالوا لهم هذا القول تقريعا وتوبيخا ، فأجابوا بالاعتراف ، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر وظهوره ، ولهذا (قالُوا بَلى) أي : قد أتتنا الرسل بآيات الله ، وأنذرونا بما سنلقاه (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، فلما اعترفوا هذا الاعتراف (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) التي قد فتحت لكم لتدخلوها وانتصاب (خالِدِينَ) على الحال ، أي : مقدّرين الخلود (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) المخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس مثواهم جهنم ، وقد تقدّم تحقيق المثوى في غير موضع.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : مفاتيحها. وأخرج أبو يعلى ، ويوسف القاضي في سننه ، وأبو الحسن القطان ، وابن

__________________

(١). البقرة : ١٤٣.

(٢). ق : ٢١.

٥٤٦

السني ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال لي : «يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، مقاليد السموات والأرض : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحانه الله ، والحمد لله ، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو ، الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ؛ ثم ذكر فضل هذه الكلمات» وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن عثمان قال : جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : أخبرني عن مقاليد السموات والأرض ، فذكره. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن عثمان. وأخرجه العقيلي ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر عن عثمان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا دعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه ، فقالوا له : هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء ، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء بالوحي (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة ، وأنزل الله عليه (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) إلى قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض؟» وفي الباب أحاديث ، وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ، ولا تعسف لقال وقيل ، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر ، فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه ، فقال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «قال الله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) فأكون أوّل من يرفع رأسه ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي ، أو كان ممن استثنى الله». وأخرج أبو يعلى ، والدارقطني في الأفراد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال : «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة» الحديث. وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، وابن مردويه عن أنس أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فقال : «جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش» وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال : موسى ، لأنه كان صعق قبل. والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : (وَجِيءَ

٥٤٧

بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) قال : النبيين : الرسل ، والشهداء : الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه في الآية قال : يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

لما ذكر فيما تقدّم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم ، ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم. وقد سبق بيان معنى الزمر (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) جواب إذا محذوف. قال المبرد تقديره : سعدوا وفتحت ، وأنشد قول الشاعر :

فلو أنّها نفس تموت جميعة

ولكنّها نفس تساقط أنفسا

فحذف جواب لو ، والتقدير : لكان أروح. وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير : حتى إذا جاءوها ، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلا عليه. وقال الأخفش والكوفيون : الجواب فتحت والواو زائدة ، وهو خطأ عند البصريين ، لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد. وقيل : إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله ، والتقدير : حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (١) وحذفت الواو في قصة أهل النار ، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا. ذكر معناه النحاس منسوبا إلى بعض أهل العلم ، قال : ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد. وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد ، أي : جاءوها وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل : إنها واو الثمانية ، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد : خمسة ستة سبعة وثمانية ، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى ، وفي سورة الكهف أيضا. ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : سلامة لكم من كلّ آفة (طِبْتُمْ) في الدنيا فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي. قال مجاهد : طبتم بطاعة الله ، وقيل : بالعمل الصالح ، والمعنى واحد. قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الآية (فَادْخُلُوها) أي : ادخلوا الجنة (خالِدِينَ) أي : مقدّرين الخلود فعند ذلك قال أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب بالجنة (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي : أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم ؛ فملكوها ، وتصرفوا فيها ، وقيل : إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا

__________________

(١). ص : ٥٠.

٥٤٨

مؤمنين. قاله أكثر المفسرين. وقيل : إنها أرض الدنيا ، وفي الكلام تقديم وتأخير (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوص بالمدح محذوف ، أي : فنعم أجر العاملين الجنة ، وهذا من تمام قول أهل الجنة. وقيل : هو من قول الله سبحانه (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي : محيطين محدقين به ، يقال حفّ القوم بفلان : إذا أطافوا به ، و «من» مزيدة. قاله الأخفش ، أو للابتداء ، والمعنى : أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم وجملة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم مسبحين لله متلبسين بحمده ، وقيل : معنى يسبحون يصلون حول العرش شكرا لربهم ، والحافّين : جمع حافّ ، قاله الأخفش. وقال الفراء : لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي : بين العباد بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار ، وقيل : بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق ، وقيل : بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم ، والأوّل أولى (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) القائلون هم المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم ، وبين أهل النار بالحق ، وقيل : القائلون هم الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحقّ.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّل زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة». وأخرجا وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون» وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين وغيرهما. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) قال : أرض الجنة. وأخرج هناد عن أبي العالية مثله.

* * *

٥٤٩

سورة غافر

وهي سورة المؤمن ، وتسمى سورة الطّول ، وهي مكية في قول الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر. قال الحسن : إلا قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين نزلتا بالمدينة ، وهما (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) والتي بعدها ، وهي خمس وثمانون آية ، وقيل : اثنتان وثمانون آية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت سورة حم المؤمن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن الضريس ، والنحاس ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت الحواميم السبع بمكة. وأخرج ابن مردويه ، والديلمي عن سمرة بن جندب قال : نزلت الحواميم جميعا بمكة. وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله أعطاني السّبع (١) مكان التوراة ، وأعطاني الرّاءات إلى الطّواسين مكان الإنجيل ، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزّبور ، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ، ما قرأهنّ نبي قبلي». وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال : إن لكل شيء لبابا ، وإن لباب القرآن الحواميم. وأخرج أبو عبيد ، وابن الضريس ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : الحواميم ديباج القرآن. وأخرج أبو عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر عنه قال : إذا وقعت في الحواميم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهنّ. وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحواميم ديباج القرآن». وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرّة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحواميم سبع ، وأبواب النّار سبع ، تجيء كلّ حم منها تقف على باب من هذه الأبواب تقول : اللهمّ لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني». وأخرج أبو عبيد ، وابن سعد ، ومحمد بن نصر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسيّ حين يصبح ، حفظ بهما حتّى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي ، حفظ بهما حتّى يصبح».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ

__________________

(١). وهي الطوال وآخرها براءة. انظر تفسير غريب القرآن ؛ لابن قتيبة ص : ٣٥.

٥٥٠

أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

قوله : (حم) قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعا ، وقرأ حمزة والكسائي بإمالته إمالة محضة. وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين ، وقرأ الجمهور حم بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها لالتقاء الساكنين ، أو بتقدير القسم. وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم. وقرأ أبو جعفر بقطعها.

وقد اختلف في معناه ، فقيل : هو اسم من أسماء الله ، وقيل : اسم من أسماء القرآن. وقال الضحاك والكسائي : معناه قضي ، وجعلاه بمعنى حمّ : أي قضي ووقع ، وقيل : معناه حمّ أمر الله ، أي : قرب نصره لأوليائه ، وانتقامه من أعدائه. وهذا كله تكلف لا موجب له ، وتعسف لا ملجئ إليه ، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة ، وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدّمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) هو خبر لحم على تقدير أنه مبتدأ ، أو : خبر لمبتدأ مضمر ، أو : هو مبتدأ ، وخبره : (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) قال الرازي : المراد بتنزيل : المنزل ، والمعنى : أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه. والعزيز : الغالب القاهر ، والعليم : الكثير العلم بخلقه ، وما يقولونه ويفعلونه (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) قال الفراء : جعلها كالنعت للمعرفة ، وهي نكرة ، ووجه قوله هذا أن إضافتها لفظية ، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية ، كما قال سيبويه : أن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة ، وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة. وأما الكوفيون فلم يستثنوا شيئا بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة ، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص ، فيجوّزون في شديد هنا أن تكون إضافته محضة. وعلى قول سيبويه لا بدّ من تأويله بمشدد. وقال الزجاج : إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل. وروي عنه أنه جعل غافر ، وقابل : مخفوضين على الوصف ، وشديد : مخفوض على البدل ، والمعنى : غافر الذنب لأوليائه ، وقابل توبتهم ، وشديد العقاب لأعدائه ، والتوب مصدر بمعنى التوبة من تاب يتوب توبة وتوبا ، وقيل : هو جمع توبة ، وقيل : غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله ، وقابل التوب من الشرك ، وشديد العقاب لمن لا يوحده ، وقوله : (ذِي الطَّوْلِ) يجوز أن يكون صفة ، لأنه معرفة وأن يكون بدلا ، وأصل الطول : الإنعام والتفضل ، أي : ذي الإنعام على عباده ، والتفضل عليهم. وقال مجاهد : ذي الغنى والسعة. ومنه قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) (١) أي : غنى وسعة ، وقال عكرمة : ذي الطول ذي المنّ. قال

__________________

(١). النساء : ٢٥.

٥٥١

الجوهري : والطول بالفتح المنّ يقال منه طال عليه ويطول عليه إذا امتنّ عليه. وقال محمد بن كعب : ذي الطول ذي التفضل. قال الماوردي : والفرق بين المنّ والتفضل أن المنّ عفو عن ذنب ، والتفضل إحسان غير مستحقّ. ثم ذكر ما يدلّ على توحيده وأنه الحقيق بالعبادة فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لا إلى غيره ، وذلك في اليوم الآخر. ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا ، والمراد الجدال بالباطل ، والقصد إلى دحض الحقّ كما في قوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ، فأما الجدال لاستيضاح الحقّ ، ورفع اللبس ، والبحث عن الراجح والمرجوح ، وعن المحكم والمتشابه ، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن ، وردّهم بالجدال إلى المحكم فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون ، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (١) قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢) وقال : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر ، نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يغترّ بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال : فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد ، وما يحصلونه من الأرباح ، ويجمعونه من الأموال فإنهم معاقبون عما قليل ، وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم ، فإن عاقبتهم الهلاك. قرأ الجمهور «لا يغررك» بفك الإدغام. وقرأ زيد ابن علي ، وعبيد بن عمير بالإدغام. ثم بين حال من كان قبلهم ، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الضمير من بعدهم يرجع إلى قوم نوح ، أي : وكذبت الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد وثمود (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي : همت كلّ أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه ليتمكنوا منه ، فيحبسوه ويعذبوه ويصيبوا منه ما أرادوا. وقال قتادة والسدّي : ليقتلوه ، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك ، كقوله : (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤) والعرب تسمى الأسير : الأخيذ (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي : خاصموا رسولهم بالباطل من القول ليدحضوا به الحقّ ليزيلوه ، ومنه مكان دحض : أي مزلقة ومزلة أقدام ، والباطل : داحض لأنه يزلق ، ويزول فلا يستقرّ. قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي : فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل ، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به ، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلا ووقفا لأنها رأس آية (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : وجبت وثبتت ولزمت ، يقال حقّ الشيء ؛ إذا لزم وثبت ، والمعنى : وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به ، وجادلوك بالباطل ، وتحزبوا عليك ، وجملة (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) للتعليل ، أي : لأجل أنهم مستحقون للنار. قال

__________________

(١). آل عمران : ١٨٧.

(٢). البقرة : ١٥٩.

(٣). العنكبوت : ٤٦.

(٤). الحج : ٤٤.

٥٥٢

الأخفش : أي لأنهم ، أو بأنهم. ويجوز أن تكون في محل رفع بدلا من كلمة. قرأ الجمهور «كلمة» بالتوحيد ، وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» بالجمع. ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله فقال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) والموصول : مبتدأ ، وخبره : يسبحون بحمد ربهم ، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدّقوا ، والمراد بمن حول العرش : هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين ، وهو في محل رفع عطفا على الذين يحملون العرش ، وهذا هو الظاهر. وقيل : يجوز أن تكون في محل نصب عطفا على العرش ، والأوّل أولى. والمعنى : أن الملائكة الذين يحملون العرش ، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه ، ويؤمنون بالله ، ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به. ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) وهو بتقدير القول : أي يقولون ربنا ، أو قائلين : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، انتصاب رحمة وعلما على التمييز المحوّل عن الفاعل ، والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي : أوقعوا التوبة عن الذنوب واتبعوا سبيل الله ، وهو دين الإسلام (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : احفظهم منه (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) «وأدخلهم» معطوف على قوله : «قهم» ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير ، ووصف جنات عدن بأنها (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إياها (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي : وأدخل من صلح ، والمراد بالصلاح هاهنا : الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله ، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة ، ويجوز عطف (ومن صلح) على الضمير في وعدتهم : أي ووعدت من صلح ، والأولى عطفه على الضمير الأوّل في : وأدخلهم. قال الفراء والزجاج : نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم ، وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي عبلة بضمها. وقرأ الجمهور «وذرياتهم» على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي : العقوبات ، أو : جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف. قال قتادة : وقهم ما يسوءهم من العذاب (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) يقال وقاه يقيه وقاية : أي حفظه ، ومعنى (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي : رحمته من عذابك وأدخلته جنتك ، والإشارة بقوله : (وَذلِكَ) إلى ما تقدّم من إدخالهم الجنات ، ووقايتهم السيئات ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : الظفر الذي لا ظفر مثله ، والنجاة التي لا تساويها نجاة.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : (حم) اسم من أسماء الله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وأبو عبيد ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والترمذي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن المهلب ابن أبي صفرة قال : حدّثني من سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ليلة الخندق «إن أتيتم اللّيلة فقولوا حم لا ينصرون». وأخرج ابن أبي شيبة ، والنسائي ، والحاكم ، وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّكم

٥٥٣

تلقون عدوّكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون». وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (ذِي الطَّوْلِ) قال : ذي السعة والغنى. وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : (غافِرِ الذَّنْبِ) الآية قال : غافر الذنب لمن يقول لا إله إلا الله (قابِلِ التَّوْبِ) ممن يقول لا إله إلا الله (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن لا يقول لا إله إلا الله (ذِي الطَّوْلِ) ذي الغنى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كانت كفار قريش لا يوحدونه فوحد نفسه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخله الجنة ، ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخله النار. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن جدالا في القرآن كفر». وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مراء في القرآن كفر».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار ، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب ، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ). قال الواحدي قال المفسرون : إنهم لما رأوا أعمالهم ، ونظروا في كتابهم ، وأدخلوا النار ، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد (لَمَقْتُ اللهِ) إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) اليوم. قال الأخفش : هذه اللام في لمقت هي لام الابتداء أوقعت بعد ينادون ، لأن معناه يقال لهم ، والنداء قول. قال الكلبي : يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار : مقتّك يا نفس ، فتقول الملائكة لهم وهم في النار : لمقت الله إياكم في الدنيا أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن : يعطون كتابهم ، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم ، فينادون : لمقت الله إياكم في الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار ، والظرف في (إِذْ تُدْعَوْنَ) منصوب بمقدّر محذوف دلّ عليه المذكور ، أي : مقتكم وقت دعائكم ، وقيل : بمحذوف هو

٥٥٤

اذكروا ، وقيل : بالمقت المذكور ، والمقت : أشدّ البغض ، ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف ، أي : أمتنا إماتتين اثنتين ، وأحييتنا إحياءتين اثنتين والمراد بالإماتتين : أنهم كانوا نطفا لا حياة لهم في أصلاب آبائهم ، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا ، والمراد بالإحياءتين : أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا ، ثم أحياهم عند البعث ، ومثل هذه الآية قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) وقيل معنى الآية : أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة ، ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ، ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأوّل أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل ، وقد ذهب إلى تفسير الأوّل جمهور السلف. وقال ابن زيد : المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكيا عنهم (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرّسل والإشراك بالله وترك توحيده ، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف ، وندموا حيث لا ينفعهم الندم ، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدّمة لقولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي : هل إلى خروج لنا من النار ، ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل ، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٢) وقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٣) وقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) (٤) الآية. ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي : ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به ، وتركتم توحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) غيره من الأصنام أو غيرها (تُؤْمِنُوا) بالإشراك وتجيبوا الدّاعي إليه ، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار ، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله ، وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدّعاء ، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلكم ، أو : مبتدأ خبره محذوف ، أي : ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الردّ ، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله ... إلخ (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) وحده دون غيره ، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار ، وعدم الخروج منها و (الْعَلِيِ) المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته ، و (الْكَبِيرِ) الذي كبر على أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي : دلائل توحيده ، وعلامات قدرته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) يعني المطر فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات ، وإنزال الأرزاق ، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان ، وبالأرزاق قوام الأبدان ، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سماواته وأرضه ، وما فيهما وما بينهما. قرأ الجمهور «ينزل» بالتشديد. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتخفيف (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي : ما يتذكر ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدلّ بها على التوحيد ، وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب ، أي : يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله. ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من

__________________

(١). البقرة : ٢٨.

(٢). الشورى : ٤٤.

(٣). السجدة : ١٢.

(٤). الأنعام : ٢٧.

٥٥٥

الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه ، وإخلاص الدّين له فقال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك ، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم ، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدّم : أي هو الذي يريكم آياته ، وهو رفيع الدرجات ، وكذلك (ذُو الْعَرْشِ) خبر ثالث ، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات : مبتدأ ، وخبره : «ذو العرش» ، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف ، ورفيع صفة مشبهة. والمعنى : رفيع الصفات ، أو رفيع درجات ملائكته : أي معارجهم ، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة. وقال الكلبي وسعيد بن جبير : رفيع السموات السبع ، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع ، ومعنى ذو العرش : مالكه وخالقه والمتصرف فيه ، وذلك يقتضي علوّ شأنه وعظم سلطانه ، ومن كان كذلك فهو الذي يحقّ له العبادة ويجب له الإخلاص ، وجملة (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدّم أو للمقدّر ، ومعنى ذلك أنه سبحانه يلقي الوحي (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، وسمي الوحي روحا ، لأن الناس يحيون به من موت الكفر. كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) متعلق بيلقي ، و «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الروح ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١) وقيل الروح جبريل كما في قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢) وقوله : (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (٣) وقوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) هم الأنبياء ، ومعنى (مِنْ أَمْرِهِ) من قضائه (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) قرأ الجمهور «لينذر» مبنيا للفاعل ونصب اليوم ، والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء ، والمنذر به محذوف تقديره : لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازا. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن السميقع «لتنذر» بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول ، أو ضمير يرجع إلى الرّوح لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني «لينذر» على البناء للمفعول ، ورفع يوم على النيابة ، ومعنى (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر ، وبه قال قتادة. وقال أبو العالية ومقاتل : يوم يلتقي العابدون والمعبودون ، وقيل الظالم والمظلوم ، وقيل الأوّلون والآخرون ، وقيل جزاء الأعمال والعاملون ، وقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) بدل من يوم التلاق. وقال ابن عطية. هو منتصب بقوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ) وقيل : منتصب بإضمار اذكر ، والأوّل أولى ، ومعنى بارزون : خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ، وجملة (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) مستأنفة مبينة لبروزهم ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ : أي لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وجملة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل : يقال لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون : إذا هلك كل من في السموات والأرض ، فيقول الرّبّ تبارك وتعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يعني يوم القيامة

__________________

(١). الشورى : ٥٢.

(٢). الشعراء : ١٩٣ و ١٩٤.

(٣). النحل : ١٠٢.

٥٥٦

فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه ، فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) قال الحسن : هو السائل تعالى ، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه ، وقيل : إنه سبحانه يأمر مناديا ينادي بذلك ، فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل : إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار ، وقيل : هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوى المبطلين ، كما في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١) وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو الله سبحانه ، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم ، أي : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشرّ لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : سريع حساب لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة. ثم أمر الله سبحانه رسوله بإنذار عباده فقال : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : يوم القيامة سميت بذلك لقربها ، يقال أزف فلان : أي قرب ، يأزف أزفا ، ومنه قول النابغة :

أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل بركابنا وكأن قد

ومنه قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٢) أي : قربت الساعة ، وقيل : إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت ، والأوّل أولى. قال الزجاج : وقيل : لها آزفة لأنها قريبة ، وإن استبعد الناس أمرها ، وما هو كائن فهو قريب (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (٣) (كاظِمِينَ) مغمومين ، مكروبين ، ممتلئين غما. قال الزجاج : المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال قتادة : وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة ، فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. وقيل : هو إخبار عن نهاية الجزع ، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب ، لأن المعنى : إذ قلوب الناس لدى حناجرهم ، فيكون حالا منهم. وقيل : حالا من القلوب ، وجمع الحال منها جمع العقلاء لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء ، فجمعت جمعه. ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي : قريب ينفعهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) في شفاعته لهم ، ومحل يطاع الجر على أنه صفة لشفيع. ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه ، والجملة خبر آخر لقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) قال المؤرج : فيه تقديم وتأخير ، أي : يعلم الأعين الخائنة. وقال قتادة : خائنة الأعين : الهمز بالعين فيما لا يحب الله. وقال الضحاك : هو قول الإنسان ما رأيت ، وقد رأى ، ورأيت وما رأى. وقال سفيان : هي النظرة بعد النظرة. والأول أولى ، وبه قال مجاهد (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر وتسرّه من معاصي الله (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشرّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ

__________________

(١). الانفطار : ١٧ ـ ١٩.

(٢). النجم : ٥٧.

(٣). الأحزاب : ١٠.

٥٥٧

مِنْ دُونِهِ) أي : تعبدونهم من دون الله (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لأنهم لا يعلمون شيئا ، ولا يقدرون على شيء : قرأ الجمهور «يدعون» بالتحتية يعني : الظالمين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقرأ نافع ، وشيبة ، وهشام بالفوقية على الخطاب لهم (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية.

وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال : هي مثل التي في البقرة (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) كانوا أمواتا في صلب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم أماتهم ثم يحييهم بعد الموت. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة ، فما موتتان وحياتان كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ التَّلاقِ) قال : يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده. وأخرج عنه أيضا قال : (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم الآزفة ، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده. وأخرج عنه أيضا قال : (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم الآزفة ، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضا قال : ينادي مناد بين يدي الساعة : يا أيها الناس أتتكم الساعة ، فيسمعها الأحياء والأموات ، وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث ، والديلمي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : «يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فأول ما يبدأ به من الخصومات الدماء». وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) قال : الرجل يكون في القوم فتمرّ بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها ، وإذا غفلوا لحظ إليها ، وإذا نظروا غضّ بصره عنها ، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : إذا نظر إليها يريد الخيانة أو لا (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) قال : إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة. وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه عن سعد قال : «لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين ، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، منهم عبد الله بن سعد ابن أبي سرح ، فاختبأ عند عثمان بن عفان ، فلما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة جاء به ، فقال : يا رسول الله بايع عبد الله ، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى بيعته ، ثم بايعه ، ثم أقبل على أصحابه

__________________

(١). البقرة : ٢٨.

٥٥٨

فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا : ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا اومأت إلينا بعينك؟ فقال : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين».

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

لما خوّفهم سبحانه بأحوال الآخرة ؛ أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم ، فإن الذين مضوا من الكفار (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) بما عمروا فيها من الحصون والقصور وبما لهم من العدد والعدّة ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله ، وقوله : (فَيَنْظُرُوا) إما مجزوم بالعطف على يسيروا ، أو منصوب بجواب الاستفهام ، وقوله : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك ، وقوله : (وَآثاراً) عطف على قوّة. قرأ الجمهور «أشدّ منهم» وقرأ ابن عامر «أشد منكم» على الالتفات (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي من دافع يدفع عنهم العذاب ، وقد مرّ تفسير هذه الآية في مواضع ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من الأخذ (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالحجج الواضحة (فَكَفَرُوا) بما جاءوهم به (فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) يفعل كلّ ما يريده لا يعجزه شيء (شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه ولم يرجع إليه ، ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) هي التسع الآيات التي قد تقدّم ذكرها في غير موضع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة بينة واضحة ، وهي التوراة (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا) إنه (ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي : فيما جاء به ، وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء المكذبين بموسى ، ففرعون الملك ، وهامان الوزير ، وقارون صاحب الأموال

٥٥٩

والكنوز (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) وهي معجزاته الظاهرة الواضحة (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأوّل ، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل ، فكان يأمر بقتل الذكور ، وترك النساء ، ومثل هذا قول فرعون (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) (١) (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : في خسران ووبال ، لأنه يذهب باطلا ، ويحيق بهم ما يريده الله عزوجل (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل العذاب ، والمعنى : اتركوني أقتله (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك ، أي : لا يهولنكم ذلك فإنه لا ربّ له حقيقة ، بل أنا ربكم الأعلى ، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي : يوقع بين الناس الخلاف والفتنة ، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى ، وانتشاره في الأرض ، واهتداء الناس به فسادا ، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه. قرأ الكوفيون ويعقوب «أو أن يظهر» بأو التي للإبهام ، والمعنى : أنه لا بدّ من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون «وأن يظهر» بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعا ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الياء من «إني أخاف» وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر ، وفاعله ضمير موسى ، والفساد نصبا على أنه مفعول به ، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء ، ورفع الفساد على الفاعلية (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بإدغام الذال ، وقرأ الباقون بالإظهار ، لما هدّده فرعون بالقتل استعاذ بالله عزوجل من كلّ متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور ، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوّليا (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال الحسن ، ومقاتل ، والسدّي : كان قبطيا ، وهو ابن عم فرعون ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى) (٢) الآية ، وقيل : كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية ، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري : ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد ، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٣) وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.

وقد اختلف في اسم هذا الرجل ، فقيل : حبيب ، وقيل : حزقيل ، وقيل : غير ذلك ، قرأ الجمهور «رجل» بضم الجيم ، وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها ، وهي لغة تميم ونجد ، والأولى هي الفصيحة ، وقرئ بكسر الجيم «ومؤمن» صفة لرجل ، «ومن آل فرعون» صفة أخرى ، و «يكتم إيمانه» صفة ثالثة ، والاستفهام في (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) للإنكار ، و (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) في موضع نصب بنزع

__________________

(١). الأعراف : ١٢٧.

(٢). القصص : ٢٠.

(٣). النساء : ٤٢.

٥٦٠