فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

(وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فكانوا مثل ما كانوا من قبل ابتلائه ، وانتصاب قوله : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) على أنه مفعول لأجله ، أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر ، وقد تقدّم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) معطوف على اركض ، أو على وهبنا ؛ أو التقدير وقلنا له : (خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) والضغث : عثكال النخل بشماريخه ، وقيل : هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها ، وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان ، وأصل المادّة تدلّ على جمع المختلطات. قال الواحدي : الضغث ملء الكفّ من الشجر والحشيش والشماريخ (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي : اضرب بذلك الضغث ، ولا تحنث في يمينك ، والحنث : الإثم ، ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة.

واختلف في سبب ذلك ، فقال سعيد بن المسيب إنه جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز ، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. وقال يحيى بن سلام وغيره : إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقرّبا إليه ، فإنه إذا فعل ذلك برىء ، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل : باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها. وقيل : جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها.

وقد اختلف العلماء هل هذا خاصّ بأيوب أو عامّ للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك قال الشافعي : إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي. وقال عطاء : هو خاصّ بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) أي : على البلاء الذي ابتليناه به ، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي : أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قرأ الجمهور (عِبادَنا) بالجمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير «عبدنا» بالإفراد. فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان ، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان ، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم. وقد يقال : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه. وقيل : إن إبراهيم وما بعده بدل ، أو : النصب بإضمار أعني ، وعطف البيان أظهر ، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد ، وأبو حاتم (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الأيدي ، جمع اليد التي بمعنى القوّة والقدرة. قال قتادة : أعطوا قوّة في العبادة ونصرا في الدين. قال الواحدي : وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والمفسرون. قال النحاس : أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم. وأما الأيدي فمختلف في تأويلها ؛ فأهل التفسير يقولون : إنها القوّة في الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة ، أي : هم أصحاب النعم ، أي : الذين أنعم الله عزوجل عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم على الناس والإحسان

٥٠١

إليهم ، لأنهم قد أحسنوا وقدّموا خيرا ، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور (أُولِي الْأَيْدِي) بإثبات الياء في الأيدي. وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن وعيسى (الْأَيْدِ) بغير ياء ، فقيل معناها معنى القراءة الأولى ، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها ، وقيل : الأيد : القوّة ، وجملة : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) تعليل لما وصفوا به. قرأ الجمهور (بِخالِصَةٍ) بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون ذكرى منصوبا به ، أو : بمعنى الخلوص ، فيكون ذكرى مرفوعا به ، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه ، وذكرى بدل منها أو بيان لها أو بإضمار أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ ، والدار يجوز أن تكون مفعولا به لذكرى وأن تكون ظرفا : إما على الاتساع ، أو على إسقاط الخافض ؛ وعلى كلّ تقدير ؛ فخالصة : صفة لموصوف محذوف ، والباء : للسببية ، أي : بسبب خصلة خالصة. وقرأ نافع ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان ، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، أو على أن خالصة : مصدر مضاف إلى مفعول ، والفاعل : محذوف. أي : بأن أخلصوا ذكرى الدار ، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافا إلى فاعله. قال مجاهد : معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها. وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقال السدّي : أخلصوا بخوف الآخرة. قال الواحدي : فمن قرأ بالتنوين في خالصة ؛ كان المعنى جعلناهم لنا خالصين ؛ بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة : مصدر بمعنى الخلوص ، والذكرى بمعنى التذكر ، أي : خلص لهم تذكر الدار ، وهو أنهم يذكرون التأهب لها ، ويزهدون في الدنيا ، وذلك من شأن الأنبياء. وأما من أضاف فالمعنى : أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل ، والذكرى على هذا المعنى الذكر (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) الاصطفاء : الاختيار ، والأخيار ، جمع خيّر بالتشديد ، والتخفيف ؛ كأموات في جمع ميت مشدّدا ومخففا ؛ والمعنى : إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) قيل : وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه ، وأخيه ، وابن أخيه ؛ للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا (وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) وقد تقدّم ذكر اليسع ، والكلام فيه في الأنعام ، وتقدّم ذكر ذا الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء ، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله. أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) يعني : الذين اختارهم الله لنبوّته ، واصطفاهم من خلقه (هذا ذِكْرٌ) الإشارة إلى ما تقدّم من ذكر أوصافهم ، أي : هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبدا (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي : لهم مع الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة ، والمآب : المرجع ، والمعنى : أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ، ورضوانه ، ونعيم جنته. ثم بين حسن المرجع فقال : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قرأ الجمهور (جَنَّاتِ) بالنصب بدلا من حسن مآب ، سواء كان جنات عدن معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ، ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة ، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم. ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل. والعدن في الأصل : الإقامة ،

٥٠٢

يقال عدن بالمكان : إذا أقام فيه ، وقيل : هو اسم لقصر في الجنة ، وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ. وخبرها مفتحة ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي جنات عدن ، وقوله : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) حال من جنات ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، والأبواب : مرتفعة باسم المفعول ، كقوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) والرّابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر ، أي : منها ، أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها. وقيل : إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات ، وبه قال أبو عليّ الفارسي ، أي : مفتحة هي الأبواب. قال الفراء : المعنى مفتحة أبوابها ، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة. وقال الزجاج : المعنى مفتحة لهم الأبواب منها. قال الحسن : إن الأبواب يقال لها : انفتحي فتنفتح ، انغلقي فتنغلق ، وقيل : تفتح لهم الملائكة الأبواب ، وانتصاب (مُتَّكِئِينَ فِيها) على الحال من ضمير لهم ، والعامل فيه مفتحة ، وقيل : هو حال من (يَدْعُونَ) قدّمت على العامل (فِيها) أي يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي : بألوان متنوّعة متكثرة من الفواكه (وَشَرابٍ) كثير ، فحذف كثيرا لدلالة الأوّل عليه ، وعلى جعل (مُتَّكِئِينَ) حالا من ضمير لهم ، والعامل فيه مفتحة ، فتكون جملة (يَدْعُونَ) مستأنفة لبيان حالهم. وقيل إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي : قاصرات طرفهنّ على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد مضى بيانه في سورة الصافات. والأتراب : المتحدات في السنّ ، أو المتساويات في الحسن. وقال مجاهد : معنى أتراب أنهنّ متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن. وقيل : أترابا للأزواج. والأتراب : جمع ترب ، واشتقاقه من التراب لأنه يمسهنّ في وقت واحد لاتحاد مولدهنّ (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي : هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب ، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء ، أو المعنى : في يوم الحساب. قرأ الجمهور (ما تُوعَدُونَ) بالفوقية على الخطاب. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، ويعقوب بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) فإنه خبر. (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا) أي : إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي انقطاع ولا يفنى أبدا ، ومثله قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١) فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها.

وقد أخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن الشيطان عرج إلى السماء ، فقال : يا رب سلطني على أيوب ، قال الله : لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده ، فنزل فجمع جنوده ، فقال لهم : قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم ، فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء ، فبيناهم في المشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق. فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف ، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض ، فجاء صاحب الزرع فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل ، فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها ، ثم جاء صاحب البقر فقال :

__________________

(١). هود : ١٠٨.

٥٠٣

يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى بقرك عدوا فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام بأذنيه قرطان فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح أخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماءهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم؟ فقال له أيوب : فأين كنت؟ قال : كنت معهم ، قال : فكيف انفلتّ؟ قال انفلت ، قال أيوب أنت الشيطان ؛ ثم قال أيوب أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام فحلق رأسه وقام يصلي ، فرنّ إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض ، ثم عرج إلى السماء فقال : أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك ، قال : قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه ، فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى عليه ، حتى قالت له : ألا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال : ويحك كنا في النعم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما ، فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل يوما فدعا بيده ، ثم قال قم ، فقام فنحاه عن مكانه وقال : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين ، فقال اغتسل ، فاغتسل منها ، ثم جاء أيضا فقال : اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له اشرب منها ، وهو قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك أنا أيوب قد ردّ الله عليّ جسدي. ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم ، وأمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه ، فأوحى الله إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك.

وفي هذا نكارة شديدة ، فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم. وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتا يداوي الناس ، فقالت امرأة أيوب : يا عبد الله إن هاهنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال : نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك ، فقال : ويحك ذاك الشيطان ، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به ، فأخذ عذقا فيه شمراخ فضربها ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) قال : هو الأسل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الضغث القبضة من المرعى الرطب. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الضغث : الحزمة. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن عساكر من طريق أبي أمامة ابن سهل بن حنيف

٥٠٤

قال : «حملت وليدة في بني ساعدة من زنا ، فقيل لها ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد ، فسئل المقعد فقال صدقت ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة». وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : أيوب رأس الصابرين يوم القيامة وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أُولِي الْأَيْدِي) قال : القوّة في العبادة (وَالْأَبْصارِ) قال : الفقه في الدين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (أُولِي الْأَيْدِي) قال : النعمة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال : أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

قوله : (هذا) قال الزجاج : هذا خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر هذا فيوقف على هذا. قال ابن الأنباري : وهذا وقف حسن ثم يبتدئ (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وخبره محذوف ، أي : هذا كما ذكر ، أو هذا ذكر. ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشرّ بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي : الذين طغوا على الله وكذبوا رسله (لَشَرَّ مَآبٍ) لشر منقلب ينقلبون إليه ، ثم بين ذلك فقال : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) وانتصاب جهنم على أنها بدل من شرّ مآب ، أو منصوبة بأعني ، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريبا ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاشتغال ، أي : يصلون جهنم يصلونها ، ومعنى يصلونها : يدخلونها ، وهو في محل نصب على الحالية (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : بئس ما مهدوا لأنفسهم ، وهو الفراش ، مأخوذ من مهد الصبي ، ويجوز أن يكون المراد بالمهد : الموضع ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، أي : بئس المهاد هي كما في قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) (١) شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) هذا : في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : حميم وغساق على التقديم والتأخير ، أي : هذا حميم وغساق فليذوقوه. قال الفراء والزجاج : تقدير الآية : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة. والحميم : الماء الحارّ الذي قد انتهى حرّه ،

__________________

(١). الأعراف : ٤١.

٥٠٥

والغساق : ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد ، من قولهم غسقت عينه إذا انصبّت ، والغسقان الانصباب. قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا ، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف ، أي : هو حميم وغساق ، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : ليذوقوا هذا فليذوقوه ، ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء وخبره مقدّر قبله ، أي : منه حميم ، ومنه غساق ، ومثله قول الشاعر :

حتى ما إذا أضاء البرق في غلس

وغودر البقل ملويّ ومخضود

أي : منه ملويّ ، ومنه مخضود ، وقيل : الغساق ما قتل ببرده ، ومنه قيل للّيل : غاسق ، لأنه أبرد من النهار ، وقيل : هو الزمهرير ، وقيل : الغساق المنتن ، وقيل : الغساق عين في جهنم يسيل منه كلّ ذوب حية وعقرب. وقال قتادة : هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ، ومن نتن لحوم الكفرة ، وجلودهم. وقال محمّد بن كعب : هو عصارة أهل النار ، وقال السدي : الغساق الذي يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم ، وكذا قال ابن زيد. وقال مجاهد ومقاتل : هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده ، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما تذكرت الحياة وطيبها

إليّ جرى دمع من الليل غاسق

أي : بارد ، وأنسب أيضا بمقابلة الحميم. وقرأ أهل المدينة ، وأهل البصرة ، وبعض الكوفيين بتخفيف السين من (غَسَّاقٌ) وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة بالتشديد ، وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش. وقيل : معناهما مختلف ، فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب ، ومن شدّد قال : هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضرّاب وقتال (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) قرأ الجمهور (وَآخَرُ) مفرد مذكر ، وقرأ أبو عمرو «وأخر» بضم الهمزة على أنه جمع ، وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج ، وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو وقال : لو كانت كما قرأ لقال من شكلها ، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ وخبره أزواج ، ويجوز أن يكون من شكله خبرا مقدّما ، وأزواج مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر آخر ، ويجوز أن يكون خبرا آخر مقدرا ، أي : وآخر لهم ، و (مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) جملة مستقلة ؛ ومعنى الآية على قراءة الجمهور : وعذاب آخر أو مذوق آخر ، أو نوع آخر من شكل العذاب ، أو المذوق ، أو النوع الأوّل ، والشكل المثل ، وعلى القراءة الثانية يكون معنى الآية : ومذوقات أخر ، أو أنواع أخر من شكل ذلك المذوق أو النوع المتقدّم. وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور ، أي : من شكل المذكور ، ومعنى (أَزْواجٌ) : أجناس ، وأنواع ، وأشباه. وحاصل معنى الآية : أن لأهل النار حميما ، وغساقا ، وأنواعا من العذاب من مثل الحميم ، والغساق. قال الواحدي : قال المفسرون : هو الزمهرير ، ولا يتمّ هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج ، أو على تقدير أن لكلّ فرد من أهل النار زمهريرا (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) الفوج : الجماعة ، والاقتحام : الدخول ، وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة

٥٠٦

النار ، وذلك أن القادة ، والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع ؛ قالت الخزنة للقادة : هذا فوج ، يعنون : الأتباع ، (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) : أي داخل معكم إلى النار ، وقوله : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحبا بهم ، أي : لا اتسعت منازلهم في النار ، والرحب : السعة ، والمعنى : لا كرامة لهم ، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار ، وأن المودّة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحبا بهم : دعائية لا محل لها من الإعراب ، أو صفة للفوج ، أو حال منه أو بتقدير القول : أي : مقولا في حقهم لا مرحبا بهم ، وقيل : إنها من تمام قول الخزنة. والأوّل أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي ، وجملة : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل من جهة القائلين لا مرحبا بهم ، أي : إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحقيناها. وجملة (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي : قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بل أنتم لا مرحبا بكم ، أي : لا كرامة لكم ، ثم عللوا ذلك بقولهم : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي : أنتم قدّمتم العذاب أو الصّلي لنا وأوقعتمونا فيه ، ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحقّ ما أنتم عليه ، وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي : بئس المقرّ جهنم لنا ولكم. ثم حكى عن الأتباع أيضا أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر ، وهو (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي : زده عذابا ذا ضعف ، والضعف بأن يزيد عليه مثله ، ومعنى من قدّم لنا هذا : من دعانا إليه ، وسوّغه لنا. قال الفراء : المعنى من سوّغ لنا هذا وسنه ، وقيل معناه : قدّم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر فزده عذابا ضعفا في النار ، أي : عذابا بكفره ، وعذابا بدعائه إيانا ، فصار ذلك ضعفا ، ومثله قوله سبحانه : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) (١) وقوله : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) (٢) وقيل : المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) قيل : هو من قول الرؤساء ، وقيل : من قول الطاغين المذكورين سابقا. قال الكلبي : ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها ، فعند ذلك قالوا : ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدّهم من الأشرار. وقيل : يعنون فقراء المؤمنين كعمار ، وخباب ، وصهيب ، وبلال ، وسالم ، وسلمان. وقيل : أرادوا أصحاب محمّد على العموم (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) قال مجاهد : المعنى أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا ، أم زاغت عنهم الأبصار فلم نعلم مكانهم؟ والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كلّ واحد من الأمرين. قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا : اتخذوهم سخريا ، وزاغت عنهم أبصارهم. قال الفراء : والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل ، وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبرا محضا ، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالا ، وأن يكون المراد الاستفهام ، وحذفت أداته لدلالة أم عليها ؛ فتكون أم على الوجه الأوّل منقطعة بمعنى بل والهمزة ، أي : بل أزاغت عنهم الأبصار على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ، ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير ، وعلى الثاني أم هي المتصلة.

__________________

(١). الأعراف : ٣٨.

(٢). الأحزاب : ٦٨.

٥٠٧

وقرأ الباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ، ولا محل للجملة حينئذ ، وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعا لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية. وقرأ أبو جعفر ، ونافع ، وشيبة ، والمفضل ، وهبيرة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي «سخريا» بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها. قال أبو عبيدة : من كسر جعله من الهزء ، ومن ضم جعله من التسخير والإشارة بقوله : (إِنَّ ذلِكَ) إلى ما تقدّم من حكاية حالهم ، وخبر إنّ قوله : (لَحَقٌ) أي : لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يتخلف ألبتة ، و (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) : خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بيان لذلك ، وقيل : بيان لحقّ ، وقيل : بدل منه ، وقيل : بدل من محل ذلك ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم. والمعنى : إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحقّ لا بدّ أن يتكلموا به ، وهو تخاصم أهل النار فيها ، وما قالته الرؤساء للأتباع ، وما قالته الأتباع لهم. وقرأ ابن أبي عبلة بنصب (تَخاصُمُ) على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني. وقرأ ابن السميقع «تخاصم» بصيغة الفعل الماضي ، فتكون جملة مستأنفة. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول قولا جامعا بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي : مخوّف لكم من عقاب الله وعذابه (وَما مِنْ إِلهٍ) يستحق العبادة (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له (الْقَهَّارُ) لكل شيء سواه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) من المخلوقات (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالبه مغالب (الْغَفَّارُ) لمن أطاعه ، وقيل معنى (الْعَزِيزُ) : المنيع الذي لا مثل له ، ومعنى (الْغَفَّارُ) الستار لذنوب خلقه. ثم أمره سبحانه أن يبالغ في إنذارهم ، ويبين لهم عظم الأمر ، وجلالته فقال : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) أي : ما أنذرتكم به من العقاب ، وما بينته لكم من التوحيد : هو خبر عظيم ، ونبأ جليل ، من شأنه العناية به ، والتعظيم له ، وعدم الاستخفاف به ، ومثل هذه الآية قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (١). وقال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل : هو القرآن ، فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله. قال الزجاج : قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم : يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين ، وذلك دليل على صدقه ، ونبوّته ؛ لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله ، وجملة : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) توبيخ لهم ، وتقريع لكونهم أعرضوا عنه ، ولم يتفكروا فيه فيعلموا صدقه ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث ، وقوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم ، والملأ الأعلى هم الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي : وقت اختصامهم ، فقوله : (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) متعلق بعلم على تضمينه معنى الإحاطة ، وقوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) متعلق بمحذوف ، أي : ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم ، والضمير في يختصمون راجع إلى الملأ الأعلى ، والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم كما يفيده ما سيأتي قريبا ، وجملة (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) معترضة بين اختصامهم المجمل وبين تفصيله بقوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ). والمعنى : ما يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين. قال الفراء : المعنى ما يوحى إليّ إلا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية. قال :

__________________

(١). النبأ : ١ و ٢.

٥٠٨

كأنك قلت ما يوحى إليّ إلا الإنذار. قال النحاس : ويجوز أن تكون في محل نصب بمعنى ما يوحى إليّ إلا لأنما أنا نذير مبين. قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل ، أي : ما يوحى إليّ إلا الإنذار ، أو إلا كوني نذيرا مبينا ، أو في محل نصب ، أو جرّ بعد إسقاط لام العلة ، والقائم مقام الفاعل على هذا الجارّ والمجرور. وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة لأن في الوحي معنى القول ، وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية ، كأنه قيل : ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار ، وهو أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين. وقيل : إن الضمير في يختصمون عائد إلى قريش ؛ يعني قول من قال منهم : الملائكة بنات الله ، والمعنى : ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش ، والأوّل أولى.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَغَسَّاقٌ) قال : الزمهرير (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) قال : من نحوه (أَزْواجٌ) قال : ألوان من العذاب. وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ دلوا من غسّاق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا». قال الترمذي بعد إخراجه : لا نعرفه إلّا من حديث رشدين بن سعد. قلت : ورشدين فيه مقال معروف. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن مسعود في قوله : (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) قال : أفاعي وحيات. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) قال : الملائكة حين شووروا في خلق آدم فاختصموا فيه ، وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة. وأخرج محمّد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) قال : هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها). وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن نصر في كتاب الصلاة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني الليلة ربي في أحسن صورة ، أحسبه قال في المنام ، قال : يا محمّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا ، فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري ، فعلمت ما في السموات والأرض ، ثم قال لي : يا محمّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات ، والكفارات : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره» الحديث (١). وأخرج الترمذي وصححه ، ومحمّد بن نصر ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه ، وقال «وإسباغ الوضوء في السّبرات» (٢). وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه. وأخرجا أيضا من حديث أبي هريرة نحوه ، وفي الباب أحاديث.

__________________

(١). للحديث روايات عدة ذكرها السيوطي في الدر المنثور (٧ / ٢٠٢) وللحافظ ابن رجب الحنبلي رسالة في شرح هذا الحديث سماها : «اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى» فلتراجع فإنها قيمة.

(٢). السبرات : جمع سبرة وهي شدة البرد.

٥٠٩

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالا فيما تقدّم ذكرها هنا تفصيلا ، فقال : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إذ هذه هي بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة. وقيل : هي منصوبة بإضمار اذكر والأوّل أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض. وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدّم ذكره فالثاني أولى (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) أي : خالق فيما سيأتي من الزمن (بَشَراً) : أي جسما من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض ، أو من كونه بادي البشرة. وقوله : (مِنْ طِينٍ) متعلق بمحذوف هو صفة لبشر أو بخالق ومعنى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) صوّرته على صورة البشر ، وصارت أجزاؤه مستوية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي : من الروح الذي أملكه ، ولا يملكه غيري. وقيل : هو تمثيل ، ولا نفخ ولا منفوخ فيه. والمراد : جعله حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه. وقد مرّ الكلام في هذا في سورة الحجر (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) هو أمر من وقع يقع ، وانتصاب ساجدين على الحال ، والسجود هنا : هو سجود التحية ، لا سجود العبادة ، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) في الكلام حذف تدلّ عليه الفاء والتقدير : فخلقه فسوّاه ونفخ فيه من روحه ، فسجد له الملائكة. وقوله : (كُلُّهُمْ) يفيد أنهم سجدوا جميعا ولم يبق منهم أحد. وقوله : (أَجْمَعُونَ) يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد : فالأوّل لقصد الإحاطة ، والثاني : لقصد الاجتماع. قال في الكشاف : فأفاد معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات. وقيل : إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم (إِلَّا إِبْلِيسَ) الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفا بصفات الملائكة داخلا في عدادهم فغلبوا عليه ، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم أي لكن إبليس (اسْتَكْبَرَ) أي : أنف من السجود جهلا منه بأنه طاعة لله ، (وَ) كان استكباره استكبار كفر ، فلذلك (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : صار منهم بمخالفته لأمر الله واستكباره عن طاعته ، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة ، والأعراف ، وبني إسرائيل ، والكهف ، وطه. ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به ف (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة ، وأضاف

٥١٠

خلقه إلى نفسه تكريما له وتشريفا ، مع أنه سبحانه خالق كلّ شيء كما أضاف إلى نفسه الروح ، والبيت ، والناقة ، والمساجد. قال مجاهد : اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازا كقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ). وقيل : أراد باليد القدرة ، يقال : ما لي بهذا الأمر يد ، وما لي به يدان ، أي قدرة ، ومنه قول الشاعر :

تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد

ولا للجبال الراسيات يدان

وقيل : التثنية في اليد للدلالة على أنها ليست بمعنى القوّة والقدرة ، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه ، و «ما» في قوله : (لِما خَلَقْتُ) هي المصدرية أو الموصولة. وقرأ الجحدري «لما» بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى : حين ، كما قال أبو عليّ الفارسي. وقرئ «بيدي» على الإفراد (أَسْتَكْبَرْتَ) قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ وتقريع و (أَمْ) متصلة. وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بألف وصل ، ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :

تروح من الحيّ أم تبتكر

وقول الآخر :

بسبع رمين الجمر أم بثمانيا

ويحتمل أن يكون خبرا محضا من غير إرادة للاستفهام فتكون (أَمْ) منقطعة ، والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل (كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي : المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله ؛ المتعالين عن ذلك ، وقيل المعنى : استكبرت عن السجود الآن ، أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك ، وجملة : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ادّعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم ، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن ، ثم علل ما ادّعاه من كونه خيرا منه بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين ، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغني عنها طردت ، وأيضا فالطين يستولي على النار فيطفئها ، وأيضا فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض ، وعلى كلّ حال فقد شرّف آدم بشرف وكرّم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر ، وذلك أن الله خلقه بيديه ، ونفخ فيه من روحه ، والجواهر في أنفسها متجانسة ، وإنما تشرف بعارض من عوارضها ، وجملة (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) مستأنفة كالتي قبلها : أي : فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة ، ثم علل أمره بالخروج بقوله : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي : مرجوم بالكواكب مطرود من كلّ خير (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي : طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها ، ويوم الدين : يوم الجزاء ، فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرّة له دائمة عليه ما دامت الدنيا ، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق ، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة ، بل هو ملعون أبدا ، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه

٥١١

منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه ، وجملة : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) مستأنفة كما تقدّم فيما قبلها ، أي : أمهلني ولا تعاجلني إلى غاية هي يوم يبعثون ، يعني : آدم وذريته (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي : الممهلين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الذي قدّره الله لفناء الخلائق ، وهو عند النفخة الآخرة ، وقيل : هو النفخة الأولى. قيل : إنما طلب إبليس الانتظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت ، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث ، وعند مجيء البعث لا يموت ، فحينئذ يتخلص من الموت. فأجيب بما يبطل مراده ، وينقض عليه مقصده ، وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره ، فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فأقسم بعزّة الله أنه يضلّ بني آدم بتزيين الشهوات لهم ، وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعا. ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه ، وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي ، استثنى من لا يقدر على إضلاله ، ولا يجد السبيل إلى إغوائه فقال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي : الذين أخلصتهم لطاعتك وعصمتهم من الشيطان الرجيم وقد تقدّم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها. وقد أقسم هاهنا بعزّة الله ، وأقسم في موضع آخر بقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) ولا تنافي بين القسمين فإن إغواءه إياه من آثار عزّته سبحانه وجملة : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) مستأنفة كالجمل التي قبلها. قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب ، أو هما منصوبان على الإغراء : أي الزموا الحق ، أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش ، وعاصم ، وحمزة برفع الأوّل ، ونصب الثاني ، فرفع الأوّل على أنه مبتدأ ، وخبره مقدّر ، أي : فالحق مني ، أو الحق أنا ، أو خبره : لأملأن ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، وأما نصب الثاني : فبالفعل المذكور بعده ، أي : وأنا أقول الحق ، وأجاز الفراء ، وأبو عبيد أن يكون منصوبا بمعنى حقا لأملأن جهنم. واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها. وروي عن سيبويه ، والفراء أيضا أن المعنى فالحق أن إملاء جهنم. وروي عن ابن عباس ، ومجاهد أنهما قرءا برفعهما ، فرفع الأوّل على ما تقدّم ، ورفع الثاني بالابتداء ، وخبره الجملة المذكورة بعده ، والعائد محذوف. وقرأ ابن السميقع وطلحة بن مصرف بخفضهما على تقدير حرف القسم. قال الفراء : كما يقول الله عزوجل لأفعلنّ كذا ، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال : لا يجوز الخفض بحرف مضمر ، وجملة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) جواب القسم على قراءة الجمهور ، وجملة : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) معترضة بين القسم وجوابه ، ومعنى (مِنْكَ) أي : من جنسك من الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي : من ذرّية آدم فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية و (أَجْمَعِينَ) تأكيد للمعطوف ، والمعطوف عليه ، أي : لأملأنها من الشياطين وأتباعهم أجمعين. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل ، فقال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) والضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ، ولم يتقدّم له ذكر ، ولكنه مفهوم من السياق. وقل : هو عائد إلى ما تقدّم من قوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) وقيل : الضمير راجع إلى القرآن ، وقيل : إلى الدّعاء إلى الله على العموم ، فيشمل القرآن وغيره من الوحي

٥١٢

ومن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه ، والتكلف : التصنع (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : ما هذا القرآن ، أو الوحي ، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عزوجل للجنّ والإنس. قال الأعمش : ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين (وَلَتَعْلَمُنَ) أيها الكفار (نَبَأَهُ) أي : ما أنبأ عنه ، وأخبر به من الدّعاء إلى الله وتوحيده ، والترغيب إلى الجنة ، والتحذير من النار (بَعْدَ حِينٍ) قال قتادة والزجاج والفراء : بعد الموت. وقال عكرمة وابن زيد : يوم القيامة. وقال الكلبي : من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا ، ومن مات علمه بعد الموت. قال السدّي : وذلك يوم بدر.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أن الخصومة هي (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن ابن عمر قال : خلق الله أربعا بيده : العرش ، وجنة عدن ، والقلم ، وآدم. وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن الحارث قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده». وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) قال : أنا الحق أقول الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) قال : قل يا محمّد (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) ما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ) عرض دنيا. وفي البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن مسروق قال : بينما رجل يحدّث في المسجد ، فقال فيما يقول : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) قال : دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، قال : قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئا فاستوى قاعدا فقال : يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم ، قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). وأخرج البخاري عن عمر قال : نهينا عن التكلف. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال : نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نتكلف للضيف.

* * *

٥١٣

سورة الزّمر

هي اثنتان وسبعون آية ، وقيل خمس وسبعون ، وهي مكية في قول الحسن ، وعكرمة ، وجابر بن زيد. وأخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال : نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشيّ قاتل حمزة (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الثلاث الآيات. وقال آخرون : إلا سبع آيات من قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر السبع. وأخرج النسائي عن عائشة : قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوم حتّى نقول ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتّى نقول ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ في كلّ ليلة بني إسرائيل والزمر» وأخرجه الترمذي عنها بلفظ : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتّى يقرأ الزّمر وبني إسرائيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة ، أي : هذا تنزيل. وقال أبو حيان : إن المبتدأ المقدّر لفظ هو ؛ ليعود على قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب ، وقيل : ارتفاعه على أنه مبتدأ ، وخبره : الجارّ والمجرور بعده ، أي : تنزيل كائن من الله ، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء. قال الفراء : ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل ، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدّر ، أي : اتبعوا أو اقرءوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء : يجوز نصبه على الإغراء ، أي : الزموا ، والكتاب : هو القرآن ، وقوله : (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) على الوجه الأوّل صلة للتنزيل ، أو : خبر بعد خبر ، أو : خبر مبتدأ محذوف ، أو : متعلق بمحذوف على أنه

٥١٤

حال عمل فيه اسم الإشارة المقدّر (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الباء سببية متعلقة بالإنزال ، أي : أنزلناه بسبب الحقّ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل : أي متلبّسين بالحقّ ، أو من المفعول ، أي : متلبسا بالحق ، والمراد كلّ ما فيه من إثبات التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، وأنواع التكاليف. قال مقاتل : يقول لم ننزله باطلا لغير شيء (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وانتصاب مخلصا على الحال من فاعل اعبد ، والإخلاص : أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه ، والدين : العبادة والطاعة ، ورأسها توحيد الله ، وأنه لا شريك له. قرأ الجمهور «الدين» بالنصب على أنه مفعول مخلصا. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصا مسند إلى الدين على طريقة المجاز. قيل : وكان عليه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام. وفي الآية دليل على وجوب النية ، وإخلاصها عن الشوائب ، لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية ، كما في حديث «إنّما الأعمال بالنيّات» ، وحديث «ولا قول ولا عمل إلا بنيّة» ، وجملة : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإخلاص ، أي : إن الدين الخالص من شوائب الشرك ، وغيره : هو لله ، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص ، والموصول : عبارة عن المشركين ، ومحله الرفع على الابتداء ، وخبره قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، وجملة : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العلل ، والمعنى : والذين لم يخلصوا العبادة لله ، بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقرّبونا إلى الله تقريبا ، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام ، وهم المرادون بالأولياء والمراد بقولهم : (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الشفاعة ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين. قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا : الله ، فيقال لهم : ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا : ليقرّبونا إلى الله زلفى ، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي : جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) ، والزلفى : اسم أقيم مقام المصدر ، كأنه قال : إلا ليقرّبونا إلى الله تقريبا. وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد «قالوا ما نعبدهم» ومعنى (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحقه ، وقيل : بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا ، وحذف الأول لدلالة الحال عليه ، ومعنى : (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك ، فإن كلّ طائفة تدّعي أن الحقّ معها (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي : يرشد لدينه ، ولا يوفق للاهتداء إلى الحقّ من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله ، وكفر باتخاذها آلهة ، وجعلها شركاء لله ، والكفّار صيغة مبالغة تدلّ على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية. وقرأ الحسن ، والأعرج على صيغة المبالغة ككفار ، ورويت هذه القراءة عن أنس. (لَوْ

٥١٥

أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) هذا مقرّر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ، فلو أراد أن يتخذ ولدا لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ، ولم يتأتّ ذلك إلا بأن يصطفي (مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : يختار من جملة خلقه ما شاء أن يصطفيه ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق لعدم المجانسة بينهما ، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبدا كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ ؛ فمعنى الآية : لو أراد أن يتخذ ولدا لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد ، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ، ولهذا نزّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن ذلك ، وجملة : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) مبينة لتنزّهه بحسب الصفات بعد تنزّهه بحسب الذات ، أي : هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته ، ومن كان متصفا بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه ، لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا). ثم لما ذكر سبحانه كونه منزّها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : لم يخلقهما باطلا لغير شيء ، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك ، أو صاحبة ، أو ولد. ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) التكوير في اللغة : طرح الشيء بعضه على بعض. يقال كوّر المتاع : إذا ألقى بعضه على بعض ، ومنه كوّر العمامة ؛ فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه ، ومعنى تكوير النهار على الليل : تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته ، وهو معنى قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك : أي يلقي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، وهو مقارب للقول الأوّل. وقيل معنى الآية : أن ما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، وهو معنى قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وقيل المعنى : إن هذا يكرّ على هذا وهذا يكر على هذا كرورا متتابعا. قال الراغب : تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة اه. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها ، وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كلّ يوم يغلب هذا ذاك ، وذاك هذا؟ ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار ، وسلطان الليل ، وهما الشمس والقمر فقال : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي : جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا ، وذلك يوم القيامة ، وقد تقدّم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة «يس». (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ألا : حرف تنبيه ، والمعنى : تنبهوا أيها العباد ، فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته وبديع صنعه ، فقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي : نفس آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) جاء بثمّ للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم ، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه ، والعطف : إما على مقدّر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج التقدير خلقكم

٥١٦

من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة ، أي : من نفس انفردت ثم جعل إلخ ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثمّ للدلالة على أن خلق حوّاء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته الباهرة فقال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وهو معطوف على خلقكم ، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فيكون الإنزال حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازا ، لأنها لم تعش إلّا بالنبات ، والنبات إنّما يعيش بالماء والماء منزل من السماء ، كانت الأنعام كأنها منزلة ، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وقيل : إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل ، أو بمعنى : أعطى ، وقيل : جعل الخلق إنزالا ، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء ، والثمانية الأزواج : هي ما في قوله من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع : الذكر والأنثى ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته البديعة فقال : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم ، وخلقا : مصدر مؤكد للفعل المذكور ، و (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : صفة له ، أي : خلقا كائنا من بعد خلق. قال قتادة والسدّي : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم لحما. وقال ابن زيد : خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم ، وقوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) متعلق بقوله : (يَخْلُقُكُمْ) وهذه الظلمات الثلاث هي : ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ، وظلمة المشيمة قاله مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك. وقال سعيد بن جبير : ظلمة المشيمة ، وظلمة الرّحم ، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة : ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرّحم ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ) إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة ، والاسم الشريف : خبره (رَبُّكُمْ) خبر آخر (لَهُ الْمُلْكُ) الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغيره فيه ، وهو خبر ثالث ، وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر رابع (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة : «إمهاتكم» بكسر الهمزة والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.

وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال : يا رسول الله إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا» قال : يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لا يقبل إلا ما أخلص له ، ثم تلا هذه الآية (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)» وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ)

٥١٧

قال : يحمل الليل. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال : علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) البطن ، والرحم ، والمشيمة.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢))

لما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده ، وبين لهم من بديع صنعه ، وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي : غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا إلى عبادتكم له فإنه الغنيّ المطلق ، (وَ) مع كون كفر الكافر لا يضرّه كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن ، فهو أيضا (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي : لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به ، ومثل هذه الآية قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١) ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا».

وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها ، وإن الكفر غير مرضيّ لله سبحانه على كلّ حال كما هو الظاهر ، أو هي خاصة؟ والمعنى : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث ، وتابعه على ذلك عكرمة والسدّي وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية اختلافا آخر. فقال قوم : إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه ، وقال آخرون : إنه لا يريده ولا يرضاه ، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدا. وقد استدلّ القائلون بتخصيص هذه الآية ، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (٢) (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٤) ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر ، فقال : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي : يرضى لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثيبكم عليه ، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٥) قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وشيبة ،

__________________

(١). إبراهيم : ٨.

(٢). الرعد : ٢٧.

(٣). يونس : ٢٥.

(٤). الإنسان : ٣٠.

(٥). إبراهيم : ٧.

٥١٨

وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه ، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان ، وابن كثير ، والكسائي ، وابن محيصن ، وورش عن نافع ، واختلس الباقون (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، وفيه تهديد شديد (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما تضمره القلوب وتستره ، فكيف بما تظهره وتبديه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) أيّ ضر كان من مرض أو فقر أو خوف (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي : راجعا إليه مستغيثا به في دفع ما نزل به تاركا لما كان يدعوه ، ويستغيث به من ميت ، أو حيّ ، أو صنم ، أو غير ذلك (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) أي : أعطاه وملكه ، يقال خوّله الشيء : أي ملكه إياه ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا (١)

ومنه قول أبي النجم :

أعطى ولم يبخل فلم يبخّل

كوم الذّرى من خول المخوّل

(نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي : نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله ، وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه ، أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرّع إليه ، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله ، وهو معنى قوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي : شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقال السدّي : يعني أندادا من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهدّد من كان متصفا بتلك الصفة فقال : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أي : تمتعا قليلا ، أو زمانا قليلا ، فمتاع الدنيا قليل ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي : مصيرك إليها عن قريب ، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، قرأ الجمهور (لِيُضِلَ) بضم الياء ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتحها. ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى ذلك الكافر أحسن حالا ومآلا ، أمن هو قائم بطاعات الله في السرّاء والضرّاء في ساعات الليل ، مستمرّ على ذلك ، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به. قرأ الحسن ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، والكسائي (أَمَّنْ) بالتشديد ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، ويحيى ابن وثاب ، والأعمش بالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى : أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم ، وأم هي المتصلة ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت؟ وقيل : هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة ، أي : بل أمن هو قانت كالكافر؟ وأما على القراءة الثانية : فقيل : الهمزة للاستفهام دخلت على من

__________________

(١). البيت لزهير ، ومعنى «إن ييسروا يغلوا» : إذا قامروا بالميسر ، يأخذون سمان الإبل ، فيقامرون عليها.

٥١٩

والاستفهام : للتقرير ومقابله محذوف ، أي : أمن هو قانت كمن كفر؟ وقال الفراء : إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ، ومن : منادى ، وهي عبارة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المأمور بقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ) والتقدير : يا من هو قانت ؛ قل : كيت وكيت ، وقيل التقدير : يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة. ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفرّاء ، وضعف ذلك أبو حيان ، وقال : هو أجنبيّ عما قبله ، وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو عليّ الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم ، والأخفش ، ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدّراية.

وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل : المطيع ، وقيل : الخاشع في صلاته ، وقيل : القائم في صلاته ، وقيل : الدّاعي لربه. قال النحاس : أصل القنوت : الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة ، والمراد بآناء الليل : ساعاته ، وقيل : جوفه ، وقيل : ما بين المغرب والعشاء ، وانتصاب (ساجِداً وَقائِماً) على الحال ، أي : جامعا بين السجود والقيام ، وقدّم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، ومحل (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) النصب على الحال أيضا ، أي : يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) فيجمع بين الرجاء والخوف ، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز. قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : كمن لا يفعل شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم قولا آخر يتبين به الحقّ من الباطل فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حقّ ، والذين لا يعلمون ذلك ، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله ، والذين لا يعلمون ذلك ، أو المراد : العلماء والجهال ، ومعلوم عند كلّ من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل. قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل المراد بالذين يعلمون : هم العاملون بعلمهم فإنهم المنتفعون به ، لأنّ من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : إنما يتعظ ويتدبر ويتفكر أصحاب العقول ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم ، وبين أنه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه ، والإيمان به. والمعنى : يا أيها الذين صدّقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وإخلاص الإيمان له ، ونفي الشركاء عنه ، والمراد قل لهم قولي هذا بعينه. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي : للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة ، وقوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بأحسنوا ، وقيل : هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها ، فيكون المعنى : للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية والظفر والغنيمة ، والأوّل أولى. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ)

٥٢٠