فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالما لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظا عظيما ، وقيل : الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر.

وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد ، فقال عكرمة وقتادة والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقيّ على الإطلاق ، وبه قال الفراء ، وقال مجاهد في تفسير الآية : فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أصحاب الميمنة (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) السابقون من الناس كلهم. وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته ، والمقتصد : الذي استوت حسناته وسيئاته ، والسابق : من رجحت حسناته على سيئاته. وقال مقاتل : الظالم لنفسه : أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد : الذي لم يصب كبيرة ، والسابق : الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس أن الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فتكون (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) للذين سبقوا بالخيرات لا غير ، قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقال الضحاك. فيهم ظالم لنفسه : أي من ذرّيتهم ظالم لنفسه. وقال سهل بن عبد الله : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم لنفسه : الجاهل. وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه : الذاكر لله بلسانه فقط ، المقتصد : الذاكر بقلبه ، والسابق : الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي : الظالم : صاحب الأقوال ، والمقتصد : صاحب الأفعال ، والسابق : صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء : الظالم : الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد : الذي يحب الله من أجل العقبى ، والسابق : الذي أسقط مراده بمراد الحقّ. وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد : الذي يعبده طمعا في الجنة ، والسابق : الذي يعبده لا لسبب. وقيل : الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد : الذي يحبّ دينه ، والسابق : الذي يحبّ ربه. وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد : الذي ينتصف وينصف ، والسابق : الذي ينصف ولا ينتصف. وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالا كثيرة ، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة ، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ ، وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب ، وإن كان قائما بما أوجب الله عليه تاركا لما نهاه الله عنه ، فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ، ومن أهل الجنة ، فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) وقول يونس (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ، ولا إلى جانب التفريط وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق : فهو الذي سبق غيره في أمور الدين ، وهو خير الثلاثة.

وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد ، وتقديمها على السابق ، مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما ، فقيل : إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ

__________________

(١). الأعراف : ٢٣.

(٢). الأنبياء : ٨٧.

٤٠١

النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (١) ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير ، وتقديم المفضولين على الفاضلين. وقيل : وجه التقديم هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل ، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل ، فقدّم الأكثر على الأقلّ ، والأوّل أولى فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر ، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى توريث الكتاب والاصطفاء ، وقيل : إلى السبق بالخيرات ، والأوّل أولى ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي : الفضل الذي لا يقادر قدره ، وارتفاع (جَنَّاتُ عَدْنٍ) على أنها مبتدأ ، وما بعدها خبرها ، أو على البدل من الفضل لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب ، وعلى هذا فتكون جملة : (يَدْخُلُونَها) مستأنفة وقد قدّمنا أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة ، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير ، وقرأ زرّ بن حبيش والترمذي «جنّة» بالإفراد ، وقرأ الجحدري «جنات» بالنصب على الاشتغال ، وجوّز أبو البقاء أن تكون جنات خبرا ثانيا لاسم الإشارة ، وقرأ أبو عمرو «يدخلونها» على البناء للمفعول ، وقوله : (يُحَلَّوْنَ) خبر ثان لجنات عدن ، أو حال مقدّرة ، وهو من حليت المرأة فهي حال ، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول ، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول ، فلما قال : (يُحَلَّوْنَ فِيها) أشار أن دخولهم على وجه السرعة (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) من الأولى تبعيضية ، والثانية بيانية ، أي : يحلون بعض أساور كائنة من ذهب ، والأساور جمع أسورة جمع سوار ، وانتصاب (لُؤْلُؤاً) بالعطف على محل (مِنْ أَساوِرَ) وقرئ بالجرّ عطفا على ذهب (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قرأ الجمهور «الحزن» بفتحتين. وقرأ جناح ابن حبيش بضمّ الحاء وسكون الزاي. والمعنى : أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة. قال قتادة : حزن الموت. وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف ردّ الطاعات. وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير : همّ الخبز في الدنيا ، وقيل همّ المعيشة. وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد. وهذا أرجح الأقوال ، فإن الدنيا وإن بلغ نعيمها أيّ مبلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان ، وخصوصا أهل الإيمان ، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه ، مضطربي القلوب في كلّ حين ، هل تقبل أعمالهم أو تردّ؟ حذرين من عاقبة السوء وخاتمة الشرّ ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة. وأما أهل العصيان : فهم وإن نفس عن خناقهم قليلا في حياة الدنيا التي هي دار الغرور ، وتناسوا دار القرار يوما من دهرهم فلا بدّ أن يشتدّ وجلهم وتعظم مصيبتهم ، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت ، وقربوا من منازل الآخرة ، ثم إذا قبضت أرواحهم ، ولاح لهم ما يسوءهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غما وحزنا ، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة ، وأدخلهم الجنة ، فقد أذهب عنهم أحزانهم وأزال غمومهم وهمومهم (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي : غفور لمن عصاه ، شكور لمن أطاعه

__________________

(١). الحشر : ٢٠.

٤٠٢

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أي : دار الإقامة التي يقام فيها أبدا ، ولا ينتقل عنها تفضلا منه ورحمة (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي : لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) وهو الإعياء من التعب ، والكلال من النصب.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) قال الأبيض والأحمر والأسود ، وفي قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) قال : طرائق (بِيضٌ) يعني الألوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الغربيب الأسود : الشديد السواد. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) قال : طرائق تكون في الجبل بيض (وَحُمْرٌ) فتلك الجدد (وَغَرابِيبُ سُودٌ) قال : جبال سود (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) قال : (كَذلِكَ) اختلاف الناس والدّواب والأنعام كاختلاف الجبال ، ثم قال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال : فصل لما قبلها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال : العلماء بالله الذين يخافونه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : الذين يعلمون أن الله على كلّ شيء قدير. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عديّ عن ابن مسعود قال : ليس العلم من كثرة الحديث ، ولكن العلم من الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والطبراني عنه قال : كفى بخشية الله علما ، وكفى باغترار بالله جهلا. وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضا قال : ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال : بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله. وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث ابن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) قال : هم أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورثهم الله كلّ كتاب أنزل ، فظالمهم مغفور له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال في هذه الآية «(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) قال : هؤلاء كلّهم بمنزلة واحدة ، وكلّهم يدخلون الجنّة». وفي إسناده رجلان مجهولان. قال الإمام أحمد في مسنده قال : حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار ، أنه سمع رجلا من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد. وأخرج الفريابي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فأمّا الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنّة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا. وأمّا الذين ظلموا

٤٠٣

أنفسهم ، فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ، ثمّ هم الذين تلافاهم الله برحمته ، فهم الذين يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) إلى آخر الآية». قال البيهقي : إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا اه. وفي إسناد أحمد : محمّد بن إسحاق ، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول ، لأنه رواه من طريق الأعمش عن رجل عن أبي ثابت عن أبي الدرداء ، ورواه ابن جرير عن الأعمش قال : ذكر أبو ثابت. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنّة ، وثلث يمحّصون ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون : لا إله إلا الله وحده ، فيقول الله : أدخلوهم الجنّة بقولهم لا إله إلا الله وحده ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب وهي التي قال الله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وتصديقها في التي ذكر في الملائكة. قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فجعلهم ثلاثة أفواج. فمنهم ظالم لنفسه ، فهذا الذي يكشف ويمحّص ، ومنهم مقتصد ، وهو الذي يحاسب حسابا يسيرا. ومنهم سابق بالخيرات ، فهو الذي يلج الجنّة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله ، يدخلونها جميعا». قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث : غريب جدّا اه. وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضا ويجب المصير إليها ، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّهم من هذه الأمّة ، وكلّهم في الجنّة» وما أخرجه الطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال : قلت لعائشة أرأيت قول الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) الآية ، قالت : أما السابق ، فمن مضى في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهد له بالجنة. وأما المقتصد فمن تبع آثارهم ، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه ، فمثلي ومثلك ومن اتبعنا ، وكلّ في الجنة. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا ، فيقول الربّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، ثم قرأ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) الآية. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) قال : ألا إن سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له. وأخرجه العقيلي ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعا. وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعا. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج سعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ، ثم قال : ألا إن سابقنا أهل جهادنا ، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا. وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية قال :

٤٠٤

أشهد على الله أن يدخلهم جميعا الجنة. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية «(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) قال : كلهم ناج وهي هذه الأمة». وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. والسابقون : صنفان ناجيان ، وصنف هالك. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه في قوله : فمنهم ظالم لنفسه قال : هو الكافر ، والمقتصد : أصحاب اليمين. وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني ، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية ، فقال نجوا كلهم ، ثم قال : تحاكت مناكبهم وربّ الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم ، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيده أن الظالم لنفسه من الناجين ، فتعارضت الأقوال عنه. وأخرج الترمذي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) فقال : «إنّ عليهم التّيجان ، إنّ أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب». وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية قال : هم قوم في الدنيا يخافون الله ، ويجتهدون له في العبادة سرّا وعلانية ، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم ، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت ، فعندها (قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) غفر لنا العظيم ، وشكر لنا القليل من أعمالنا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في الآية قال : حزن النار.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ

٤٠٥

وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين ، ذكر جزاء عباده الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) أي : لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ويستريحوا من العذاب (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) بل (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١) قرأ الجمهور «فيموتوا» بالنصب جوابا للنفي ، وقرأ عيسى بن عمر والحسن بإثبات النون. قال المازني : على العطف على يقضى. وقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة ولا وجه لهذا التضعيف بل هي كقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٢) (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كلّ من هو مبالغ في الكفر ، وقرأ أبو عمرو «نجزي» على البناء للمفعول (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) من الصراخ : وهو الصياح ، أي : وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم ، والصارخ : المستغيث ، ومنه قول الشاعر:

كنّا إذا ما أتانا صارخ فزغ

كان الصّراخ له قرع الظّنابيبا (٣)

(رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهم يصطرخون يقولون : ربنا ... إلخ. قال مقاتل : هو أنهم ينادون : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي نعمل : من الشرك والمعاصي ، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر ، والطاعة بدل المعصية ، وانتصاب صالحا على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : عملا صالحا ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي : نعمل شيئا صالحا. قيل وزيادة قوله : (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة ، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) والاستفهام : للتقريع والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، وما : نكرة موصوفة ، أي : أو لم نعمركم عمرا يتمكن من التذكر فيه من تذكر. فقيل : هو ستون سنة ، وقيل : أربعون ، وقيل : ثماني عشرة سنة. قال بالأوّل : جماعة من الصحابة ، وبالثاني : الحسن ومسروق وغيرهما ، وبالثالث : عطاء وقتادة. وقرأ الأعمش «ما يذّكّر» بالإدغام (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال الواحدي : قال جمهور المفسرين : هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عكرمة وسفيان ابن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير : هو الشيب ، ويكون معناه على هذا القول : أو لم نعمركم حتى شبتم ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : الحمى. قال الأزهري : معناه : أن الحمى رسول الموت ، أي : كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه ، والشيب : نذير أيضا ، لأنه يأتي في سنّ الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سنّ الصبا الذي هو سنّ اللهو واللعب ، وقيل : هو موت الأهل والأقارب ، وقيل : هو كمال العقل ، وقيل :

__________________

(١). الأعلى : ١٣.

(٢). المرسلات : ٣٦.

(٣). البيت لسلامة بن جندل ، والظّنابيب : جمع الظنبوب ، وهو مسمار يكون في جبّة السّنان ، وقرع ظنابيب الأمر : ذلّله.

٤٠٦

البلوغ (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي : فذوقوا عذاب جهنم ، لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا ، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله ، ويحول بينكم وبينه. قال مقاتل : فذوقوا العذاب ، فما للمشركين من مانع يمنعهم (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قرأ الجمهور بإضافة عالم إلى غيب ، وقرأ جناح ابن حبيش بالتنوين ونصب غيب. والمعنى : أنه عالم بكل شيء ومن ذلك أعمالا لا تخفى عليه منها خافية ، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا كما قال سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١) (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما قبله ، لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كلّ شيء علم ما فوقها بالأولى ، وقيل : هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلكم أمة خالفة لمن قبلها. قال قتادة : خلفا بعد خلف وقرنا بعد قرن ، والخلف : هو التالي للمتقدّم ، وقيل : جعلكم خلفاءه في أرضه (فَمَنْ كَفَرَ) منكم هذه النعمة (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي : عليه ضرر كفره ، لا يتعدّاه إلى غيره (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي : غضبا وبغضا (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي : نقصا وهلاكا ، والمعنى : أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت ، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار. ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة وعبدتموهم من دون الله ، وجملة : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) بدل اشتمال من أرأيتم ، والمعنى : أخبروني عن شركائكم ، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض؟ وقيل : إن الفعلان ، وهما أرأيتم وأروني من باب التنازع. وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي : أم لهم شركة مع الله في خلقها ، أو ملكها ، أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي : أم أنزلنا عليهم كتابا بالشركة (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي : على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم «بيّنة» بالتوحيد ، وقرأ الباقون بالجمع. قال مقاتل : يقول هل أعطينا كفار مكة كتابا ، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكا. ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي : ما يعد الظالمون بعضهم بعضا كما يفعله الرّؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم إلا غرورا يغرونهم به ويزينونه لهم ، وهو الأباطيل التي تغرّ ولا حقيقة لها ، وذلك قولهم : إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله ، وتشفع لهم عنده. وقيل : إن الشياطين تعد المشركين بذلك ، وقيل : المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضا هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم ، وجملة : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام وعدم قدرتها على شيء ، وقيل المعنى : إن شركهم يقتضي زوال السموات والأرض كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٢) (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي : ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه ، أو من بعد زوالهما ، والجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط ، ومعنى :

__________________

(١). الأنعام : ٢٨.

(٢). مريم : ٩٠ و ٩١.

٤٠٧

(أَنْ تَزُولا) لئلا تزولا ، أو : كراهة أن تزولا. قال الزجاج : المعنى أن الله يمنع السموات والأرض من أن تزولا ، فلا حاجة إلى التقدير. قال الفراء : أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد ، قال : وهو مثل قوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) وقيل : المراد زوالهما يوم القيامة ، وجملة : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) المراد قريش ، أقسموا قبل أن يبعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهذا القسم حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، ومعنى : (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني : المكذبة للرسل ، والنذير : النبيّ ، والهدى : الاستقامة ، وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل (فَلَمَّا جاءَهُمْ) ما تمنوه ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو أشرف (نَذِيرٌ) وأكرم مرسل وكان من أنفسهم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) منهم عنه ، وتباعدا عن إجابته (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي : لأجل الاستكبار والعتوّ (وَ) لأجل (مَكْرَ السَّيِّئِ) أي : مكر العمل السيئ ، أو : مكروا المكر السيئ ، والمكر : هو الحيلة والخداع ، والعمل القبيح ، وأضيف إلى صفته كقوله : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وأنث إحدى لكونه أمة مؤنثة كما قال الأخفش. وقيل المعنى : من إحدى الأمم على العموم ، وقيل : من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلا لها. قرأ الجمهور «ومكر السّيئ» بخفض همزة السيء ، وقرأ الأعمش وحمزة بسكونها وصلا. وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة ، ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها ، قالوا : وإنما كان يقف بالسكون ، فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلا ، وتوجيه هذه القراءة ممكن ، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر:

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

بسكون الباء من أشرب ، ومثله قراءة من قرأ «وما يشعركم» بسكون الراء ، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو «إلى بارئكم» بسكون الهمزة ، وغير ذلك كثير. قال أبو علي الفارسي : هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقرأ ابن مسعود «ومكرا سيّئا» (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي : لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء. قال الكلبي : يحيق بمعنى يحيط ، والحوق الإحاطة ، يقال حاق به كذا إذا أحاط به وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ، ولكن قطرب فسره هنا بينزل ، وأنشد :

وقد دفعوا المنيّة فاستقلّت

ذراعا بعد ما كانت تحيق

أي تنزل (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي : سنة الله فيهم ؛ بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : لا يقدر أحد أن يبدّل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلا عنه (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) بأن يحوّل ما جرت به سنة الله من العذاب ، فيدفعه عنهم ، ويضعه على غيرهم ، ونفي وجدان التبديل والتحويل ؛ عبارة عن نفي وجودهما (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده ،

٤٠٨

أي : ألم يسيروا في الأرض فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ، ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل ، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدّل ولا تحوّل ، وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم (وَ) الحال أن أولئك (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وأطول أعمارا ، وأكثر أموالا ، وأقوى أبدانا (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائنا ما كان فيهما (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي : كثير العلم ، وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء ، ولا يصعب عليه أمر (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الذنوب وعملوا من الخطايا (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) من الدواب التي تدبّ كائنة ما كانت ، أما بنو آدم فلذنوبهم ، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم. وقيل : المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدبّ من بني آدم والجنّ ، وقد قال بالأوّل ابن مسعود وقتادة ، وقال بالثاني الكلبي. وقال ابن جريج ؛ والأخفش ، والحسين بن الفضل : أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي : بمن يستحق منهم الثواب ، ومن يستحق منهم العقاب ، والعامل في إذا هو جاء ، لا بصيرا ، وفي هذا تسلية للمؤمنين ، ووعيد للكافرين.

وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال : ستين سنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر» وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ، وفيه مقال. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعذر الله إلى امرئ أخّر عمره حتّى بلغ ستين سنة» وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير عن عليّ ابن أبي طالب قال : العمر الذي عمرهم الله به ستون سنة. وأخرج الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن المنذر ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعمار أمّتي ما بين السّتين إلى السّبعين ، وأقلّهم من يجوز ذلك». قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد وقال : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وقد روي من غير وجه عنه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : هو ستّ وأربعون سنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أربعون سنة. وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : قال : وقع

٤٠٩

في نفس موسى هل ينام الله عزوجل؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا وأعطاه قارورتين ، في كلّ يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما ، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ ، فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتّى نام نومة ، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال : ضرب الله له مثلا : إنّ الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السّماء والأرض» وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام أن موسى قال : يا جبريل هل ينام ربّك؟ فذكر نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أن موسى فذكر نحوه. وأخرج الفريابي ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنّه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) الآية.

* * *

٤١٠

سورة يس

وهي مكية. قال القرطبي : بالإجماع إلا أن فرقة قالت : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيأتي بيان ذلك. وأخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : سورة يس نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وأخرج الدارمي ، والترمذي ، ومحمّد بن نصر ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكلّ شيء قلبا ، وقلب القرآن يس ، من قرأ يس ، كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات» قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن ، وفي إسناده هارون وأبو محمّد ، وهو شيخ مجهول ، وفي الباب عن أبي بكر ، ولا يصح لضعف إسناده. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكلّ شيء قلبا ، وقلب القرآن يس» ، ثم قال بعد إخراجه : لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد ، يعني زيد بن الحباب عن حميد المكي مولى آل علقمة. وأخرج الدارمي ، وأبو يعلى ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك اللّيلة» قال ابن كثير : إسناده جيد. وأخرج ابن حبان ، والضياء عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له» وإسناده في صحيح ابن حبان هكذا : حدّثنا محمّد بن إسحاق ابن إبراهيم مولى ثقيف ، حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد الكوبي ، حدّثنا أبي ، حدثنا زياد بن خيثمة ، حدثنا محمّد بن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومحمّد بن نصر ، وابن حبان والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يس قلب القرآن ، لا يقرؤها عبد يريد الله والدّار الآخرة إلا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، فاقرؤوها على موتاكم» وقد ذكر له أحمد إسنادين : أحدهما فيه مجهول ، والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان وقال : وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل. وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ يس فكأنّما قرأ القرآن عشر مرّات». وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سورة يس تدعى في التوراة المعمّمة ، تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة ، تكابد عنه بلوى الدّنيا والآخرة ، وتدفع عنه أهاويل الآخرة ، وتدعى الدّافعة والقاضية ، تدفع عن صاحبها كلّ سوء ، وتقضي له كلّ حاجة ، من قرأها عدلت عشرين حجّة ، ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله ، ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء ، وألف نور ، وألف يقين ، وألف بركة ، وألف رحمة ، ونزعت عنه كلّ غلّ وداء» قال البيهقي : تقرّب به عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن رافع الجندي ، وهو منكر. قلت : وهذا الحديث

٤١١

هو الذي تقدّمت الإشارة من الترمذي إلى ضعف إسناده ، ولا يبعد أن يكون موضوعا ، فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة من كلام من أوتي جوامع الكلم ، وقد ذكره الثعلبي من حديث عائشة ، وذكره الخطيب من حديث أنس. وذكر نحوه الخطيب من حديث عليّ بأخصر منه. وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة يس : «لوددت أنّها في قلب كلّ إنسان من أمتي» وإسناده هكذا : قال حدثنا سلمة ابن شبيب ، حدّثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دوام على قراءة يس كلّ ليلة ثمّ مات مات شهيدا». وأخرج الدارمي عن ابن عباس قال : من قرأ يس حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ، ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

قوله : (يس) قرأ الجمهور بسكون النون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام النون في الواو الذي بعدها ، وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون ، وقرأ ابن عباس ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم بكسرها ، فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدّر تقديره : اتل يس ، والكسر على البناء أيضا كجير ، وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين. وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون ، فلكونها مسرودة على نمط التعديد ؛ فلا حظ لها من الإعراب. وقرأ هارون الأعور ومحمّد بن السميقع والكلبي بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط ، وقيل : على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه يس ، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث.

واختلف في معنى هذه اللفظة ، فقيل : معناها يا رجل ، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري : الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة ، ومن قال معناه يا رجل لم يقف عليه. وقال سعيد بن جبير وغيره : هو اسم من أسماء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومنه قول السعد الحميري :

يا نفس لا تمحضي بالنّصح جاهدة

على المودّة إلّا آل ياسين

٤١٢

ومنه قوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١) أي على آل محمّد ، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين. قال الواحدي : قال ابن عباس والمفسرون : يريد يا إنسان : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر. وقال مالك : هو اسم من أسماء الله تعالى ، روى ذلك عنه أشهب. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أن معناه يا سيد. وقال كعب : هو قسم أقسم الله به ، ورجح الزجاج أن معناه يا محمّد.

واختلفوا هل هو عربيّ أو غير عربيّ؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة : حبشي ، وقال الكلبي : سرياني تكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقال الشعبي : هو بلغة طيئ. وقال الحسن : هو بلغة كلب. وقد تقدّم في طه وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل هاهنا (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) بالجرّ على أنه مقسم به ابتداء. وقيل هو معطوف على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار القسم. قال النقاش : لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له وتمجيدا ، والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف ، أو الحكيم قائله ، وجواب القسم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذا ردّ على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم : (لَسْتَ مُرْسَلاً) (٢) وقوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر آخر لإنّ ، أي : إنك على صراط مستقيم ، والصراط المستقيم : الطريق القيم الموصل إلى المطلوب. قال الزجاج : على طريقة الأنبياء الذين تقدّموك ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر برفع «تنزيل» على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو تنزيل ، ويجوز أن يكون خبرا لقوله يس إن جعل اسما للسورة ، وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية ، أي : نزّل الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى : أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم ، وقيل المعنى : إنك يا محمّد تنزيل العزيز الرحيم ، والأوّل أولى. وقيل : هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب ، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل ، وقرأ أبو حيوة ، والترمذي ، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة «تنزيل» بالجرّ على النعت للقرآن أو البدل منه ، واللام في (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) يجوز أن تتعلق بتنزيل ، أو بفعل مضمر يدلّ عليه من المرسلين ، أي : أرسلناك لتنذر ، و «ما» في (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) هي النافية ، أي : لم ينذر آباؤهم ، ويجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ، أي : لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم ، أو لتنذرهم عذابا أنذره آباؤهم ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنذار آبائهم ، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى : ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم ، ويجوز أن يراد ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ، وقوله : (فَهُمْ غافِلُونَ) متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأوّل : أي لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون ، وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله لتنذر ، أي : فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم ، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي ، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله ، واللام في قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لقد حقّ القول على أكثرهم ؛ ومعنى حقّ : ثبت ووجب القول ، أي : العذاب على أكثرهم ، أي : أكثر أهل

__________________

(١). الصافات : ١٣٠.

(٢). الرعد : ٤٣.

٤١٣

مكة ، أو أكثر الكفار على الإطلاق ، أو أكثر كفار العرب ، وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه طول حياته فيتفرّع قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) على ما قبله بهذا الاعتبار ، أي : لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه ، وقيل : المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) (١) وجملة (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم (فَهِيَ) أي : الأغلال منتهية (إِلَى الْأَذْقانِ) فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها ، وهو معنى قوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء والزجاج : المقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ؛ ومعنى الإقماح رفع الرأس وغضّ البصر ، يقال أقمح البعير رأسه وقمح : إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء ، قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء ، فهم مرفوعو الرؤوس رفع الأغلال إياها. وقال قتادة : معنى مقمحون : مغلولون ، والأوّل أولى ، ومنه قول الشاعر :

ونحن على جوانبها قعود

نغضّ الطّرف كالإبل القماح

قال الزجاج : قيل للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد ، وأنشد قول أبي زيد الهذلي :

فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا

وحبّ الزّاد في شهري قماح

قال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. وقال أبو عبيدة أيضا : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول ، كما يقال فلان حمار ، أي : لا يبصر الهدى ، وكما قال الشاعر :

لهم عن الرّشد أغلال وأقياد

وقال الفراء : هذا ضرب مثل ، أي : حسبناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (٢) وبه قال الضحاك. وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) (٣) وقرأ ابن عباس «إنّا جعلنا في أيمانهم أغلالا» قال الزجاج : أي في أيديهم. قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ، التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ؛ فلفظ هي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا ، ونظيره (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٤) وتقديره : وسرابيل تقيكم البرد ، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد ، لأن الغلّ إذا كان في العنق فلا بدّ أن يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون ، أي : رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ، لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إنا جعلنا في أيديهم أغلالا» وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا» كما روي سابقا من قراءة ابن عباس

__________________

(١). ص : ٨٤ و ٨٥.

(٢). الإسراء : ٢٩.

(٣). غافر : ٧٣.

(٤). النحل : ٨١.

٤١٤

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) أي : منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان ، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد ، والسدّ بضم السين وفتحها لغتان ، ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر :

ومن الحوادث لا أبالك أنّني

ضربت عليّ الأرض بالأسداد

لا أهتدي فيها لموضع تلعة

بين العذيب وبين أرض مراد

(فَأَغْشَيْناهُمْ) أي : غطينا أبصارهم (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يُبْصِرُونَ) أي لا يقدرون على إبصار شيء. قال الفراء : فألبسنا أبصارهم غشاوة : أي عمى ، فهم لا يبصرون سبيل الهدى ، وكذا قال قتادة : إن المعنى لا يبصرون الهدي. وقال السدّي : لا يبصرون محمّدا حين ائتمروا على قتله. وقال الضحاك : وجعلنا من بين أيديهم سدّا : أي الدنيا ومن خلفهم سدّا : أي الآخرة فأغشيناهم فهم لا يبصرون : أي عموا عن البعث ، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا. وقيل ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا ، قرأ الجمهور بالغين المعجمة : أي غطينا أبصارهم ، فهو على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن ، ويحيى ابن يعمر ، وأبو رجاء ، وعكرمة بالعين المهملة من العشا ، وهو ضعف البصر. ومنه (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) (١) (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : إنذارك إياهم وعدمه سواء. قال الزجاج : أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي : اتبع القرآن ، وخشي الله في الدنيا ، وجملة «لا يؤمنون» مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء ، أو في محل نصب على الحال ، أو بدل ، وبالغيب في محل نصب على الحال من الفاعل أو المفعول (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي : بشر هذا الذي اتبع الذكر ، وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة عظيمة وأجر كريم ، أي : حسن ، وهو الجنة. ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي : نبعثهم بعد الموت. وقال الحسن والضحاك : أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل ، والأوّل أولى. ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة (وَآثارَهُمْ) أي ما أبقوه من الحسنة التي لا ينقطع نفعها بعد الموت : كمن سنّ سنة حسنة أو نحو ذلك ، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها ، كمن سنّ سنة سيئة. قال مجاهد وابن زيد : ونظيره قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٢) وقوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٣) وقيل المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس : وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك. ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها ، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشرّ ، ومن الخير تعليم العلم وتصنيفه ، والوقف على القرب ، وعمارة المساجد ، والقناطر. ومن الشرّ ابتداع المظالم وإحداث ما يضرّ بالناس ، ويقتدي به أهل الجور ، ويعملون عليه من مكس أو غيره ، ولهذا قال سبحانه (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي : وكلّ شيء من أعمال العباد وغيرها كائنا ما كان في إمام مبين ، أي : كتاب

__________________

(١). الزخرف : ٣٦.

(٢). الانفطار : ٥.

(٣). القيامة : ١٣.

٤١٥

مقتدى به موضح لكل شيء. قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ ، وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال. قرأ الجمهور «ونكتب» على البناء للفاعل. وقرأ زرّ ومسروق على البناء للمفعول. وقرأ الجمهور (كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) بنصب كلّ على الاشتغال. وقرأ أبو السّمّال بالرفع. على الابتداء.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عباس في قوله : (يس) قالا : يا محمّد. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (يس) قال : يا إنسان. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك وعكرمة مثله. وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة ، حتّى تأذى به ناس من قريش ، حتّى قاموا ليأخذوه ، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم ، وإذا هم عمي لا يبصرون ، فجاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : ننشدك الله والرّحم يا محمّد ، قال : ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة ، فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ذهب ذلك عنهم ، فنزلت (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى قوله : (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال : فلم يؤمن من ذلك النفر أحد». وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك ، هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) كما تقمح الدابة باللجام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) الآية قال : كانوا يمرّون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يرونه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : اجتمعت قريش بباب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه ، فشقّ ذلك عليه ، فأتاه جبريل بسورة يس ، وأمره بالخروج عليهم ، فأخذ كفا من تراب وخرج وهو يقرؤها ويذرّ التراب على رؤوسهم ، فما رأوه حتى جاز ، فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب ، وجاء بعضهم فقال : ما يجلسكم؟ قالوا ننتظر محمّدا ، فقال : لقد رأيته داخلا المسجد ، قال : قوموا فقد سحركم. وأخرج عبد الرزاق ، والترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فأنزل الله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إنّه يكتب آثاركم ، ثم قرأ عليهم الآية فتركوا. وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال : «إنّ بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحوّلوا قريبا من المسجد ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا بني سلمة ، دياركم تكتب آثاركم».

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ

٤١٦

تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) قد تقدّم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة ، وسورة النمل ، والمعنى : اضرب لأجلهم مثلا ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلا : أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، فعلى الأوّل لما قال تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) قال قل لهم : ما أنا بدعا من الرسل ، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد ، وخوّفوا بالقيامة ، وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله ، وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اضرب لنفسك ولقومك مثلا : أي مثل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا ، وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحدا ، وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية ، وأنت بعثتك إلى الناس كافة. والمعنى : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، فترك المثل ، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل : لا حاجة إلى الإضمار ، بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلا على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لا ضرب ، أو يكون أصحاب القرية بدلا من مثلا ، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو مثلا أو أصحاب القرية. وقد قيل : إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) (١) ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة ، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله : (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٢) أي : بينا لكم أحوالا بديعة غريبة. هي في الغرابة كالأمثال فقوله سبحانه هنا (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي : هذه القرية هي إنطاكية في قول جميع المفسرين ، وقوله : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل اشتمال من أصحاب القرية ، والمرسلون : هم أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل إنطاكية للدّعاء إلى الله ، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ، ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء ، فكذبوهما في الرسالة ، وقيل ضربوهما وسجنوهما. قيل : واسم الاثنين يوحنا وشمعون. وقيل : أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وشلوم قاله ابن جرير وغيره. وقيل : سمعان ويحيى وبولس (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) قرأ الجمهور

__________________

(١). التحريم : ١٠.

(٢). إبراهيم : ٤٥.

٤١٧

بالتشديد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي. قال الجوهري «فعزّزنا» يخفف ويشدّد ، أي : قوينا وشدّدنا فالقراءتان على هذا بمعنى. وقيل : التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا ، ومنه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (١) والتشديد بمعنى : قوّينا وكثرنا. قيل : وهذا الثالث هو شمعون ، وقيل غيره (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي : قال الثلاثة جميعا ، وجاءوا بكلامهم هذا مؤكدا لسبق التكذيب للاثنين ، والتكذيب لهما تكذيب للثالث ، لأنهم أرسلوا جميعا بشيء واحد ، وهو الدعاء إلى الله عزوجل ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ؛ كأنه قيل : ما قال هؤلاء الرّسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فإنها مستأنفة جواب سؤال قدّر : كأنه قيل فما قال لهم أهل إنطاكية ، فقيل : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ، أي : مشاركون لنا في البشرية ، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. ثم صرّحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) مما تدّعونه أنتم ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي : ما أنتم إلا تكذبون في دعوى ما تدّعون من ذلك ، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيدا بليغا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية ، وهو قوله : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم : ربنا يعلم ، وبإنّ ، وباللام (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي : ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح ، وليس علينا غير ذلك ، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها ، وكذلك جملة : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) فإنها مستأنفة جوابا عن سؤال مقدّر ، أي : إنا تشاءمنا بكم ، لم تجدوا جوابا تجيبون به على الرسل إلا هذا الجواب المبني على الجهل المنبئ عن الغباوة العظيمة ، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها. قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين. قيل : إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين ، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم وأعيتهم العلل فقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي : لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة لنرجمنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : شديد فظيع. قال الفراء : عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل. وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة. قيل : ومعنى العذاب الأليم : القتل ، وقيل : الشتم ، وقيل : هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص وهذا هو الظاهر. ثم أجاب عليهم الرسل دفعا لما زعموه من التطير بهم (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي : شأمكم معكم من جهة أنفسكم ، لازم في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا. قال الفراء : طائركم معكم : أي رزقكم وعملكم وبه قال قتادة. قرأ الجمهور «طائركم» اسم فاعل : أي ما طار لكم من الخير والشرّ ، وقرأ الحسن «طيركم» أي : تطيركم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ). قرأ الجمهور من السبعة وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه. وقرأ أبو جعفر وزرّ بن حبيش وابن السميقع وطلحة بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر والحسن «أين» بفتح الهمزة وسكون الياء على صيغة الظرف.

__________________

(١). ص : ٢٣.

٤١٨

واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيّهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام ، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط ، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف ، أي : أئن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة ما تقدّم عليه. وقرأ الماجشون «أن ذكرتم» بهمزة مفتوحة ، أي : لأن ذكرتم ، ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم فقالوا : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي : ليس الأمر كذلك ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية. قال قتادة : مسرفون في تطيركم. وقال يحيى بن سلام : مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر : السرف هنا الفساد ، والإسراف في الأصل : مجاوزة الحد في مخالفة الحقّ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) هو حبيب بن موسى النجار ، وكان نجارا ، وقيل : إسكافا ، وقيل : قصارا. وقال مجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل النجار ، وكان ينحت الأصنام. وقال قتادة : كان يعبد الله في غار ، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى ، وجملة : (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل : قال يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق ، ثم أكد ذلك وكرّره فقال : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي : لا يسألونكم أجرا على ما جاءوكم به من الهدى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يعني : الرسل. ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه ، وهو يريد مناصحة قومه فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي : أيّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني. ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه ، بل أرادهم بكلامه فقال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولم يقل إليه ارجع ، وفيه مبالغة في التهديد. ثم عاد إلى المساق الأوّل لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه ، وهم المرادون به ، أي : لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها ، وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارا عليهم ، وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال : (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي : شيئا من النفع كائنا ما كان (وَلا يُنْقِذُونِ) من ذلك الضرّ الذي أرادني الرحمن به ، وهذه الجملة صفة لآلهة ، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع ، وقوله : (لا تُغْنِ) جواب الشرط ، وقرأ طلحة بن مصرّف «إن يردني» بفتح الياء ، قال : (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح ، وهذا تعريض بهم كما سبق ، والضلال : الخسران. ثم صرّح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون : أراد القوم قتله ، فأقبل هو على المرسلين ، فقال : إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون ، أي : اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. وقيل : إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين وتشدّدا في الحقّ ، فلما قال هذا القول وصرّح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه ، وقيل : وطئوه بأرجلهم ، وقيل : حرقوه ، وقيل : حفروا له حفرة وألقوه فيها ، وقيل : إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة ، وبه قال الحسن ، وقيل : نشروه بالمنشار (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي : قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده. وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى : أنهم

٤١٩

لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل ، وقيل له : ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، أي : فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها؟ فقيل : قال يا ليت قومي إلخ ، وما : في (بِما غَفَرَ لِي) هي المصدرية ، أي : بغفران ربي ، وقيل : هي الموصولة ، أي : بالذي غفر لي ربي ، والعائد محذوف ، أي : غفره لي ربي ، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة ، وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له. وقال الفراء : إنها استفهامية بمعنى التعجب ، كأنه قال : بأيّ شيء غفر لي ربي. قال الكسائي : لو صح هذا لقال بم من غير ألف. ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسورا بالنسبة إلى حذفها ، ومنه قول الشاعر :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في دمان

وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله ، وحميد عاقبته إرغاما لهم. وقيل : إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه ، فيصيروا إلى مثل حاله.

وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) قال : هي إنطاكية. وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ، ولم يكن بينهما فترة ، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم ، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء وهو قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) والذي عزّز به شمعون ، وكان من الحواريين ، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) قال : شؤمكم معكم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) قال : هو حبيب النجار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر ، قال اسم صاحب يس : حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال : لما قال صاحب يس (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي : فاشهدوا لي.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ

٤٢٠