فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

وَجُنُودَهُ) بعد أن عتوا في الكفر وجاوزوا الحدّ فيه (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي : طرحناهم في البحر ، وقد تقدّم بيان الكلام في هذا (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الخطاب لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين ، حين صاروا إلى الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي : صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين ، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه ، يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا ، وسلكوا طريقتهم تقليدا لهم. وقيل المعنى : إنه يأتمّ بهم ، أي : يعتبر بهم من جاء بعدهم ، ويتعظ بما أصيبوا به ، والأول أولى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي : لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي : طردا وإبعادا ، أو أمرنا العباد بلعنهم ، فكل من ذكرهم لعنهم ، والأوّل أولى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) المقبوح : المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة وابن كيسان : معناه من المهلكين الممقوتين. وقال أبو زيد : قبح الله فلانا قبحا وقبوحا : أبعده من كل خير. قال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف : بمعنى قبحت بالتشديد ، ومثله قول الشاعر :

ألا قبّح الله البراجم كلّها

وقبّح يربوعا وقبّح دارما

وقيل : المقبوح المشوّه الخلقة ، والعامل في (يوم) محذوف يفسره من المقبوحين ، والتقدير : وقبحوا يوم القيامة ، أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا ، أي : وأتبعناهم لعنة يوم القيامة ، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف ، أي : ولعنة يوم القيامة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة و (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وقيل من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون ، وانتصاب (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) على أنه مفعول له أو حال ، أي : آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس ، أو حال كونه بصائر الناس يبصرون به الحق ، ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به (وَرَحْمَةً) لهم من الله رحمهم بها (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) هذه النعم فيشكرون الله ويؤمنون به ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي أبي طلحة عن ابن عباس (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) كي يصدقني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لما قال فرعون (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قال جبريل : يا ربّ طغى عبدك فأذن لي في هلكه ، فقال : يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني ، له أجل يجيء ذلك الأجل ، فلما قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١) قال الله : يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه. وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلمتان قالهما فرعون : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) قال : كان بينهما أربعون عاما (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى)» (٢). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بلغني أن فرعون أوّل من طبخ الآجرّ. وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. وأخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن

__________________

(١). النازعات : ٢٤.

(٢). النازعات : ٢٥.

٢٠١

مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة ، ألم تر إلى قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى). وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفا.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) هذا شروع في بيان إنزال القرآن ، أي : وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي ، فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، واختاره الزجاج. وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي : أي حيث ناجى موسى ربه (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي : عهدنا إليه ، وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك حتى تقف على حقيقته وتحكيه من جهة نفسك. وإذا تقرّر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشاهدة لها منه ، وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلقّ ذلك من غيره من البشر ، ولا علمه معلم منهم ، كما قدّمنا تقريره تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك ، فهذا الكلام هو على طريقه (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (١) وقيل : معنى (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى

__________________

(١). آل عمران : ٤٤.

٢٠٢

الْأَمْرَ) إذ كلفناه وألزمناه ، وقيل : أخبرناه أن أمة محمد خير الأمم ، ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي ؛ نفي كونه من الشاهدين ، لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد. قيل : المراد بالشاهدين : السبعون الذين اختارهم موسى للميقات (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي : خلقنا أمما بين زمانك يا محمد ، وزمان موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد ، فتغيرت الشرائع ، والأحكام وتنوسيت الأديان ، فتركوا أمر الله ونسوا عهده ، ومثله قوله سبحانه : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (١) ، وقد استدلّ بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهودا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الإيمان به فلما طال عليهم العمر ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود ، وتركوا الوفاء بها (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي : مقيما بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقصّ عليهم من جهة نفسك يقال : ثوى يثوي ثواء وثويا فهو ثاو. قال ذو الرمة :

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضى لبانات ويسأم سائم

وقال العجاج :

فبات حيث يدخل الثّويّ

يعني الضيف المقيم.

وقال آخر :

طال الثّواء على رسول المنزل

(تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : تقرأ على أهل مدين آياتنا ، وتتعلم منهم ، وقيل : تذكرهم بالوعد والوعيد ، والجملة : في محل نصب على الحال ، أو خبر ثان ، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر ، وثاويا حال. وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل : وها أنت تتلو على أمتك (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي : أرسلناك إلى أهل مكة ، وأنزلنا عليك هذه الأخبار ، ولو لا ذلك لما علمتها. قال الزجاج : المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ، ولا تليت عليك ، ولكن أوحيناها إليك ، وقصصناها عليك (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي : وما كنت يا محمد بجانب الجبل ، المسمى بالطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين. وقيل : المنادي هو أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال وهب : وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال : يا رب أرنيهم ، فقال الله : إنك لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا ربّ ، فقال الله : يا أمة محمد! فأجابوا من أصلاب آبائهم. فيكون معنى الآية على هذا : ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك ، وسيأتي ما يدلّ على هذا ويقوّيه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم ، وقيل : ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم ، وقيل : علمناك ، وقيل : عرفناك. قال الأخفش : هو منصوب : يعني : رحمة على المصدر ، أي : ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج : هو مفعول

__________________

(١). الحديد : ١٦.

٢٠٣

من أجله ، أي : فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. قال النحاس : أي لم تشهد قصص الأنبياء ، ولا تليت عليك ، ولكن بعثناك ، وأوحيناها إليك للرحمة. وقال الكسائي : هو خبر لكان مقدّرة ، أي : ولكن كان ذلك رحمة. وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة رحمة بالرفع على تقدير : ولكن أنت رحمة. وقال الكسائي : الرفع على أنها اسم كان المقدّرة ، وهو بعيد إلا على تقدير أنها تامة ، واللام في (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) متعلق بالفعل المقدر على الاختلاف في تقديره ، والقوم : هم أهل مكة ، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجملة «ما أتاهم» إلخ صفة لقوما (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : يتعظون بإنذارك (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لو لا هذه : هي الامتناعية ، وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء ، وجوابها محذوف. قال الزجاج : وتقديره ما أرسلنا إليهم رسلا ، يعني : أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم ، فهو كقوله سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) وقد رواه ابن عطية لعاجلناهم بالعقوبة ، ووافقه على هذا التقدير الواحدي فقال : والمعنى لو لا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم ، وقوله : (فَيَقُولُوا) عطف على تصيبهم ومن جملة ما هو في حيز لولا ، أي : فيقولوا : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) ولو لا هذه الثانية : هي التحضيضية ، أي : هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك ، وجوابها هو (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) وهو منصوب بإضمار أن لكونه جوابا للتحضيض ، والمراد بالآيات : الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة ، وإنما عطف القول على تصيبهم لكونه هو السبب للإرسال ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول ، وكان وجوده بوجودهما جعلت العقوبة كأنها هي السبب لإرسال الرسل بواسطة القول (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بهذه الآيات ، ومعنى الآيات أنا لو عذبناهم لقالوا : طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا ، ويظنون أن ذلك عذر لهم ، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل ، ولكنا أكملنا الحجة ، وأزحنا العلة ، وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي : فلما جاء أهل مكة الحقّ من عند الله وهو محمد وما أنزل عليه من القرآن تعنتا منهم وجدالا بالباطل قالوا : هلا أوتي هذا الرسول مثل ما أوتي موسى من الآيات التي من جملتها ، التوراة المنزلة عليه جملة واحدة ، فأجاب الله عليهم بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل هذا القول ، أو من قبل ظهور محمد ؛ والمعنى : أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ، وجملة (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم وعنادهم ، والمراد بقولهم : (سِحْرانِ) موسى ومحمد ، والتظاهر : التعاون ، أي : تعاونا على السحر ، والضمير في قوله : «أو لم يكفروا» لكفار قريش ، وقيل : هو لليهود. والأوّل أولى ؛ فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر ، إنما يصفه بذلك كفار قريش ، وأمثالهم إلا أن يراد من أنكر نبوّة موسى كفرعون وقومه ، فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر ، ولكنهم ليسوا من اليهود ، ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ، ومن كفر بمحمد ، فإن الذين كفروا وصفوه بالسحر ، والذين كفروا بمحمد وصفوه أيضا بالسحر. وقيل : المعنى : أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبله بالبشارة

__________________

(١). النساء : ١٦٥.

٢٠٤

بعيسى ومحمد. قرأ الجمهور (ساحران) وقرأ الكوفيون (سحران) يعنون : التوراة ، والقرآن ، وقيل : الإنجيل ، والقرآن. قال بالأوّل الفراء. وقال بالثاني أبو زيد. وقيل : إن الضمير في «أو لم يكفروا» لليهود ، وأنهم عنوا بقولهم (ساحران) عيسى ومحمدا (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي : بكلّ من موسى ومحمد ، أو من موسى وهارون ، أو من موسى وعيسى على اختلاف الأقوال ، وهذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية ، فالمراد : التوراة والقرآن ، أو الإنجيل والقرآن. وفي هذه الجملة تقرير لما تقدّمها من وصف النبيين بالسحر ، أو ومن وصف الكتابين به ، وتأكيد لذلك. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولا يظهر به عجزهم ، فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) أي : قل لهم يا محمد فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن ، وأتبعه جواب الأمر ، وقد جزمه جمهور القراء لذلك. وقرأ زيد بن عليّ برفع أتبعه على الاستئناف ، أي : فأنا أتبعه. قال الفراء : إنه على هذه القراءة صفة للكتاب ، وفي هذا الكلام تهكم به. وفيه أيضا دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين ، ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن كنتم فيما وصفتم به الرسولين ، أو الكتابين صادقين (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي : لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين ، وجواب الشرط (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي : آراءهم الزائغة ، واستحساناتهم الزائفة ، بلا حجة ولا برهان. وقيل المعنى : فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به ، وتعدية يستجيبوا باللام هو أحد الجائزين (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي : لا أحد أضلّ منه ، بل هو الفرد الكامل في الضلال (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، والإعراض عن آيات الله (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) قرأ الجمهور «وصّلنا» بتشديد الصاد ، وقرأ الحسن بتخفيفها ، ومعنى الآية : أتبعنا بعضه بعضا ، وبعثنا رسولا بعد رسول. وقال أبو عبيدة والأخفش : معناه أتممنا. وقال ابن عيينة والسديّ : بينا. وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، والأولى : أولى. وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض ، ومنه قول الشاعر :

فقل لبني مروان ما بال ذمّتي

وحبل ضعيف لا يزال يوصّل

وقال امرؤ القيس :

يقلّب كفّيه بخيط موصّل (١)

الضمير في «لهم» عائد إلى قريش ، وقيل : إلى اليهود ، وقيل : للجميع (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيكون التذكير سببا لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل القرآن ، والموصول : مبتدأ ، وخبره. (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا

__________________

(١). وصدره : درير كخذروف الوليد أمرّه.

ودرير : سريع. والخذروف : شيء يدوره الصبي في يده ، ويسمع له صوت ، ويسمى الخرارة. وأمرّه : أحكم فتله.

٢٠٥

بالقرآن كعبد الله بن سلام ، وسائر من أسلم من أهل الكتاب ، وقيل : الضمير في «من قبله» يرجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأوّل أولى. والضمير في «به» راجع إلى القرآن على القول الأوّل ، وإلى محمد على القول الثاني (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي : وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا صدّقنا به (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) أي : الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي : مخلصين لله بالتوحيد ، أو مؤمنين بمحمد وبما جاء به ، لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به ، وأنه سيبعث آخر الزمان ، وينزل عليه القرآن ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي : الموصوفين بتلك الصفات ، والباء في (بِما صَبَرُوا) للسببية ، أي : بسبب صبرهم ، وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأوّل ، والكتاب الآخر ، وبالنبيّ الأوّل ، والنبيّ الآخر (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الدرء : أي : يدفعون بالاحتمال ، والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى. وقيل : يدفعون بالطاعة المعصية ، وقيل : بالتوبة والاستغفار من الذنوب ، وقيل : بالتوبة والاستغفار من الذنوب ، وقيل : بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : ينفقون أموالهم في الطاعات ، وفيما أمر به الشرع. ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرّما ، وتنزّها ، وتأدّبا بآداب الشرع ، ومثله قوله سبحانه : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (١) ، واللغو هنا : هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ، ولدينهم ، والاستهزاء بهم (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء ، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ليس المراد بهذا السلام سلام التحية ، ولكن المراد به سلام المتاركة ، ومعناه أمنة لكم ، وسلامة لا نجاريكم ، ولا نجاوبكم فيما أنتم فيه. قال الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال (لا نَبْتَغِيالْجاهِلِينَ) أي : لا نطلب صحبتهم. وقال مقاتل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقال الكلبي : لا نحبّ دينكم الذي أنتم عليه (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) من الناس ، وليس ذلك إليك (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : القابلين للهداية ، المستعدّين لها ، وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، وقد تقدّم ذلك في براءة. قال الزجاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وقد تقرّر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولا أوليا (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي : قال مشركو قريش ومن تابعهم : إن ندخل في دينك يا محمد ؛ نتخطف من أرضنا ، أي : يتخطفنا العرب من أرضنا : يعنون مكة ، ولا طاقة لنا بهم ، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة ، وتعللاتهم العاطلة ، والتخطف في الأصل : هو الانتزاع بسرعة. قرأ الجمهور «نتخطف» بالجزم جوابا للشرط ، وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف. ثم ردّ الله ذلك عليهم ردّا مصدّرا باستفهام التوبيخ ، والتقريع فقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أي : ألم نجعل لهم حرما ذا أمن. قال أبو البقاء : عدّاه بنفسه لأنه بمعنى جعل كما صرّح بذلك في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً) (٢) ، ثم وصف هذا الحرم بقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي

__________________

(١). الفرقان : ٧٢.

(٢). العنكبوت : ٦٧.

٢٠٦

المختلفة ، وتحمل إليه. قرأ الجمهور «يجبى» بالتحتية اعتبارا بتذكير كل شيء ، ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات ، وأيضا ليس بتأنيث ثمرات بحقيقي ، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد لما ذكرنا ، وقرأ نافع بالفوقية اعتبارا بثمرات. وقرأ الجمهور أيضا (ثَمَراتُ) بفتحتين ، وقرأ أبان بضمتين ، جمع ثمر بضمتين ، وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) منتصب على المصدرية لأن معنى يجبى : نرزقهم ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف ، أي : نسوقه إليهم رزقا من لدنا ، ويجوز أن ينتصب على الحال ، أي : رازقين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم ، وعدم تفكرهم في أمر معادهم ، ورشادهم ، لكونهم ممن طبع الله على قلبه ، وجعل على بصره غشاوة.

وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أبي هريرة في قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) قال : نودوا يا أمّة محمّد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه وجه آخر بنحوه. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والديلمي عن عمرو بن عبسة قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال : «كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ، ثم وضعه على عرشه ، ثم نادى : يا أمّة محمّد سبقت رحمتي غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمّدا عبدي ، ورسولي صادقا أدخلته الجنّة». وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) مرفوعا قال نودوا : يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم ، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا «إن الله نادى : يا أمة محمّد أجيبوا ربّكم ، قال : فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبّيك أنت ربّنا حقا ، ونحن عبيدك حقا ، قال : صدقتم أنا ربّكم ، وأنتم عبيدي حقا ، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنّة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الهالك في الفترة يقول : ربّ لم يأتني كتاب ولا رسول ، ثم قرأ هذه الآية (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) الآية». وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) إلخ : قال : هم أهل الكتاب (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) يعني بالكتابين : التوراة والفرقان. وأخرج ابن شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة. والطبراني وابن مردويه بسند جيد عن رفاعة القرظي قال : نزلت (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إلى قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) في عشرة رهط أنا أحدهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) قال : يعني من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل

٢٠٧

الكتاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين : رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأوّل والآخر ، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها. وعبد مملوك أحسن عبادة ربّه ونصح لسيده». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن ناسا من قريش قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن نتبعك يتخطفنا الناس ، فنزلت (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) قال : ثمرات الأرض.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : من أهل قرية كانوا في خفض عيش ، ودعة ورخاء ، فوقع منهم البطر فأهلكوا. قال الزجاج : البطر : الطغيان عند النعمة. قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله ، وعبدوا الأصنام. قال الزجاج والمازني : معنى (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) بطرت في معيشتها ، فلما حذفت «في» تعدّى الفعل كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (١) وقال الفراء : هو منصوب على التفسير كما تقول : أبطرك مالك وبطرته ، ونظيره عنده قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (٢) ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين ، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل : إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي : لم يسكنها أحد بعدهم إلّا زمنا قليلا ،

__________________

(١). الأعراف : ١٥٥.

(٢). البقرة : ١٣٠.

٢٠٨

كالذي يمرّ بها مسافرا ، فإنه يلبث فيها يوما ، أو بعض يوم ، أو لم يبق من يسكنها فيها إلا أياما قليلة ، لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم. وقيل : إن الاستثناء يرجع إلى المساكن ، أي : لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها ، خراب ، كذا قال الفراء وهو قول ضعيف (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم ، وأموالهم ، ومحلّ جملة «لم تسكن» الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : وما صحّ ، ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة ، أي : الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولا ينذرهم ، ويتلو عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم ، وما أعدّه من الثواب للمطيع ، والعقاب للعاصي ، ومعنى أمها : أكبرها وأعظمها ، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها ، لأن فيها أشراف القوم ، وأهل الفهم والرأي ، وفيها : الملوك والأكابر ، فصارت بهذا الاعتبار كالأمّ لما حولها من القرى. وقال الحسن : أمّ القرى : أوّلها. وقيل : المراد بأمّ القرى هنا مكة كما في قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) (١) الآية ، وقد تقدّم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف ، وجملة «يتلو آياتنا» في محل نصب على الحال ، أي : تاليا عليهم ومخبرا لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولا يدعوهم إلى الحق إلا حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم ، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (٢) ، ثم قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) الخطاب لكفار مكة ، أي : وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدّة حياتكم ، أو بعض حياتكم ، ثم تزولون عنه ، أو يزول عنكم ، وعلى كل حال فذلك إلى فناء وانقضاء (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثوابه وجزائه (خَيْرٌ) من ذلك الزائل الفاني لأنه لذّة خالصة عن شوب الكدر (وَأَبْقى) لأنه يدوم أبدا ، وهذا ينقضي بسرعة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن الباقي أفضل من الفاني ، وما فيه لذّة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة ، بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب ، وقرئ بنصب «متاع» على المصدرية ، أي : متمتعون متاع الحياة ، قرأ أبو عمرو «يعقلون» بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، وقراءتهم أرجح لقوله : (وَما أُوتِيتُمْ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) أي : وعدناه بالجنة ، وما فيها من النعم التي لا تحصى ، فهو لاقيه ، أي : مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فأعطى منها بعض ما أراد مع سرعة زواله وتنغيصه (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) هذا معطوف على قوله : (مَتَّعْناهُ) داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرّر له ، والمعنى : ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين بالنار ، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاء المقام ، والاستفهام للإنكار ، أي : ليس حالهما سواء ، فإن الموعود بالجنة لا بدّ أن يظفر بما وعده به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا ، وهذا حال

__________________

(١). آل عمران : ٩٦.

(٢). هود : ١١٧.

٢٠٩

المؤمن. وأما حال الكافر ، فإنه لم يكن معه إلا مجرّد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن ، وينال كل واحد منهما حظه منه ، وهو صائر إلى النار ، فهل يستويان؟ قرأ الجمهور «ثم هو» بضم الهاء. وقرأ الكسائي وقالوا بسكون الهاء إجراء لثمّ مجرى الواو والفاء ، وانتصاب يوم في قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) بالعطف على يوم القيامة أو بإضمار اذكر ، أي : يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين (فَيَقُولُ) لهم (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ، ومفعولا يزعمون محذوفان ، أي : تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : حقت عليهم كلمة العذاب ، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أربابا من دون الله ، كذا قال الكلبي. وقال قتادة : هم الشيطان (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي : دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي : أضللناهم كما ضللنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ، والمعنى : أن رؤساء الضلال أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم. قال الزجاج : برىء بعضهم من بعض ، وصاروا أعداء. كما قال الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١) وهؤلاء مبتدأ ، والذين أغوينا صفته ، والعائد محذوف ، أي : أغويناهم ، والخبر : أغويناهم ، وكما أغوينا : نعت مصدر محذوف. وقيل : إن خبر هؤلاء هو الذين أغوينا ، وأما أغويناهم كما غوينا ؛ فكلام مستأنف لتقرير ما قبله ، ورجح هذا أبو عليّ الفارسي ، واعترض الوجه الأوّل ، وردّ اعتراضه أبو البقاء (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ، وقيل إن «ما» في ما كانوا : مصدرية ، أي : تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا ، والأوّل أولى (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي : قيل للكفار من بني آدم هذا القول ، والمعنى : استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم (فَدَعَوْهُمْ) عند ذلك (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي : التابع والمتبوع قد غشيهم ، (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) قال الزجاج : جواب لو محذوف ، والمعنى : لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب. وقيل المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم ، وقيل المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق. وقيل المعنى : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل : قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون ، وقيل : غير ذلك. والأوّل أولى ، ويوم في قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) معطوف على ما قبله ، أي : ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي : خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون ، والأصل فعموا عن الأنباء ، ولكنه عكس الكلام للمبالغة ، والأنباء : الأخبار ، وإنما سمى حججهم أخبارا ، لم تكن من الحجة في شيء ، وإنما هي : أقاصيص ، وحكايات (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا ، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون ، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا ، فلا يكون لهم عذر ، ولا حجة يوم القيامة. قرأ الجمهور «عميت» بفتح العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) إن تاب من الشرك

__________________

(١). الزخرف : ٦٧.

٢١٠

وصدّق بما جاء به الرسل وأدّى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين ، أي : الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين ، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام. وقيل : إن الترجي هو من التائب المذكور ، لا من جهة الله سبحانه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : يخلقه. (وَيَخْتارُ) ما يشاء أن يختاره (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم ، واختاروهم ، أي : الاختيار إلى الله (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : التخير ، وقيل : المراد من الآية أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار ، بل الاختيار هو إلى الله عزوجل. وقيل : إن هذه الآية جواب عن قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢) وقيل : هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به.

قال الزجاج : الوقف على «ويختار» تام على أن ما نافية. قال : ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بيختار ، والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. والصحيح الأوّل لإجماعهم على الوقف. وقال ابن جرير : إن تقدير الآية : ويختار لولايته الخيرة من خلقه ، وهذا في غاية من الضعف. وجوّز ابن عطية أن تكون كان تامة ، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة. وهذا أيضا بعيد جدا. وقيل إن «ما» مصدرية ، أي : يختار اختيارهم ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي : ويختار مختارهم ، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير. والراجح أوّل هذه التفاسير ، ومثله قوله سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٣) والخيرة : التخير ، كالطيرة فإنها التطير ، اسمان يستعملان استعمال المصدر ، ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (سُبْحانَ اللهِ) أي : تنزّه تنزّها خاصا به من غير أن ينازعه منازع ، ويشاركه مشارك (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : عن الذين يجعلونهم شركاء له ، أو عن إشراكهم (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي : تخفيه من الشرك ، أو من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق (وَما يُعْلِنُونَ) أي : يظهرونه من ذلك. قرأ الجمهور «تكن» بضم التاء الفوقية وكسر الكاف. وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية ، وضم الكاف. ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية ، والتفرّد باستحقاق الحمد فقال : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) أي : الدنيا (وَالْآخِرَةِ) أي : الدار الآخرة (وَلَهُ الْحُكْمُ) يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالبعث فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا ترجعون إلى غيره.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) قال : قال الله لم نهلك قرية بإيمان ، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها ، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك ، ولكنهم كذبوا وظلموا فبذلك هلكوا. وأخرج مسلم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : يا بن آدم مرضت فلم تعدني» الحديث بطوله. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال : «يحشر النّاس

__________________

(١). الأنبياء : ٢٣.

(٢). الزخرف : ٣١.

(٣). الأحزاب : ٣٦.

٢١١

يوم القيامة أجوع ما كانوا وأعطش ما كانوا وأعرى ما كانوا ، فمن أطعم لله عزوجل أطعمه الله ، ومن كسا لله عزوجل كساه الله ، ومن سقى لله عزوجل سقاه الله ، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه». وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) قال : الحجج (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) قال : بالأنساب. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيح في تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها فلا نطول بذكره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) السرمد : الدائم المستمرّ ،

٢١٢

من السرد ، وهو المتابعة ، فالميم زائدة ، ومنه قول طرفة :

لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

وقيل : إن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل لا فعمل ، وهو الظاهر ، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ؛ ليقوموا بشكر النعمة. فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلا دائما إلى يوم القيامة ؛ لم يتمكنوا من الحركة فيه ، وطلب ما لا بدّ لهم منه مما يقوم به العيش ، من المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، ثم امتنّ عليهم فقال : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي : هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء ، أي : بنور تطلبون فيه المعيشة ، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه ، وتصلح به ثماركم ، وتنمو عنده زرائعكم ، وتعيش فيه دوابكم (أَفَلا تَسْمَعُونَ) هذا الكلام سماع فهم ، وقبول ، وتدبر ، وتفكر. ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار ، امتنّ عليهم بوجود الليل فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهارا إلى يوم القيامة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي : تستقرّون فيه من النصب ، والتعب ، وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش ، والكسب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذه المنفعة العظيمة ؛ إبصار متعظ متيقظ ، حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله ، وإذا أقرّوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل ، فقد لزمتهم الحجة ، وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة ، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك (١) (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي : في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : في النهار ، بالسعي في المكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : ولكي تشكروا نعمة الله عليكم ، وهذه الآية من باب اللف والنشر ، كما في قول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا ، وطلب الرزق في الليل ممكنا ، وذلك عند طلوع القمر على الأرض ، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج ، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد ، فلا اعتبار به (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كرّر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة ، فيدعون الأصنام ، وينادون أخرى ، فيسكتون ، وفي هذا التكرير أيضا تقريع بعد تقريع ، وتوبيخ بعد توبيخ ، وقوله : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) عطف على ينادي ، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، والمعنى : وأخرجنا من أكل أمة من الأمم شهيدا يشهد عليهم. قال مجاهد : هم الأنبياء ، وقيل : عدول كلّ أمة ، والأوّل : أولى. ومثله قوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ

__________________

(١). الصواب : أنه قرن السمع بالليل لأن الليل يتطلب حاسة السمع أكثر من غيرها. وقرن البصر مع النهار لأنه يعتمد على الضياء.

٢١٣

عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله : (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء ، فعند ذلك اعترفوا ، وخرسوا عن إقامة البرهان ، ولذا قال : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الإلهية وأنه وحده لا شريك له (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : غاب عنهم وبطل ، وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا ؛ بأنّ لله شركاء يستحقون العبادة. ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة ، وعجيب الصنع فقال : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية ، وليس بعربيّ مشتق من قرنت. قال الزجاج : لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عمّ موسى ، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم ، فجعله أخا لعمران ، وهما ابنا قاهث. وقيل : هو ابن خالة موسى ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، فنافق كما نافق السامري ، وخرج عن طاعة موسى ، وهو معنى قوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي : جاوز الحدّ في التجبر ، والتكبر عليهم ، وخرج عن طاعة موسى ، وكفر بالله. قال الضحاك : بغيه على بني إسرائيل : استخفافه بهم لكثرة ماله وولده. وقال قتادة : بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه ، لعلمه وحيلته. وقيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فتعدّى عليهم وظلمهم ، وقيل : كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) جمع كنز : وهو المال المدّخر. قال عطاء : أصاب كنزا من كنوز يوسف ، وقيل : كان يعمل الكيمياء ، و «ما» في قوله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) موصولة ، صلتها إنّ وما في حيزها ، ولهذا كسرت. ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع المكسورة ، وما في حيزها صلة الذي ، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع ، والمفاتح جمع مفتح بالكسر ، وهو ما يفتح به ، وقيل : المراد بالمفاتح : الخزائن ، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم. قال الواحدي : إن المفاتح : الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (٢) قال : وهو اختيار الزجاج فإنه قال : الأشبه في التفسير أن مفاتحه : خزائن ماله. وقال آخرون : هي جمع مفتاح ، وهو ما يفتح به الباب ، وهذا قول قتادة ومجاهد (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة ، يقال ناء بحمله : إذا نهض به مثقلا ، ويقال ناء بي الحمل : إذا أثقلني ، والمعنى : يثقلهم حمل المفاتح. قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، والمعنى : لتنوء بها العصبة : أي : تنهض بها. قال أبو زيد : نؤت بالحمل : إذا نهضت به. قال الشاعر :

إنّا وجدنا خلفا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

وقال الفراء ، معنى تنوء بالعصبة : تميلهم بثقلها كما يقال : يذهب بالبؤس ، ويذهب البؤس ، وذهبت به ، وأذهبته ، وجئت به ، وأجأته ونؤت به ، وأنأته ، واختار هذا النحاس ، وبه قال كثير من السلف ،

__________________

(١). النساء : ٤١.

(٢). الأنعام : ٥٩.

٢١٤

وقيل : هو مأخوذ من النأي ، وهو البعد وهو بعيد. وقرأ بديل بن ميسرة «لينوء» بالياء ، أي : لينوء الواحد منها أو المذكور ، فحمل على المعنى ، والمراد بالعصبة : الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. قيل : هي من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : من العشرة إلى الخمسة عشرة ، وقيل : ما بين العشرة إلى العشرين ، وقيل : من الخمسة إلى العشرة ، وقيل : أربعون ، وقيل : سبعون ، وقيل : غير ذلك (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) الظرف منصوب بتنوء ، وقيل : بآتيناه ، وقيل : ببغى. وردّهما أبو حيان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت. وقال ابن جرير : هو متعلق بمحذوف وهو اذكر ، والمراد بقومه هنا : هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء : هو موسى وهو جمع أريد به الواحد ، ومعنى لا تفرح : لا تبطر ولا تأشر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قال الزجاج : المعنى لا تفرح بالمال ، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه ، وقيل المعنى : لا تفسد كقول الشاعر :

إذا أنت لم تبرح تؤدّي أمانة

وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

أي : أفسدتك. قال الزجاج : الفرحين والفارحين : سواء. وقال الفراء : معنى الفرحين : الذين هم في حال الفرح ، والفارحين : الذين يفرحون في المستقبل. وقال مجاهد : معنى لا تفرح لا تبغ إن الله لا يحبّ الفرحين الباغين. وقيل معناه : لا تبخل إن الله لا يحبّ الباخلين (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة ، فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي. وقرئ «واتبع» (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا). قال جمهور المفسرين : وهو أن يعمل في دنياه لآخرته ، ونصيب الإنسان : عمره الصالح. قال الزجاج : لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا ، الذي يعمل به لآخرته. وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك ، في تمتعك بالحلال ، وطلبك إياه ، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي : أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا ، وقيل : أطع الله واعبده كما أنعم عليك ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما «أنّ جبريل سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي : لا تعمل فيها بمعاصي الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) قال قارون : هذه المقالة ردّا على من نصحه بما تقدّم ، أي : إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي ، فقوله : «على علم» في محل نصب على الحال ، وعندي إما ظرف لأوتيته ، وإما صلة للعلم ، وهذا العلم الذي جعله سببا لما ناله من الدنيا. قيل : هو علم التوراة ، وقيل : علمه بوجوه المكاسب ، والتجارات ، وقيل : معرفة الكنوز والدفائن ، وقيل : علم الكيمياء ، وقيل المعنى : إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني. واختار هذا الزجاج ، وأنكر ما عداه ، ثم ردّ الله عليه قوله هذا فقال : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) المراد بالقرون : الأمم الخالية ، ومعنى أكثر جمعا : أكثر منه جمعا للمال ، ولو كان المال ، أو القوّة يدلان على فضيلة ؛ لما أهلكهم الله. وقيل : القوّة الآلات ، والجمع :

٢١٥

الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون ، لأنه قد قرأ التوراة ، وعلم علم القرون الأولى ، وإهلاك الله سبحانه لهم (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي : لا يسألون سؤال استعتاب كما في قوله : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (١) (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢) وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣) وقال مجاهد : لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم ، فإنهم يحشرون ؛ سود الوجوه ، زرق العيون. وقال قتادة : لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، بل يدخلون النار. وقيل : لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الفاء للعطف على «قال» وما بينهما اعتراض ، و «في زينته» متعلق بخرج ، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج. وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة ، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها ، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها ، كما حكى الله عنهم بقوله : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) وزينتها (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي : نصيب وافر من الدنيا.

واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة ، فقيل : هم من مؤمني ذلك الوقت ، وقيل : هم قوم من الكفار (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم أحبار بني إسرائيل ، قالوا للذين تمنوا : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) أي : ثواب الله في الآخرة خير مما تمنونه (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم (وَلا يُلَقَّاها) أي : هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار ، وقيل : الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة ، وقيل : إلى الجنة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على طاعة الله ، والمصبرون أنفسهم عن الشهوات (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) يقال : خسف المكان يخسف خسوفا : ذهب في الأرض ، وخسف به الأرض خسفا : أي غاب به فيها ، والمعنى : أن الله سبحانه غيبه ، وغيب داره في الأرض (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه (وَما كانَ) هو في نفسه (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من الممتنعين مما نزل به من الخسف (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي : منذ زمان قريب (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي : يقول كلّ واحد منهم متندّما على ما فرط منه من التمني. قال النحاس : أحسن ما قيل في هذا ؛ ما قاله الخليل ، وسيبويه ، ويونس ، والكسائي أن القوم تنبهوا فقالوا : وي! والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه : وي. قال الجوهري : وي : كلمة تعجب ، ويقال : ويك ، وقد تدخل وي على كأن المخففة ، والمشددة ، ويكأن الله. قال الخليل : هي مفصولة تقول وي ، ثم تبتدئ فتقول كأن. وقال الفراء : هي كلمة تقرير كقولك : أما ترى صنع الله ، وإحسانه ، وقيل : هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا. وقال قطرب : إنما هو ويلك فأسقطت لامه ، ومنه قول عنترة :

ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها

قول الفوارس ويك عنتر أقدم

وقال ابن الأعرابي : معنى ويكأن الله : أعلم أن الله. وقال القتبي : معناها بلغة حمير رحمة ، وقيل : هي بمعنى ألم تر؟ وروي عن الكسائي أنه قال : هي كلمة تفجع (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) برحمته ، وعصمنا

__________________

(١). النحل : ٨٤.

(٢). فصلت : ٢٤.

(٣). الحجر : ٩٢.

٢١٦

من مثل ما كان عليه قارون من البطر ، والبغي ، ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني (لَخَسَفَ بِنا) كما خسف به. قرأ حفص «لخسف» مبنيا للفاعل ، وقرأ الباقون مبنيا للمفعول (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : لا يفوزون بمطلب من مطالبهم (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي : الجنة ، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها ، والتفخيم لشأنها ، كأنه قال : تلك التي سمعت بخبرها ، وبلغك شأنها (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي : رفعة وتكبرا على المؤمنين (وَلا فَساداً) أي : عملا بمعاصي الله سبحانه فيها ، وذكر العلوّ والفساد منكرين في حيز النفي ، يدلّ على شمولهما لكلّ ما يطلق عليه أنه علوّ ، وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص ، أما الفساد : فظاهر أنه لا يجوز شيء منه ، كائنا ما كان ، وأما العلوّ : فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير ، والتطاول على الناس ، وليس منه طلب العلو في الحقّ ، والرئاسة في الدين ، ولا محبة اللباس الحسن ، والمركوب الحسن ، والمنزل الحسن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : إلا مثل ما كانوا يعملون ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) قال المفسرون : أي أنزل عليك القرآن. وقال الزجاج : فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن ، وتقدير الكلام : فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال جمهور المفسرين : أي إلى مكة. وقال مجاهد ، وعكرمة ، والزهري ، والحسن : إن المعنى : لرادّك إلى يوم القيامة ، وهو اختيار الزجاج ، يقال بيني وبينك المعاد ، أي : يوم القيامة ، لأن الناس يعودون فيه أحياء. وقال أبو مالك وأبو صالح : لرادّك إلى معاد الجنة. وبه قال أبو سعيد الخدري ، وروي عن مجاهد. وقيل «إلى معاد» : إلى الموت (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنك في ضلال ، والمراد من جاء بالهدى هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن هو في ضلال مبين : المشركون ، والأولى : حمل الآية على العموم ، وأن الله سبحانه يعلم حال كلّ طائفة من هاتين الطائفتين ويجازيها بما تستحقه من خير وشرّ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد ، وننزل عليك القرآن. وقيل : ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب بردّك إلى معادك ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) منقطع ، أي : لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك ، ويجوز أن يكون متصلا حملا على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقي إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك. والأوّل : أولى ، وبه جزم الكسائي ، والفرّاء (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي : عونا لهم ، وفيه تعريض بغيره من الأمة. وقيل : المراد لا تكوننّ ظهيرا لهم بمداراتهم (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي : لا يصدنك يا محمّد الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك. قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الصاد من صدّه يصدّه. وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد ، من أصدّه بمعنى صدّه (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : ادع الناس إلى الله وإلى توحيده ، والعمل بفرائضه ، واجتناب معاصيه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وفيه تعريض بغيره كما تقدّم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٧

لا يكون من المشركين بحال من الأحوال ، وكذلك قوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فإنه تعريض لغيره. ثم وحد سبحانه نفسه ووصفها بالبقاء والدوام فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ) من الأشياء كائنا ما كان (هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : إلا ذاته. قال الزجاج : وجهه منصوب على الاستثناء ، ولو كان في غير القرآن كان مرفوعا بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك. كما قال الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

والمعنى كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه (لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء النافذ بما شاء ، ويحكم بما أراد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عند البعث ليجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا إله غيره سبحانه وتعالى.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (سَرْمَداً) قال : دائما : وأخرج ابن أبي حاتم عنه (وَضَلَّ عَنْهُمْ) يوم القيامة (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) قال : يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضا (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قال : كان ابن عمه ، وكان يتبع العلم حتى جمع علما ، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده ، فقال له موسى : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة ، فأبى فقال : إن موسى يريد أن يأكل أموالكم ؛ وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا لا نحتمل فما ترى ، فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنرسلها إليه ، فترميه بأنه أرادها على نفسها ، فأرسلوا إليها ، فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك ، قالت : نعم فجاء قارون إلى موسى فقال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك ، قال نعم ، فجمعهم فقالوا له : ما أمرك ربك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا ، وأمرني إذا زنا وقد أحصن أن يرجم ، قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : نعم ، قالوا : فإنك قد زنيت. قال أنا؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت ، ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى : أنشدك بالله إلا ما صدقت. قالت : أما إذ أنشدتني بالله ، فإنهم دعوني ، وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي ، وأنا أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخرّ موسى ساجدا يبكي ، فأوحى الله إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها فتعطيك ، فرفع رأسه فقال خذيهم ، فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى! يا موسى! فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، فجعلوا يقولون يا موسى! يا موسى! فقال : خذيهم إلى أعناقهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى! يا موسى! فقال : خذيهم ، فغشيتهم ، فأوحى الله يا موسى : سألك عبادي ، وتضرّعوا إليك ، فلم تجبهم وعزّتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس : وذلك قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن خيثمة قال : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغرّ محجلا. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عنه قال : وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز. قلت : لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة. وأخرج ابن المنذر ، وابن

٢١٨

أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) قال : تثقل. وأخرج ابن المنذر عنه قال : لا يرفعها العصبة من الرجال أولو القوّة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : العصبة أربعون رجلا. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) قال : المرحين ، وفي قوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال : أن تعمل فيها لآخرتك. وأخرج ابن مردويه ، عن أوس بن أوس الثقفي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) في أربعة آلاف بغل. وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ، ولا يصحّ منها شيء مرفوعا ، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرّة ، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه فمن ظفر بكتابه فلينظر فيه. وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) قال : خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج المحاملي ، والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) قال : التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق. وروي نحوه عن مسلم البطين ؛ وابن جريج ، وعكرمة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) قال : بغيا في الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو الشرف ، والعلوّ عند ذوي سلطانهم. إن كان ذلك للتقوي به على الحق ، فهو من خصال الخير ، لا من خصال الشرّ. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عليّ بن أبي طالب قال : إن الرجل ليحبّ أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه ، فيدخل في هذه الآية (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن عليّ رضي الله عنه : وهذا محمول على من أحبّ ذلك لا لمجرّد التجمل ، فهذا لا بأس به ، فقد ثبت «أنّ رجلا قال يا رسول الله إني أحبّ أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ، إنّ الله جميل يحبّ الجمال» وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه قال : نزلت هذه الآية ، يعني (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إلخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال : لما دخل علي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألقى إليه وسادة ، فجلس على الأرض فقال : أشهد أنك لا تبغي علوّا في الأرض ولا فسادا فأسلم (١). وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. وأخرج أيضا ابن مردويه ، عن عليّ بن الحسين بن واقد أن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) الآية أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجحفة حين خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا إلى المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، من طرق ابن عباس في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : إلى مكة ، زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)

__________________

(١). الذي جلس على الأرض هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي قال : أشهد أنك ... إلخ ، هو عدي بن حاتم.

٢١٩

قال : الآخرة. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : معاده الجنة ، وفي لفظ معاده آخرته. وأخرج الحاكم في التاريخ ، والديلمي ، عن عليّ بن أبي طالب قال (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) الجنة. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه قال : لما نزلت (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١) قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فلما نزلت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) قالت الملائكة : هلك كلّ نفس ، فلما نزلت (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قالت الملائكة : هلك أهل السماء والأرض. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : إلا ما أريد به وجهه.

* * *

__________________

(١). الرحمن : ٢٦.

(٢). آل عمران : ١٨٥.

٢٢٠