فتح القدير - ج ٤

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٤

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٧

مُنْقَلَبٍ) صفة لمصدر محذوف ، أي : ينقلبون منقلبا أي منقلب ، وقدّم لتضمنه معنى الاستفهام ، ولا يعمل فيه سيعلم ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، بل هو معلق عن العمل فيه. وقرأ ابن عباس والحسن «أي منفلت ينفلتون» بالفاء مكان القاف ، والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية. وقرأ الباقون والباء ، من الانقلاب بالنون ، والقاف والموحدة ، والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن : أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك.

وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : هذا القرآن (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) قال : جبريل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) قال : جبريل. وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (الرُّوحُ الْأَمِينُ) قال : الروح الأمين : جبريل ، رأيت له ستّمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها ، فيها مثل ريش الطواويس. وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) قال : بلسان قريش ، ولو كان غير عربي ما فهموه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن بريدة في قوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) قال : بلسان جرهم. وأخرج مثله أيضا عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل ، وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد ، فقال لهم الله (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : «لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا وعمّ وخصّ فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، يا معشر بني كعب بن لؤيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، يا معشر بني قصيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، يا فاطمة بنت محمّد أنقذي نفسك من النّار فإني لا أملك لك ضرّا ولا نفعا ، إلّا أنّ لكم رحما وسأبلّها ببلالها». وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) قال : للصلاة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يقول : قيامك وركوعك وسجودك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. ومنه الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل ترون قبلتي هاهنا؟ فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم ، وإنّي لأراكم من وراء ظهري». وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجت نبيا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن

١٤١

مردويه وأبو نعيم عنه في الآية نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : «سأل أناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان قال : إنهم ليسوا بشيء ، قالوا : يا رسول الله إنهم يحدّثون أحيانا بالشيء يكون حقا! قال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة وفي لفظ للبخاري «فيزيدون معها مائة كذبة». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وكان مع كلّ واحد مهما غواة من قومه وهم السفهاء ، فأنزل الله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) الآيات. وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عروة قال : لما نزلت (وَالشُّعَراءُ) إلى قوله : (ما لا يَفْعَلُونَ) قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله! قد علم الله أني منهم ، فأنزل الله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (يَنْقَلِبُونَ) وروي نحو هذا من طرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال : هم الكفار يتبعون ضلال الجنّ والإنس (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) قال : في كلّ لغو يخوضون (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) أكثر قولهم يكذبون ، ثم استثنى منهم فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال : ردّوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا (وَالشُّعَراءُ) قال : المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال : قال غواة الجنّ في كلّ واد يهيمون في كلّ فنّ من الكلام يأخذون. ثم استثنى فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. يعني حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بهجاء المشركين. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه (الْغاوُونَ) قال : هم الرواة. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية قال : أبو بكر وعمر وعليّ وعبد الله بن رواحة. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك «أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله قد أنزل في الشّعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال : إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نفح النّبل». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ عرض شاعر ينشد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا». وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهنّ في الجنة ، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل ، والثبور في النار. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من الشعر لحكمة» قال : وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا : إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرءوا فقرؤوا (وَالشُّعَراءُ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فقال : أنتم هم (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قال : أنتم هم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) فقال : أنتم هم. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإنّ جبريل معك.

١٤٢

وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال : قيل : يا رسول الله! إنّ أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله! ائذن لي فيه ، فقال : «أنت الذي تقول ثبّت الله؟» فقال : نعم يا رسول ، قلت :

ثبّت الله ما أعطاك من حسن

تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصرا

قال : «وأنت ، ففعل الله بك مثل ذلك» ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه؟ فقال : «أنت الذي تقول همّت؟» قال : نعم يا رسول الله ، قلت :

همّت سخينة (١) أن تغالب ربّها

فلتغلبنّ مغالب الغلاب

فقال : «أما إنّ الله لم ينس ذلك لك» ثم قام حسان فقال : يا رسول الله! ائذن لي فيه ، وأخرج لسانا له أسود ، فقال : يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد ، ائذن لي فيه ، فقال : «اذهب إلى أبي بكر فليحدّثك حديث القوم وأيّامهم وأحسابهم ، واهجهم وجبريل معك». وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال : مرّ عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، فسكت ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال : أنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أجب عني ، اللهمّ أيّده بروح القدس؟» قال : نعم. وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من الشعر حكما ومن البيان سحرا». وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه ، خير من أن يمتلئ شعرا». وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا». قال في الصحاح : ورى القيح جوفه يريه وريا : إذا أكله. قال القرطبي : روى إسماعيل بن عباس عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسن الشّعر كحسن الكلام وقبيح الشّعر كقبيح الكلام». قال القرطبي : رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. قال : وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشّعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام». وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل معك من شعر أميّة بن أبي الصّلت؟ قلت : نعم. قال : هيه فأنشدته بيتا ، فقال : هيه ، حتى أنشدته مائة بيت». وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) قال : هؤلاء الذين يخربون البيت.

__________________

(١). في القرطبي : جاءت سخينة : والسخينة : طعام حار يتّخذ من دقيق وسمن ـ وقيل : من دقيق وتمر ـ أغلظ من الحساء وأرقّ من العصيدة ، وكانت قريش تكثر من أكلها ، فعيّرت بها حتى سمّوا سخينة.

١٤٣

سورة النّمل

هي ثلاث وتسعون آية ، وقيل أربع وتسعون قال القرطبي : وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضّرّيس والنحّاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

قوله : (طس) قد مرّ الكلام مفصلا في فواتح السور ، وهذه الحروف إن كانت اسما للسورة ، فمحلها الرفع على الابتداء ، وما بعده خبره ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا اسم هذه السورة ، وإن لم تكن هذه الحروف اسما للسورة ، بل مسرودة على نمط التعديد ، فلا محل لها ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى نفس السورة ، لأنها قد ذكرت إجمالا بذكر اسمها ، واسم الإشارة : مبتدأ ، وخبره : (آياتُ الْقُرْآنِ) والجملة : خبر المبتدأ الأوّل ، على تقدير أنه مرتفع بالابتداء (وَكِتابٍ مُبِينٍ) قرأ الجمهور بجر كتاب عطفا على القرآن ، أي : تلك آيات القرآن ، وآيات كتاب مبين ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : (وَكِتابٍ) القرآن نفسه ، فيكون من عطف بعض الصفات على بعض ، مع اتحاد المدلول ، وأن يكون المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، أو نفس السورة ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» برفعهما عطفا على آيات. وقيل : هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، أي : وآيات كتاب مبين ، فقد وصف الآيات بالوصفين : القرآنية الدالة على كونه مقروءا ، مع الإشارة إلى كونه قرآنا عربيا معجزا ، والكتابية الدالة على كونه مكتوبا ، مع الإشارة إلى كونه متصفا بصفة الكتب المنزلة ، فلا يكون على هذا من باب عطف صفة على صفة ، مع اتحاد المدلول ، ثم ضم إلى الوصفين وصفا ثالثا ، وهي : الإبانة

١٤٤

لمعانيه لمن يقرؤه ، أو هو من أبان بمعنى : بان معناه ، واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة. وقدّم وصف القرآنية هنا ، نظرا إلى تقدّم حال القرآنية على حال الكتابية وأخّره في سورة فقال : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١) نظرا إلى حالته التي قد صار عليها ، فإنه مكتوب ، والكتابة سبب القراءة ، والله أعلم. وأما تعريف القرآن هنا ، وتنكير الكتاب ، وتعريف الكتاب في سورة الحجر ، وتنكير القرآن فلصلاحية كلّ واحد منهما للتعريف والتنكير (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب ، أي : تلك آيات هادية ومبشرة ، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء ، أي : هو هدى ، أو هما خبران آخران لتلك ، أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدّر ، أي : يهدي هدى ويبشر بشرى. ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) والموصول في محل جرّ ، أو يكون بدلا أو بيانا ، أو منصوبا على المدح ، أو مرفوعا على تقدير مبتدأ. والمراد بالصلاة : الصلوات الخمس ، والمراد بالزكاة : الزكاة المفروضة ، وجملة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في محل نصب على الحال ، وكرّر الضمير للدلالة على الحصر ، أي : لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان ، والعمل الصالح ، وجعل الخبر مضارعا للدلالة على التجدد في كلّ وقت وعدم الانقطاع. ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم الكفار ، أي : لا يصدّقون بالبعث (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) قيل : المراد زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل : المراد أن الله زين لهم الأعمال الحسنة ، وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة ، فلم يقبلوا ذلك. قال الزجاج : معنى الآية أنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي : يتردّدون فيها ، متحيرين على الاستمرار ، لا يهتدون إلى طريقة ، ولا يقفون على حقيقة. وقيل : معنى يعمهون : يتمادون. وقال قتادة : يلعبون ، وفي معنى التحير. قال الشاعر :

ومهمه أطرافه في مهمه

أعمى الهدى بالحائرين العمّه

والإشارة بقوله : (أُوْلئِكَ) إلى المذكورين قبله ، وهو مبتدأ خبره (لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) قيل : في الدنيا ، كالقتل ، والأسر ، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا ، قوله بعده : (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي : هم أشدّ الناس خسرانا ، وأعظمهم خيبة ، ثم مهد سبحانه مقدّمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة ، فقال : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي : يلقى عليك فتلقاه ، وتأخذه من لدن كثير الحكمة ، والعلم ، قيل : إن لدن هاهنا : بمعنى عند. وفيها لغات كما تقدّم في سورة الكهف (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) الظرف منصوب بمضمر وهو ذاكر. قال الزجاج : موضع إذ نصب ، المعنى : اذكر إذ قال موسى ، أي : اذكر قصته إذ قال لأهله ، والمراد بأهله : امرأته في مسيره من مدين إلى مصر ، ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب ، فكنى عنها بلفظ الأهل ، الدالّ على الكثرة ، ومثله قوله : (امْكُثُوا) ومعنى

__________________

(١). الحجر : ١.

١٤٥

(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرتها (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) السين تدلّ على بعد مسافة النار (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين شهاب ، وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس ، فعلى القراءة الأولى يكون قبس بدلا من شهاب ، أو صفة له ، لأنه بمعنى مقبوس ، وعلى القراءة الثانية : الإضافة للبيان ، والمعنى على القراءتين : آتيكم بشعلة نار مقبوسة ، أي : مأخوذة من أصلها. قال الزجاج : من نوّن جعل قبس من صفة شهاب ، وقال الفراء : هذه الإضافة كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وأضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس : هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول : ثوب خز ، وخاتم حديد. قال : ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا ، على أنه مصدر ، أو بيان ، أو حال (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : رجاء أن تستدفئوا بها ، أو لكي تستدفئوا بها من البرد ، يقال : صلى بالنار واصطلى بها : إذا استدفأ بها. قال الزجاج : كلّ أبيض ذي نور فهو شهاب. وقال أبو عبيدة : الشهاب : النار ، ومنه قول أبي النجم :

كأنّما كان شهابا واقدا

أضاء ضوءا ثمّ صار خامدا

وقال ثعلب : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة ، والآخر لا نار فيه ، والشهاب : الشعاع المضيء ، وقيل : للكوكب شهاب ، ومه قول الشاعر :

في كفّه صعدة (١) مثقّفة

فيها سنان كشعلة القبس

(فَلَمَّا جاءَها) أي : جاء النار موسى (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أن هي المفسرة لما في النداء من معنى القول ، أو هي المصدرية ، أي : بأن بورك ، وقيل : هي المخففة من الثقيلة. قال الزجاج : أن في موضع نصب ، أي : بأن قال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله. والأولى : أن النائب ضمير يعود إلى موسى. وقرأ أبيّ وابن عباس ومجاهد «أن بوركت النّار ومن حولها» حكى ذلك أبو حاتم. وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، وكذلك حكى هذا الفراء. قال ابن جرير : قال بورك من في النار ، ولم يقل بورك على النار على لغة من يقول باركك الله ، أي : بورك على من في النار ، وهو موسى ، أو على من في قرب النار ، لا أنه كان في وسطها. وقال السدّي : كان في النار ملائكة ، والنار هنا هي مجرّد نور ، ولكن ظن موسى أنها نار ، فلما وصل إليها وجدها نورا. وحكى عن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه ، أي : نوره. وقيل : بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة. قال الواحدي : ومذهب المفسرين أن المراد بالنار النور ، ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وفيه تعجيب لموسى من ذلك (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الضمير للشأن ، أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم في أمره وفعله. وقيل : إن موسى قال : يا ربّ! من الذي ناداني؟ فأجابه الله سبحانه بقوله : إنه أنا الله ، ثم أمره سبحانه بأن يلقي عصاه ، ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة ، وجملة (وَأَلْقِ عَصاكَ) معطوفة على

__________________

(١). الصّعدة : القناة التي تنبت مستقيمة.

١٤٦

بورك ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فألقاها من يده فصارت حية (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) قال الزجاج : صارت العصا تتحرك كما يتحرّك الجانّ ، وهي الحية البيضاء ، وإنما شبهها بالجانّ في خفة حركتها ، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها ، وجمع الجانّ : جنان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي : لا صغيرة ، ولا كبيرة (وَلَّى مُدْبِراً) من الخوف (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : لم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب ، وقيل : لم يقف ولم يلتفت. والأوّل : أولى ، لأن التعقيب هو الكرّ بعد الفرّ ، فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه : (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي : من الحية وضررها (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي : لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي ، فلا تخف أنت. قيل : ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات ، بل في وقت الخطاب لهم ، لأنهم إذ ذاك مستغرقون. ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) أي : توبة وندما (بَعْدَ سُوءٍ) أي : بعد عمل سوء (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقيل : الاستثناء من مقدّر محذوف ، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم. إلا من ظلم ثم بدل إلخ. كذا قال الفراء. قال النحاس : الاستثناء من محذوف محال ، لأنه استثناء من شيء لم يذكر. وروي عن الفراء أنه قال : إلا بمعنى الواو. وقيل : إن الاستثناء متصل من المذكور ، لا من المحذوف. والمعنى : إلا من ظلم من المرسلين ، بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، واختار هذا النحاس ، وقال : علم من عصى منهم ، فاستثناه فقال : إلا من ظلم ، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطيّ. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة ، فإن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدّم من ذنبه ، وما تأخر كان يقول : وددت أني شجرة تعضد (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) المراد بالجيب هو المعروف ، وفي القصص (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) (١) وفي أدخل من المبالغة ما لم يكن في اسلك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : من غير برص ، أو نحوه من الآفات ، فهو احتراس. وقوله : «تخرج» جواب أدخل يدك. وقيل : في الكلام حذف تقديره : أدخل يدك تدخل ، وأخرجها تخرج ، ولا حاجة لهذا الحذف ، ولا ملجئ إليه. قال المفسرون : كانت على موسى مدرعة من صوف لا كمّ لها ولا إزار ، فأدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تبرق كالبرق ، وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ) قال أبو البقاء : هو في محل نصب على الحال من فاعل تخرج ، وفيه بعد. وقيل : متعلق بمحذوف ، أي : اذهب في تسع آيات. وقيل : متعلق بقوله : ألق عصاك ، وأدخل يدك في جملة تسع آيات ، أو مع تسع آيات. وقيل المعنى : فهما آيتان من تسع ، يعني : العصا واليد ، فتكون الآيات إحدى عشرة : هاتان ، والفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم. قال النحاس : أحسن ما قيل فيه : أن هذه الآية ، يعني اليد داخلة في تسع آيات ، وكذا قال المهدوي ، والقشيري. قال القشيري : تقول خرجت في عشرة نفر ، وأنت أحدهم ، أي :

__________________

(١). القصص : ٣٢.

١٤٧

خرجت عاشر عشرة ، ففي بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان ، أي : منها. قال الأصمعي في قول امرئ القيس :

وهل ينعمن من كان آخر عهده

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

في : بمعنى من ، وقيل : في بمعنى مع (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) قال الفراء : في الكلام إضمار ، أي : إنك مبعوث ، أو مرسل إلى فرعون وقومه ، وكذا قال الزجاج : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الجملة تعليل لما قبلها (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي : جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة ، أي : واضحة بينة ، كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها كقوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) قال الأخفش : ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة ، على أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد ، أي : مكانا يكثر فيه التبصر ، كما يقال : الولد مجبنة ومبخلة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : لما جاءتهم قالوا هذا القول ، أي : سحر واضح (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي : كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها ، فالواو للحال ، وانتصاب (ظُلْماً وَعُلُوًّا) على الحال ، أي : ظالمين عالين ، ويجوز أن ينتصبا على العلة ، أي : الحامل لهم على ذلك الظلم والعلوّ ، ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف ، أي : جحدوا بها جحودا ، ظلما وعلوا. قال أبو عبيدة : والباء في «وجحدوا بها» زائدة ، أي : وجحدوها. قال الزجاج : التقدير : وجحدوا بها ظلما وعلوّا ، أي : شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ، وهم يعلمون أنها من عند الله (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي : تفكر في ذلك فإن فيه معتبرا للمعتبرين ، وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) يعني تبارك وتعالى نفسه ، كان نور ربّ العالمين في الشجرة (وَمَنْ حَوْلَها) يعني الملائكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : كان الله في النور ، نودي من النور (وَمَنْ حَوْلَها) قال : الملائكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال : ناداه الله وهو في النور. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) قال : بوركت النار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : في مصحف أبي بن كعب «بوركت النار ومن حولها» أما النار فيزعمون أنها رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَنْ بُورِكَ) قال : قدّس. وأخرج عبد بن حميد وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل اللّيل قبل النّهار وعمل النّهار قبل الليل ، حجابه النّور لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره.

١٤٨

ثم قرأ أبو عبيدة (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)». والحديث أصله مخرّج في صحيح مسلم من حديث عمرة بن مرّة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه ، فقال له : أدخل يدك في جيبك فأدخلها. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) قال : تكبرا وقد استيقنتها أنفسهم ، وهذا من التقديم والتأخير.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

لما فرغ سبحانه من قصة موسى ، شرع في قصة داود ، وابنه سليمان ، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) والتنوين في (عِلْماً) إما للنوع ، أي : طائفة من العلم ، أو للتعظيم ، أي : علما كثيرا ، والواو في قوله : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) للعطف على محذوف ، لأن هذا المقام مقام الفاء ؛ فالتقدير : ولقد آتيناهما علما فعملا به وقالا الحمد لله ، ويؤيده أن الشكر باللسان ، إنا يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب ، وهو العزم على فعل الطاعة ، وترك المعصية (الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : فضلنا بالعلم والنبوّة وتسخير الطير والجنّ والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعا منهم. وفي الآية دليل على شرف العلم وارتفاع محله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من العباد ، ومنح شرفا جليلا (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي : ورثه العلم والنبوّة. قال قتادة والكلبي : كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا فورث سليمان من بينهم نبوّته ، ولو كان المراد وراثة المال ، لم يخصّ سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء ، وكذا قال جمهور المفسرين ، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) قال سليمان هذه المقالة مخاطبا للناس ، تحدثا بما أنعم

١٤٩

الله به عليه ، وشكر النعمة التي خصه بها ، وقدّم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به ، لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء : منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل ، وأنشد قول حميد بن ثور :

عجيب لها أن يكون غناؤها

فصيحا ولم يغفر بمنطقها فما (١)

ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي : إنما علم منطق الطير خاصة ، ولا يعترض ذلك بالنملة ، فإنها من جملة الطير ، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير ، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه ، ومعنى (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كلّ شيء تدعو إليه الحاجة : كالعلم والنبوّة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب ، وكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة ، والمراد نفسه ، بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف ، لا تكبرا ، وتعظيما لنفسه ، والإشارة بقوله : (إِنَّ هذا) إلى ما تقدّم ذكره من التعليم والإيتاء (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد ، أو المظهر لفضيلتنا (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) الحشر : الجمع ، أي : جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصحّ من جهة النقل ، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : لكلّ طائفة منهم وزعة تردّ أوّلهم على آخرهم ، فيقفون على مراتبهم ، يقال وزعه يزعه وزعا : كفه ، والوازع في الحرب : الموكل بالصفوف يزع من تقدّم منهم ، أي : يردّه ، ومنه قول النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت ألمّا أصح والشّيب وازع

وقول الآخر :

ومن لم يزعه لبّه وحياؤه

فليس له من شيب فوديه وازع

وقول الآخر :

ولا يزع النفس اللّجوج عن الهوى

من الناس إلا وافر العقل كامله

وقيل : من التوزيع بمعنى التفريق ، يقال : القوم أوزاع : أي طوائف (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، ويكون غاية لما قبلها ، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية ، وهو إتيانهم على واد النمل ، أي : فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ ، وعلى واد النمل متعلق باتوا ، وعدّى بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. والمعنى : أنهم قطعوا الوادي وبلغوا

__________________

(١). جاء في اللسان مادة فغر : قال حميد يصف حمامة :

عجبت لها أنّى يكون غناؤها

فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما

١٥٠

آخره ، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله : (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (١) إلا الكسائي فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب : واد النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام (قالَتْ نَمْلَةٌ) هذا جواب إذا ، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي ، فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب ، والمساكن : هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها.

قيل : وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى ، بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. وردّ هذا أبو حيان فقال : إلحاق التاء في قالت ، لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصحّ أن يقال في المذكر قالت ، لأن نملة ، وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ، ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة (٢) ، ولا بالتعرض لاسم النملة ، ولما ذكر من القصص الموضوعة ، والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان «نملة» والنمل بضم الميم وفتح النون ، بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) الحطم : الكسر ، يقال حطمته حطما : أي كسرته كسرا ، وتحطم تكسر ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب : لا أرينك هاهنا ، ويجوز أن يكون بدلا من الأمر ، ويحتمل أن يكون جوابا للأمر. قال أبو حيان : أما تخريجه على جواب الأمر ، فلا يكون إلا على قراءة الأعمش ، «لا يحطمكم» بالجزم بدون نون التوكيد ، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر. قال سيبويه : وهو قليل في الشعر ، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما. وقرأ أبيّ «ادخلوا مساكنكنّ» وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني «لا يحطّمنّكم» بضمّ الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد ، وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم ، أي : لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم ، وقيل : إن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها ، وهو بعيد (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) قرأ ابن السميقع «ضحكا» وعلى قراءة الجمهور يكون ضاحكا : حالا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم ، وقيل : هي حال مقدّرة لأن التبسم أوّل الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينا له ، وقيل : إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير ، وعلى قراءة ابن السميقع يكون ضحكا : مصدرا منصوبا بفعل محذوف ، أو في موضع الحال ، وكان ضحك سليمان تعجبا من قولها ، وفهمها ، واهتدائها إلى تحذير النمل (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) وقد تقدم بيان معنى أوزعني قريبا في قوله : «فهم يوزعون» قال في الكشاف : وحقيقة أوزعني : اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه ، وأرتبطه لا ينفلت

__________________

(١). الفجر : ٩.

(٢). كان يغني عن ذلك كله الرجوع إلى كتب اللغة وفيها : النملة : واحدة النمل للذكر والأنثى.

١٥١

عني ، حتى لا أنفك شاكرا لك ، انتهى. قال الواحدي : أوزعني أي : ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، يقال : فلان موزع بكذا ، أي : مولع به ، انتهى. قال القرطبي : وأصله من وزع ، فكأنه قال : كفني عما يسخطك انتهى. والمفعول الثاني لأوزعني هو : أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ. وقال الزجاج : إن معنى أوزعني : امنعني أن أكفر نعمتك ، وهو تفسير باللازم ، ومعنى وعلى والديّ : الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه ، كما أوزعه شكر نعمته عليه ، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه ، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه ، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها ، ولا سيما النعم الدينية ، فقال : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : عملا صالحا ترضاه مني ، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلا في زمرة الصالحين ، فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها ، فقال : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين ، وهي الجنة ، اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبيّ الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل عليّ به ، فإني وإن كنت مقصرا في العمل ففضلك هو سبب الفوز بالخير ، فهذه الآية منادية بأعلى صوت ، وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك ، لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فيما ثبت عنه في الصحيح «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنّة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» إذا لم يكن إلا تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز ، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع ، ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس ، وما جرى بينها وبين سليمان ، وذلك بدلالة الهدهد فقال : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) التفقد : تطلب ما غاب عنك وتعرّف أحواله ، والطير : اسم جنس لكل ما يطير ، والمعنى : أنه تطلب ما فقد من الطير ، وتعرف حال ما غاب منها ، وكانت الطير تصحبه في سفره ، وتظله بأجنحتها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي : ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرا ، وقيل : لا حاجة إلى ادّعاء القلب ، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد ، كأنه قال : مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني ، أو لشيء آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال : أم كان من الغائبين ، وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب ، قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب «مالي» بفتح الياء ، وكذلك قرءوا في يس (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) (١) بفتح الياء وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب ، وقرأ الباقون بفتح التي في يس ، وإسكان التي هنا. قال أبو عمرو : لأن هذه التي هنا استفهام ، والتي في يس نفي ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ).

اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج : هو أن ينتف ريشه جميعا. وقال يزيد ابن رومان : هو أن ينتف ريش جناحيه ، وقيل : هو أن يحبسه مع أضداده ، وقيل : أن يمنعه من خدمته ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد. وقوله عذابا اسم مصدر أو مصدر على

__________________

(١). يس : ٢٢.

١٥٢

حذف الزوائد كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١) (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشدّدة بعدها نون الوقاية ، وقرأ الباقون بنون مشدّدة فقط ، وهي نون التوكيد ، وقرأ عيسى ابن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء ، والسلطان المبين : هو الحجة البينة في غيبته «فمكث» ابن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء ، والسلطان المبين : هو الحجة البينة في غيبته (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : الهدهد مكث زمانا غير بعيد. قرأ الجمهور «مكث» بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها ، ومعناه في القراءتين : أقام زمانا غير بعيد. قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كقعد يقعد قعودا. وقيل : إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانا غير طويل ، والأوّل أولى (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي : علمت ما لم تعلمه من الأمر ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، ولعلّ في الكلام حذفا ، والتقدير : فمكث الهدهد غير بعيد ، فجاء فعوتب على مغيبه ، فقال معتذرا عن ذلك (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ). قال الفراء : ويجوز إدغام التاء في الطاء ، فيقال : حطّ ، وإدغام الطاء في التاء فيقال : أحتّ (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل ، نسب إليه قوم ، ومنه قول الشاعر :

الواردون وتيم في ذرى سبأ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة ، وترك الصرف على أنه اسم مدينة ، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل وقال : سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن ، بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام. وقيل : هو اسم امرأة سميت بها المدينة. قال القرطبي : والصحيح أنه اسم رجل ، كما في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي. قال ابن عطية : وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال : ما أدري ما هو؟ قال النحاس : وأبو عمرو أجلّ من أن يقول هذا ، قال : والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحيّ ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة ، مثل ثمود ، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف ، انتهى.

وأقول : لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس ، وهو أيضا اسم رجل من قحطان! وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه ، وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا ويؤيده ، ومعنى الآية : أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين ، والنبأ : هو الخبر الخطير الشأن ، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال ، قال له سليمان : وما ذاك؟ فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) وهي : بلقيس بنت شرحبيل ، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ ، والجملة هذه كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها ، أي : ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فيه مبالغة ، والمراد أنها أوتيت من كلّ شيء من الأشياء التي تحتاجها ، وقيل المعنى : أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا ، فحذف شيئا لأن الكلام قد دلّ عليه (وَلَها

__________________

(١). نوح : ١٧.

١٥٣

عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي : سرير عظيم ، ووصفه بالعظم لأنه كما قيل كان من ذهب ، طوله ثمانون ذراعا ، وعرضه أربعون ذراعا ، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا ، مكلل بالدر والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر. وقيل : المراد بالعرش هنا الملك ، والأوّل : أولى لقوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ، ذات ملك عظيم وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه ، قيل : كانوا مجوسا ، وقيل : زنادقة (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي يعملونها ، وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح ، وهو الإيمان بالله وتوحيده (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى ذلك (أَلَّا يَسْجُدُوا) قرأ الجمهور بتشديد «ألا». قال ابن الأنباري : الوقف على فهم لا يهتدون غير تامّ عند من شدّد ألا ، لأنَّ المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس : هي أن دخلت عليها لا ، وهي في موضع نصب. قال الأخفش : أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي : هي في موضع نصب يصدّهم ، أي : فصدّهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا ، فهو على الوجهين مفعول له. وقال اليزيدي : إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقال أبو عمرو : في موضع خفض على البدل من السبيل. وقيل : العامل فيها : لا يهتدون ، أي : فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ، وتكون (لا) على هذا زائدة كقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة ، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود : إما بالتزيين أو بالصدّ أو بمنع الاهتداء ، وقد رجح كونه علة للصدّ الزجاج ، ورجح الفراء كونه علّة لزيّن ، قال : زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ، ثم حذفت اللام. وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف «ألّا». قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الأمر ، فتكون «ألا» على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ، واسجدوا فعل أمر ، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا «ألا يا اسجدوا» ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا ووصلوا الياء بسين اسجدوا ، فصارت صورة الخط ألا يسجدوا ، والمنادى محذوف ، وتقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وقد حذفت العرب المنادى كثيرا في كلامها ، ومنه قول الشاعر :

ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

وقول الآخر :

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمّت اسلمي

ثلاث تحيّات وإن لم تكلّم

وقول الآخر أيضا :

أر يا اسلمي يا هند هند بني بكر

وهو كثير في أشعارهم. قال الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد ،

١٥٤

واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد. قال الزجاج : ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم ، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه ، وكذا قال النحاس ، وعلى هذه القراءة تكون جملة ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد ، أو من كلام سليمان ، أو من كلام الله سبحانه. وفي قراءة عبد الله بن مسعود «هل لا تسجدوا» بالفوقية ، وفي قراءة أبيّ «ألّا تسجدوا» بالفوقية أيضا (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يظهر ما هو مخبوء ومخفيّ فيهما ، يقال : خبأت الشيء أخبؤه خبأ ، والخبء ما خبأته. قال الزجاج : جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض. وقيل : خبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة : الخبء السرّ. قال النحاس ، أي : ما غاب في السموات والأرض. وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر «الخب» بفتح الباء من غير همز تخفيفا ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار «الخبا» بالألف قال أبو حاتم : وهذا لا يجوز في العربية. وردّ عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن. وفي قراءة عبد الله «يخرج الخبء من السموات والأرض». قال الفراء : ومن وفي يتعاقبان ، والموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتا لله سبحانه ، أو بدلا منه ، أو بيانا له ، ويجوز أن يكون في محل نصب على المدح ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وجملة (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) معطوفة على يخرج ، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب ، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدّمة ضمائر غيبة ، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك ، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب. والمعنى : أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السموات والأرض ، ثم بعد ما وصف الربّ سبحانه بما تقدّم مما يدلّ على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة قال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) قرأ الجمهور العظيم بالجرّ نعتا للعرش ، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتا للربّ ، وخصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان.

أقول : ليس في الآية ما يدلّ على ما فهمه رحمه‌الله ، والذي تدلّ عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم ، فمن أين تدلّ على أن حمده أفضل من نعمته؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) قال : ورثه نبوّته وملكه وعلمه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : «خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس ، فمرّ على

١٥٥

نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فإمّا أن تسقينا وإما أن تهلكنا ، فقال سليمان للناس : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم». وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم ، من الجن والإنس ، والدواب ، والطير ، والسباع ، وأعطي كل شيء ، ومنطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه ، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلا أنبياء بلا رسالة. قال الذهبي : وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها ، فالإمساك عن ذكرها أولى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال يدفعون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال : جعل لكل صنف وزعة ، تردّ أولاها على أخراها ، لئلا تتقدّمه في السير كما تصنع الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (أَوْزِعْنِي) قال : ألهمني. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال : إن سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء ، فأراد أن يسأله عنه ففقده ، قيل : كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ، يلقى عليه التراب ، ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟ فقال : إذا جاء القضاء ذهب البصر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) قال : أنتف ريشه كله ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : كان اسم هدهد سليمان غبر.

وأقول : من أين جاء علم هذا للحسن رحمه‌الله؟ وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لها بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، وهو رحمه‌الله أورع الناس عن نقل الكذب ، ونحن نعلم أنه لم يصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك شيء ، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان ، أو بأحد من أصحابه ، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب ، وقد أمرنا أن لا نصدّقهم ولا نكذبهم ، فإن ترخص بالرواية عنهم لمثل ما روي «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك ، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم ، وقد كرّرنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال : خبر الحقّ الصدق البين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال : قال ابن عباس : كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية ، ثم قال : وأيّ سلطان كان للهدهد؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) قال : اطلعت على ما لم تطلع عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا

١٥٦

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قال : سبأ بأرض اليمن ، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) قال : بخبر حقّ. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضا : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) قال : كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة ، وكانت صلباء شعراء. وروي عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل ، وعن ابن جريج بنت ذي شرح. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحد أبوي بلقيس كان جنيّا» وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) قال : سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) قال : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

جملة (قالَ سَنَنْظُرُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي : قال سليمان للهدهد : سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة (أَصَدَقْتَ) فيما قلت (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول سننظر ، وأم هي المتصلة ، وقوله : (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أبلغ من قوله أم كذبت ، لأن المعنى : من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقا لهم. والنظر هو التأمل والتصفح ، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار ، والكشف عن الحقائق ، وعدم قبول خبر المخبرين تقليدا لهم ، واعتمادا عليهم ، إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه. ثم بين سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) أي : إلى أهل سبأ. قال الزجاج : في ألقه خمسة أوجه : إثبات الياء في اللفظ وحذفها ، وإثبات الكسرة للدلالة عليها ، وبضم الهاء وإثبات الواو ، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها ، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء. وروي عن هشام وجهان : إثبات الياء

١٥٧

لفظا وحذفها مع كسر الهاء. وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ ، وقوله : (بِكِتابِي هذا) يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب ، وأن يكون بدلا منه ، وأن يكون بيانا له ، وخصّ الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم ، والعلم ، وما يقتضي كونه أهلا للرسالة (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنحّ عنهم ، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك ، والمراد : التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم ، حتى يخبر سليمان بما سمع ، وقيل : معنى التولي : الرجوع إليه ، والأوّل أولى لقوله : (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي : تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول ، وما يتراجعونه بينهم من الكلام (قالَتْ) أي : بلقيس (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في الكلام حذف ، والتقدير : فذهب الهدهد فألقاه إليهم ، فسمعها تقول : يا أيها الملأ إلخ ، ووصفت الكتاب بالكريم ، لكونه من عند عظيم في نفسها ، فعظمته إجلالا لسليمان ، وقيل : وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن ، وقيل : وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوما بخاتم سليمان ، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعا ، ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية وبعد التسمية (أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى) أي : لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك ، وأن هي المفسرة ، وقيل : مصدرية ، ولا : ناهية ، وقيل : نافية ، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن لا تعلوا. قرأ الجمهور «إنه من سليمان وإنه» بكسرهما على الاستئناف ، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجرّ ، وقرأ أبيّ «إن من سليمان وإن بسم الله» بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنهما مفسرتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود «وإنه من سليمان» بزيادة الواو ، وروي ذلك أيضا عن أبيّ. وقرأ أشهب العقيلي وابن السميقع «أن لا تغلو» بالغين المعجمة من الغلوّ ، وهو تجاوز الحدّ في الكبر (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : منقادين للدين ، مؤمنين بما جئت به (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) الملأ : أشراف القوم ، والمعنى يا أيها الأشراف أشيروا عليّ وبينوا لي الصواب في هذا الأمر ، وأجيبوني بما يقتضيه الحزم ، وعبرت عن المشورة بالفتوى ، لكون في ذلك حلّ لما أشكل من الأمر عليها ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فلما قرأت بلقيس الكتاب ، جمعت أشراف قومها وقالت لهم : يا أيها الملأ إني ألقي إليّ ، يا أيها الملأ أفتوني ، وكرّر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم ، ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ، ويشيروا عليها بالصواب فقالت : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي : ما كنت مبرمة أمرا من الأمور حتى تحضروا عندي ، وتشيروا عليّ ، ف (قالُوا) مجيبين لها (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في العدد والعدّة (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) عند الحرب واللقاء ، لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا ، وبلدنا ، ومملكتنا. ثم فوّضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها ، وقوة عقلها فقالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي : موكول إلى رأيك ونظرك (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي : تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له ، فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) أي : إذا دخلوا قرية من القرى خرّبوا مبانيها ، وغيروا مغانيها ، وأتلفوا

١٥٨

أموالها ، وفرّقوا شمل أهلها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : أهانوا أشرافها ، وحطوا مراتبهم ، فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتمّ لهم الملك ، وتستحكم لهم الوطأة وتتقرّر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج : أي : إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة ، والمقصود من قولها هذا ، تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي : مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري : الوقف على قوله : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) وقف تام ، فقال الله عزوجل تحقيقا لقولها : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) وقيل : هذه الجملة من تمام كلامها ، فتكون من جملة مقول قولها ، وعلى القول الأوّل تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ثم لما قدّمت لهم هذه المقدّمة ، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة ، أوضحت لهم وجه الرأي عندها ، وصرحت لهم بصوابه فقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) أي : إني أجرّب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال ، فإن كان ملكا أرضيناه بذلك ، وكفينا أمره ، وإن كان نبيا لم يرضه ذلك ، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين ، فلا ينجينا منه إلّا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته ، ولهذا قالت : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) الفاء للعطف على مرسلة ، وبم : متعلق بيرجع ، والمعنى : إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية ، من قبول أو ردّ فعامله بما يقتضيه ذلك ، وقد طوّل المفسّرون في ذكر هذه الهدية ، وسيأتي في آخر البحث بين ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي : فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان ، والمراد بهذا المضمر الجنس ، فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها : «بم يرجع المرسلون» وقرأ عبد الله «فلما جاءوا سليمان» أي : الرسل ، وجملة (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) مستأنفة ، جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام للإنكار ، أي : قال منكرا لإمدادهم له بالمال ، مع علوّ سلطانه ، وكثرة ماله. وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية ، والباقون بنونين من غير إدغام ، وأما الياء فإن نافعا وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلا ، ويحذفونها وقفا ، وابن كثير يثبتها في الحالين ، والباقون يحذفونها في الحالين. وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي : ما آتاني من النبوّة ، والملك العظيم ، والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص «آتاني الله» بياء مفتوحة ، وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف ، وحذفها في الوصل ، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدّم فقال : (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) توبيخا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء ، وأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ، ما لم يعطه أحدا من العالمين ، ومع ذلك أكرمني بالنبوّة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم ، والحط عليهم (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي : قال سليمان للرسول : ارجع إليهم : أي : إلى بلقيس وقومها ، وخاطب المفرد هاهنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل ، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط ، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا ، وخاطبهم معه فيما سبق افتنانا في الكلام. وقرأ عبد الله بن عباس «ارجعوا» وقيل : إن الضمير يرجع إلى الهدهد ، واللام في

١٥٩

لنأتيهم جواب قسم محذوف. قال النحاس : وسمعت ابن كيسان يقول : هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض ، وهذا قول الحذاق من النحويين لأنهم يردون الشيء إلى أصله ، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية ، ومعنى «لا قبل لهم» : لا طاقة لهم بها ، والجملة في محل جرّ صفة لجنود (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ) معطوف على جواب القسم ، أي : لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها (أَذِلَّةً) أي : حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزّة ، وجملة (وَهُمْ صاغِرُونَ) في محل نصب على الحال ، قيل : وهي حال مؤكدة لأن الصغار هو الذلة ، وقيل : إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد ، وقيل : إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة. ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان ، وأخبر جبريل سليمان بذلك ف (قالَ) سليمان : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أي : عرش بلقيس الذي تقدّم وصفه بالعظم (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين. قيل : إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا ، لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحلّ أخذ أموالهم بغير رضاهم. قال ابن عطية : وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها وردّه إياها وبعثه الهدهد بالكتاب ، وعلى هذا جمهور المتأوّلين ، وقيل : استدعاء العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله ، ويجعله دليلا على نبوّته ، وقيل : أراد أن يختبر عقلها ، ولهذا (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) إلخ ، وقيل : أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم ، والقول الأوّل هو الذي عليه الأكثر (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء ، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميقع وأبو السمال «عفرية» بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق. وقرأ أبو حيان بفتح العين. والعفريت : المارد الغليظ الشديد. قال النحاس : يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت ، وقال قتادة : هو الداهية ، وقيل : هو رئيس الجنّ. قال ابن عطية : وقرأت فرقة «عفر» بكسر العين جمعه على عفار ، ومما ورد من أشعار العرب مطابقا لقراءة الجمهور وما أنشده الكسائي :

فقال شيطان لهم عفريت

ما لكم مكث ولا تبييت (١)

ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة :

كأنّه كوكب في إثر عفرية

مصوّب في سواد اللّيل منقضب

ومعنى قول العفريت أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان ، قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) إني لقوي على حمله أمين على ما فيه. قيل : اسم هذا العفريت كودن ، ذكره النحاس عن وهب بن منبه ، وقال السهيلي : ذكوان ، وقيل : اسمه دعوان ، وقيل : صخر. وقوله :

__________________

(١). في القرطبي ١٣ / ٢٠٣ :

إذ قال شيطانهم العفريت

ليس لكم ملك ولا تثبيت

١٦٠