البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

١
٢

٣

٤

سورة النّور (١)

مدنية. ووجه المناسبة لما قبلها : أن إقامة الحدود من أثر الرحمة التي ختم بها ما قبلها ؛ لأن بإقامة الحدود يقع الزجر عن المعاصي ، فتنزل الرحمة والعافية. قال أبو هريرة رضي الله عنه : (إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة) (٢).

وقيل : لمّا ذكر تعالى فى مشركى قريش : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) ؛ أي : أعمال سيئة (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٣) ، ثم استطرد بعد ذلك فى أحوالهم ، كان من أعمالهم السيئة : الزنا ، وكان لهم جوار بغايا عليهن ، ويأكلون من كسبهن من الزنا ، فأنزل الله هذه السورة ؛ تغليظا فى أمر الزنا. ه. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهنّ الكتابة ، وعلّموهنّ سورة النور والغزل» (٤) أي : أحكام السورة ؛ لينزجرن عن الزنا.

وسميت سورة النور ؛ لقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) ، وحقيقة النور : ما تنكشف به حقيقة الأشياء على ما هى عليه ، فالنور الظاهر الحسى تنكشف به الأشياء الحسية ، والنور الباطن تنكشف به الأشياء الباطنية ، كمعرفة الذات الأقدس ، وما يقرب إليها من آداب العبودية. ومرجعه إلى ثلاثة : نور معرفة أحكام المعاملة ، ونور اليقين ، ونور المكاشفة. فالأول : نور الإسلام ، وهو كنور النجوم ، والثاني : نور الإيمان ، وهو كنور القمر ، والثالث : نور الإحسان ، وهو كنور الشمس. ويسمى الأولان : نور التوجه ، والثالث : نور المواجهة. وتتفاوت هذه الأنوار على قدر التوجه والتفرغ من شواغل الحس ، فإذا أشرقت شمس العرفان لم يبق لنور النجوم ولا للقمر أثر ؛ لمحو وجود الأكوان فى محل العيان ، فصار الغيب شهادة ، والتصديق معاينة ، فانطوى الإيمان فى وجود العيان.

ولمّا كانت التقوى أساس الطريق لهذا المقام ، الذي هو نور الإيمان ، تكلم الحق تعالى فى أول السورة على أهم ما يتقى ، وهو الزنا وما يؤدى إليه من النظر والاطلاع على عورات النساء ، فقال :

__________________

(١) أول المجلد الثالث من النسخة الأم.

(٢) أخرجه ابن حبان فى صحيحه (٤٣٨١) وأخرجه بنحوه ، ابن ماجه فى (الحدود باب : اقامة الحدود ، ٢ / ٨٤٨ ، ح ٢٥٣٨) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه ابن ماجه فى الموضع نفسه (ح ٣٥٣٧) والنسائي (٨ / ٧٦) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(٣) من الآية ٦٣ من سورة «المؤمنون».

(٤) أخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٦٨) ، والحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٩٦) وصححه ، وتعقبه الذهبي ، فقال : (بل موضوع ، وآفته : عبد الوهاب ، قال أبو حاتم : كذاب) ، وقال الهيثمي فى المجمع (٤ / ٩٣) : رواه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧١٣) ، وفيه محمد بن إبراهيم الشامي. قال الدارقطني : كذّاب.

(٥) الآية ٣٥ من السورة.

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢))

قلت : «سورة» : خبر ، أي : هذه سورة ، وأشير لها ، مع عدم تقدم ذكره ؛ لأنها فى حكم الحاضر المشاهد. وقرئ بالنصب على الاشتغال ، وجملة : (أنزلناها) ، وما عطف عليه : صفة لسورة ، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة. و (الزانية) : مبتدأ ، والخبر : (فاجلدوا) ، ودخلت الفاء ؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط ؛ إذ اللام موصولة ، أي : والتي زنت والذي زنى فاجلدوا ، هذا مذهب المبرد وغيره ، والاختيار عند سيبويه : الرفع على الابتداء ، والخبر : محذوف ، أي : فيما فرض عليكم ، أو : مما يتلى عليكم : حكم الزانية والزاني ، وقدّم الزانية ؛ لأنها الأصل فى الفعل ، والداعية فيها أوفر ، ولو لا تمكينها منه لم يقع. وقيل : لمّا كان وجود الزنى فى النساء أكثر ، بخلاف السرقة ، ففى الرجال أكثر ، قدّم الحق تعالى الأكثر فيهما.

يقول الحق جل جلاله : هذه (سُورَةٌ) ، وهى الجامعة لآيات ، بفاتحة لها وخاتمة ، مشتقة من سور البلد. من نعت تلك السورة : (أَنْزَلْناها) عليك ، (وَفَرَضْناها) أي : فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض : القطع ، أي : جعلناها مقطوعا بها قطع إيجاب. وقرأ المكي وأبو عمرو : بالتشديد ؛ للمبالغة فى الإيجاب وتوكيده ، أو : لأن فيها فرائض شتى ، أو : لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.

(وَأَنْزَلْنا فِيها) أي : فى تضاعيفها (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي : دلائل واضحات ؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها ؛ فإنها كسائر السور. وتكرير (أنزلنا) ، مع أن جميع الآيات عين السورة ؛ لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر ؛ إبانة لخطرها ، ورفعا لقدرها ، كقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (١) ، بعد قوله : (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ). (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : لكى تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بال منهم ، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.

__________________

(١) من الآية ٥٨ من سورة هود.

٦

ثم شرع فى تفصيل أحكامها ، فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ؛ إذا كانا حرّين ، بالغين ، غير محصنين ، وألا تكون المرأة مكرهة. وظاهر الآية : عموم المحصن وغيره ، ثم نسخ بالسنة المشهورة. وقد رجم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ماعزا وغيره. وعن على رضي الله عنه : جلدتهما بكتاب الله ، ورجمتهما بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نسخ بآية منسوخة التلاوة ، وهى : (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة ؛ نكالا من الله والله عزيز حكيم) ، ويأباه ما روى عن على رضي الله عنه. ه. قاله أبو السعود.

وشرط الإحصان : العقل ، والحرية ، والإسلام ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، ودخول معتبر. وفى التعبير بالجلد ، دون الضرب ؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصل أثر الضرب إلى اللحم ، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجلد الظاهر. والخطاب للأئمة ؛ لأن إقامة الحدود من الدّين ، وهو على الكل ، إلا أنه لا يمكن الاجتماع ، فيقوم الإمام مقامهم ، وزاد مالك والشافعي مع الجلد : تغريب عام ، أخذا بالحديث الصحيح (١). وقال أبو حنيفة : إنه منسوخ بالآية.

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) أي : رحمة ورقة. وفيها لغات : السكون ، والفتح مع القصر والمد ، كالنشأة والنشاءة ، وقيل : الرأفة فى دفع المكروه ، والرحمة فى إيصال المحبوب. (فِي دِينِ اللهِ) أي : فى طاعته وإقامة حدوده ، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا فى دين الله ، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، هو من باب التهييج ، وإلهاب الغضب لله ، ولدينه ، فإن الإيمان يقتضى الجد فى طاعته ، والاجتهاد فى إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر ؛ لتذكير ما فيه العقاب فى مقابلة المسامحة. وجواب الشرط : مضمر ، أي : إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.

قيل لأبى مجلز فى هذه الآية : والله إنا لنرحمهم إن يجلد الرجل أو تقطع يده ، فقال : إنما ذلك فى السلطان ، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجلد ابن عمر جارية ، فقال للجلاد : ظهرها ورجليها وأسفلها ، وخفّف ، فقيل له : أين قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) ..؟ فقال : أأقتلها؟ ، إنّ الله أمرنى أن أضربها وأأدبها ، ولم يأمرنى أن أقتلها. ه (٢). ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي : وليحضر موضع حدّهما (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ زيادة فى التنكيل ، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء : ينبغى أن يقام بين يدى الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم ؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية ، وقربة تعبدية ، يجب المحافظة على فعلها ، وقدرها ، ومحلها ، وحالها ، بحيث

__________________

(١) أخرج البخاري فى (الشهادات ، باب شهادة القاذف والسارق والزاني ح ٢٦٤٩) عن زيد بن خالد : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام».

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ٦٧).

٧

لا يتعذر شىء من شروطها وحرمتها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فيجب مراعاته بكل ما أمكن ، فلا يقصر عن الحد ، ولا يزاد عليه. ويطلب الاعتدال فى السوط ، فلا يكون لينا جدا ، ولا يابسا جدا ، وكذلك فى الضرب ، فلا يرفع يده حت يرى إبطه ، ولا يخفف فيه جدا ، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره.

وتسمية الحدّ عذابا دليل على أنه عقوبة وكفارة. و «الطائفة» : فرقة ، يمكن أن تكون حافة حول الشيء ، من الطوف ، وهو الإدارة ، وأقلها : ثلاثة ، وقيل : أربعة إلى أربعين. وعن الحسن : عشرة ، والمراد : جمع يحصل به التشهير. والله تعالى أعلم.

الإشارة : التقوى أساس الطريق ، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له ، ومن لا طريق له لا سير له ، ومن لا سير له لا وصول له. وأعظم ما يتقى العبد شهوة الفروج ، فهى أعظم الفتن وأقبح المحن ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «ما تركت بعدي أضرّ على الرّجال من النّساء» (١) ، أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الناس اتقوا الزنا ، فإن فيه ستّ خصال : ثلاثا فى الدنيا ، وثلاثا فى الآخرة : فأما اللاتي فى الدنيا ؛ فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما اللاتي فى الآخرة ؛ فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود فى النار» (٢). والمراد بنقص العمر : قلة بركته ، وبالخلود : طول المكث. وفى حديث آخر : «إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني» (٣) ، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعمال أمتى تعرض علىّ فى كل جمعة مرتين ، فاشتد غضب الله على الزناة» (٤). وقال وهب بن منبه : (مكتوب فى التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقواد لا يموت حتى يعمى).

وفى بعض الأخبار القدسية : «يقول الله عزوجل : أنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت مكة بيدي ، أغنى الحاج ولو بعد حين ، وأفقر الزاني ولو بعد حين ، هذا وباله فى الدنيا والآخرة ، وأما فى عالم البرزخ ؛ فتجعل أرواحهم فى تنور من نار ، فإذا اشتعلت علوا مع النار ، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها ، هكذا حتى تقوم الساعة ، كما فى حديث

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (النكاح ، باب ما يتقى من شؤم المرأة ح) ، ومسلم فى (الذكر ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ، ٤ / ٢٠٩٧ ح ٢٧٤٠) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(٢) عزاه فى كنز العمال (٥ / ٣١٩ ح ١٣٠٢٢) للخرائطى فى مساوئ الأخلاق. وأبى نعيم فى الحلية (٤ / ١١١) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (ح ٥٤٧٥) ، عن حذيفة. والحديث ضعفه البيهقي.

(٣) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار ح ١٥٤٨) عن بريدة رضي الله عنه ، وضعّفه الهيثمي فى المجمع (٦ / ٢٥٥).

(٤) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (٦ / ١٧٩) عن أنس رضي الله عنه.

٨

البخاري (١). وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا ؛ لما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب ، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.

وقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) : قال فى الإحياء : فى الحديث : «خيار أمتى أحدّاؤها» (٢) يعنى : فى الدين ؛ قال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) ، فالغيرة على الحرم ، والغضب لله وعلى النفس ، بكفها عن شهوتها وهواها ، محمود ، وفقد ذلك : مذموم. ه. وبالله التوفيق.

ثم نهى عن نكاح الزواني ، فقال :

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

يقول الحق جل جلاله : من شأن (الزَّانِي) الخبيث : أنه لا يرغب إلا فى زانية خبيثة من شكله ، أو فى مشركة ، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها ، من الفسقة أو المشركين. وهذا حكم جار على الغالب المعتاد ، جىء به ؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني ، بعد زجرهم عن الزنا بهن ؛ إذ الزنا عديل الشرك فى القبح ، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن ، وهو نظير قوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (٣).

روى أن المهاجرين لمّا قدموا المدينة ، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل ، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات ، يكرين أنفسهن ، وهنّ أخصب أهل المدينة ، رغب بعض الفقراء فى نكاحهن ؛ لحسنهن ، ولينفقوا عليهم من كسبهنّ ، فاستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (٤) ، فنفرهم الله تعالى عنه ، وبيّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين ، فلا تحوموا حوله ؛ لئلا تنتظموا فى سلكهم وتتّسموا بسمتهم.

قيل : كان نكاح الزانية محرما فى أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (٥). وقيل : المراد بالنكاح : الوطء ، أي : الزاني لا يزنى إلا بزانية مثله ، وهو بعيد ، أو باطل.

__________________

(١) أخرجه البخاري ، مطولا فى (الجنائز ، باب ٩٣ ح ١٣٨٦) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧٩٣) والبيهقي فى الشعب (ح ٨٣٠١) من حديث سيدنا علىّ ، بسند ضعيف ، وزادا : (والذين إذا غضبوا رجعوا) ..

(٣) الآية ٢٦ من سورة النور.

(٤) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٣٨) لابن أبى حاتم ، عن مقاتل.

(٥) من الآية ٣٢ من سورة النور.

٩

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال : «أوّله سفاح ، وآخره نكاح ، والحرام لا يحرم الحلال» (١).

ومعنى الجملة الأولى : وصف الزاني بكونه غير راغب فى العفائف ، ولكن فى الفواجر. ومعنى الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن الزناة ، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا ، بخلاف ما تقدم فى الجلد ؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ماجنيا ، والمرأة هى المادة التي منها نشأت تلك الجناية ، كما تقدم ، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجل أصل فيه.

ثم ذكر الحكم ، فقال : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : نكاح الزواني بقصد التكسب ، أو : للجمال ؛ لما فى ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة ، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن فى النسب ، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأدانى والأراذل ، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟ ، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم ، مبالغة فى الزجر ، وقيل : النفي بمعنى النهى ، وقرئ به. والتحريم : إما على حقيقته ، ثم نسخ بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ...) (٢) إلخ ، أو : مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.

الإشارة : الصحبة لها تأثير فى الأصل والفرع ، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل ، وفى ذلك يقول القائل :

عليك بأرباب الصّدور ، فمن غدا

مضافا لأرباب الصّدور تصدّرا

وإيّاك أن ترضى بصحبة ساقط

فتنحط قدرا من علاك وتحقرا

فالمرء على دين خليله ، ومن تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها ، والحكم للغالب ، فإن كان النور قويا غلب الظلمة ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور ، وصيرته ظلمة ، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني ، فإنه وإن كان

__________________

(١) هذا حديثان ، الأول قوله «أوله : سفاح وآخره نكاح ، أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (٧ / ٢٠٢) وابن أبى شيبة فى مصنفه (٤ / ٢٤٨) والبيهقي فى الكبرى (٧ / ١٦٨). موقوفا على ابن عباس رضي الله عنه.

والثاني : قوله : «الحرام لا يحرم الحلال ، أخرجه ابن ماجه فى (النكاح ، باب لا يحرم الحرام حلال ، ١ / ٦٤٩ ح ٢٠١٥) والدارقطني (٧ / ١٦٩) عن ابن عمر رضي الله عنه.

(٢) الآية ٣٢ من سورة النور.

١٠

نور الزوج غالبا ـ إذا كان ذا نور ـ فإن العرق نزّاع ، فيسرى ذلك فى الفروع ، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة ، ولا أولاد أهل العفة إلا أعفّاء ، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (١).

وفى الحديث : «إياكم وخضراء الدّمن ، قيل : وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال : المرأة الحسناء فى المنبت السوء» (٢). قال ابن السكيت : شبهها بالبقلة الخضراء فى دمنة أرض خبيثة ؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله ، فتجىء أولادها لأصلها فى الغالب. فيجب على اللبيب ـ إن ساعفته الأقدار ـ أن يختار لزراعته الأرض الطيبة ، وهى الأصل الطيب ، لتكون الفروع طيبة. وفى الحديث : «تخيّروا لنطفكم ولا تضعوها إلّا فى الأكفاء» (٣) ه وبالله التوفيق.

ثم ذكر حدّ القذف ، فقال :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

قلت : «ثمانين» : مفعول مطلق ، و «جلدة» : تمييز. «إلا الذين تابوا» : إما : استثناء من ضمير «لهم» ، فمحله : الجر ، أو : من قوله : «الفاسقون» ، فمحله : النصب ؛ لأنه بعد موجب تام.

يقول الحق جل جلاله ، فى بيان شأن العفائف ، بعد بيان شأن الزواني : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي : يقذفون بالزنا (الْمُحْصَناتِ) ؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات ، بأن يقول : يا زانية ، أو : يا محبة ، ولا فرق بين التصريح والتعريض ، ولا بين النساء والرجال ، قاذفا أو مقذوفا. والتعبير بالرمي ، المنبئ عن صلابة الآلة ، وإيلام المرمى ، وبعده عن الرامي ؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن ، وكونه رجما بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا ، لا غير.

__________________

(١) من الآية ٥٨ من سورة الأعراف.

(٢) أخرجه الشهاب القضاعي ، فى مسنده (٩٥٧) ، والديلمي (الفردوس ح ١٥٣٧) عن أبى سعيد الخدري. قال العجلونى ، فى كشف الخفاء (١ / ٢٧٢) : قال ابن عدى : تفرد به الواقدي ، وذكره أبو عبيد فى الغريب. ورواه الدار قطنى فى الأفراد ، وقال : لا يصح من وجه.

(٣) أخرجه بلفظ : «تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء» : ابن ماجة فى (النكاح ، باب الأكفاء ، ١ / ٦٣٣ ، ح ١٩٦٨) ، والبيهقي فى السنن (٧ / ١٣٣) ، والدارقطني فى السنن (٢ / ٢٩٨) ، من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها. وأخرجه بلفظ المفسر : ابن عدى فى الكامل (٢ / ٦١٤) ، والبغدادي فى تاريخ بغداد (١ / ٢٦٤) ، وانظر كشف الخفا (١ / ٣٠٢).

١١

(ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون عليهن بما رموهن به ، وفى كلمة «ثم» ؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود ، كما أن فى كلمة «لم» : تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف : الحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والعفة عن الزنا ، فإن توفرت الشروط (فَاجْلِدُوهُمْ) أي : القاذفين (ثَمانِينَ جَلْدَةً) ؛ لظهور كذبهم وافترائهم ؛ لقوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١) ، وتخصيص رميهن بهذا الحكم ، مع أن رمى المحصنين أيضا كذلك ؛ لخصوص الواقعة ، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق ، فعلى العبد فى الزنا خمسون ، وفى القذف أربعون.

(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) بعد ذلك (شَهادَةً أَبَداً) ؛ زجرا لهم ؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم ، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه ، فعوقب بإهدار شهادته ، جزاء وفاقا. والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات ، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي ، أبدا ، مدة حياتهم ، فالرد من تتمة الحدّ ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم ، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والرد. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، كلام مستأنف غير داخل فى جزاء الشرط ؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد ؛ للإيذان ببعد منزلتهم فى الشر والفساد ، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق ، والخروج عن الطاعة ، والتجاوز عن الحد ، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم ، دون غيرهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) القذف ، (وَأَصْلَحُوا) أحوالهم ، فهو استثناء من الفاسقين ، بدليل قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر ذنوبهم ويرحمهم ، ولا ينظمهم فى سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تقبل شهادته مطلقا فيما حدّ فيه وفى غيره ؛ لأن رد شهادته وصلت بالأبد ، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل : الاستثناء راجع لقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) ، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقا ؛ لأنه زال عنه اسم الفسق ، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقا ، فينتهى بالتوبة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار. وفصّل مالك ، فقال : لا تجوز فيما حدّ فيه ، ولو تاب ، وتجوز فيما سواه ، وكأنه جمع بين القولين. والله تعالى أعلم.

الإشارة : الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب ، وهو من شيم ذوى الألباب ، وبه السلامة من الهلاك والعطب ، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب ، وأقبح العيوب ، ولله در القائل :

__________________

(١) من الآية ١٣ من سورة النور.

١٢

إذا شئت أن تحيا ودينك سالم

وحظك موفور وعرضك صيّن

لسانك ، لا تذكر به عورة امرئ

فعندك عورات وللنّاس ألسن

وإن أبصرت عيناك عيبا فقل لها :

أيا عين لا تنظرى ؛ فللناس أعين

وعاشر بمعروف وجانب من اعتدي

وفارق ولكن بالتي هى أحسن (١)

فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه ، ولا يرى فى المملكة سواه ، يذكر الله على الأشياء ، فتنقلب نورا ؛ لحسن ظنه بالله ، ويلتمس المعاذر لعباد الله ؛ لكمال حسن ظنه بهم. وبالله التوفيق.

ثم تكلم على من رمى زوجته ، وبه يقع اللعان ، ، فقال :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

قلت : (إلا أنفسهم) : بدل من (شهداء) ، أو صفة له ، على أن (إلا) بمعنى غير. و (فشهادة) : مبتدأ ، والخب محذوف ، أي : واجبة ، أو : تدرأ عنه العذاب ، أو : خبر عن محذوف ، أي : فالواجب شهادة أحدهم ، و (أنّ) ، فى الموضعين : مخففة ، ومن شدّد ؛ فعلى الأصل. و (الخامسة) : مبتدأ ، و (أنّ غضب) : خبر ، وقرأ حفص بالنصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة.

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي : يقذفون زوجاتهم بالزنا ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) أي : لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، جعلوا من جملة الشهداء ؛ إيذانا بعدم قبول قولهم بالمرة ، (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أي : فالواجب شهادة أحدهم (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) يقول : أشهد بالله (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنا. (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) أي : إنه لعنة الله عليه ، أي : يقول فيها : لعنة الله عليه (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به. فإذا حلف درئ عنه العذاب ، أي : دفع عنه الحد ، وإن نكل : حدّ ؛ لقذفها.

__________________

(١) الأبيات بنحوها فى ديوان الشافعي ص / ٨٤ تعليق محمد عفيف الزعبى.

١٣

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي : يدفع عنها الحدّ (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ) أي : الزوج (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنا ، (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) الزوج (مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنا. وذكر الغضب فى حق النساء ؛ تغليظا ؛ لأن النساء ؛ يستعملن اللعن كثيرا ، كما ورد به الحديث : «يكثرن اللعن» (١) ، فربما يجترئن على الإقدام ، لكثرة جرى اللعن على ألسنتهن ، وسقوط وقعه عن قلوبهن ، فذكر الغضب فى جانبهن ؛ ليكون ردعا لهن.

فإذا حلفا معا فرق بينهما بمجرد التلاعن ، عند مالك والشافعي ، على سبيل التأبيد ، وقال أبو حنيفة : حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة ؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.

روى أن آية القذف المتقدمة لمّا نزلت ؛ قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، فقام عاصم بن عدى الأنصاري ، فقال : جعلنى الله فداءك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلا ، فأخبر بما رأى ، جلد ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أيضا ، فكيف لنا بالشهداء ، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجل من حاجته ، وإن ضربه بالسيف قتل؟ اللهم افتح ، وخرج فاستقبله هلال بن أمية ـ وقيل : عويمر (٢) ـ فقال : ما وراءك؟ فقال : الشر ، وجدت على امرأتى خولة ـ وهى بنت عاصم ـ شريك بن سحماء ـ فقال عاصم : والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به ، فرجعا ، فأخبرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلم خولة : فأنكرت ، فنزلت هذه الآية ، فتلاعنا فى المسجد ، وفرّق بينهما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارقبوا الولد ، إن جاءت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه إلا كذب عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فما أراه إلا صدق» فجاءت به على النعت المكروه.

قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي : تفضله عليكم (وَرَحْمَتُهُ) ؛ ونعمته (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ، وجواب «لو لا» : محذوف ؛ لتهويله ، والإشعار بضيق العبارة عن حصره ، كأنه قيل : لو لا تفضله تعالى

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ح ٤٠٣) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان نقص الإيمان ، ١ / ٨٦ ـ ٨٧ ، ح ٧٩) من حديث ابن عمر ، ولفظه : «يا معشر النساء تصدقن ، فإنى أريتكن أكثر أهل النار. فقلن : وبم يا رسول الله؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير ...» الحديث.

(٢) كلاهما جاءت قصته فى الصحيح ، وأخرج قصة عويمر البخاري ، فى (التفسير ، سورة النور ، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ..) ح ٤٧٤٥) ومسلم فى (أول كتاب اللعان ، ٢ / ١١٢٩ ح ١٤٩٢) من حديث سهل بن سعد الساعدي.

وأخرج قصة هلال بن أمية : البخاري أيضا ، فى : (التفسير ـ سورة النور ، باب : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) ح ٤٧٤٧). عن ابن عباس. وأخرجها مسلم فى الموضع السابق ذكره (ح ١٤٩٦) عن أنس بن مالك.

وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث : بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجىء عويمر أيضا ، فنزلت فى شأنهما معا ، فى وقت واحد. وقد جنح النووي وابن حجر الى هذا. انظر فتح الباري (٨ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) وراجع أيضا : تفسير الطبري (١٨ / ٨٢ ـ ٨٤) والبغوي (٦ / ١٢ ـ ١٥).

١٤

عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ فى قبول التوبة ، حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه ، التي من جملتها : ما شرع لكم من حكم اللعان ، لكان ما كان ، مما لا يحيط به نطاق العبارة ، من حد الزوج مع الفضيحة ، أو قتل المرأة ، أو غير ذلك من العقوبة. قال القشيري : لبقيتم فى هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة. ه.

الإشارة : النفس إذا تحقق فناؤها ، وكمل تهذيبها ، رجعت سرا من أسرار الله ، فلا يحل رميها بنقص ؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص ، فإن رماها بشىء فليبادر بالرجوع عنه. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر وبال من رمى أزواج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى قضية الإفك ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

قلت : (عصبة) : خبر «إن» ، و (لا تحسبوه) : استئناف.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) ؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد : ما أفك على الصديقة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، وفى لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.

وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرجت قرعتها استصحبها ، قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : فأقرع بيننا فى غزوة غزاها ـ قيل : هى غزوة بنى المصطلق ، وتسمى أيضا : غزوة المريسيع ، وفيها أيضا نزل التيم ـ فخرج سهمى ، فخرجت معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول آية الحجاب ، فحملت فى هودج ، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة ؛ نزلنا منزلا ، ثم نودى بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى ، فلمست صدرى فإذا عقد لى من جزع أظفار (١) قد انقطع ، فرجعت فالتمسته ، فحبسنى التماسه. وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلونى ، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أنّى فيه ؛ لخفتى ، فلم يستنكروا خفة الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيه داع ولا مجيب ، فتيممت منزلى ، وظننت أن سيفقدوننى ويعودون فى طلبى ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى ، فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل قد عرّس (٢) من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلى ، فلما رآنى

__________________

(١) الجزع ـ بالفتح ـ : الخرز اليماني .. انظر النهاية (جزع ١ / ٢٦٩).

(٢) التعريس : نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة .. انظر النهاية (عرس ٣ / ٢٠٦).

١٥

عرفنى ، وكان يرانى قبل الحجاب ، فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه ، فخمّرت وجهى بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة ، غير استرجاعه ، فأناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش موغرين فى نحر الظهيرة ، وهم نزول ، وافتقدنى الناس حين نزلوا ، وماج الناس فى ذكرى ، فبينما الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فخاض الناس فى حديثى ، فهلك من هلك. والحديث بطوله مذكور فى الصحيحين (١) والسّير.

وقوله تعالى : (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي : جماعة من جلدتكم ، والعصبة : من العشرة إلى الأربعين ، وكذا العصابة ، يقال : اعصوصبوا : اجتمعوا. وهم عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم. واختلف فى حسان بن ثابت ، فمن قال : كان منهم ، أنشد البيت المروي فى شأنهم ممن جلدوا الحد :

لقد ذاق حسّان الذي هو أهله

وحمنة ؛ إذا قالا هجيرا ، ومسطح

ومن برّأ حسان من الإفك قال : إنما الرواية فى البيت : (لقد ذاق عبد الله ما كان أهله) ، والمشهور أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحد عبد الله بن أبيّ ، حين حدّ الرامين لعائشة ، تأليفا له ؛ قال البرماوى فى حاشيته على البخاري فى فوائد حديث الإفك : وفيه ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة ، كما ترك عليه الصلاة والسلام حدّ ابن سلول. ه. وقد روى ابن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقد أنكر حسان أن يكون قال فيها شيئا فى أبياته ، التي من جملتها :

حصان رزان ماتزن بريبة

وتصبح غرثي من لحوم الغوافل (٢)

إلى أن قال :

فإن كان ما بلّغت عنّى قلته

فلا رفعت سوطي إلىّ أناملي

__________________

(١) أخرجه البخاري فى مواضع كثيرة ، منها (المغازي ، باب حديث الإفك ح ٤١٤١) ، و (التفسير ـ سورة النور ، باب (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ح ٤٧٥٠) ، وأخرجه مسلم فى (التوبة ، باب فى حديث الإفك ، ٤ / ٢١٢٩ ـ ٢١٣٦ ، ح ٧٧٠).

(٢) الحصان : العفيفة ، والرزان : الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش. وتزن : ترمى وتتهم. وغرثى : جائعة ، والمعنى : لا تغتاب النساء. والغوافل : جمع غافلة ، وهى التي غفلت عن الشر. وانظر : ديوان حسان (١٩٠ ـ ١٩١) والبحر المحيط (٦ / ٤٠١).

١٦

ويجمع بين قوله هنا ذلك ، وبين قولها له عند قوله : وتصبح غرثى من لحوم الغوافل : «لكنك لست كذلك» ؛ بأنه لم يقل نصا وتصريحا ، ولكن عرّض وأومأ ، فنسب ذلك إليه. والله أعلم أىّ ذلك كان.

ثم قال تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) ، والخطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وأبى بكر ، وعائشة ، وصفوان ؛ تسلية لهم من أول الأمر ، (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على الله عزوجل ؛ بإنزال القرآن الذي يتلى إلى يوم الدين فى نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم ، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم ، والثناء على من ظن خيرا بكم ، مع ما فيه من صدق الرّجعى إلى الله ، والافتقار إليه ، والإياس مما سواه.

ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : من أولئك العصبة (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي : له من الجزاء بقدر ما خاض فيه ، وكان بعضهم ضحك ، وبعضهم تكلم ، وبعضهم سكت. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي : معظمه وجله (مِنْهُمْ) أي : من العصبة ، وهو عبد الله بن أبيّ (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) فى الآخرة ، إن كان كافرا ، كابن أبيّ ، وفى الدنيا إن كان مؤمنا ، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم. وقد روى أن مسطح كف بصره ، وكذلك حسان ، إن ثبت عنه الخوض فيه ، والله تعالى أعلم.

الإشارة : كلام الناس فى أهل الخصوصية مقاذف لسير سفينتهم ، ورياح لها ، فكلما قوى كلام الناس فى الولي قوى سيره إلى حضرة ربه ، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حطّابة. وفى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليكم كى لا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء حتى لا يشغلك عنه شىء».

والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه ، لا يحب أن تركن إلى غيره ، فمهما ركنت إلى شىء شوش ذلك عليه ، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه‌السلام مع ابنه حين أمر بذبحه ، وكقضية سيدنا يعقوب عليه‌السلام مع ابنه حين غيّبه عنه. وكانت عائشة ـ رضى الله عنها ـ قد استولى عليها حبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فكادت أن تحجب بالواسطة عن الموسوط ، فردها إليه تعالى بما أنزل بها ، تمحيصا وتخليصا وتخصيصا ، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود ، فقالت : بحمد الله ، لا بحمد أحد. وكذا شأنه تعالى مع أحبائه ؛ يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا ، حتى لا يكونوا لغيره. وبالله التوفيق (١).

__________________

(١) هذه إشارة ممتازه تكتب بماء الرياحين على صفات القلوب.

١٧

ثم وبّخ الخائضين فى حديث الإفك ، فقال :

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣))

قلت : قال ابن هشام : وقد يلى حرف التخصيص اسم معلق بفعل ، إما بمضمر ، نحو : «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» (١) أي : فهلا تزوجت ، أو مؤخرا نحو : (لو لا إذ سمعتموه قلتم ..) أي : فهلا قلتم إذ سمعتموه. ه. وإليه أشار فى الخلاصة بقوله :

وقد يليها اسم بفعل مضمر

علّق أو بظاهر مؤخّر

يقول الحق جل جلاله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي : الإفك (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) بالذين هم منهم ؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) أي : هلا ظنوا بإخوانهم خيرا : عفافا وصلاحا ، وذلك نحو ما يروى عن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أنا قاطع بكذب المنافقين ؛ لأن الله تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك ، لئلا يقع على النجاسات فتلطّخ بها ، فإذا عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة)!. وقال عثمان رضي الله عنه : (ما أوقع ظلك على الأرض ؛ لئلا يضع إنسان قدمه عليه ؛ فلمّا لم يمكّن أحدا من وضع القدم على ظلك ، فكيف يمكّن أحدا من تلويث عرض زوجتك!). وكذا قال علىّ رضي الله عنه : إن جبريل أخبرك أنّ على نعلك قذرا ، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك ، بسبب ما التصق به من القذر ، فكيف لا يأمرك بإخراجها ، على تقدير أن تكون متلطخة بشىء من الفواحش)؟ قاله النسفي.

وروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال فى عائشة؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تخون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله ، فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك. وفى رواية ابن إسحاق : قالت زوجة أبى يوب لأبى أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس فى عائشة؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ، فقال : عائشة خير منك ، سبحان الله ، هذا بهتان عظيم ، فنزل : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ..) الآية (٣).

__________________

(١) جاء ذلك فى حديث سيدنا جابر ، وأخرجه البخاري فى (النكاح ، باب تزويج الثيبات ح ٥٠٧٩) ، ومسلم فى (الرضاع ، باب استحباب نكاح البكر ، ٢ / ١٠٨٧ ، ح ٥٦ فى الباب) ولفظ البخاري : (هلّا جارية ..).

(٢) من الآية ١١ من سورة الحجرات.

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٨ / ٩٦) ، والبغوي (٦ / ٢٥) ، وأسباب النزول للواحدى ، ص (٣٣٣).

١٨

وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيرا ، وقلتم ؛ ليبالغ فى التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسىء الظن بأحد من المؤمنين.

(وَقالُوا) عند سماع هذه الفرية : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ؛ هلّا جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) ، ولم يقل : «بهم» ؛ لزيادة التقرير ، (فَأُولئِكَ) الخائضون (عِنْدَ اللهِ) أي : فى حكمه وشرعه (هُمُ الْكاذِبُونَ) ؛ الكاملون فى الكذب ، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : حسن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله ، ولا سيما ما فيه حرمة من حرم الله. قال القشيري على الآية : عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وترك الإعراض عن حرمة بيت نبيهم. ثم قال : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة ، ولا فى الخلاف زلّة ، فإنّ تعظيم الأمر بتعظيم الآمر ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه ، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذلك أعظم عند الله ، ولذلك بالغ فى التوبيخ على ما أقدموا عليه ، مما تأذى به الرسول ، وقلوب آل الصدّيق ، وقلوب المخلصين من المؤمنين. ه

ثم قال تعالى :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))

قلت : (لو لا) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة ؛ فإنها تحضيضية ، و (إذ سمعتموه) : معمول لقلتم ، و (إذ تلقونه) : ظرف لمسّكم.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها السامعون (وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا) ؛ من فنون النعم ، التي من جملتها : الإمهال والتوبة ، (وَ) فى (الْآخِرَةِ) ؛ من ضروب الآلاء ، التي من جملتها : العفو

١٩

والمغفرة ، (لَمَسَّكُمْ) عاجلا (فِيما أَفَضْتُمْ) أي : بسبب ما خضتم (فِيهِ) من حديث الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه التوبيخ والجلد ، يقال أفاض فى الحديث ، وفاض ، واندفع : إذا خاض فيه.

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) أي : لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له ، يقال : تلقى القول ، وتلقنه ، وتلقفه ، بمعنى واحد ، غير أن التلقف : فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة ، أي : إذ تأخذونه (بِأَلْسِنَتِكُمْ) ؛ بأن يقول بعضكم لبعض : هل بلغك حديث عائشة ، حتى شاع فيما بينكم وانتشر ، فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي : قولا لا حقيقة له ، وقيّده بالأفواه ، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم ؛ لأن الشيء المعلوم يكون فى القلب ، ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا يدور فى الأفواه ، من غير ترجمة عن علم به فى القلب. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي : وتظنون أن خوضكم فى عائشة سهل لا تبعة فيه ، (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي : والحال أنه عند الله كبير ، لا يقادر قدره فى استجلاب العذاب. جزع بعض الصالحين عند الموت ، فقيل له فى ذلك ، فقال : أخاف ذنبا لم يكن منى على بال ، وهو عند الله عظيم.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) من المخترعين والشائعين له (قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) ؛ ما يمكننا (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) ، وما ينبغى أن يصدر عنا ، وتوسيط الظروف بين «لو لا» و «قلتم» إشارة إلى أنه كان الواجب أن يبادروا بإنكار هذا الكلام فى أول وقت سمعوه ، فلما تأخر الإنكار وبّخهم عليه ، فكان ذكر الوقت أهمّ ، فقدّم ، والمعنى : هلّا قلتم إذ سمعتم الإفك : ما يصح لنا أن نتكلم بهذا ، (سُبْحانَكَ) ؛ تنزيها لك ، وهو تعجب من عظم ما فاهوا به. ومعنى التعجب فى كلمة التسبيح : أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى ، ثم كثر حتى استعمل فى كل متعجب منه. أو : تنزيها لك أن يكون فى حرم نبيك فاجرة ، (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) ؛ لعظمة المبهوت عليه ، واستحالة صدقه ، فإنّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها. وقال فيما تقدم : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١). ويجوز أن يكونوا أمروا بهما معا ، مبالغة فى التبري.

(يَعِظُكُمُ اللهُ) أي : ينصحكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أي : كراهة أن تعودوا ، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع ، (أَبَداً) ؛ مدة حياتكم ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ؛ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة. وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو الإيمان الصادّ عن كل قبيح.

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة النور.

٢٠