البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

رؤوسهم ، والحلل على أجسادهم ، وتقرب إليهم خيل من نور الجنة ، عليها سرج المسك الأذفر ، ألجمتها من اللؤلؤ والياقوت ، فيركبونها ، وتطير بهم على الصراط ، ويجوز فى شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار ، وينادى مناد : هؤلاء أحباء الله ، الذين قرأوا كتاب الله ، وعملوا به ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ه.

(إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ، غفور لهفواتهم ، شكور لأعمالهم ، يعطى الجزيل ، على العمل القليل.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي : القرآن ، و «من» : للتبيين ، (هُوَ الْحَقُ) لا مرية فيه ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ؛ لما تقدمه من الكتب ، (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ؛ عالم بالظواهر والبواطن ، فعلمك وأبصر أحوالك ، ورآك أهلا لأن يوحى إليك هذا الكتاب المعجز ، الذي هو عيار على سائر الكتب.

الإشارة : كل ما ورد فى فضل أهل القرآن ، فالمراد به فى حق من عمل به ، وأخلص فى قراءته ، وحافظ على حدوده ، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به ، أو قرأه لغير الله ، وعيد كبير ، وورد أنهم أول من يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى ، بعد ذكر الحديثين فى فضل حامل القرآن : وهذا مقيد بالعمل ، أي : فإنّ منزلتك عند آخر آية مما عملت ، لا مما تلوت بلسانك وخالفت بعملك ؛ لأنه لو كان كذلك لا نخرقت أصول الدين ، ويؤدى إلى أن من حفظ سرد القرآن اليوم ، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار ، والصالحين الأبرار ؛ فإن كثيرا من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. ه.

ثم فصّل أحوالهم ، فقال :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

٥٤١

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي : أوحينا إليك القرآن ، وأورثناه من بعدك ، أي : حكمنا بتوريثه (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومن بعدهم إلى يوم الدين ؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطا ؛ ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معانى القرآن وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن ، وهو قد تضمن معانى الكتب المنزلة قبله ، فكأنه ورّث أمة محمد الكتاب الذي كان فى الأمم قبلها. ه.

ثم رتّبهم مراتب ، فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالتقصير فى العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ، بأن جمع بين علمه والعمل به ، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث ، فقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر ـ بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له» (١) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، والظالم يحبس ، حتى يظن أنه لن ينجو ، ثم تناله الرحمة ، فيدخل الجنة» رواه [أبو الدرداء] (٢). وقال ابن عباس رضي الله عنه : السابق ، المخلص ، والمقتصد : المرائى ، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له ، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : صاحب الصغائر ، والسابق : المجتنب لهما. وقال الحسن : الظالم : من رجحت سيئاته ، والسابق : من رجحت حسناته ، والمقتصد : من استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون. وأما صفة الكفار فبعد هذا ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) (٣). وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده ؛ لأنه قال : فمنهم ، ومنهم ، ومنهم ، والكل راجع إلى قوله : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فهم أهل الإيمان ، وعليه الجمهور.

وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم ، وأنّ المقتصد : قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربّه. وقيل : لأن أول

__________________

(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٤٧٣) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، موقوفا على سيدنا عمر. وأخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٤٢١) مرفوعا. وعزى السيوطي المرفوع للعقيلى فى الضعفاء (٣ / ٤٤٣) وبن لال ، وابن مردويه ، والبيهقي.

(٢) فى الأصول : [أبو داود] والصواب ما أثبت ، قلت : والحديث أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ١٩٤ ، ١٩٨ و ٦ / ٤٤٤) ، قال الهثيمى فى المجمع (٧ / ٩٦) : «رواه أحمد بأسانيد ، رجال أحدها رجال الصحيح». وأخرجه الحاكم (٢ / ٤٢٦) والطبري (٢٢ / ١٣٧) والبغوي فى التفسير (٦ / ٤٢١) كلهم من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه.

(٣) الآية ٣٦ من سورة فاطر.

٥٤٢

الأحوال معصية ، ثم توبة ، ثم استقامة. وقال سهل : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل. وقال أيضا : السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل : الظالم : الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل : الظالم : من أخذ الدنيا حلالا وحراما ، والمقتصد : المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال ، والسابق : من أعرض عنها جملة.

وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب الآخرة ، والسابق : طالب الحق لا يبغى به بدلا. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة : الأقسام الثلاثة فى جميع العباد ؛ فالظالم لنفسه : الكافر ، والمقتصد : المؤمن العاصي ، والسابق : التقى على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (١) والتحقيق ما تقدم.

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره ، أو : بتوفيقه وهدايته (ذلِكَ) أي : إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي لا أكبر منه ، وهو (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي : الفرق الثلاث ؛ لأنها ميراث ، والعاق والبار فى الميراث سواء ، إذا كانوا مقرين فى النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) ؛ جمع أسورة ، جمع سوار ، (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي : من ذهب مرصّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب (٢) ، عطف على محل أساور ، أي : يحلون أساور ولؤلؤا. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) ؛ لما فيه من اللذة والليونة والزينة.

(وَقالُوا) بعد دخولهم الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ؛ خوف النار ، أو : خوف الموت ، أو : الخاتمة ، أو : هم الرزق. والتحقيق : أنه يعم جميع الأحزان والهموم ، دنيوية أو أخروية ، وعن ابن عمر : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على أهل لا إلا الله وحشة ، فى قبورهم ، ولا فى محشرهم ، وكأنى بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ، وهم ينفضون التراب عن وجوههم ، فيقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» (٣). (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) ، يغفر الجنايات ، وإن كثرت ، ويقبل الطاعات ، ويشكر عاملها ، وإن قلّت. (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ)

__________________

(١) الآية ٧ من سورة الواقعة.

(٢) وهى أيضا قراءة عاصم. وقرأ الباقون بالجر عطفا على «ذهب». انظر الإتحاف (٢ / ٣٩٣).

(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٤٢٤) وعزاه الحافظ ابن حجر ، فى الكافي الشاف (ص ١٣٩) لأبى يعلى ، وابن أبى حاتم ، والبيهقي فى أول الشعب ، والطبراني فى الأوسط.

٥٤٣

أي : دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نفارقها. يقال : أقمت إقامة ومقاما ومقامة ، (مِنْ فَضْلِهِ) أي : من عطائه وإفضاله ، لا باستحقاق أعمالنا ، (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) ؛ تعب ومشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) ؛ إعياء وكلل من التعب ، وفترة ؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولا التعب والمشقة ، وثانيا ما يتبعه من الإعياء والملل.

وأخرج البيهقي : أن رجلا قال يا رسول الله : إن النوم مما يقرّ الله به أعيننا ، فهل فى الجنة من نوم؟ فقال : «إن النوم شريك الموت ـ أو أخو الموت ـ وإن أهل الجنة لا ينامون ـ أو : ليس فى الجنة موت». وفى رواية أخرى ، قال : فما راحتهم؟ قال : «ليس فيها لغوب ، كل أمرهم راحة» (١) ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان ، ومن ثقل الطعام ، وكلاهما منتفيان فى الجنة.

قال الضحاك : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، استقبلهم الولدان والخدم ، كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيبعث الله ملكا من الملائكة ، معه هدية من رب العالمين ، وكسوة من كسوة الجنة ، فيلبسه ، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت ، فيقف ، ومعه عشرة خواتم ، فيضعها فى أصابعه ، مكتوب : طبتم فادخلوها خالدين ، وفى الثانية : ادخلوها بسلام ، ذلك يوم الخلود ، وفى الثالثة : رفعت عنكم الأحزان والهموم ، وفى الرابعة : وزوجناهم بحور عين ، وفى الخامسة : ادخلوها بسلام آمنين ، وفى السادسة : إنى جزيتهم اليوم بما صبروا ، وفى السابعة : أنهم هم الفائزون. وفى الثامنة : صرتم آمنين لا تخافون أبدا ، وفى التاسعة : رفقتم النبيين والصديقين والشهداء ، وفى العاشرة : سكنتم فى جوار من لا يؤذى الجيران. فلما دخلوا قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ..) إلى : (لُغُوبٌ). ه.

الإشارة : قال الورتجبي : الاصطفائية تقدمت الوراثة ؛ لمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به ، واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ، لذلك قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) ، ثم قسمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال : فالظالم عندى ـ والله أعلم ـ الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات ، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه ، فأى ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئا مستحيلا ، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢) ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق ، وكمال عشقه ، ومحبة جلاله. ه.

__________________

(١) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٤٧٦) لابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي فى البعث ، عن عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه.

(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.

٥٤٤

قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سكر المحبة ، ودهش العشق ، فادعى قوة الربوبية ، وطلب إدراك الألوهية ، ونسى ضعف عبوديته ، فكان ظالما لنفسه ، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره ، وضعفه ، لكان مقتصدا ، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقا. فالأقسام الثلاثة تجرى فى المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : من غلب سكره على صحوه فى بدايته ، والمقتصد من غلب صحوه على سكره فى بداية سيره ، والسابق من اعتدل سكره مع صحوه فى نهايته أو سيره.

أو الظالم : السالك المحض ، والمقتصد : المجذوب المحض ، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.

وعن عليّ ـ كرم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله ، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال : الظالم : من غلبت زلّاته ، والمقتصد : من استوت حالاته ، والسابق : من زادت حسناته. أو : الظالم : من زهد فى دنياه ، والمقتصد : من رغب فى عقباه ، والسابق : من آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم : من نجم كوكب عقله ، والمقتصد : من طلع بدر علمه ، والسابق : من ذرّت شمس معرفته. أو : الظالم : من طلبه ، والمقتصد : من وجده ، والسابق : من بقي معه. أو : الظالم : من ترك الزلة ، والمقتصد : من ترك الغفلة ، والسابق : من ترك العلاقة. أو : الظالم : من جاد بنفسه ، والمقتصد : من لم يبخل بقلبه ، والسابق : من جاد بروحه. أو : الظالم : من له علم اليقين ، والمقتصد : من له عين اليقين ، والسابق : من له حق اليقين. أو : الظالم. بترك الحرام ، والمقتصد : بترك الشّبهة ، والسابق : بترك الفضل فى الجملة.

أو : الظالم : صاحب سخاء ، والمقتصد : صاحب جود ، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء ، والمقتصد : صاحب بسط ، والسابق : صاحب أنس. أو : الظالم : صاحب خوف ، والمقتصد : صاحب خشية ، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة ، والمقتصد : له الرحمة ، والسابق : له القربة ، أو : الظالم : طالب النجاة ، والمقتصد : طالب الدرجات ، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة ، والمقتصد : طالب المثوبة ، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكل ، والمقتصد : صاحب التسليم ، والسابق : صاحب التفويض ، أو : الظالم : صاحب تواجد ، والمقتصد : صاحب وجد ، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله ، والمقصد مكاشف بوصفه ، والسابق : مستهلك فى حقه ، الذي هو وجوده. أو : الظالم : صاحب

٥٤٥

المحاضرة ، والمقتصد : صاحب المكاشفة ، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم فى الآخرة فى كل جمعة ، والمقتصد : فى كل يوم مرة ، والسابق : غير محجوب عنه البتة. ه. باختصار.

والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجرى فى كل من العارفين ، والسائرين ، والعلماء ، والعباد ، والزهاد ، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير ، جنات المعارف يدخلونها ، يحلّون فيها فيها من أساور من ذهب ، وهى الأحوال ، ولؤلؤا ، وهى المقامات ، ولباسهم فيها حرير ، وهى خالص أعمال الشريعة ولبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؛ إذ لا حزن مع العيان ، ولا أغيار مع الأنوار ، ولا أكدار مع الأسرار ، ما تجده القلوب من الأحزان فلما منعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه فى وصف الخمرة :

وإن خطرت يوما على خاطر امرئ

أقامت بها الأفراح وارتحل الهمّ

وقال أيضا :

فما سكنت والهمّ يوما بموضع ،

كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ (١)

إنّ ربنا لغفور بتغطية العيوب ، شكور بكشف الغيوب ، الذي أحلنا دار المقامة ، هى التمكين فى الحضرة ، بفضله ، لا بحول منا ولا قوة ، لا يمسنا فيها نصب. قال القشيري : إذا أرادوا أن يروا مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة ، بل هم فى غرفهم يشاهدون مولاهم ، ويلقون فيها تحية وسلاما ، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة من جهة ، كما هم يرونه بلا كيفية. ه.

ثم ذكر أضدادهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧))

__________________

(١) فى الأصول الخطية : [كذلك لا يسكن مع النعم الغم].

٥٤٦

قلت : «فيموتوا» : جواب النفي.

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) ، يخلدون فيها ، (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) أي : لا يحكم بموت ثان فيستريحوا ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ساعة ، بل كلما خبت زيد إسعارها ، وهذا مثل قوله : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) (١) ، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ، ولا يثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد فى الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان ، وأنه كان يصل الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذلك نافعه ، فقال عليه‌السلام : «لا ، فإنه لم يقل يوما : رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين». ثم قال عياض : ولكن بعضهم يكون أشد عذابا ، بحسب جرائمهم.

وذكر أبو بكر البيهقي : أنه يجوز أن يراد بما ورد فى الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار : أنهم لا يتخلصون بها من النار ، ولكن يخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر ، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل : وعلى ما قاله عياض ، فما ورد فى أبى طالب من النفع بشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بسبب ذبّه عنه ونصرته له ، مختص به. ه. ويرد عليه ما ورد من التخفيف فى حاتم بكرمه ، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم. ومثل ما قاله فى أبى طالب ، قيل فى انتفاع أبى لهب بعتق ثويبة ، كما فى الصحيح (٢).

والحاصل : أن التخفيف يقع فى بعض الكفار ، لبره فى الدنيا ، تفضلا منه تعالى ، لا فى مقابلة عملهم ؛ لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع ، (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ؛ مبالغ فى الكفران (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) : يستغيثون ، فهو يفتعلون ، من : الصراخ ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل فى الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) منها ، وردنا إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، فنؤمن بعد

__________________

(١) من الآية ٧٥ من سورة الزخرف.

(٢) كانت السيدة (ثويبة) مولاة لأبى لهب ، عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعتقها حين بشرته بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أصح الأقوال ـ حين قالت لأبى لهب : أشعرت أن آمنة قد ولدت غلاما لأخيك عبد الله ، فقال لها : اذهبي فأنت حرة. ويؤكد ذلك ما أخرجه الإمام البخاري فى (النكاح ، باب (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ح ٥١٠١) عن عروة بن الزبير «أن ثوبية مولاة أبى لهب ، وكان أبو لهب أعتقها ، فأرضعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما مات أبو لهب ، أريه بعض أهله بشر حيبة. قال له : ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم [راحة ـ رخاء] غير أنى سقيت فى هذه بعتقي ثويبة» وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.

وقد نظم شمس الدين محمد بن ناصر فى هذا المعنى شعرا ، قال فيه :

إذا كان هذا كافرا جاء ذمه

وتبت يداه فى الجحيم مخلدا

أتى أنه فى يوم الاثنين دائما

يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره

بأحمد مسرورا ومات موحدا

انظر : شرح المواهب (١ / ١٣٨ ـ ١٣٩) وأيضا : الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ١٠٨) وكتاب «أعظم المرسلين» لشيخنا البركة الدكتور «جودة المهدى» (١٧٧ ـ ٧٩).

٥٤٧

الكفر ، ونطيع بعد المعصية. فيجابون بعد قدر عمر الدنيا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي : أو لم نعمركم تعميرا يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه ، والتدبر فى آياته ، وإن قصر ، إلا أن التوبيخ فى المتطاول أعظم. وقيل : هو ثمانى عشرة سنة. وقيل : ما بين العشرين إلى الستين ، وقيل : أربعون. وروى أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب ، مسح الشيطان على وجهه. وقال : وجه لا يفلح أبدا ، وقيل : ستون. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة» (١) ، وفى البخاري عنه عليه‌السلام : «أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» (٢).

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي : الرسول عليه‌السلام ، أو : الكتاب ، وقيل : الشيخوخة ، وزوال السن ، وقيل : الشيب. قال ابن عزيز : وليس هذا شىء ؛ لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمى الشيب النذير. ه. ولقوله تعالى بعد : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) ، فإنه يتعين كونه الرسول ، وهو عطف على معنى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ؛ لأن لفظه استخبار ، كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة : احتج عليهم بطول العمر ، وبالرسول ، فانقطعت حجتهم. قال تعالى : (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) يدفع العذاب عنهم.

الإشارة : الذين كفروا بطريق الخصوصية ، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح ، فبقوا مع نفوسهم ، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية ، لا يقضى عليهم فيموتوا ، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة ، ولا يخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة ، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ ، ونسج الأكنة على القلوب ، كذلك نجزى كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها ، بلسان حالهم ، قائلين : ربنا أخرجنا ، وردّنا إلى دار الفناء ، نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، حتى ندخل ، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم : أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءكم النذير ، من ينذركم وبال القطيعة ، ويعرفكم بطريق الحضرة ، فأنكرتموه ، فذوقوا وبال القطيعة ، فما للظالمين من نصير.

ولمّا كان الكفر والإيمان من أعمال القلوب ، قد يخفى على الناس ، أخبر أن الله هو مطلع على ما فيها ، فقال :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

__________________

(١) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٣ / ٩٤٧) للبزار ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. وأصله عند البخاري.

(٢) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه فى العمر ، ح ٦٤١٩) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٥٤٨

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما عنكم ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، تعليل لما قبله ؛ لأنه إذا علم ما فى الصدور ، وهى أخفى ما يكون ، فقد علم كل غيب فى العالم. وذات الصدور : مضمراتها ووساوسها. وهى تأنيث «ذو» ، بمعنى : صاحب الوساوس والخطرات ، تصحب الصدور وتلازمها فى الغالب ، أي : عليم بما فى القلوب ، أو بحقائقها ، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلكم خلفاء عنه فى التصرف فى الأرض ، قد ملككم مقاليد التصرف فيها ، وسلطكم على ما فيها ، وأباح لكم منافعها ؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة. (فَمَنْ كَفَرَ) منكم ، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة ، (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ؛ فوبال كفره راجع عليه ، وهو مقت الله ، وخسران الآخرة ، كما قال تعالى : (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) ، وهو أشد البغض ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) : هلاكا وخسرانا.

الإشارة : إن الله عالم بما غاب فى سموات الأرواح ، من أسرار العلوم والمكاشفات ، والاطلاع على أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، وما غاب فى أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات ، إنه عليم بحقائق القلوب ، من صفائها وكدرها ، وما فيها من اليقين والمعرفة ، وضدهما.

قال القشيري : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، بإخلاص المخلصين ، وصدق الصادقين ، ونفاق المنافقين ، وجحد الكافرين ، ومن يريد بالناس شرا ، ومن يحسن بالله ظنا. ه.

وقال فى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ) : أهلّ كلّ عصر خليفة عصر تقدمهم ، فمن قوم هم أنفسهم جمال ، ومن قوم أراذل وأنذال ، والأفاضل زمانهم لهم محنة ، والأراذل هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه : أن قوما عرفوا حق الخلافة ، فقاموا بحقها ، وشكروا الله عليها ، بالقيام بطاعته ، فكانوا فى زمانهم جمالا لأنفسهم ، ولأهل عصرهم ، لكنهم لمّا تحملوا مشاق الطاعات ، وترادف الأزمات ، كان زمانهم لهم محنة. وقوما لم يعرفوا حق الخلافة ، فاشتغلوا بالعصيان ، فانتحس الزمان بهم ، فكانوا محنة لزمانهم.

ثم ردّ على من كفر بالشرك ، فقال :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠))

٥٤٩

قلت : «أرأيتم» : بمعنى : أخبرونى ، وهى تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام ، كقولك : أرأيت زيدا ما فعل ، فالأول : (شركاءكم) والثاني : (ماذا خلقوا). و (أرونى) : اعتراض ، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع ؛ لأنه توارد على (ماذا خلقوا) : (أرأيتم) و (أرونى) ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا ، فانظره. و «بعضهم» : بدل من «الظالمين».

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) أي : أخبرونى عن آلهتكم التي أشركتموها فى العبادة مع الله ، (الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدونهم (مِنْ دُونِ اللهِ) ، ما سندكم فى عبادتهم؟ (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي : جزء من الأرض ، استبدّوا بخلقه حتى استحقوا العبادة بسبب ذلك ، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي : أم لهم مع الله شركة فى خلق السموات حتى استحقوا أن يعبدوا؟ بل لا شىء من ذلك ، فبطل استحقاقها للعبادة. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ؛ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه ، (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) ؛ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ قال ابن عرفة : هذا إشارة إلى الدليل السمعي ، والأول إشارة إلى الدليل العقلي ، فهم لم يستندوا فى عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلى ولا سمعى ، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ) أي : ما يعد الظالمون ، وهم الرؤساء (بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) ؛ باطلا وتمويها ، وهو قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١). لمّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية ، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه ، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف ، والرؤساء الأتباع ؛ بأنهم شفعاء عند الله تقربهم إليه. هذا هو التقليد الردئ ، والعياذ بالله.

الإشارة : كل من ركن إلى مخلوق ، أو اعتمد عليه ، يتلى عليه : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ ..) الآية. وفى الحكم : «كما لا يقبل العمل المشترك ، لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه».

ثم ذكر من يستحق العبادة وحده ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

__________________

(١) من الآية ١٨ من سورة يونس.

٥٥٠

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي : يمنعهما من أن تزولا ؛ لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين : أن السموات هى الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب ، كما فى الثعلبي ، تحامل ؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة ، وانظر عند قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ..) (١) قال القشيري : أمسكهما بقدرته ، وأتقنهما بحكمته ، وزينهما بمشيئته ، وخلق أهلهما على موجب قضيته ، فلا شبيه فى إبقائهما وإمساكهما يساهمه ، ولا شريك فى إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. ه.

(وَلَئِنْ زالَتا) ، على سبيل الفرض ، (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) ، من بعد إمساكه. و «من» الأولى : مزيدة ، لتأكيد النفي ، والثانية : ابتدائية ، (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث أمسكهما على من يشرك به ويعصيه ، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا ، كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ..) (٢) الآية.

الإشارة : الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة ، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح ، بين سماء المعاني وأرض الحس ، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود ، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول : عالم التعريف ، والثاني : عالم التكليف. الأول : محل التنزيه ، والثاني : محل التشبيه ، الأول : محل أسرار الذات ، والثاني : محل أنوار الصفات ، مع اتحاد المظهر ؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف ، فافهم. وفى بعض الأثر : «إن العبد إذا عصى الله استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه ، والأرض أن تخسف من تحته ، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه ، ثم تلى الآية : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إلى قوله : (كانَ حَلِيماً غَفُوراً)» ه. بالمعنى.

ثم ذكر عناد قريش وعتوهم ، تتميما لقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ..) إلخ ، فقال:

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤))

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة يس.

(٢) الآية ٩٠ من سورة مريم.

٥٥١

قلت : «جهد» : نصب على المصدر ، أو على الحال. و «استكبار» و «مكر» : مفعول من أجله أو حال.

يقول الحق جل جلاله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : إقساما وثيقا ، أو : جاهدين فى أيمانهم : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) ؛ رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) المهتدية ، بدليل قوله : (أهدى) وقوله فى سورة الأنعام : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١) وذلك أن قريشا قالوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم : لعن الله اليهود والنصارى ، أتتهم الرسل فكذبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم (٢) ، أي : من الأمة التي يقال فيها : هى أهدى الأمم ، تفضيلا لها على غيرها فى الهدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة : هى أهدى الدواهي. فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي : ما زادهم مجىء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تباعدا عن الحق ، وهو إسناد مجازىّ ؛ إذ لا فاعل غيره.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي : ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو : مستكبرين وماكرين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، المكر القبيح ، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام ، وإذاية من تبعه. وأصل قوله : (ومكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء ، فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف إلى صفته اتساعا ، كصلاة الأولى ، ومسجد الجامع. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي : لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمن مكره ، وقد حاق بهم يوم بدر. وفى المثل : من حفر حفرة وقع فيها.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين ، من العذاب المستأصل ، كما هى سنّة الله فيمن كذّب الرسل. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ، بيّن أن سنّته ـ التي هى الانتقام من مكذّبى الرسل ـ سنّة ماضية ، لا يبدلها فى ذاتها ، ولا يحوّلها عن وقتها ، وأنّ ذلك مفعول لا محالة.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممن كذّبوا رسلهم ، كيف أهلكهم الله ودمرهم ، كعاد ، وثمود ، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه فى مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق ، من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم ودمارهم. (وَ) قد (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) واقتدارا ، فلم يتمكنوا من الفرار ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) ؛ ليسبقه ويفوته (مِنْ شَيْءٍ) أىّ شىء كان (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم (قَدِيراً) على أخذهم. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من الآية ١٥٧ من سورة الأنعام.

(٢) قاله الضحاك ، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٥٦٢).

٥٥٢

الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول من يدخل معه ، فلما ظهر ، عاند واستكبر ، وربما أنكر ومكر. نعوذ بالله من سابق الخذلان. قال القشيري : ليس لقولهم تحقيق ، ولا لضمانهم توثيق ، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور ، وما يوهمون من وفاقهم فصرف غرور. وكذلك المريد فى أول نشاطه ، تمنّيه نفسه ما لا يقدر عليه ، فربما يعاهد الله ، ويؤكد فيه عقدا مع الله ، فإذا عضّته شهوته ، وأراد الشيطان أن يكذبه ، صرعه بكيده ، وأركسه فى كوة غيّه ، وفتنة نفسه ؛ فيسودّ وجهه ، ويذهب ماء وجهه.

ثم قال فى قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا ..) إلخ : ما خاب له ولىّ ، وما ربح له عدو ، ولا تنال الحقيقة بمن انعكس قصده ، وارتد عليه كيده ، دمرّ على أعدائه تدميرا ، وأوسع لأوليائه فضلا كبيرا. ه.

ثم تمم قوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) بقوله :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) ؛ بما اقترفوا من المعاصي (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) ؛ على ظهر الأرض ؛ لأنه جرى ذكرها فى قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (١) ، (مِنْ دَابَّةٍ) ؛ من نسمة تدبّ عليها. قيل : أهل المعاصي فقط من الناس ، وقيل : من الجن والإنس. والمشهور : أنه عام فى كل ما يدب ؛ لأن الكل خلق للآدمى. وعن ابن مسعود : (إن الجعل (٢) ليعذب فى جحره بذنب ابن آدم) (٣) ، يعنى ما يصيبه من القحط ، بشؤم معاصيه. وقال أبو هريرة : إن الحبارى (٤) لتموت هزالا فى وكرها بظلم الظالم. ه.

__________________

(١) الآية ٤٤ من السورة.

(٢) الجعل : حيوان معروف كالخنفساء. انظر النهاية فى غريب الحديث (جعل ١ / ٢٧٧).

(٣) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٤٨٠) للفريابى ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه.

(٤) الحبارى : طائر معروف ، وهو على شكل الإوزة ، برأسه وبطنه غبرة ، ولون ظهره وجناحيه كلون السمانى غالبا. والجمع حبابير ، وحباريات. انظر اللسان (حبر) مع تعليق محققه.

وقال : ابن الأثير فى النهاية (١ / ٣٢٨) : وإنما خصها بالذكر لأنها أبعد الطير نجعة ، فربما تذيح بالبصرة ، ويوجد فى حوصلتها الحبة الخضراء ، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.

٥٥٣

قال القشيري : لو عجّل لهم ما يستوحبونه من الثواب والعقاب ، لم تف أعمارهم القليلة ، وما اتسعت أفهامهم القصيرة له ، فأخّر ذلك ليوم الحشر ، فإنّه طويل ، والله على كل شىء قدير ، بأمور عباده بصير ، وإليه المصير ه وهذا معنى قوله : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) ؛ أجل جمعهم ، (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي : لن يخفى عليه حقيقة أمرهم ، وحكمة حكمهم ، فيجازيهم على قدر أعمالهم.

الإشارة : تعجيل العقوبة فى دار الدنيا للمؤمن إحسان ، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل من له عناية سابقة ؛ عاتبه الله فى الدنيا ، بمصيبة فى بدنه ، أو ماله ، أو فى أهله ، ومن لا عناية له أخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه ، وبسيدنا محمد نبيه ـ صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه.

٥٥٤

سورة يس

مكية ، وقيل : إلا قوله : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (١) ، نزلت فى بنى سلمة ، حين أرادوا الانتقال إلى جوار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢). وآيها : ثلاث وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) (٣) مع قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فقد حقق هنا نذارته ورسالته بالقسم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يس تدعى المعمة ، تعم صاحبها بخير الدارين ، والدافعة والقاضية ـ تدفع عنه كل شر ، وتقضى له كل حاجة» (٤). وفى خبر آخر : «يس لما قرئ له» ، وفى حديث آخر : «ما قرأها خائف إلا أمن ، ولا جائع إلا شبع ، ولا عطشان إلا روى ، ولا عريان إلا كسى ، ولا مسجون إلا سرح ، ولا عازب إلا تزوج ، ولا مسافر إلا أعين ، ولا ذو ضالة إلا وجدها». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس عند الموت ، أو قرئ عليه ، أنزل الله بعدد كل حرف منها عشرة من الملائكة ، يقفون بين يديه ، ويصلون عليه ، ويستغفرون له ، ويشهدون جنازته».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤))

يقول الحق جل جلاله : (يس) ؛ أيها السيد المفخم ، والمجيد المعظم ، (وَ) حق (الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ؛ المحكم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). وفى الحديث : «إن الله تعالى سمّانى فى القرآن بسبعة أسماء : محمد ، وأحمد ، وطه ، ويس ، والمزّمّل ، والمدّثر ، وعبد الله» ، قيل : ولا تصح الاسمية فى يس ؛ لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة ، على أنها حروف هجاء محكية ، ولو سمى بها لأعربت غير مصروفة ، كهابيل وقابيل ، ومثلها «طس» و «حم» ، كما قال الشاعر :

لما سمى بها السورة

فهلا تلى حميم قبل التكلم.

__________________

(١) الآية ١٢.

(٢) أخرجه الترمذي فى (التفسير ، باب : ومن سورة يس ، ٥ / ٣٣٩ ، ح ٣٢٢٦) والحاكم ، وصححه ، وأقره الذهبي (٢ / ٤٢٨) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩) عن أبى سعيد الخدري. وقال الترمذي : «حديث حسن غريب» وقال الحافظ ابن كثير فى التفسير (٣ / ٥٦٦) معلقا على حديث نحوه ، رواه البزار : فيه غرابة.

(٣) من الآية ٤٢ من سورة فاطر.

(٤) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٢ / ٤٨١ ، ح ٢٤٦٥) وضعّفه ، من حديث أبى بكر الصدّيق رضي الله عنه. وذكره بنحوه ، مطولا ، القرطبي فى تفسيره (٦ / ٥٦٠٢) وعزاه للثعلبى ، من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها.

٥٥٥

فدلّ على أنها حروف حال التلاوة. نعم قد قرئ «يس» بضم النون ، ونصبها ، خارج السبعة ، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة ، كأنه قال : أتل يس ، على النصب ، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوجه فى قراءة الضم على النداء. ه. قلت : والظاهر أنها حروف مختصرة من السيد ، على طريق الرمز بين الأحباء ، إخفاء عن الرقباء.

ثم أقسم على رسالته ، ردا على من أنكره بقوله : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) أي : ذى الحكمة البالغة ، أو : المحكم الذي لا ينسخه كتاب ، أو : ذى كلام حكيم ، فوصف بصفة المتكلم به ، (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ؛ من أعظمهم وأجلّهم. وهو ردّ على من قال من الكفار : (لَسْتَ مُرْسَلاً) (١). (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : كائنا على طريق مستقيم ، يوصل من سلكه إلى جوار الكريم ، فهو حال من المستكن فى الجار والمجرور. وفائدته : وصف الشرع بالاستقامة صريحا ، وإن دلّ عليه : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) التزاما ، أو : خبر ثان لإن. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قال القشيري : يس ، معناه : يا سيد ـ رقّاه أشرف المنازل ، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل ، سنّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه ، ولذلك قضوا بالعجب فى استحقاقه ، وقالوا : كيف آثر يتيم أبى طالب من بين البرية ، ولقد كان ـ صلوات الله عليه ـ فى سابق اختياره تعالى مقدّما على الكافة من أشكاله وأضرابه ، وفى معناه قيل :

هذا وإن أصبح فى أطمار

وكان فى فقر من اليسار

آثر عندى من أخى وجارى

وصاحب الدرهم والدينار

وصاحب الأمر مع الإكثار (٢). ه.

__________________

(١) من الآية ٤٣ من سورة الرعد.

(٢) وردت الأبيات ـ كاملة ـ فى قصة ، ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية (٨ / ٨٩ ـ ٩٠) ، وملخصها : كان معاوية بن أبى سفيان على السماط ، فمثل بين يديه شاب من بنى عذرة ، فأنشده شعرا ، مضمونه : التشوق إلى زوجته سعاد.

وقال : يا أمير المؤمنين : إنى كنت متزوجا بابنة عم لى ، وكان لى إبل وغنم ، وأنفقت ذلك عليها ، فلما قلّ ما بيدي رغب عنى أبوها ، وشكانى إلى عاملك بالكوفة (ابن أم الحكم) وبلغه جمالها ، فحبسنى ، وحملنى على أن أطلقها ، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم ، فزوّجه إياها ، فهل من فرج؟

فكتب معاوية إلى ابن أم الحكم يؤنبه ، وأمره بطلاقها ، فطلقها ، وسيّرها إلى معاوية ، وخيّرها معاوية بين زوجها وابن أم الحكم ، فاختارت زوجها الأول ، وأنشدت الأبيات :

هذا وإن أصبح فى أطمار

وكان فى نقص من اليسار

أكبر عندى من أبى وجارى

وصاحب الدرهم والدينار

أخشى إذا غدرت حر النار

خلى سبيلى ما به عار

لعلنا نرجع للديار

وأن عسى نظفر بالأوطار

راجع أيضا : تزيين الأسواق (١ / ٢٤٩) ، ونهاية الأرب (٢ / ١٥٩) ، ولطائف الإشارات (١ / ٤٢ ـ ٤٣).

٥٥٦

قال الورتجبي : قيل : الياء تشير إلى يوم الميثاق ، والسين تشير إلى سره مع الأحباب ، فقال : بحق يوم الميثاق ، وسرى مع الأحباب ، وبالقرآن الحكيم ، إنك لمن المرسلين يا محمد ه ..

وجاء : «إن قلب القرآن يس ، وقلبه : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)» (١). قلت : وهو إشارة إلى سر القربة ، الداعي إليه القرآن ، وعليه مداره ، وحاصله : تسليم الله على عباده كفاحا ، لحياتهم به ، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل : لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله فى الحاشية الفاسية.

ثم فسّر القرآن ، المقسم به ، فقال :

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١))

قلت : «تنزيل» : خبر ، أي : هو تنزيل. ومن نصبه فمصدر ، أي : نزل تنزيل ، أو : اقرأ تنزيل ، وقرئ بالجر ، بدل من القرآن. و «ما أنذر» : نعت لقوم. و «ما» : نفى ، عند الجمهور ، أو : موصولة مفعولا ثانيا لتنذر ، أي : العذاب الذي أنذره آباؤهم ، أو : مصدرية ، أي : لتنذر قوما إنذار مثل إنذار آبائهم.

يقول الحق جل جلاله : هذا ، أو هو (تَنْزِيلَ) (٢) (الْعَزِيزِ) أي : الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهام ذوى العناد ، (الرَّحِيمِ) ؛ الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام ذوى الرشاد. أنزلناه (لِتُنْذِرَ) به (قَوْماً) ، أو :

__________________

(١) وردت الجملة الأولى فى حديث أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن ، باب : ما جاء فى فضل «يس» ٥ / ١٥٠ ، ح ٢٨٨٧) والدرامى فى (فضائل القرآن ، باب فضل يس ، ٢ / ٥٤٨ ، ح ٣٤١٦) وأحمد فى المسند (٥ / ٢٦) عن أنس. بلفظ «إن لكل شىء قلبا ، وقلب القرآن يس ..» الحديث ، قال الترمذي : هذا حديث غريب. وهارون أبو محمد شيخ مجهول.

(٢) قرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، بنصب اللام على المصدر. وقرأ الحسن بالجر ، وقرأ الباقون بالرفع ، خبر لمقدر. وقد سار المفسر على قراءة الرفع. انظر الإتحاف (٢ / ٣٩٧).

٥٥٧

أرسلناك لتنذر قوما غافلين ، (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي : غير منذر آباؤهم ، كقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) أو : لتخوف قوما العذاب الذي أنذر به آباؤهم ، لقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٣). أو : لتنذر قوما إنذار آبائهم ، وهو ضعيف ؛ إذ لم يتقدم لهم إنذار. (فَهُمْ غافِلُونَ) ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لتنذر قوما ، كقولك : أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، يعنى قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٤) أي : تعلق بهم هذا القول ، وثبت عليهم ووجب ؛ لأنه علم أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة : إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلا وعادة ، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به ، اعتبارا بظاهر الأمر ، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ، ولا فائدة فيها ؛ لأنّ المكلفين قسمان : فمن علم تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة فى أمره بالايمان ؛ إذ لا يطيقه ، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة فى إنذاره وأمره بالإيمان ؛ إذ لا يطيق عدمه. ه. قلت : الحكمة تقتضى تكليفهم ؛ لتقوم الحجة عليهم أو لهم ، والقدرة تقتضى عذرهم. والنظر فى هذه الدار ـ التي هى دار التكليف ـ للحكمة لا للقدرة.

ثم مثّل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين فى أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم ، بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ، معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ؛ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق ، يقال : قمح البعير فهو قامح ؛ إذا روى فرفع رأسه ، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي فى عنق المغلول ، يكون فى ملتقى طرفيه ، تحت الذقن ، حلقة ، فلا [تخليه] (٥) يطأطئ رأسه ، فلا يزال مقمحا. والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن : مجتمع اللحيين. وقيل : «فهى» أي: الأيدى. وذلك أن الغل إنما يكون فى العنق مع اليدين. وفى مصحف أبى : «إنا جعلنا فى أيمانهم أغلالا» وفى بعضها : «فى أيديهم فهى إلى الأذقان فهم مقمحون».

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ، بفتح السين وضمها ـ قيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله ، كالجبل ونحوه ، فالبضمّ ، أي : جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم ، فهم محبوسون

__________________

(١) الآية ٣ من سورة السجدة.

(٢) الآية ٤٤ من سورة سبأ.

(٣) الآية ٤٣٠ من سورة النبأ.

(٤) الآية ١٣ من سورة السجدة.

(٥) ما بين المعقوفتين مطموس فى النسخة الأم ، وغير موجود فى غيرها من النسخ المعتمدة فى التحقيق.

٥٥٨

فى مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر فى الآيات والدلائل ، (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي : فأغشيناهم أبصارهم ، أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة ، (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحق والرشاد.

وقيل : نزلت فى بنى مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف : لئن رأى محمدا يصلّى ليرضخّنّ رأسه ، فأتاه وهو يصلّى ، ومعه حجر ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ، ولزق الحجر بيده ، حتى فكّوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه ، فأخبرهم ، فقال مخزومىّ : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله بصره ، فلم ير النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، ولم يرهم حتى نادوه (١). وقيل : هى ذكر حالهم فى الآخرة ، وحين يدخلون النار ، فتكون حقيقة. فالأغلال فى أعناقهم ، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب ؛ لقوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : الإنذار وتركه فى حقهم سواء ؛ إذ لا هادى لمن أضله الله.

روى أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية فى غيلان القدرىّ ، فقال غيلان : كأنى لم أقرأها قط ، أشهدك أنى تائب عن قولى فى القدر. فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه ، وإن كذب فسلّط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده ، فقطع يديه ورجليه ، وصلبه على باب دمشق (٢).

ثم ذكر من ينفعه الإنذار ، فقال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : إنما ينتفع بإنذارك من تبع القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) ؛ وخاف عقاب الله قبل أن يراه ، أو : تقول : نزّل وجود الإنذار لمن لم ينتفع به منزلة العدم ، فمن لم يؤمن كأنه لم ينذر ، وإنما الإنذار لمن انتفع به. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) ، وهو العفو عن ذنوبه ، (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ؛ الجنة وما فيها.

الإشارة : كل من تصدى لوعظ الناس ، وإنذارهم ، على فترة من الأولياء ، يقال له : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال فى حق من سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد : لقد حقّ القول على أكثرهم ، فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدا : موانع تمنعهم من النهوض إلى الله ، ومن خلفهم سدا : علائق تردهم عن حضرة الله ، فأغشيناهم : غطّينا أعين بصيرتهم ، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله ، فهم لا يبصرون داعيا ، ولا يلبون مناديا ، فالإنذار وعدمه فى حقهم سواء ، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي : سد ما خلفهم سد قهر الأزل ، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فبنفسه منعهم من نفسه. لا

__________________

(١) أخرجه الطبري مختصرا (٢٢ / ١٥٢) عن عكرمة. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (١٣٩) لابن إسحاق فى السيرة ، وأبى نعيم فى الدلائل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما.

(٢) انظر تفسير النسفي (٣ / ٩٧).

٥٥٩

جرم أنهم فى غشاوة القسوة ، لا يبصرونه أبدا. ه. إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله من خشع قلبه بذكر الله ، واشتاقت روحه إلى لقاء الله ، فبشّره بمغفرة لذنوبه ، وتغطية لعيوبه ، وأجر كريم ، وهو النظر إلى وجه الله العظيم.

ثم ردّ على من أنكر البعث ، ممن سبق له الشقاء ، فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي : نبعثهم بعد مماتهم ، أو : نخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : لمّا أمر بالتبشير بالمغفرة ، والأجر الكريم ، لمن انتفع بالإنذار ، أعلم بحكم من لم يؤمن ، ولم ينتفع بالإنذار ، وأنه يبعثهم ، وإليه حكمهم ، كما قال : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) (١) ه.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ؛ ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها ، (وَآثارَهُمْ) ؛ ما تركوه بعدهم من آثار حسنة ، كعلم علّموه ، أو كتاب صنّفوه ، أو حبس حبسوه ، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة ، كبدعة ابتدعوها فى الإسلام. ونحوه قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٢) أي : قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفى الحديث : «من سنّ فى الإسلام سنّة حسنة ، فعمل بها من بعده ، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شىء. ومن سنّ فى الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» (٣) وفى خبر آخر : «سبع تجرى على العبد بعد موته : من غرس غرسا ، أو حفر بئرا ، أو أجرى نهرا ، أو علّم علما ، أو بنى مسجدا ، أو ورّث مصحفا ، أو ولدا صالحا» (٤). انظر المنذرى. وهذا كله داخل فى قوله تعالى : (وَآثارَهُمْ) قيل : آثارهم : خطاهم إلى المساجد ، للجمعة وغيرها.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) ؛ حفظناه ، أو عددناه وبيّناه (فِي إِمامٍ) ؛ كتاب (مُبِينٍ) ؛ اللوح المحفوظ ؛ لأنه أصل الكتب وإمامها ، وقيل : صحف الأعمال. والمراد : تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر ، لينزجروا عن معاصى الله ، وينهضوا إلى طاعة الله.

__________________

(١) الآية ٣٦ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ١٣ من سورة القيامة.

(٣) أخرجه مسلم ، فى (الزكاة ، باب : الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، ٢ / ٧٠٤ ـ ٧٠٥ ، ح ١٠١٧) من حديث جرير.

(٤) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار ـ ١٤٩) والبيهقي فى الشعب (ح ٣٤٤٩) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه ، بلفظ مقارب ، فى (المقدمة / ح ٢٤٢) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٥٦٠