البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

فى الهوى ، وأولاده فى جمع الدنيا. قال القشيري : لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال ، ولا بالأولاد ، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة ، والأحوال الصافية ، والأنفس الزاكية ، بل بالعناية السابقة ، والهداية اللاحقة ، والرعاية الصادقة. ه. وقال فى قوله : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) : هم الذين لا يحترمون الأولياء ، ولا يراعون حقّ الله فى السّر ، فهم فى عذاب الاعتراض على أولياء الله ، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك فى ارتكاب محارم الله ، ثم فى عذاب السقوط من عين الله تعالى. ه.

ثم حضّ على الصدقة ، فقال :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ، إنما كرره تزهيدا فى المال ، وحضا على إنفاقه فى سبيل الله. ولذلك عقبه بقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ، إما عاجلا فى الدنيا إذا شاء ، أو آجلا فى الآخرة ، ما لم يكن إسرافا ، كنزهة لهو ، أو فى بنيان ، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها : «كلّ معروف صدقة ، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله صدقه ، وما وقى به الرجل عرضه كتبت له بها صدقة ـ وهو ما أعطى لشاعر ، أو لذى اللسان المتّقى ـ وما أنفق المؤمن صدقة فعلى الله خلفها ضامنا ، إلا ما كان من نفقة فى بنيان أو معصية» (١). قلت : يقيد النفقة فى البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة ، وإلا فهو مأمور به ، فيؤجر عليه. والله تعالى أعلم.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ؛ المطعمين ؛ لأن كل من رزق غيره من سلطان ، أو سيّد ، أو زوج ، أو غيره ، فهو من رزق الله ، أجراه على يد هؤلاء ، وهو خالق الرزق ، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم ؛ قال : الحمد لله الذي أوجده ، وجعلنى ممن يشتهى ، فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهى!.

الإشارة : فى الآية إشارة إلى منقبة السخاء ، وإطلاق اليد بالعطاء ، وهو من علامة اليقين ، وخروج الدنيا من القلب. وذكر الترمذي الحكيم حديثا طويلا عن الزبير رضي الله عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائد مع مناسبة لهذا المعنى. قال : جئت حتى جلست بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بطرف عمامتى من ورائي ، ثم قال : «يا زبير إنى رسول الله إليك خاصة ، وإلى الناس عامة. أتدرون ما قال ربكم؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال. قال ربكم حين استوى على

__________________

(١) رواه الدار قطنى فى سننه (٣ / ٢٨) والحاكم فى المستدرك (٢ / ٥٠) من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي.

٥٠١

عرشه ونظر إلى خلقه : عبادى أنتم خلقى وأنا ربكم ، أرزاقكم بيدي ، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم به ، فاطلبوا منى أرزاقكم ، وإلىّ فارفعوا حوائجكم ، انصبوا إلىّ أنفسكم أصبّ عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم؟ قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم ؛ أنفق أنفق عليك ، وأوسع أوسع عليك ، ولا تضيق فأضيق عليك ، ولا تصرّ فأصرّ عليك ، ولا تخزن فأخزن عليك ، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات ، متواصل إلى العرش ، لا يغلق ليلا ولا نهارا ، ينزل الله منه الرزق ، على كل امرئ بقدر نيته ، وعطيته ، وصدقته ، ونفقته ، من أكثر أكثر عليه ، ومن أقل أقل عليه ، ومن أمسك أمسك عليه. يا زبير فكل وأطعم ، ولا توك فيوك عليك (١) ، ولا تحص فيحص عليك ، ولا تقتّر فيقتر عليك ، ولا تعسر فيعسر عليك. يا زبير ، إن الله يحب الإنفاق ، ويبعض الإقتار ، وإن السخاء من اليقين ، والبخل من الشك ، فلا يدخل النار من أيقن ، ولا يدخل الجنة من شك. يا زبير ؛ إن الله يحب السخاوة ، ولو بفلق تمرة ، والشجاعة ، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير ؛ إن الله يحب الصبر عند زلزلة الزلازل ، واليقين النافذ عند مجىء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير ؛ عظّم الإخوان ، وأجلّ الأبرار ، ووقر الأخيار ، وصل الجار ، ولا تماش الفجار ، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ، هذه وصية الله إلىّ ، ووصيتي إليك».

ثم ذكر توبيخه على الشرك ، فقال :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (٢) (جَمِيعاً) ، العابدين والمعبودين ، (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ)؟ هو خطاب للملائكة ، وتقريع للكفرة ، وارد على المثل السائر من قول العامة : الخطاب للسارية وافهمى يا جارية. ونحوه قوله : .. (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي ..) الآية (٣). وتخصيص

__________________

(١) أي : لا تدخر وتشد ما عندك ، وتمنع ما فى يديك ، فتنقطع مادة الرزق عنك. والوكاء : الخيط الذي تشد به الصرّة والكيس وغيرهما. انظر النهاية فى غريب الحديث (وكاء ، ٥ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣).

(٢) قرأ حفص ، ويعقوب : «يحشرهم» بالياء ، وقرأ الباقون «نحشرهم» و «نقول» بالنون. وقد أثبت المفسر قراءة النون. انظر إتحاف فضلاء البشر (٢ / ٣٨٨).

(٣) من الآية ١١٦ من سورة المائدة.

٥٠٢

الملائكة ؛ لأنهم أشرف شركائهم ، والصالحون للخطاب منهم. (قالُوا سُبْحانَكَ) ؛ تنزيها لك أن يعبد معك غيرك. (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) ؛ أنت الذي نواليه من دونهم ، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة ، وهى مفاعلة من الولي ، وهو القرب. والولىّ يقع على الموالي والموالي جميعا. فبينوا بإثبات موالاة الله تعالى ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ؛ فإنّ من كان على هذه الصفة ، كانت حاله منافية لذلك.

ثم قالوا : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي : الشياطين ، حيث أطاعوهم فى عبادة غير الله ، أو : كانوا يدخلون فى أجواف الأصنام ، إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها ، أو : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي : أكثر الإنس ، أو : الكفار ، (بِهِمْ) ؛ بالجن (مُؤْمِنُونَ) ؛ مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.

قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ؛ لأن الأمر فى ذلك اليوم إليه وحده ، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد ؛ لأن الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا ، التي هى دار تكليف ، والناس فيها مخلىّ بينهم ، يتضارون ، ويتنافعون ، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط. ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بوضع العبادة فى غير موضعها : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فى الدنيا.

الإشارة : ما أحببت شيئا إلا وكنت له عبدا ، ولا يحب أن تكون لغيره عبدا ، فإذا تحققت الحقائق ، التحق كل عابد بمعبوده ، وكل حبيب بمحبوبه ، فيرتفع الحق بأهله ، ويهوى الباطل بأهله. وكل ما سوى الله باطل ، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها ، وتعلق بالباقي ، دون الفاني ، ولا تتعلق بشىء سوى المتكبر المتعالي.

قال القشيري : قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ ..) إلخ ، الإشارة فى هذا : أنّ من علّق قلبه بالأغيار ، وظنّ صلاح حاله فى الاختيار ، والاستعانة بالأمثال والأشكال ، نزع الله الرحمة من قلوبهم ، وتركهم ، وتشوش أحوالهم ، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة ، ولا لهم فى عقولهم استبصار ، ولا إلى الله رجوع ، فإن رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم ، ويقول : ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة. ه. قلت : قوله : «فإن رجعوا لا يرحمهم» يعنى أنهم فزعوا أولا إلى المخلوق ، فلما لم ينجح مسعاهم ، رجعوا إلى الله ، فلم ينفعهم ، ولو تابوا فى المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضا : ومن تشديد العقوبة الافتضاح فى السؤال. وفى بعض الأخبار : أن عبيدا يسألهم الحق غدا ، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة ، ولا تعذبنا بهذا السؤال. ه. وبالله التوفيق.

٥٠٣

ثم ذكر حال أهل الغفلة ، فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي : إذا قرئت عليهم آيات القرآن ، (بَيِّناتٍ) : واضحات ، (قالُوا) أي : المشركون : ما هذا؟ يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) : يصرفكم (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) من الأصنام. (وَقالُوا ما هذا) أي : القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) : كذب (مُفْتَرىً) بإضافته إلى الله تعالى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : وقالوا. والعدول عنه دليل على إنكار عظيم ، وغضب شديد ، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد ، (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي : للقرآن ، أو لأمر النبوة كله ، لما عجزوا عن معارضته ، قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته. وإنكارهم أولا باعتبار معناه ، وثانيا باعتبار لفظه وإعجازه ، ولذلك سموه سحرا.

قال تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي : ما أعطينا مشركى مكة كتبا يدرسونها ، فيها برهان على صحة الشرك. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي : ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، ويدعوهم إليه ، إذ لا وجه له ، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا فى غاية التجهيل لهم ، والتسفيه لرأيهم.

ثم هددهم بقوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : وكذّب الذين تقدموا من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، الرسل ، كما كذّب هؤلاء. (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي : وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتى الأولون ، من طول الأعمار ، وقوة الأجرام ، وكثرة الأموال والأولاد ، وتوالى النعم ، والظهور فى البلاد. والمعشار : مفعال ، من : العشر ، ولم يأت هذا البناء إلا فى العشرة والأربعة. قالوا : معشار ومرباع. وقال فى القوت : المعشار : عشر العشر. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) أي : فكذبت تلك الأمم رسلى ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : فانظر كيف كان إنكارى عليهم

٥٠٤

بالهلاك والتدمير. فالنكير : مصدر ، كالإنكار معنى ، وكالنذير وزنا. و (كيف) للتعظيم ، لا لمجرد الاستفهام ، أي : فحين كذبوا رسلى جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال ، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد ، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه ، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل [ما حل] (١) بأولئك ؛ لمشاركتهم لهم فى الكفر والعدوان.

الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية ، وكل من ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله ، ويخرجهم من عوائدهم ، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين ، فحين كذّبوا أولياء زمانهم حرموا بركتهم ، فبقوا فى عذاب الحرص والتعب ، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة فى هذه الطريقة ـ إذا دلوا الناس على الله ، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا : من ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بد من الدنيا مادمت تعيش! .. وأمثال هذا كثير ، حتى يميل ذلك المسكين من قبل النصح ، فيهلك ويضل. ه. باختصار. وقال فى قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ..) ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق ، على سبيل الإلهام والفيض ، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به ، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك ، فسبيلهم السكوت عنهم ، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. ه. وبالله التوفيق.

ثم أمر بالتفكر والاعتبار ، فقال :

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

قلت : «أن تقوموا» : بدل من «واحدة» ، أو خبر عن مضمر.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) ؛ بخصلة واحدة ، وهى : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) أي : لوجه الله خالصا ، لا لحمية ، ولا عصبية ، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوى ، وهو القصد والتوجه بالقلب ، وقيل : حسى ، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقوم كل واحد منفردا بنفسه ، يتفكر ، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله : (مَثْنى وَفُرادى) أي : اثنين اثنين ، أو فردا فردا. والمعنى : أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق ، وتخلصتم من الجهل. وهى أن تقوموا وتنهضوا الله ، معرضين عن المراء

__________________

(١) فى النسخة الأم [ما حق].

٥٠٥

والتقليد ، متفرقين اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ؛ فإنّ الازدحام يشوّش الخاطر ، ويخلط القول ، ويمنع من الرّوية ، ويقلّ فيه الإنصاف ، ويكثر الاعتساف.

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جاء به ، حتى تعلموا أنه حق ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف ، حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق ، وكذلك المفرد ، يتفكر فى نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالانصاف عرفتم أن (ما بِصاحِبِكُمْ) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) ؛ من جنون ، وهذا كقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١). ومنهم من يقف على «تتفكروا» ثم يستأنف النفي. قال القشيري : يقول : إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسل ، فأمعنوا النظر ، هل ترون فيهم آثار ما رميتموهم به ـ هذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلتم ساحر ، فأين آثار السحر فى أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم : فأىّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم مجنون ، فأىّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلا اعترفتم به أنه صادق؟!. ه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي : قدّام عذاب شديد ، وهو عذاب الآخرة ، وهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بين يدى الساعة» (٢).

الإشارة : فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان ، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان ، فأول ما يتفكر فيه الإنسان فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جاء به من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية ، والشرائع المتباينة ، مع كونه أميا ، لم يقرأ ، ولم يطالع كتابا قط ، وما أخبر به من أمر الغيب ، فوقع كما أخبر ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام ؛ من الأخلاق الحسنة ، والشيم الزكية ، وما كان عليه من سياسة الخلق ، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر ربانى ، وتأييد إلهى. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة ، ترقى بها إلى أنوار الربوبية ، فيتفكر فى عجائب السموات والأرض ، فيعرف عظمة صانعها ، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان ، فيغيب عن نظرة الأكوان ، ويبقى المكوّن وحده. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان.

__________________

(١) من الآية ١٨٤ من سورة الأعراف.

(٢) بعض حديث ، أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٥٠) وابن أبى شيبة فى مصنفه ، من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه (٥ / ٣١٣) ، وانظر : مجمع الزوائد (٥ / ٢٦٧) ، وجاء معنى الجملة عند البخاري ومسلم بلفظ : «بعثت أنا والساعة كهاتين» أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ح ٦٥٠٤) ومسلم فى (الفتن ، باب قرب الساعة ، ٤ / ٢٢٦٨ ، ح ٢٩٥١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

٥٠٦

ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار ؛ إزاحة للتهمة عنه ، فقال :

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ) عليه أي : على إنذارى وتبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) ، إذ لو كنت كذلك لا تهمتمونى أنى أطمع فى أموالكم. وما طلبت من ذلك (فَهُوَ لَكُمْ) ، ومعناه : نفى سؤاله الأجر رأسا. نحو : ما لى فى هذا فهو لك ، وما تعطنى تصدق به على نفسك. (إِنْ أَجْرِيَ) فى ذلك (إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيعلم أنى لا أطلب الأجر فى نصيحتكم ، ودعائكم إليه ، إلا منه تعالى.

الإشارة : تقدم مرارا أن الدعاة إلى الله ينبغى لهم أن يتنزّهوا عن الطمع فى الناس جهدهم ، ولو اضطروا إلى ذلك ؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام ، والتعفف التام عما فى أيدى الناس ، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حجة ، يدمغ بهم على الباطل ، كما قال تعالى :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي : بالوحى ، فيرمى به على الباطل ، من الكفر وشبهه ، فيدمغه ، أو : يرمى به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعدا بإظهار الإسلام ، أو : يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف : رمى السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعار لمطلق الإلقاء ، ومنه : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (١). تم وصف الرب بقوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : هو علام الغيوب.

(قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : الإسلام ، أو : القرآن ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي : زال الباطل وهلك ، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي ، فعدمهما عين الهلاك ، والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) (٢) قال الكواشي : المعنى : ذهب الباطل لمجىء الحق ، فلم يبق له بقية حتى يبدئ شيئا أو يعيده. ثم

__________________

(١) من الآية ٢٦ من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٨١ من سورة الإسراء.

٥٠٧

قال : وهذا مثل ، يقال : فلان لا يبدئ ولا يعيد ، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي : الباطل : إبليس ، ما يبدىء ولا يعيد : لا يخلق ولا يبعث ، والله تعالى هو المبدئ المعيد ، ومعناهما : الخالق الباعث. وقال فى الصحاح : وفلان ما يبدئ وما يعيد ، أي : ما يتكلم ببادية ولا عائدة ، ومثله فى القاموس.

والحاصل : أنه عبارة عن زهوق الباطل ، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح ، وحول الكعبة أصنام ، فجعل يطعنها بعود ، فتقطع لقفاها ، ويقول : «جاء الحقّ وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» (١).

ولما قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحق (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) ؛ فإن وبال ضلالى عليها ، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي : فبتسديده بالوحى إلىّ. وكان قياس المقابلة أن يقال : وإن اهتديت فإنما أهتدى لها ، كقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (٢) ، ولكن هما متقابلان معنى ؛ لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها ، وما لها مما ينفعها ، فهو بهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسوله أن ينسبه إلى نفسه ؛ تشريعا لغيره ؛ لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. (إِنَّهُ سَمِيعٌ) لما أقوله لكم ، (قَرِيبٌ) منى ومنكم ، فيجازينى ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.

الإشارة : الحق هو العلم بالله ، والباطل الجهل بالله ، أو : ما سوى الله ، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه ، وما بقي فى الوجود إلا الله ، وفى ذلك يقول الشاعر :

فلم يبق إلا الله لم يبق كائن

فما ثم موصول ولا ثم بائن

بذا جاء برهان العيان فما أرى

بعيني إلا عينه إذ أعاين

وفى القوت فى تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده ، فأظهر حقيقة الأمر بدءا وعودا ، أي : كشف ما يبدىء الباطل للابتداء ، وما يعيد على العبد من الأحكام ، يعنى : أن نور الحق يكشف حقيقة الباطل وضرر عاقبته ، وقبحه فى ذاته. والله أعلم. ه. ومن رمى بباطل أو بدعة ، وهو محقق بالحق ، متمسك بالسنة النبوية ، فليقل لمن رماه : (إن ضللت فإنما أضل على نفسى ..) الآية.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (المظلم ، باب : هل تكسر الدنان التي فيها خمر ، ح ٢٤٧٨) ومسلم فى (الجهاد والسير ، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة ٣ / ١٤٠٨. ح ١٧٨١) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(٢) الآية ٤١ من سورة الزمر.

٥٠٨

ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان فى إبّانه ، فقال :

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

قلت : «مريب» : اسم فاعل ، من : أراب ، أي : أتى بريبة ، وأربته : أوقعته فى الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد : وصفه بالشدة والإظلام ، بحيث إنه يوقع فى شك آخر.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ تَرى) يا محمد ، أو : يا من تصح منه الرؤية ، الكفرة. (إِذْ فَزِعُوا) ؛ حين فزعوا عند صيحة البعث ، لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، (فَلا فَوْتَ) أي : لا مهرب لهم ، أو : فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. (وَأُخِذُوا) إلى النار (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ؛ من المحشر إلى قعر جهنم. أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه ، وأخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو : إذ فزعوا يوم بدر ، وأخذوا من صحراء بدر إلى القليب.

(وَقالُوا) حين عاينوا العذاب : (آمَنَّا بِهِ) أي : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لمرور ذكره فى قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١) أو : بالله ، أو : بالقرآن المذكور فى قوله : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي : التناول. من قرأه بالواو (٢) فوجهه : أنه مصدر : ناش ، ينوش ، نوشا ، أي : تناول ، وهى لغة حجازية ، ومنه : تناوش القوم فى الحرب : إذا تدانوا ، وتناول بعضهم بعضا ، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بعدت عنهم ، يعنى أن التوبة كانت منهم قريبة ، تقبل منهم فى الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا وبعدت عن الآخرة. وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم فى ذلك الوقت ، كما نفع المؤمنين إيمانهم فى الدنيا ، فمثّلت حالهم بحال من يريد أن يتناول

__________________

(١) الآية ٤٦ من السورة.

(٢) قرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والكسائي (التناوش) بالهمزة ، وقرأ الباقون (التناوش) بالواو من غير همز.

٥٠٩

الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه من قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش ، بمعنى أبطأ ، أو : بعد ، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بعد. والنئيش : الشيء البطيء ، كما قال الشاعر :

وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير (١).

أي : جئت بطيئا. وقيل : الهمز بدل الواو ، كالصائم ، والقائم ، وأقتت. والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) حصول العذاب ، أو : قبل الموت فى الدنيا ، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، هو عطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية ، أي : وقد كفروا فى الدنيا ، ورموا بظنونهم فى الأمور المغيبة ، فقالوا : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) عن الحق والصواب ، أو : هو قولهم فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شاعر ، ساحر ، كذاب ، وهو رجم بالغيب ؛ إذ لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق ، والأمانة ، ورجاحة العقل.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النيران ، والفوز بنعيم الجنان ، أو بين الرد إلى الدنيا ، كما حكى عنهم بقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٢) (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي : بأشباههم من الكفرة الدارجة من قبلهم ، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت ، وهذه الأفعال كلها تقع فى المستقبل ، عبّر عنها بالماضي لتحقق وقوعها. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) فى أمر الرسول والبعث ، (مُرِيبٍ) : موقع للريبة ، أو : ذى ريبة ، نعت به للمبالغة. وفيه رد على من زعم أن الله لا يعذّب على الشك ، قاله النسفي.

الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان ، وتربيته ، بصحبه أهل الإيقان ، حتى إذا كشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير ، ومكانهم البعيد ، قالوا : آمنا وتيقنا ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير ، وصرفوا فى الشهوات والحظوظ عمرهم القصير ، وتوغلوا فى أشغال الدنيا وزخارفها ، فذهلوا عن الجد والتشمير ، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون ، من اغتنام الأوقات ، وتعمير الساعات ، لنيل المراتب والدرجات ، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع ، ويطلب الرجوع فلا يسمع.

__________________

(١) عجز بيت ، وهو كما فى القرطبي (٦ / ٥٥٥٣) :

قعدت زمانا عن طلابك للعلا

وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر

(٢) من الآية ١٢ من سورة السجدة.

٥١٠

قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أغلقت الأبواب ، وندموا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب ، فليس إلا الحسرات مع الندم ، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته ، ولم يستفق من غفلته فتجاوز حده ، ويعفى عنه كرّه. فإذا استمكن فى القسوة ، وتجاوز فى سوء الأدب حدّ القلة ، وزاد على مقدار الكثرة ، فيحصل لهم من الحق ردّ ، ويستقبلهم حجاب البعد. فعند ذلك لا يسمع لهم دعاء ، ولا يرحم لهم بكاء ، كما قيل ، وأنشد :

فخلّ سبيل العين بعدك للبكا

فليس لأيام الصفاء رجوع. ه

وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير ، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير ، قد انتهزوا فرصة الأعمار ، ولم يشغلهم عن الله ربع ولاديار ، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار ، وفكرة الاعتبار والاستبصار ، حتى وردوا دار القرار ، أولئك المصطفون الأخيار ، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار ، ويكشف عن قلوبهم الحجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان ، واشتغلوا بتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى أفضوا إلى مقام العيان ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنّه وكرمه ، وبمحمد نبيه وحبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وصحبه.

٥١١
٥١٢

سورة فاطر

مكية. وآيها ست ـ أو خمس ـ وأربعون. ومناسبتها لما قبلها : أن صدرها استدلال على عظم ذاته ، وباهر قدرته ، وتحقيق رسالة نبيه ، بجعل الملائكة رسلا إليه ، ففيها إزاحة للشك ، وقلع للريب ، الواقع فى قلوب الكفرة ، الذي ختمت به السورة ، فكأنه تعالى حمد نفسه على إظهار شأنه ، وإن لم يحمده عتاة خلقه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

قلت : (أولى) : اسم جمع ، كذو ، وهو بدل من «رسلا» ، أو نعت له ، و (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : نعوت لأجنحة ، وهو غير منصرف ؛ لأنه معدول عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص ، أي : منهم من له اثنان ، ومنهم من له ثلاثة ، هذا ظاهر الكشاف.

يقول الحق جل جلاله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، حمد نفسه ؛ تعليما وتعظيما ، (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه : «ما كنت أدرى معنى فاطر حتى اختصم إلىّ أعرابيان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها». قال البيضاوي : من الفطر ، بمعنى الشق ، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت : وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف ، فنور السموات والأرض من نوره الأزلى ، وسره الخفي. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى عباده ، أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، فيبلغون إليهم رسالاته بالوحى ، والإلهام ، والرؤيا الصادقة. (أُولِي أَجْنِحَةٍ) متعددة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي : منهم ملائكة لهم اثنان ؛ لكل واحد جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، بتفاوت ما لهم من المراتب ، ينزلون بها ، ويعرجون ، أو : يسرعون نحو ما وكلهم الله عليه ، يتصرفون فيه على ما أمرهم به ، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها ، لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل ليلة المعراج ، وله ستمائة جناح (١). وروى أنه طلب منه أن يريه

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم «آمين» ح ٣٢٣٢) ومسلم فى (الإيمان ، باب ذكر سدرة المنتهى ١ / ١٥٨ ، ح ١٧٤) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، لكنه ليس فيه «ليلة المعراج».

٥١٣

صورته التي خلقه الله عليها ، فلما رآه كذلك خرّ مغشيا عليه. وقال : ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا. فقال له : لو رأيت إسرافيل ، إنّ له لاثنى عشر جناحا بالمشرق ، واثنى عشر جناحا بالمغرب ، وإنّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى (١) ه.

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي : يزيد فى خلق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل : هو الوجه الحسن ، والشعر الحسن ، والصوت الحسن ، والحظّ الحسن ، والملاحة فى العينين. والآية مطلقة تتناول كلّ زيادة فى الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام فى الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة العقل ، وجزالة فى الرأى ، وفصاحة فى اللسان ، وحسن خلق فى المعاشرة ، ومحبة فى قلوب المؤمنين وغير ذلك. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ما يشاء ، من زيادة فى الخلق ، ونقصان فيها ، على حسب المشيئة السابقة.

الإشارة : الحمد فى القرآن وقع على أربعة أقسام : حمد مطلق ، وهو الواقع على عظمة ذاته ، من غير أن يكون فى مقابلة شىء ، وهو قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣) ، وحمد وقع فى مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص ، وهو قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...) (٤) الآية. وحمد وقع فى مقابلد نعمة الإيجاد ، وهو قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) (٥) ، وحمد وقع فى مقابلة نعمة الإمداد الحسى ، كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، فإن التربية تقتضى وصول ما يحتاج إليه المربّى ، أو الإمداد المعنوي ، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية ، وهو قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (٧) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ..) (٨) فهذه أربعة : حمد مطلق ، أو مقيد بشأن التنزيه ، أو بنعمة الإيجاد ، أو الإمداد ، وما وقع هنا فى إظهار تجلياته ، من أرضه وسماواته ، ولطائف ملائكته ، فإن ذلك كله من نور جبروته.

وقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال القشيري : يقال : هو الفهم عن الله ، أو السخاء والجود ، أو : الرضا بالتقدير ، أو : علو الهمة ، أو : التواضع فى الشرف ، أو : العفة فى الفقر ، أو : الظرف ـ أي : الظرافة ـ فى الشمائل ، أو : أن يكون محببا فى القلوب ، أو : خفة الروح ، أو : تحرّر القلب عن رقّ الحرمان ـ أي : بالوقوف مع الأكوان ـ أو : ألا يطلب لنفسه منزلة فى الدارين ـ أي : بأن يكون عبد الله حقيقة ـ. ه. ملخصا.

__________________

(١) ذكره القرطبي (٦ / ٥٥٥٨) عن الزهري.

(٢) من الآية ٥٩ من سورة النمل.

(٣) من الآية ٧٥ من سورة النحل.

(٤) الآية ١١١ من سورة الإسراء.

(٥) من الآية الأولى من سورة الأنعام.

(٦) الآية ٣٦ من سورة الجاثية.

(٧) الآية الأولى من سورة الكهف.

(٨) من الآية ٤٣ من سورة الأعراف.

٥١٤

والصواب أن الزيادة تشمل ذلك كله ، وكل من خصه بشىء ؛ فإنما ذلك رحمة منه تعالى ، كما قال تعالى :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

يقول الحق جل جلاله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) أي : ما يطلق ويرسل من رحمة ، كنعمة ، ومطر ، وأمن ، وعافية ، ورزق ، وعلم ، ومعرفة ، ونبوة ، وغيرها ، (فَلا مُمْسِكَ لَها) ؛ فلا أحد يقدر على إمساكها وردها ، واستعير الفتح للإطلاق ؛ لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أىّ رحمة كانت ، فتشمل نعمة الدفع والجلب ، كدفع المحن وجلب المنن. والاعتراف بالمنعم من تمام النعمة ، والأمران مدرجان فى الفتح والإمساك ، (وَما يُمْسِكْ) أي : يمنع ويحبس من ذلك (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) ؛ فلا مطلق له (مِنْ بَعْدِهِ) ؛ من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمّن معنى الشرط على معنى الرحمة ، وذكّره ؛ حملا على لفظ المرجوع إليه ؛ إذ لا تأنيث فيه ؛ لأن الأول فسرّ بالرحمة ، فحسن إتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير.

وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعا : «لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ، ويعظّم برّهم فاجرهم ، وتعن قراؤهم على أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم» (١) قال ابن عرفه : يؤخذ من قوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ ..) أن العدم السابق الإضافى متعلق للقدرة ، وجعله بعض الأصوليين متعلقا للإرادة أيضا ، وذلك لأن المصحح للتعلق الإمكان. ه. قال الأبى : لا دليل فى الآية ؛ لاحتمال أن يكون التقدير : وما يريد إمساكه ، فيكون من متعلقات الإرادة ، ويحتمل : وما يمسك عن الإرسال بعد وجوده ، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه فى السحاب. ه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب ، القادر على الإرسال والإمساك. (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ، بما تقتضى الحكمة إرساله ، أو إمساكه.

الإشارة : ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات ، وواردات ، وإلهامات ، وعلوم لدنية ، وحكم ربانية ، وتعرفات جمالية وجلالية ، فلا ممسك لها ، بل الله يفتح على من يشاء ، ويسد الباب فى وجه من شاء. وسد الباب فى وجه العبد عن معرفته الخاصة ، علامته : عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل من وصله إليهم ، وصحبهم ، وعظّمهم ، وخدمهم ،

__________________

(١) ذكر نحوه العراقي فى المغني (٢ / ١٦٤) وعزاه لأبى عمرو الداني ، فى كتاب الفتن ، من رواية الحسن ، مرسلا ، بلفظ : (لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه ما لم يمالىء قراؤها أمراءها) وقال العراقي. ورواه الديلمي فى مسند الفردوس ، من حديث علىّ ، وابن عمر ، بلفظ : «ما لم يعظم أبرارها فجارها ، ويداهن خيارها شرارها ، وإسنادهما ضعيف.

٥١٥

فقد فتح الله له الباب فى وصوله إليه ، وكل من نكبه عنهم ، ولم يصحبهم ، كما ذكر ، فقد سد الباب فى وجهه عن معرفته العيانية. وفى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» (١). وما يمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده ، ولو صلى وصام ألف عام. قال القشيري : ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره ، ولا ضباب يقهره. ويقال : ما يلزم قلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له ، والذي يمنع من أعدائه ـ بسبب ما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها ـ فلا ميسّر له من دونه. ه. وبالله التوفيق.

ثم ذكّرهم بالنعم ؛ لأن تذكر النعم سبب الفتح ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

قلت : «غير الله» : من رفعه فنعت للمحل ، أي : هل خالق غير الله ، ومن جره : فنعت للفظ. و «يرزقكم» : إما استئناف ، أو : صفة ثانية لخالق ، و «لا إله إلا هو» : مستأنفة ، لا محل لها.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) باللسان والقلب ، وهى التي تقدمت ، من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد ، والزيادة فى الخلق ، وفتح أبواب الرزق. ثم نبّه على أصل النعم ، وهو توحيد المنعّم ، فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات ، بل لا خالق يرزق غيره ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). فمن أىّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك.

ثم سلّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المنعم بقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، فلك فيهم أسوة ، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم ، المقتضى لزيادة التسلية ، والحث على المصابرة ، أي : فقد

__________________

(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص / ١٣ ، حكمة / ١٥٦).

٥١٦

كذّبت رسل عظام ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات عديدة ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك ؛ لأن الجزاء يعقب الشرط ، ولو أجرى على الظاهر ، لكان الجزاء مقدما على الشرط ؛ لأن تكذيب الرسل سابق ، فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع فتأسّ ، استغناء بالسبب عن المسبب. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، وهو كلام مشتمل على الوعد والوعيد ، من رجوع الأمور إلى حكمه ، ومجازاة المكذّب والمكذّب بكل ما يستحقه فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق ، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب ، وفى الآخرة معلوم ، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ذكر النعمة هو أن ينظر العبد ، ويتفكر فى نفسه ، فيجد نفسه مغروقة فى النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدم تعدادها فى لقمان (١). وليتفكر فى حالته الماضية ، فقد كان جاهلا ، فعلّمه الله ، ضالا ، فهداه الله ، غافلا ، فأيقظه الله ، عاصيا ، فوفقه الله ، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضا إلى من تحته من العباد ، فيجد كثيرا من هو أسوأ منه حالا ومقاما ، فيحمد الله ويشكره. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظروا إلى من هو تحتكم ولا تنظروا إلى من فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (٢). وحمله المحققون على العموم فى الدين والدنيا. ذكره ابن عباد فى الرسائل وغيره.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تذاكروا النعم ؛ فإن ذكرها شكر. ه. وقال القشيري : من ذكر نعمته فصاحب عبادة ، ونائل زيادة ، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة ، ونائل زيادة ، ولكن فرق بين زيادة وزيادة ، هذا زيادته فى الدارين عطاؤه ، وهذا زيادته لقاؤه ، اليوم سرّا بسرّ ، من حيث المشاهدة ، وغدا جهرا بجهر ، من حيث المعاينة. ه. قلت : من تحقق بغاية الشهود لم يبق له فرق بين شهود الدارين ؛ إذا المتجلى واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين : ما دفع من المحن ، وما وضع من المنن ، فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة ، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ..)؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته ، فإذا عرف أنه لا رازق غيره ؛ لم يعلّق قلبه بأحد فى طلب شىء. وتوهم شىء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يخلص فى توكله وتفويضه. ه.

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٢٠ من سورة لقمان.

(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ٤ / ٢٢٧٥ ، ح ٢٩٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٥١٧

ثم قال فى قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ...) الآية : وفى هذا إشارة للحكماء ، وأرباب القلوب ، مع العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق منهم أبدا فى مقاساة الأذية ، إلا بستر حالهم عنهم ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء المتعمقين ، والعلماء المتجمدين ، الذين هم لهذه الأصول منكرون. ه.

ثم حذّر من الدنيا ؛ لأنها تنسى النّعم والشكر ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) ، أي : كائن لا محالة ، فاستعدوا للقائه ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ؛ لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة ، ولا يذهلنكم التمتع بها ، والتلذذ بملاذها ، والاشتغال بجمعها واحتكارها ، عن التأهب للقاء الله ، وطلب ما عنده. وفى الحديث : «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية ، عن مراتب جنات عليه ، فكأن قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ، ولاقى كل امرئ مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه». (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي : الشيطان ، فإنه يمنّيكم الأمانى الكاذبة ، ويقول : إن الله غنى عن عبادتك وعن تكذيبك. أو : إن الله غفور لمن عصاه.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) ؛ ظاهر العداوة ، فعل بأبيكم ما فعل ، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح ، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ؛ فلا تقبلوا غروره فى عقائدكم وأفعالكم ، وكونوا على حذر منه فى جميع أحوالكم ؛ إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته فى سركم وجهركم.

قال الورتجبي : إنه عدو ؛ لأنه من عالم القهر خلق ، ونحن من عالم اللطف خلقنا. والطبعان متخالفان أبدا ، لأن القهر واللطف تسابقا فى الأزل ، فسبق اللطف القهر ، فعداوته من جهة الطبع الأول ، والجهل بالعصمة ، وأنوار التأييد والنصرة ، ومن لا يعرفه بما وصفنا ، كيف يتخذه عدوا؟ وهو لا يعرف مكائده ، ولا يعرف مكائده إلا ولىّ أو صدّيق. ه.

٥١٨

ثم خطّأ من اتبعه ؛ بأن غرضه أن يورد شيعته موارد الهلاك ، بقوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، فهو تقرير لعداوته ، وبيان لغرضه فى دعوى شيعته إلى اتباع الهوى ، والركون إلى الدنيا ، أي : إنما يدعوهم إلى الهوى ، ليكونوا من أهل النار.

ثم بيّن مآل من اتبعه ومن عاداه ، فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : فمن أجابه إلى ما دعى فله عذاب شديد ؛ لأنه صار من حزبه وأتباعه ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ولم يجيبوه ، ولم يصيروا من حزبه ، بل عادوه ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ؛ لكبر جهاده ودوامه.

الإشارة : وعد الله هنا عام ، وكله حق ، واجب الوقوع ، لا يتخلف ، فيصدق بوعد الرزق ، وكفاية من انقطع إليه عن الخلق ، لقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١) وتولى من أصلح حاله لقوله : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (٢) ، ويصدق بإثابة المطيع ، وعتاب العاصي ، أو : حلمه عنه ، وغير ذلك من المواعد كلها ، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق ، وخوف الخلق ، والتشمير فى الطاعة ، والفرار من المعصية ، إن كان له ثقة بوعد ربه ، وإلا فالخلل فى إيمانه.

وقوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ...) إلخ ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أمروا بعداوة الشيطان ، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته ، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب ، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو ، وأنا لكم حبيب ، فاشتغلوا بمحبة الحبيب ، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صنعك مع الشيطان؟ فقال : نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله ، فكفانا من دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب ، أو قطع الإهاب ، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله ، والفناء فيه ، ولكن الدواء هو الغيبة عنها ، والاشتغال بالله دائما ، فإذا أظهرت رأسها بقيام شهوتها ، دقّه ، بعكس مرادها ، وغب عنها فى ذكر الله. ومن حكم شيخنا البوزيدى رضي الله عنه : «أنس نفسك بالله ، واعتمد على فضل الله ، وامتثل شيئا ما ، وينوب الله». (٣) وفى الحكم العطائية : «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضا : «وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه». وقال : «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ، ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدا. ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه ، غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليك» (٤).

__________________

(١) من الآية ٣ من سورة الطلاق.

(٢) من الآية ١٩٦ من سورة الأعراف.

(٣) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص / ٢٣ ، حكمة / ٢٣٦).

(٤) (ص / ٣١ ، حكمة ١٣٠).

٥١٩

ومن جملة عداوته ؛ تزيين القبائح ، كما قال تعالى :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

قلت : «أفمن» : مبتدأ حذف خبره ، أي : كمن هداه الله ، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و «حسرات» : مفعول له. وجمعها لتضاعف اغتمامه ، أو تعدد مساوئهم. و «عليهم» : صلة لتذهب ، كما تقول : هلك عليه حبا ، ومات عليه حزنا. ولا يتعلق بحسرات ؛ لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته ، إلا أن يتسامح فى الجار والمجرور.

يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بأن غلب هواه على عقله ، وجهله على علمه ، حتى انعكس رأيه ، (فَرَآهُ حَسَناً) ؛ فرأى الباطل حقا ، والقبيح حسنا ، كمن هداه الله واستبصر ، فرأى الحق حقا ، والباطل باطلا ، فتبع الحق ، وأعرض عن الباطل ، ليس الأمر كذلك ، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، فمن أضله رأى الباطل حقا ، فتبعه ، ومن هداه رأى الباطل باطلا ، فاجتنبه ، والحق حقا فاتبعه. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي : فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب ، فإن أمرهم بيدي ، وأنا أرحم بهم منك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه ، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

الإشارة : إذا أراد الله إبعاد قوم ؛ غطى نور بصيرتهم بظلمة الهوى ، فيزيّن فى عينهم القبيح ، ويستقبح المليح ، فيرون القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، كما قال الشاعر :

يغمى على المرء فى أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

قال القشيري : ومعنى التزيين ؛ كالكافر يتوهّم أنّ فعله حسن ، وهو عند الله من أقبح القبيح ، ثم الراغب فى الدنيا يجمع حلالها وحرامها ، ويحوّش حطامها (١) ، لا يتفكر فى زوالها ، ولا فى ارتحاله عنها من قبل كمالها ، لقد زيّن له سوء عمله ، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته فى الجنة ، بمتابعة شهوة ساعة ، فلقد زين له سوء عمله ، والذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات ، فهو من جملتهم ، والذي يتوهّم أنه إذا وجد النجاة والدرجات فى الجنة

__________________

(١) أي : يجمعه ويدخره.

٥٢٠