البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))

قلت : «آية» : خبر «كان» ، و «أن يعلمه» : اسمها ، ومن قرأ «آية» ؛ بالرفع ؛ فآية اسمها ، و (إِنَّ ...) إلخ : خبر. أو : «كان» : تامة ، و «آية» : فاعل ، و «أن يعلمه» : بدل منه.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنَّهُ) أي : القرآن المشتمل على القصص المتقدمة ، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم ، أي : وإن القرآن الكريم (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين ؛ للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.

(نَزَلَ بِهِ) أي : أنزله (الرُّوحُ الْأَمِينُ) أي : جبريل عليه‌السلام ، لأنه أمين على الوحى الذي فيه روح القلوب ، ومن قرأ بالتشديد : فالفاعل هو الله ، والروح : مفعول به ، أي : جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به. والباء ؛ للتعدية ، نزل به (عَلى قَلْبِكَ) ، أي : حفظك وفهمك إياه ، وأثبته فى قلبك إثبات ما لا ينسى ، كقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١).

(لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة ، (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) ؛ بلغة قريش وجرهم ، فصيح بليغ ، والباء : إما متعلق بمنذرين ، أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان ؛ وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل ـ عليهم‌السلام ـ أو : بنزل ، أي : نزله بلسان عربى ؛ لتنذر به ، لأنه لو نزل بلسان أعجمى لتجافوا عنه ، ولقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه ؛ أي : لتكون من جملة من أنذر قبلك ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وغيرهم من الرسل ، عربيين أو عجمين ، وأشد الزواجر تأثيرا فى قلوب المشركين : ما أنذره إبراهيم ؛ لانتمائهم إليه ، وادعائهم أنهم على ملته.

(وَإِنَّهُ) أي : القرآن (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) يعنى : أنه مذكور فى سائر الكتب السماوية. وقيل : ثبت فيها معناه ، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل ، بحسب تبدل الأعصار ، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات

__________________

(١) من الآية ٦ من سورة الأعلى.

١٦١

والصفات مسطورة فيها ، وكذا ما فى تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي : وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآنا ، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية فى الصلاة. ه. وهو حنفى المذهب ، وأما مذهب مالك : فلا.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) أي : أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقا ، (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، كعبد الله بن سلام ، وغيره ، لوجود ذكره فى التوراة. قال تعالى : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (١). والمعنى : أو لم يكفهم دليلا على كون القرآن من عند الله علم أحبار بنى إسرائيل به ، ومعرفتهم له ، كما يعرفون أبناءهم ؛ لموافقته لما عندهم فى كثير من القصص والأخبار ، حتى إن سورة يوسف مذكورة فى التوراة بمعنى واحد ، وترتيب واحد ، وما اختلف مع القرآن فيها إلا فى كلمة واحدة : «وجاءوا على قميصه بدم كذب» عندهم فى التوراة : وجاءوا على قميصه بدم جدى. وكذا سورة طه : جلّها فى التوراة. وقد تقدم الحديث : «أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» (٢). وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة ، ينقل فى كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أي : ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية ، ولا يقدر على التكلم بها ، (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) قراءة صحيحة ، خارقد للعادة ، (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ؛ لفرط عنادهم ، وشدة شكيمتهم ، قال النسفي : والمعنى : إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربىّ مبين ، ففهموه ، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله ، وصفته فى كتبهم ، وقد تضمّنت معانيه وقصصه ، وصح بذلك أنها من عند الله ، وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به ، وسمّوه شعرا تارة ، وسحرا أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم ، الذي لا يحسن العربية ، فضلا أن يقدر على نظم مثله ، (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) هكذا معجزا ، لكفروا به ، ولتمحّلوا لجحودهم عذرا ، ولسموه : سحرا. ه.

والأعجمين : جمع الأعجمى ، فإن أفعل ، إذا كان للتفضيل ، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر. وأصل الأعجمين : الأعجميين ، فحذفت ياؤه ، وقيل : جمع أعجم ، فلا حذف.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي : أدخلنا التكذيب والكفر ، وهو مدلول قوله : (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ، (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) : الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعنى : مثل هذا السّلك الغريب سلكناه فى

__________________

(١) من الآية ٥٣ من سورة القصص.

(٢) راجع صدر تفسير هذه السورة.

١٦٢

قلوبهم وقررناه فيها ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه ، من التكذيب والإصرار عليه ، وهو حجتنا على المعتزلة فى خلق أفعال العباد ؛ خيرها وشرها.

وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) : توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالا ، أي : سلكناه فيها غير مؤمنين به ، أو : مثل ذلك السلك البديع سلكناه ، أي : أدخلنا القرآن فى قلوب المجرمين ، ففهموا معانيه ، وعرفوا فصاحته وبلاغته ، وأنه خارج عن القوة البشرية ، من حيث النّظم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما فى أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) ، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان ، بل يستمرون على ما هم عليه ، (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الملجئ إلى الإيمان ، حين لا ينفعهم الإيمان ، (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) ؛ فجأة فى الدنيا والآخرة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه ، (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) ؛ مؤخّرون ساعة. قالوه تحسّرا على ما فات من الإيمان ، وتمنيا للإمهال ؛ لتلافى ما فرضوه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار ، وملئ بالمعارف والأسرار ، كان مهبطا لوحى الإلهام ووحي الإعلام ، ومحلا لتنزل الملائكة الكرام ، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شرب ونصيب ؛ ليكون من الواعظين بلسان عربى مبين ، يفصح عن جواهر الحقائق ، ويواقيت العلوم ، وما ينطق به من العلوم يكون موافقا لما فى زبر الأولين ، وإن كان أميا ؛ لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.

وقال الورتجبي على هذه الآية : أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم محل نزول كلامه الأزلى ؛ لأنه مصفى من جميع الحدثان ، بتجلى مشاهدة الرحمن ، فكان قلبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ صدف لالئ خطاب الحق ، يسبح فى بحار الكرم ، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة ، وذلك سر عجيب وعلم غريب ؛ لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به ، وكلامه لم ينفصل عنه ، وكيف تفارق الصفات الذات ، لكن أبقى فى قلبه ظاهره وعلمه وسره ، فجبريل ـ عليه‌السلام ـ فى البين : واسطة لجهة الحرمة ، وذكر ذلك بقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ...) ؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحى والكلام والرؤية والعرفان ، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك : الإعلام بسر وجود الإنسان ، وأنه ليس شىء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه ، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق ، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر : ما أنزله على جبريل جعله محلا للإنذار ، لا التحقيق ، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق ، فلم يخبر عنه ، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة ؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزله جبريل جعله للخلق ، فقال : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق ،

١٦٣

فإنك متحقق بما كافحناك به ، وخاطبناك على مقام لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. ه. على تصحيف فى النسخة. وبالله التوفيق.

ثم هددهم بنزول العذاب ، فقال :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

يقول الحق جل جلاله ؛ توبيخا لمن اقترح نزول العذاب ، كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم؟ وتقديم الجار ؛ للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المستعجل به عذابه ، مع ما فيه من رعاية الفواصل.

(أَفَرَأَيْتَ) أي : أخبرنى. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال «أرأيت» فى معنى أخبرنى. والخطاب لكل من يسمع ، أي : أخبرنى أيها السامع : (إِنْ مَتَّعْناهُمْ) ؛ إن متعنا هؤلاء الكفرة (سِنِينَ) متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش ، (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) من العذاب ، (ما أَغْنى عَنْهُمْ) أي : أىّ شىء ، أو أىّ إغناء أغنى عنهم (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي : كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد ، أىّ شىء أغنى فى دفع العذاب ، و (ما) : مصدرية ، أو : ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا ، على أنها موصولة ، حذف عائدها ، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي. وقيل : (ما) : نافية ، أي : لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول فى دفع العذاب. والأول أرجح.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى المهلكة ، (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ؛ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم ، (ذِكْرى) أي : تذكرة ، وهو مصدر منذرون ؛ لأن أنذر وذكر متقاربان ، كأنه قيل : لها مذكرون تذكرة. أو مفعول له ، أي : ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة ، أو خبر ، أي : هذه ذكرى ، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا ؛ مفعولا له ، والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة ، بإرسال المنذرين إليهم ؛ ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصون مثل عصيانهم ، (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك قوما غير ظالمين ، أو قبل

__________________

(١) من الآية ٣٢ من سورة الأنفال.

١٦٤

إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم ؛ إذ لا يجب عليه تعالى شىء ـ كما تقرر من قاعدة أهل السنة ـ ؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك ، وتحقيقا لكمال عدله. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يقول الحق جل جلاله ، فى جانب أهل البطالة والغفلة : أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين ، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور ، وبناء الغرف وتشييد القصور ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت ، والرحيل من الأوطان ، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان ، أىّ شىء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به ، من لذيذ المآكل والمشارب ، ومفاخر الملابس والمراكب ، هيهات هيهات ، قد انقطعت اللذات ، وفنيت الشهوات ، وما بقي إلا الحسرات ، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك ، فما بقي فى يدك منه إلا ما كان فى طاعة مولاك ، من ذكر ، أو تلاوة ، أو صلاة ، أو صيام ، أو علم نافع ، أو تعليم ، أو فكرة ، أو شهود ، وما سوى ذلك بطالة وخسران ، فالوقت الذي تصرفه فى طاعة مولاك ذخائره موجودة ، وكنوز مذخورة ، والوقت الذي تصرفه فى هوى نفسك ضائع ، تجد حسرته يوم القيامة ، ففى الحديث : «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم ، لم يذكروا الله تعالى فيها» (١) قال يحيى بن معاذ : أشد الناس عذابا يوم القيامة من اغتر بحياته والتذّ بمراداته ، وسكن إلى مألوفاته ، والله تعالى يقول : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ..). الآية. وعن ميمون بن مهران : أنه لقى الحسن فى الطواف ، وكان يتمنى لقاءه ، فقال له : عظنى ، فلم يزده على تلاوة هذه الآية ، فقال : لقد وعظت فأبلغت. وعن عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه : أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. ه. وبالله التوفيق.

ثم تمم قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، بقوله :

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) ؛ بالقرآن ، (الشَّياطِينُ) ، ردا لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق فيه ، ببيان أنه نزل به الروح الأمين. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي : وما يصح وما يستقيم لهم ذلك ، (وَما يَسْتَطِيعُونَ) إنزاله أصلا ، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) أي : عن استراقة السمع من الملائكة (لَمَعْزُولُونَ) ؛ لممنوعون بالشهب ، أو : لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة فى قبول الاستعداد ؛ لفيضان أنوار الحق ، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية ؛ لأن نفوس الشياطين خبيثة

__________________

(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (٥١٣) عن معاذ بن جبل ، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٧٧٠١) للطبرانى والبيهقي عن معاذ ، وحسّنه.

١٦٥

ظلمانية شريرة ، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه ، من فنون الشرور ، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم ، المنطوى على الحقائق الرائقة الغيبية ، التي لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة الكرام ـ عليهم‌السلام؟.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ؛ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية ، (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ، تهديد لغيره على سبيل التعريض ، وتحريك له على زيادة الإخلاص ، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء ، بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه ، فكيف بمن عداه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار ، كوحى الأحكام ، ما تتنزل به الشياطين ، وما ينبغى لهم وما يستطيعون ؛ لأنه ممنوعون من قلوب العارفين ؛ لما احتفت به من الأنوار ، وما صانها من الأسرار ، أعنى أنوار التوحيد وأسرار التفريد. وقال فى لطائف المنن : إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشهب ، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار. ه. بالمعنى. فلا تدع مع الله إلها آخر ، وهو ما سوى الله ، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك ؛ لأن القلب إذا مال إلى غير الله سلط الله عليه الشيطان ، فيكون ذلك القلب جرابا للشيطان ، يحشو فيه ما يشاء. والعياذ بالله.

ثم أمر نبيه بالإنذار والتذكير ، فقال :

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَأَنْذِرْ) يا محمد (عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، إنما خصهم بالذكر ؛ لئلا يتكلوا على النسب ، فيدعوا ما يجب عليهم ، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها ، بقوله فى تارك الزكاة وقد استغاث به : «لا أملك لك من الله شيئا» ، وفى الغالّ كذلك. وقيل : إنما خصهم لنفى التهمة ؛ إذ الإنسان يساهل قرابته ، وليعلموا أنه لا يغنى عنهم من الله شيئا ؛ إذ النجاة فى اتباعه ، لا فى قربه منهم.

ولما نزلت صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّفا ، ونادى الأقرب فالأقرب ، وقال : «يا بنى عبد المطلب ، يا بنى هاشم ، يا بنى عبد مناف ، يا عباس ـ عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يا صفيّة ـ عمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لا أملك لكم من الله شيئا» (١). وقال ابن عباس

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري (تفسير سورة الشعراء ، باب : وأنذر عشريتك الأقربين ح ٤٧٧١) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، ١ / ١٩٢ ، ح ٣٤٨) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

١٦٦

رضي الله عنه : صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّفا ، ونادى : «يا صباحاه» : فاجتمع الناس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، إن أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتمونى؟ قالوا : نعم. قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، ما جمعتنا إلا لهذا»؟ فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١).

ثم قال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) أي : وألن جانبك وتواضع ، وأصله : أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه ، فجعل خفض الجناح مثلا فى التواضع ولين الجانب. ويكون ذلك التواضع (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من قرابتك وغيرهم. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي : أنذر قومك ؛ فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ، ومن أعمالهم ؛ من الشرك وغيره.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي : على الذي يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته ، فإنه يكفيك شر من يعاديك. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) للتهجد ، (وَ) يرى (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ؛ فى المصلين. أتبع كونه رحيما برسوله ما هو من أسباب الرحمة ، وهو ذكر ما كان يفعله فى جوف الليل ، من قيامه للتهجد ، وتقلبه فى تصفح أحوال المتهجّدين ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون. وقيل : معناه : ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبك فى الساجدين : تصرفه فيما بينهم ، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل : أنه سأل أبا حنيفة : هل تجد الصلاة بالجماعة فى القرآن؟ فقال : لا يحضرنى ، فتلا له هذه الآية. وقيل : تقلبه فى أصلاب الرجال. وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الآية أنه قال : «من نبى إلى نبى حتى أخرجتك نبيا» (٢).

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقول ، (الْعَلِيمُ) بما تنويه وتعمله. هوّن عليه مشاقّ العبادة ، حيث أخبره برؤيته له ، إذ لا مشقّة على من يعلم أنه يعمل بمرأى من مولاه ، وهو كقوله فى الحديث القدسي : «بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلى». والله تعالى أعلم.

الإشارة : ينبغى لمن أهّل للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب ، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل. فمن تبعه على مذهبه فليلن له جانبه وليتواضع له ، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله ، ولا ينساه من نصحه ، ولذلك قال تعالى : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، ولم يقل : «منكم» ، وهذا مذهب الجمهور ،

__________________

(١) أخرجه البخاري فى الموضع السابق ذكره (ح ٤٧٧٠) و (تفسير سورة «تبت يدا أبى لهب وتب») ، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (١ / ١٩٣ ـ ١٩٤ ح ٣٥٥).

(٢) انظر تفسير الطبري (١٩٠ / ١٢٣ ـ ١٢٤) وتفسير البغوي (٦ / ١٣٤).

١٦٧

وأن الأخ إذا زلّ إنما يبغض عمله فقط. وعن بعض الصحابة ـ وقد قيل له فى أخيه ، فقال : إنما أبغض عمله ، وإلا فهو أخى ، وذكر مثل ذلك عن أبى الدرداء. وأن الأخ فى الله لا يبغض لزلته ، ولا يترك لشىء من الأشياء ، وإنما يبغض عمله ، ووافقه على ذلك سلمان ، وتابعهما عمر ، وخالف فى ذلك أبو ذر ، فقال : إذا وقعت المخالفة ، وانقلب عما كان عليه ، فأبغضه من حيث أحببته.

قال صاحب القوت : وأبو ذر صاحب شدائد وعزائم ، وهذا من عزائمه وشدائده. ه. وهذا فى المؤمن بدليل قول أبى الدرداء : الأخ فى الله لا يبغض لزلة. وأما الكافر فصريح آياته : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ، ونحوها. وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر ـ كما فى مسلم ـ موجب للبراءة ، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع. وذكر فى الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره ؛ بظلم ، أو غصب ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو شهادة زور ؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق. ه من الحاشية.

قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، قيل : التوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ، ويقدر على نفعه وضره ، وهو الله وحده ، والمتوكل من إذا دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية. وقال الجنيد رضي الله عنه : التوكل أن تقبل بالكلية على ربك ، وتعرض بالكلية عمن دونه ؛ فإنّ حاجتك إنما هى إليه فى الدارين. ه.

قال القشيري : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) من أصحابك ، ويقال : تقلبك فى أصلاب آبائك من المسلمين ، الذين عرفوا الله ، فسجدوا له ، دون من لم يعرفه. ه. وفى القوت : قيل : وتقلبك فى أصلاب الأنبياء ـ عليهم‌السلام ، يقلبك فى صلب نبى بعد نبى ، حتى أخرجك من ذرية إسماعيل ، وروينا معنى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحاصل : أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين فى الجملة ، ولا يقتضى كل فرد من الأفراد. ه.

ثم كمل قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ، فقال :

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

__________________

(١) من الآية ٤ من سورة الممتحنة.

١٦٨

قلت : «أىّ منقلب» : مفعول مطلق لينقلبون ، والأصل : ينقلبون أىّ انقلاب ، وليست «أيا» : مفعول «يعلم» ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وجملة : «ينقلبون» : معلّق عنها العامل ، فهى فى محل نصب ؛ على قاعدة التعليق ، فإنه فى اللفظ دون المحل.

يقول الحق جل جلاله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم أيها المشركون (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) ، ودخل حرف الجار على «من» الاستفهامية ؛ لأنها ليست للاستفهام بالأصالة. ثم أخبرهم ، فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) : كثير الإفك ، وهو الكذب ، (أَثِيمٍ) ؛ كثير الإثم ، وهم الكهنة والمتنبئة ، كشق وسطيح ومسيلمة. وحيث كانت حالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزهة أن يحوم حولها شىء من ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يُلْقُونَ السَّمْعَ) وهم الشياطين ، كانوا ، قبل أن يحجبوا بالرجم ، يلقون أسماعهم إلى الملأ الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به ، مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم. (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فيما يوحون به إليهم ؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفى الحديث : «إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبة» (١) ، فلذلك يخطئون ويصيبون ، وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع ، أي : المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين ، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس ، (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : الأفّاكون (كاذِبُونَ) : مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفّاك : الذي يكثر الإفك ، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكيه عن الجنّة.

ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم ؛ لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن ، فينتفى كونه كهانة وشعرا ، كما قيل فيه ، فقال : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) : مبتدأ وخبر ، أي : لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون ، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم ، وتمزيق الأعراض والقدح فى الأنساب ، ومدح من لا يستحق المدح ، وهجاء من لا يستحق الهجو ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا (الْغاوُونَ) ، أي : السفهاء ، أو الضالون عن طريق الرشد ، الحائرون فيما يفعلون ويذرون ، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون ، بخلاف غيرهم من أهل الرشد ، المهتدون إلى طريق الحق ، الثابتين عليه.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الطب ، باب الكهانة ، ح ٥٧٦٢) وفى (التوحيد ، باب قراءة الفاجر والمنافق ، ح ٧٥٦١) ، ومسلم فى (السلام ، باب تحريم الكهانة ، ٤ / ١٧٥٠ ، ح ٢٢٢٨) ، عن السيدة عائشة ، ولفظه : «... تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنىّ ، فيقرها فى أذن وليّه ، فيخلطون معها مائة كذبة».

١٦٩

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ) أي : الشعراء (فِي كُلِّ وادٍ) من الكلام (يَهِيمُونَ) ، أو : فى كل فن من الإفك يتحدثون ، أو : فى كل لغو وباطل يخوضون. والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له ، وهو تمثيل لذهابهم فى كل شعب من القول ، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له ، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، للقصد إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا تختص به رؤية راء دون الآخر ، أي : ألم تر أن الشعراء فى كل واد من أودية القيل والقال ، وفى كل شعب من الوهم والخيال ؛ وفى كل مسلك من مسالك الغى والضلال ، يهيمون.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) من الأفاعيل ، غير مبالين بما يستتبعه من اللوم ، فكيف يتوهم أن ينتظم فى سلكهم من تنزهت ساحته عن أن تحوم حوله شائبة الاتصاف بشىء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، والأخلاق الحميدة ، مستقرا على المنهاج القويم ، مستمرا على الصراط المستقيم ، ناطقا بكل أمر رشيد ، داعيا إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيدا بمعجزة قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون من الحكم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاخرة ، مستقل بنظم رائق ، أعجز كل منطيق ماهر ، وبكت كل مفلق ساحر.

هذا وقد قيل فى تنزيهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يكون من الشعراء : أن أتباع الشعراء الغاوون ، وأتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا كذلك ، ولا ريب فى أن تعليل عدم كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم بكون أتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير غاوين مما لا يليق بشأنه العلى. ه. قاله أبو السعود.

ثم استثنى الشعراء المؤمنين ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ كعبد الله بن رواحة ، وحسّان ، وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك. (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا الشعر قالوا فى توحيد الله والثناء عليه ، والحكمة والموعظة ، والزهد والأدب ، ومدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأولياء.

وأحق الخلق بالهجاء من كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهجاه. وعن كعب بن مالك : أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اهجهم ، فو الذي نفسى بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل» (١) ، وكان يقول لحسّان : «قل ، وروح القدس معك» (٢).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٣ / ٤٥٦ ، ٤٦٠) ، والبيهقي فى السنن (١٠ / ٢٣٩) ، وعبد الرزاق فى المصنف (كتاب الجامع ، باب الشعر والرجز ١١ / ٢٦٣) ، وصححه ابن حبّان (موارد الظمآن / ٤٩٤) ولفظه : أنه قال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله قد أنزل فى الشعر ما أنزل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسى بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» ، وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضل حسان بن ثابت ، ٤ / ١٩٣٥ ، ح ٢٤٩٠) ، من حديث السيدة عائشة : «اهجوا قريشا ؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبال».

(٢) أخرجه البخاري فى (المغازي ، مرجع النبي محمد من الأحزاب ، ح ١٢٣ ٤ ، ٤١٢٤). ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضائل حسان ابن ثابت رضي الله عنه ، ٤ / ١٩٣٣ ، ح ٢٤٨٦). من حديث البراء بن عازب. ولفظه : «اهجهم ، أو هاجهم ، وجبريل معك».

١٧٠

(وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي : ردوا على المشركين ، الذين هجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وروى أنه لما نزلت الآية : جاء حسان ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، يبكون ، فقالوا : يا رسول الله : أنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو يعلم أنا شعراء؟ فقال : «اقرءوا ما بعدها : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..) هم أنتم وانتصروا ، هم أنتم»».

ومرّ عمر رضي الله عنه وحسان رضي الله عنه ينشد الشعر فى المسجد ، فلحظ إليه ، فقال : كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبى هريرة ، فقال : أنشدك بالله ، أسمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أجب عنى ، اللهم أيّده بروح القدس» قال : اللهم نعم (١).

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ؛ أىّ مرجع يرجعون إليه ، وهو تهديد شديد ، ووعيد أكيد ؛ لما فى (سَيَعْلَمُ) من تهويل متعلّقه ، وفى (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من الإطلاق والتعميم. وفى (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) من الإيهام والتهويل. وتلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنه حين عهد إليه ، وكان السلف يتواعظون بها. والمعنى : سيعلم أهل الظلم ما تكون عاقبتهم ، حين يقدمون علىّ ، وأىّ منقلب ينقلبون ، حين يفدون إلىّ. اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم ، حتى نلقاك يا أرحم الراحمين.

الإشارة : هل أنبئكم على قلب من تنزّلت الشياطين ، وسكنت فيه ، تنزل على قلب كل أفاك أثيم ، خارب من النور ، محشو بالوسواس والخواطر ، يلقون السمع إلى هرج الدنيا وأخبارها ، وهو سبب فتنتها ؛ فإن القلب إذا غاب عن أخبار الدنيا وأهلها ، سكن فيه النور وتأنّس بالله ، وإذا سكن إلى أخبار الدنيا وأهلها سكنت فيه الظلمة ، وتأنس بالخلق ، وغاب عن الحق. ولذلك قيل : ينبغى للمؤمن أن يكون كالفكرون ؛ إذا كان وحده انبسط ، وإذا رأى أحدا أدخل رأسه معه. وأكثر ما يسمع من هرج الدنيا كذب ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) ، ومن جملة ما يفسد القلب : تولهه بالشعر ، وفى الحديث : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» (٢). أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا من كان شعره فى توحيد الله ، أو فى الطريق ، كالزهد فى الدنيا ، والترهيب من الركون إليها ، والزجر عن الاغترار بزخارفها الغرارة ، والافتنان بملاذها الفانية ، وغير ذلك ، أو فى مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشايخ الموصلين إليه تعالى ، بشرط أن يكون الغالب عليه ذكر الله.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الصلاة ، باب الشعر فى المسجد ح ٤٥٣) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضائل حسان ٤ / ١٩٣٢ ـ ١٩٣٣ ح ٢٤٨٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله ، والعلم ، والقرآن ح ٦١٥٥) ، ومسلم فى (كتاب الشعر ، ٤ / ١٧٦٩ ، ح ٢٢٥٧) ، من حديث أبى هريرة.

١٧١

وقوله تعالى : (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، أي : جاروا على نفوسهم بعد ما جارت عليهم ، وقهروها بعد ما قهرتهم. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) قال ابن عطاء : سيعلم المعرض عنا ما فاته منا. ه. وفى الحكم : «ماذا فقد من وجدك ، وما الذي وجد من فقدك؟ لقد خاب من رضى دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلا ، كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان ، أم كيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟» (١) وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

__________________

(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (المناجاة / ٤٢).

١٧٢

سورة النّمل

مكية. وهى ثلاث وتسعون آية. وقيل : أقل. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) إلى ما قرره من نفى تنزل الشياطين به ، مع ما افتتح به السورة ، من الإشارة إليه بقوله : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ). ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه ، على عادته ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

يقول الحق جل جلاله : (طس) أي : يا طاهر يا سيد. قال ابن عباس : «هو اسم من أسماء الله تعالى» (٢) ، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين. قلت : ولعلها مختصرة من اسمه «اللطيف والسميع». وقيل : إشارة إلى طهارة سر حبيبه. (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) ، الإشارة إلى نفس السورة ، وما فى معنى الإشارة من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإيذان ببعد منزلته فى الفضل والشرف ، أي : تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هى آيات القرآن ، المعروف بعلو الشأن. (وَ) آيات (كِتابٍ) عظيم الشأن (مُبِينٍ) ؛ مظهر بما فى تضاعيفه من الحكم ، والأحكام ، وأحوال الآخرة ، أو : مبين : مفرق بين الرشد والغى ، والحلال والحرام ، أو : ظاهر الإعجاز ، على أنه من : أبان ، بمعنى بان ، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى ، نحو : هذا فعل السخي والجواد.

ونكّر الكتاب ليكون أفخم له. وقيل : إنما نكّر الكتاب وعرّفه فى الحجر (٣) ، وعرّف القرآن ونكره فى الحجر ؛ لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصفان له ؛ لأنه يقرأ ويكتب ، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم ، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف. قاله النسفي.

__________________

(١) الآية ١٩٢ من سورة الشعراء.

(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ١٤٣).

(٣) فى قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الآية الأولى.

١٧٣

وما قيل من أن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وإبانته أنه خطّ فيه ما هو كائن ، لا يساعده إضافة الآيات إليه. والوصف بالهداية والبشارة فى قوله : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين ، فهما منصوبان على الحال ، من الآيات ، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل ؛ للمبالغة ، كأنهما نفس الهداية والبشارة ، والعامل فيها ما فى «تلك» من معنى الإشارة ، أو : خبر ، أي : هى هدى وبشرى للمؤمنين خاصة ؛ إذ لا هداية لغيرهم بها.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ؛ يديمون على إقامة فرائضها وسننها ، ويحافظون على خشوعها وإتقانها ، (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : يؤدون زكاة أموالهم ، (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) حق الإيقان. إما من جملة الموصول ، وإما استئناف ، كأنه قيل : هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان ، لا من عداهم ؛ لأن من تحمل مشاق العبادات ، إنما يكون لخوف العقاب ، ورجاء الثواب ، أولا ، ثم عبودية آخرا ، لمن كمل إخلاصه.

ثم ذكر ضدهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : لا يصدّقون بها ، وبما فيها من الثواب والعقاب ، (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة ، حيث جعلناها مشتهية للطبع ، محبوبة للنفس ، حتى رأوها حسنة ، كقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (١) ، (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) ؛ يترددون فى ضلالتهم. كما يكون حال الضال عن الطريق. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر ، (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ؛ أشدّ الناس خسرانا ؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس ، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة ، فخسروا ذلك مع خسران ثواب الله والنظر إليه. عائذا بالله من جميع ذلك.

الإشارة : طس : طهر سرك أيها الإنسان ، لتكون من أهل العيان ، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار ، وحينئذ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين ، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين. فإنّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه ، كما فى الخبر (٢). ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ..) إلخ ، قال القشيري : أغشيناهم فهم لا يبصرون ، وعمّينا عليهم المسالك ، فهم عن الطريقة المثلى يصدون. أولئك الذين فى ضلالتهم يعمهون ، وفى حيرتهم يترددون. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المبتلى (٣) ، ولو وجدوه تحمل عنهم ثقله ، بخلاف المؤمنين. ه.

__________________

(١) من الآية ٨ من سورة فاطر.

(٢) جاء ذلك فيما أخرجه الحاكم ، وصححه ، ووافقه الذهبي (١ / ٥٥٢) عن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه ، غير أنه لا يوحى إليه ..» الحديث.

(٣) فى القشيري : يجد الآلام ولا يجد التسلّى.

١٧٤

ثم ذكر الحق تعالى كيفية نزول القرآن ، الذي تقدم ذكره ، فقال :

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

قلت : (تلقّى) : مبنى للمفعول. والفاعل هو الله ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، من قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ). و (لقى) : يتعدى إلى واحد ، وبالتضعيف إلى اثنين. وكأنه كان غائبا فلقيه ، فالمفعول الأول صار نائبا. و «القرآن» : مفعول ثان ، أي : وإنك ليلقيك الله القرآن.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي : من عند أىّ حكيم وأىّ عليم ، فالتنكير للتفخيم. وفى تفخيمه تفخيم لشأن القرآن. وتنصيص على علو طبقته ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى معرفته ، والإحاطة بما فيه من العلوم والحكم والأسرار ، فإن من تلقى العلوم والحكم من الحكيم العليم يكون علما فى إتقان العلوم والحكم. والجمع بينهما مع دخول العلم فى الحكمة ؛ لعموم العلم ، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل ، والإشعار بأن ما فى القرآن من العلوم ، منها ما هو حكمة ، كالعقائد والشرائع ، ومنها ما ليس كذلك ، كالقصص والأخبار الغيبية. قاله أبو السعود.

قال ابن عطية : فى الآية رد على كفار قريش فى قولهم : القرآن من تلقاء محمد. وقال القرطبي : الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما فى ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه ، ومن آثار ذلك : قصة موسى إذ (قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ ...) إلخ. ه.

الإشارة : قال أبو بكر بن طاهر : وإنك لتلقّى القرآن من الحق حقيقية ، وإن كنت تأخذه فى الظاهر عن واسطة جبريل عليه‌السلام. قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (١) ه. قلت : العارفون بالله لا يسمعون القرآن إلا من لدن حكيم عليم ، بلا واسطة ، الواسطة محذوفة فى نظرهم ، فهم يسمعون من الله إلى الله ، ويقرأون بالله على الله ، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ، ومن الله أسمع. ومما يحقق لك حذف الواسطة : قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (٢) وسمعت شيخى البوزيدى رضي الله عنه ، يقول : لا يكون الإنسان من الراسخين فى العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه ، أي : يقرأ بالله ويسمعه من الله. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآيتان : ١ ـ ٢ من سورة الرحمن.

(٢) الآية ٢٨ من سورة القيامة.

١٧٥

ثم شرع فى قصص الأنبياء ، تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) ؛ زوجته ومن معه ، عند مسيره من مدين إلى مصر : (إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت (ناراً ، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) عن حال الطريق التي ضل عنها. والسين للدلالة على نوع بعد فى المسافة ، وتأكيد الوعد. (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ) (١) (قَبَسٍ) أي : شعلة نار مقبوسة ، أي : مأخوذة. ومن نوّن فبدل ، أو صفة ، وعلى القراءتين فالمراد : تعيين المقصود الذي هو القبس ، الجامع لمنفعتى الضياء والاصطلاء ؛ لأن من النار ما ليس بقبس ، كالجمرة. وكلتا العدتين منه عليه‌السلام بطريق الظن ، كما يفصح عن ذلك ما فى سورة طه ، من صيغتى الترجي والترديد (٢) ؛ لأن الراجي إذا قوى رجاؤه يقول : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه التخلف. وأتى بأو ؛ لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا لم يعدم واحدة منهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى ، وهى عزّ الدنيا والآخرة.

واختلاف الألفاظ فى هاتين السورتين ، والقصة واحدة ، دليل على نقل الحديث بالمعنى ، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج. قاله النسفي.

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ؛ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم.

(فَلَمَّا جاءَها) أي : النار التي أبصرها (نُودِيَ) من جانب الطور (أَنْ بُورِكَ) ، على أنّ «أن» مفسرة ؛ لما فى النداء من معنى القول. أو : بأن بورك ، على أنها مصدرية ، وقيل : مخففة ، ولا ضرر فى فقدان الفصل ب «لا» ،

__________________

(١) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف (بشهاب) بالتدوين ، على القطع عن الإضافة ، و «قبس» بدل منه ، أو : صفة له ، بمعنى مقتبس ، أو مقبوس. وقرأ الباقون بغير تنوين ، لبيان النوع. أي من قبس ، كخاتم فضة. انظر الإتحاف (٢ / ٣٢٣).

(٢) فى قوله تعالى : (.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) الآية ١٠ من سورة طه.

١٧٦

أو قد ، أو السين ، أو سوف ؛ لأن الدعاء يخالف غيره فى كثير من الأحكام ، أي : أنه ، أي : الأمر والشأن (بُورِكَ) أي : قدّس ، أو : جعل فيه البركة والخير ، (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي : من فى مكان النار ، وهم الملائكة ، (وَمَنْ حَوْلَها) أي : موسى عليه‌السلام ، بإنزال الوحى عليه ، الذي فيه خير الدنيا والآخرة.

وقال ابن عباس والحسن : (بورك من فى النار أي : قدّس من فى النار ، وهو الله تعالى) (١) أي : نوره وسره ، الذي قامت به الأشياء ، من باب قيام المعاني بالأوانى ، أو : من قيام أسرار الذات بالأشياء ، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها ، ثم نزّه ـ سبحانه ـ ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد ، فقال : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي : تنزيها له عن الحلول فى شىء ، وهو (رَبِّ الْعالَمِينَ).

ثم فسر نداءه ، فقال : (يا مُوسى إِنَّهُ) أي : الأمر والشأن (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أو : إنه ، أي : مكلمك ، الله العزيز الحكيم ، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات. (وَأَلْقِ عَصاكَ) لتعلم معجزتها ، فتأنس بها ، وهو عطف على (بورك) أي : نودى أن بورك وأن ألق عصاك. والمعنى : قيل له : بورك من فى النار ، وقيل له : ألق عصاك ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) ؛ تتحرك يمينا وشمالا ، (كَأَنَّها جَانٌ) ؛ حية صغيرة (وَلَّى) موسى (مُدْبِراً) أي : أدبر عنها ، وجعلها تلى ظهره ، خوفا من وثوب الحية عليه ، (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ؛ لم يرجع على عقبيه ، من : عقّب المقاتل : إذا كرّ بعد الفر. والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعى ، لا يتخلف ، وليس فى طوق البشر.

قال له تعالى : (يا مُوسى لا تَخَفْ) من غيرى ، ثقة بي ، أو : لا تخف مطلقا (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي : لا يخاف المرسلون عند خطابى إياهم ، فإنهم مستغرقون فى شهود الحق ، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره. وأما فى غير أحوال الوحى ؛ فهم أشد الناس خوفا منه سبحانه ، أو : لا يخافون من غيرى ، لأنهم لدىّ فى حفظى ورعايتى. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) أي : لكن من ظلم من غيرهم ؛ لأن الأنبياء لا يظلمون قط ، فهو استثناء منقطع ، استدرك به ما عسى يختلج فى العقل ، من نفى الخوف عن كلهم ، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كما فرط من آدم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ـ عليهم‌السلام ـ فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى ـ عليه‌السلام ـ من وكزه القبطىّ. وسماها ظلما ، كقوله عليه‌السلام فى سورة القصص : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٩ / ١٣٣).

(٢) من الآية ١٦ من سورة القصص.

١٧٧

قال فى الحاشية الفاسية : والظاهر فى الاستثناء كونه متصلا ، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة ، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم ، كما اتفق لموسى فى مدافعة القبطي عن الإسرائيلى ، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموما ، ولكن لمّا لم يؤذن له خصوصا عد ذلك ظلما وذنبا. وأما ما سرى من القتل فلم يقصده ، وإنما اتفق من غير قصد. ه.

قوله : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي : أتبع زلته حسنة محلها ، كالتوبة وشبهها ، (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أقبل توبته ، وأغفر حوبته ، وأرحمه ، فأحقق أمنيّة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : تقدم بعض إشارة الآية فى سورة طه (١). وقوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ...) تقدم قول ابن عباس وغيره : أن المراد بمن فى النار : نور الحق تعالى. قال بعض العلماء : كانت النار نوره تعالى ، وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. ه. ومنه حديث : «حجابه النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شىء أدركه بصره» (٢) ، أي : حجابه النور الذي تجلى به فى مظاهر خلقه ، فالأوانى حجب للمعانى ، والمعاني هى أنوار الملكوت ، الساترة لأسرار الجبروت ، السارية فى الأشياء.

وقال سعيد بن جبير : (هى النار بعينها) (٣) ، وهى إحدى حجب الله تعالى. ثم استدل بالحديث : «حجابه النار» ومعنى كلامه : أن الله تعالى احتجت فى مظاهر تجلياته ، وهى كثيرة ، ومن جملتها النار ، فهى إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها ، وإليه أشار ابن وفا بقوله :

هو النور المحيط بكل كون

ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء فى الذات ، العارفون بالله ، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وإلا وقع الإنكار على أولياء الله بالجهل ، والعياذ بالله.

__________________

(١) راجع المجلد الثالث ، ص / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٢) بعض حديث رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينام» ، ١ / ١٦١ ، ح ١٧٩) ، وأحمد فى المسند (٤ / ٤١٠) بلفظ «حجابه النار ، وجاء فى رواية عند مسلم ، فى الموضع السابق ، وأحمد فى المسند (٤ / ٤٠٥) وابن ماجه فى (المقدمة ، باب فى ما أنكرت الجهمية ١ / ٧٠ ـ ٧١ ح ١٩٥ ـ ١٩٦) بلفظ «حجابه النور» (انظر شرح الحديث فى مسلم بشرح النووي ٣ / ١٤ ـ ١٦)

(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ١٤٥).

١٧٨

ثم ذكر معجزة اليد ، فقال :

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ) يا موسى (فِي جَيْبِكَ) ؛ فى جيب قميصك. والجيب : الفتح فى الثوب لرأس الإنسان. قال الثعلبي : إنما أمره بذلك ؛ لأنه كان عليه مدرعة صوف ، لا كم لها. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ؛ من غير آفة ، كبرص ونحوه ، (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي : هاتان الآيتان فى جملة تسع آيات ، وهى الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمس ، والجدب فى بواديهم ، والنقصان فى مزارعهم. ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الأخيرين واحدا ، ولم يعد الفلق ؛ لأنه لم يبعث به إلى فرعون. وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف ، أي : مرسلا ، أو : ذاهبا إلى فرعون (وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ؛ خارجين عن أمر الله ، كافرين به.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) ؛ معجزاتنا ، وظهرت على يد موسى ، حال كونها (مُبْصِرَةً) ؛ بيّنة واضحة ، وهى اسم فاعل ، أطلق على المفعول ، إشعارا بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها ؛ مبالغة فى وضوحها ، وإلا فهى مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها. أو : ذات تبصر ؛ لأنها تهدى من يتبصر بها. فلما جاءتهم (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح سحريته.

(وَجَحَدُوا بِها) أي : كذّبوا بها (وَ) قد (اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي : علمتها علما يقينا ، فالاستيقان : أبلغ من الإيقان. يعنى : أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها فى قلوبهم. (ظُلْماً) : حال من ضمير (جحدوا) أي : ظالمين فى ذلك ، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند الله ، وسماها سحرا بيّنا ، (وَعُلُوًّا) ؛ تكبرا وترفعا عن الإيمان بموسى عليه‌السلام ، وهو أيضا حال ، أو : علة ، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وهو الإغراق فى الدنيا ، والإحراق فى الآخرة. نسأل الله العافية.

الإشارة : وأدخل يد فكرتك فى جيب قلبك ، تخرج بيضاء شعشعانية ، يستولى شعاعها على وجود بشريتك ، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني ، ثم يستولى على الوجود بأسره ، فيصير كله نورا ملكوتيا جبروتيا ، متصلا

١٧٩

بالنور الأعظم ، والبحر الطام ، بعد قطع مقامات التوبة ، والتقوى ، والاستقامة ، والإخلاص ، والصدق ، والطمأنينة ، والمراقبة والمحبة ، والمشاهدة ، فيكون حينئذ آية مبصرة واضحة ، من آيات الله ، يدلّ على الله ، ويدعوا إليه على بصيرة منه. فمن جحدها انخرط فى سلك من قال تعالى فى حقه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ...) الآية.

ثم ذكر قصة داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي : أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما ، كصنعة الدروع ، ومنطق الطير. أو : علما لدنيا. (وَقالا) أي : كل واحد منهما ، شكرا لما أوتيه من العلم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بما آتانا من العلم (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ). قال النسفي : وهنا محذوف ، ليصلح عطف الواو عليه ، ولو لا تقدير المحذوف لكان الوجه : الفاء ، كقولك : أعطيته فشكر ، وتقديره : آتيناهما علما ، فعملا به ، وعرفنا حق النعمة فيه ، وقالا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ). والكثير المفضّل عليه : من لم يؤت علما ، أو : من لم يؤت مثل علمهما. وفيه : أنهما فضلا على كثير ، وفضل عليهما كثير.

وفى الآية دليل على شرف العلم ، وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم فى الشرف والمنزلة ؛ لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها : أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه ، وأن يعتقد العالم أنه إذا فضّل على كثير فقد فضّل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر رضي الله عنه : (كلّ الناس أفقه من عمر). ه.

والعلماء على قسمين : علماء بالله وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به ، أهل الشهود والعيان. وهم أهل علم الباطن ، أعنى : علم القلوب ، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن ؛ لأن علم أهل الظاهر جله ظنى ،

١٨٠