البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية ، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم ، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.

ثم ذكر دلائل قدرته على البعث ، وما ينشأ بعد ذلك ، بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ، الرؤية هنا قلبية ، أي : ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : يبصروا ، بما فيه من الإضاءة ، طرق التقلب فى أمور المعاش. وبولغ فيه ، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس ، حالا له ، ووصفا من أوصافه ، بحيث لا ينفك عنها ، ولم يسلك فى الليل هذا المسلك ؛ لأن تأثير ظلام الليل فى السكون ليس بمثابة تأثير النهار فى الإبصار. قاله أبو السعود .. قلت : وقد جعله كذلك فى قوله : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (١) فانظره.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) كثيرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ؛ يصدّقون ، فيعتبرون ، فإنّ من تأمل فى تعاقب الليل والنهار ، واختلافهما على وجوه بديعة ، مبنية على حكم رائقة ، تحار فى فهمها العقول ، وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل ، المحاكية للموت ، بضياء النهار ، المضاهي للحياة ، وعاين فى نفسه غلبة النوم ، الذي هو يضاهى الموت ، وانتباهه منه ، الذي هو يضاهى البعث ، قضى بأن الساعة آتيه لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من فى القبور.

قال لقمان لابنه : يا بنى إن كنت تشك فى الموت فلا تنم ، فكما أنك تنام قهرا ؛ كذلك تموت ، وإن كنت تشك فى البعث فلا تنتبه ، فكما أنك تنتبه بعد نومك ؛ كذلك تبعث بعد موتك ه. وبالله التوفيق.

الإشارة : يوم نحشر من كل أمة فوجا ينكر على أهل الخصوصية ، ممن يكذب بآياتنا ، وهم العارفون بنا ، الدالون علينا ، المعرّفون بنا ، فهم يوزعون : يجمعون للعتاب ، حتى إذا جاءوا إلينا بقلب سقيم ، قال : أكذّبتم بأوليائى ، الدالين على حضرتى ، بعد التطهير والتهذيب ، ولم تحيطوا بهم علما ، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه ، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب ، فهم لا ينطقون ، ولا يجدون اعتذارا يقبل منهم. ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه ، ويبعثون على ما ماتوا عليه ، فهلّا صحبوا أهل اليقين الكبير ، ـ وهو عين اليقين أو حق اليقين ، المستفاد من شهود الذات الأقدس ـ فيكتسبوا منهم اليقين ، حتى يموتوا على اليقين ويبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من الآية ٩٦ من سورة الأنعام. وقد سار المفسر على قراءة «جاعل».

٢٢١

ثم ذكر النفخ فى الصور ، وما يكون بعده من الأهوال ، فقال :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض ، خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرش ، حتى يؤمر ، قال : قلت : كيف هو؟ قال : عظيم ، والذي نفسى بيده إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض» وفى حديث آخر : «فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، فيؤمر بالنفخ فيه ، فينفخ نفخة ، لا يبقى عندها فى الحياة أحد ، غير من شاء الله تعالى ؛ وذلك قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (١) ، ثم يؤمر بأخرى ، فينفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعث». وفى رواية : «فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، وتأتى كل روح إلى جسدها ، كما تأتى النحل إلى وكرها. وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢).

قال أبو السعود : والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ هاهنا : النفخة الثانية ، وفى الفزع فى قوله تعالى : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ما يعترى الكل عند البعث والنشور ، بمشاهدة الأمور الهائلة ، الخارقة للعادات فى الأنفس والآفاق ، من الرعب والتهيب ، الضروريين ، الجبلين فى كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعا ؛ للدلالة على تحقق وقوعه. ه. وظاهره أن النفخ مرتان فقط ، واعتمده القرطبي وغيره ، وصحح ابن عطية أنها ثلاث ، وروى ذلك عن أبى هريرة : نفخة الفزع ؛ وهى فزع حياة الدنيا ، وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور.

__________________

(١ ، ٢) من الآية ٦٨ من سورة الزمر.

٢٢٢

وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي : ألا يفزع ، وهو من ثبّت الله قلبه ، فإن قلنا : المراد بها النفخة الثانية ، فالمستثنى : هم من سبقت لهم الحسنى ، بدليل قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١) وإن قلنا : هى نفخة الصعق ، فالمستثنى : قيل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل : الحور وحملة العرش ، وإن قلنا : المراد نفخة الفزع فى الدنيا ، فالمستثنى : أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.

ثم قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) (٢) بصيغة الماضي ، أي : وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه فى موقف الحساب ، بين يدى الله جل جلاله ، والسؤال والجواب. أو : وكل حاضروه ، على قراءة اسم الفاعل ، وأصله : آتيوه ، حال كونهم (داخِرِينَ) : صاغرين أذلاء.

(وَتَرَى الْجِبالَ) حال الدنيا (تَحْسَبُها جامِدَةً) ؛ واقفة ممسّكّة عن الحركة ، من : جمد فى مكانه : إذا لم يبرح. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي : مرا مثل مر السحاب ، التي تسيرها الرياح ، سيرا حثيثا ، والمعنى : أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة فى مكان واحد ؛ لعظمها ، وهى تسير سيرا سريعا ، كالسحاب إذا ضربته الرياح ، وهكذا الأجرام العظام ، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك : الشمس ؛ لعظم جرمها وبعدها لا تتبين حركتها ، مع كونها أسرع من الريح.

والذي فى حديث أبى هريرة : أنّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق. ونص الحديث ـ بعد كلام تقدم : «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فيأمره فيمدها ـ أي : النفخة ـ ويطيلها ، فيسير الله الجبال ، فتمر مر السحاب ، فتكون سرابا ، وترتج الأرض بأهلها رجا ، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج ، وتقلبها الرياح ، وهو قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٣) الآية ، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين ، هاربة من الفزع ، حتى تأتى الأقطار هاربة ، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها ، فترجع ، ويولى الناس مدبرين ، ينادى بعضهم بعضا ، وهو قوله : (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ..) الآية (٤) فبينما هم كذلك ؛ إذ تصدعت الأرض ، من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما ، لم يروا مثله. ثم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والأموات يومئذ لا يعلمون بشىء من ذلك». قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع؟ قال : «أولئك الشهداء».

__________________

(١) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء.

(٢) قرأ حفص ، وحمزة ، وخلف : «أتوه» بقصر الهمزة ، وفتح التاء ، فعلا ماضيا ، وقرأ الباقون بالمد وضم التاء «آتوه» اسم فاعل ، مضافا للضمير .. انظر الإتحاف (٢ / ٣٣٥).

(٣) الآية السادسة من سورة النازعات.

(٤) من الآية ٣٣ من سورة غافر.

٢٢٣

قلت : ومثلهم الأنبياء والأولياء ؛ إذ هم أعظم منهم ، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام : «وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه». وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (١) فيمكثون طويلا ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من فى السموات ، ومن فى الأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا فى البرزخ ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول : قد مات أهل السموات والأرض ، إلا من شئت ، فيقول الله تعالى ، وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت الحي القيوم ، الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وإسرافيل ، وبقيت أنا ، فيقول تعالى : فليمت جبريل وميكائيل ، فينطق الله العرش ، فيقول : أىّ رب يموت جبريل ، وميكائيل! فيقول : اسكت ، إنى كتبت الموت على كل من تحت عرشى ، فيموتان. ثم يأتى ملك الموت الجبار ، فيقول : أي رب قد مات جبريل وميكائيل ، فيقول ـ وهو أعلم : من بقي؟ بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي إسرافيل ، وبقيت أنا. فيقول : ليمت حملة العرش ، فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يقول : ليمت إسرافيل ، فيموت ، ثم يأتى ملك الموت فيقول : يا رب ؛ قد مات حملة عرشك ، فيقول ، وهو أعلم : من بقي؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا ، فيقول : أنت خلق من خلقى ، خلقتك لما رأيت ، فمت ، فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، فكان آخرا ، كما كان أولا ، طوى السماء طى السجل للكتاب ، فيقول : أنا الجبار ، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يقول تعالى : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ثم تبدل الأرض غير الأرض ، والسموات يبسطها بسطا ، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

ثم قال : ثم ينزل ماء من تحت العرش ، كمنى الرجل ، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوما ، حتى يكون فوقهم اثنى عشر ذراعا ، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم ، كما كانت ، قال الله تعالى : ليحيى حملة العرش ، فيحيون ، ثم يقول الله تعالى : ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فيحيون ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعو الله تعالى الأرواح ، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نورا ، والأخرى ظلمة ، فيقبضها ، ثم يلقيها فى الصور ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، وقد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول تعالى : لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح الخياشيم ، ثم تمشى فى الأجساد ، مشى السم فى اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعا ، فأنا أول من

__________________

(١) الآيتان : ١ ـ ٢ من سورة الحج

٢٢٤

تنشق عنه ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون ، عراة ، حفاة ، غرلا ، مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافر : هذا يوم عسير. نقله الثعلبي (١).

ثم قال تعالى : (صُنْعَ اللهِ) ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : صنع الله ذلك صنعا ، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ فى الصور ، وما ترتب عليه جميعا. قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل ، وتهويل أمرها ، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم ، وإفساد أحوال الكائنات ، من غير أن تدعو إليه داعية ، بل هى من بدائع صنع الله تعالى ، المبنية على أساس الحكمة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع ، على الوجه المتين ، والنهج الرصين ، كما يعرب عنه قوله : (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : أحكم خلقه وسوّاه ، على ما تقتضيه الحكمة.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) : تعليل لكون ما ذكر صنعا محكما له تعالى ؛ لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها ، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها ، على ما هى عليه من الحسن والسوء ، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم.

وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها ، أي : من جاء من أولئك الذين أوتوه بالحسنة فله خير منها ، باعتبار أنه أضعفها بعشر ، أو : باعتبار دوامه وانقضائها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «الحسنة : كلمة الشهادة» (٢) (وَهُمْ) أي : الذين جاءوا بالحسنات (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) أي : من فزع هائل ، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب ، بعد تمام المحاسبة ، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد فى قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (٣).

وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادى : يا أهل الجنة ؛ خلود لا موت ، ويا أهل النار ؛ خلود لا موت. فيكون هؤلاء (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) ، أي : يوم إذ ينفخ فى الصور وما بعده (آمِنُونَ) لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ، ولا يلحقهم ضرره أصلا. وأما الفزع الذي يعترى كل من السموات ومن فى الأرض ، غير ما استثناه الله تعالى ، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل فى ابتداء النفخة ، من معاينة فنون الدواهي والأهوال ، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة ، وإن كان آمنا من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ١٨٢).

(٢) انظر تفسير الطبري (٢٠ / ٢٢).

(٣) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء.

٢٢٥

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قيل : هو الشرك. (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، أي : كبوا فيها على وجوههم منكوسين. ويقال لهم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الشرك والمعاصي. والله تعالى أعلم.

الإشارة : من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول ، فليكن قلبه معمورا بالله ، ليس فيه غير مولاه ، ولا مقصود له فى الدارين إلا الله ، وظاهره معمورا بطاعة الله ، متمسكا بسنة رسول الله ، هواه تابع لما جاء به من عند الله ، لا شهوة له إلا ما يقضى عليه مولاه ، فبهذا ينخرط فى سلك أولياء الله ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين سبقت لهم الحسنى ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا الله من خواصهم ، بمنّه وكرمه ، آمين.

وقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ...) الآية. كذلك قلوب الراسخين فى العلم بالله ، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية ، بل تهزهم فى الباطن ، وظواهرهم ساكنة ، كالجبال الراسية ، قيل للجنيد : قد كنت تتواجد عند السماع ، والآن لا يتحرك فيك شىء؟ فتلى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ).

وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي : بالخصلة الحسنة ، وهى المعرفة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) وهو دوام النظرة والحبرة ، فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) هى الجهل بالله ، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ بالله.

ولما بلّغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمره الله من بيان عواقب الأمور ، تبرأ منهم ، فقال :

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

يقول الحق جل جلاله : قل لكفار قريش ، بعد تبيين أحوال المبعث ، وشرح أحوال القيامة ، بما لا مزيد عليه : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي : مكة ، أي : إنما أمرنى ربى أن أعبده ، واستغرق أوقاتى فى مراقبته ومشاهدته ، غير مبال بكم ، ضللتم أم رشدتم ، وما علىّ إلا البلاغ ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة

٢٢٦

بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها ، (الَّذِي حَرَّمَها) أي : جعلها حرما آمنا ، يأمن الملتجأ إليها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يعضد شوكها ، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف ، وتعظيم إثر تعظيم ، مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها ، وأنهم مكلّفون بذلك ، كما فى قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (١). ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ، ألا يرى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها ، ويلحد فيها بإثم ، قد استمروا فيها على تعاطى أفجر الفجور ، وأشنع الإلحاد ، حيث تركوا عبادة ربها ، ونصبوا الأوثان ، وعكفوا على عبادتها ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون. قاله أبو السعود.

ثم قال تعالى : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا ، من غير أن يشاركه أحد فى شىء من ذلك ، تحقيقا للحق ، وتنبيها على أن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف ، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين له ، الثابتين على ما كنا عليه ، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوههم له تعالى ، وانقادوا إليه بالكلية.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي : أواظب على تلاوته ، لتنكشف حقائقه الرائقة ، المخزونة فى تضاغيفه ، شيئا فشيئا. أو : على تلاوته على الناس ؛ بطريق تكرير الدعوة ، وتثنية الإرشاد ، فيكون ذلك تنبيها على كفايته فى الهداية والإرشاد ، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي : فمن اهتدى بالإيمان به ، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ، فإنما منافع هدايته عائدة إليه ، لا إلى غيره. (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر به ، والإعراض عن العمل بما فيه (فَقُلْ) فى حقه : (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وقد خرجت من عهدة الإنذار ، فليس علىّ من وبال ضلالته شىء. قال الصفاقسى : جواب «من» : محذوف ، يدل عليه ما قبله ، أي : فوبال ضلاله عليه ، أو : يكون الجواب : «فقل» ، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط ؛ لأنه اسم غير ظرف ، أي : من المنذرين له. ه.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أفاض علىّ من نعمائه ، التي أجلها نعمة النبوة ، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ، ووفقني لتحمل أعبائها ، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى ، بالآيات البينة والبراهين النيرة ، (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) قطعا فى الدنيا ، التي وعدكم بها ، كخروج الدابة وسائر الأشراط ، (فَتَعْرِفُونَها) أي : فتعرفون أنها آيات

__________________

(١) الآيتان : ٣ ـ ٤ من سورة قريش.

٢٢٧

الله ، حين لا تنفعكم المعرفة ، أو : سيضطركم إلى معرفة آياته ، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، بل محيط بعمل المهتدى والضال ، غير غافل ، فيجازى كلا بما يستحقه.

وتخصيص الخطاب أولا به ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا ، أي : وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم ـ أيها الكفرة ـ من السيئات ، فيجازى كلا بعمله. ومن قرأ بالغيب (١) فهو وعيد محض ، أي : وما ربك بغافل عن أعمالهم ، فسيعذبهم البتة ، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم ، بل يمهل ولا يهمل. والله تعالى أعلم.

الإشارة : إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره ، أو : العالم من تدريسه وتعليمه ، أقبل على عبادة ربه ، إما عبادة الجوارح الظاهرة ، من صلاة وذكر وتلاوة ، أو عبادة القلوب ، كتفكر واعتبار ، أو استخراج علوم وحكم ودرر. وإما عبادة الأرواح ، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال ، فمن اهتدى إليها فلنفسه ، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد لله رب العالمين ـ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

__________________

(١) قرأ حفص ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب (تعملون) بتاء الخطاب. وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢ / ٣٣٧).

٢٢٨

سورة القصص

مكية ؛ إلا قوله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ..) الآية (١). وهى ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) (٢) ، مع قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) ؛ فإنه عين القرآن المتلو. وقيل : وجه المناسبة : قوله : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) (٣) ، مع قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ؛ فإن تنزيل الكتاب من أعظم الآيات. وافتتح بالرموز التي يستعملها بينه وبين حبيبه ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣))

يقول الحق جل جلاله : (طسم) ، إما مختصرة من أسماء الله تعالى ، أقسم على حقّية كتابه ، وما يتلى فيه ، كأنها مختصرة من طهارته ـ أي : تنزيهه ـ وسيادته ، ومجده ، أو : من أسماء رسوله ـ وهو الأظهر ـ أي : أيها الطاهر السيد المجيد (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) ، إما من بان ، أو : أبان ، أي : بيّن خيره وبركته ، أو : مبين للحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، والإخلاص والتوحيد ، (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي : بعض خبرهما العجيب. قال القشيري : كرّر الحقّ قصة موسى ؛ تعجيبا بشأنه ، وتعظيما لأمره ، ثم زيادة فى البيان لبلاغة القرآن ، ثم أفاد زوائد من الذكر فى كل موضع يكرره. ه.

هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين ، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين ، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعد جميل له ولأمته. وقوله : (بِالْحَقِ) : حال من فاعل (نَتْلُوا) ، أو : من مفعوله ، أو : صفة لمصدر محذوف ، أي : ملتبسين ، أو : ملتبسا بالحق ، أو : تلاوة ملتبسة بالحق. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ؛ لمن سبق فى علمنا أنه يؤمن ؛ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم ، فهو متعلق بنتلوا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : تقديم هذه الرموز ، قبل سرد القصص ، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره ، ويلقى سمعه ، وهو شهيد ، فحينئذ يكون طاهرا سيدا مجيدا ، ينتفع بكل شىء ، ويزيد إلى الله بكل شىء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي ؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآية ٨ ونزلت بالجحفة بين مكة والمدينة. انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣).

(٢) الآية ٩٢ من سورة النمل.

(٣) من الآية الأخيرة من سورة النمل.

٢٢٩

ثم شرع فى بيان شأنهما ، فقال :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) ، وهو استئناف بيانى ، وكأن قائلا قال : وكيف كان نبأهما؟ فقال : إنه علا فى الأرض ، أي : تجبّر وطغى فى أرض مصر ، وجاوز الحد فى الظلم والعدوان. أو : علا عن عبادة ربه ، وافتخر بنفسه ، ونسى العبودية. وفى التعبير بالأرض تبكيت عليه ، أي : علا فى محل التذلل والانخفاض ، (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : فرقا وأصنافا فى الخدمة والتسخير ، كلّ قوم من بنى إسرائيل فى شغل مفرد. وقيل : ملك القبط واستعبد بنى إسرائيل. أو : فرقا مختلفة ، يكرم طائفة ويهين أخرى ، فأكرم القبط ، وأهان بنى إسرائيل. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل ، وهو يرشد إلى كون المراد بقوله : (وَجَعَلَ أَهْلَها) لا يخصّ ببني إسرائيل. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) الذكور ، (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي : البنات ، يتركهم لخدمته.

وسبب ذبحه للأبناء أن كاهنا قال له : يولد مولود فى بنى إسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، وفيه دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ؛ إذ لا ينفع حذر من قدر ، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة : (يَسْتَضْعِفُ) : حال من الضمير فى (جَعَلَ) ، أو صفة لشيع ، أو استئناف. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، أي : الراسخين فى الإفساد ، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة ، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي : نتفضل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) ، أو : حال من (يَسْتَضْعِفُ) ، أي : يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم ، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة ، فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم ، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي : قادة يقتدى بهم فى الخير ، أو : دعاة إلى الخير ، أو : ولاة وملوكا ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) أي : يرثون فرعون وقومه ، ملكهم وكل ما كان لهم.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ أرض مصر والشام ، يتصرفون فيها كيف شاءوا ، وتكون تحت ملكهم وسلطانهم. وأصل التمكن : أن يجعل له مكانا يقعد عليه ، ثم استعير للتسليط والتصرف فى الأمر. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ

٢٣٠

وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) ؛ من بنى إسرائيل ، (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ؛ يخافون من ذهاب ملكهم ، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر : التوقي من الضرر. ومن قرأ (يرى) ؛ بالياء (١) ، ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.

الإشارة : العلو فى الأرض يورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان ، والعيش فى العافية والأمان ؛ من تواضع رفعه الله ، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله فى خلقه ، بقدر ما يذلّ فى جانب الله يعزه الله ، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله ، وبقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.

ثم ذكر أول نشأة موسى عليه‌السلام وما جرى فى تربيته ، فقال :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) ؛ بالإلهام ، أو بالرؤيا ، أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة ، فلا يلزم أن تكون رسولا ، واسمها : يوحانة ، وقيل : يوخابذ بنت يصهر بن لاوى بن يعقوب. وقيل : يارخا. ذكره فى الإتقان. وقلنا : (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ؛ «أن» : مفسرة ، أي : أرضعيه ، أو : مصدرية ، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه ، (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من القتل (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ). البحر ، وهو نيل مصر ، (وَلا تَخافِي) عليه من الغرق والضياع ، (وَلا تَحْزَنِي) لفراقه ، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بوجه لطيف ؛ لتربيه ، (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). وفى هذه الآية : أمران ، ونهيان ، وخبران ، وبشارتان.

والفرق بين الخوف والحزن ؛ أن الخوف : غم يلحق الإنسان لتوقّع مكروه ، والحزن : غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضى ، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنهيت عنهما ، وبشرت برده وجعله من المرسلين. روى أنه ذبح ، فى طلب موسى ، تسعون ألف وليد. وروى أنها حين ضربها الطلق ـ وكانت بعض القوابل من الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، ودخل حبه قلبها ، فقالت : ما جئت إلا لأقتل ولدك وأخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله ، فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة ، جاءت عيون فرعون

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي (يرى) بياء مفتوحة ، و «فرعون» بالرفع فاعله ، و «هامان وجنودهما» بالرفع عطفا عليه ، وقرأ الباقون «نرى» بالنون مضمومة ، و «فرعون» بالنصب مفعوله. انظر الإتحاف (٢ / ٣٤٠).

٢٣١

فلفّته فى خرقة ، ووضعته فى تنور مسجور ، ولم تعلم ما تصنع ؛ لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، فخرجوا ، وهى لا تدرى مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون فى طلب الولدان ، أوحى الله إليها بإلقائه فى اليمّ ، فألقته فى اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.

روى أنها لفته فى ثيابه ، وجعلت له تابوتا من خشب ، وقيل : من بردى ، وسدت عليه بقفل ، وأسلمته ؛ ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه. قال ابن مخلص : ألقته فى البحر بالغداة ، فرده إليها قبل الظهر. حكى أن فرعون كانت له بنت برصاء ، أعيت الأطباء ، فقال الأطباء والسحرة : لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يؤخذ منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها ، فتبرأ ، فقعد فرعون على شفير النيل ، ومعه آسية امرأته ، فإذا بالتابوت يلعب به الموج ، فأخذ له ، ففتحوه ، فلم يطيقوا ، فدنت آسية ، فرأت فى وجه التابوت نورا لم يره غيرها ، للذى أراد الله أن يكرمها ، ففتحه ، فإذا الصبى بين عينيه نور ، وقد جعل الله رزقه فى إبهامه ، يمصه لبنا ، فأحبته آسية وفرعون ، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت ، فقبّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون : نظن هذا المولود الذي نحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله ـ والله غالب على أمره ـ فقالت : آسية : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ..) الآية (١).

وهذا معنى قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ؛ أخذه. قال الزجّاج : وكان فرعون من أهل فارس ، من إصطخر. والالتقاط : وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة ، ومنه : اللّقطة ، لما وجد ضالا. وقوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي : ليصير الأمر إلى ذلك ، لا أنهم أخذوه لهذا ، فاللام للصيرورة ؛ كقولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب. وقال صاحب الكشاف : هى لام «كى» التي معناها التعليل ، كقولك : جئت لتكرمنى. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز ؛ لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله. ه. وتسمى بالاستعارة التبعية.

وفى «الحزن» لغتان ؛ الفتح والضم ، كالعدم والعدم.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ، أي : مذنبين ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربّى عدوهم ، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو : كانوا خاطئين فى كل شىء ، فليس خطؤهم فى تربية عدوهم ببدع منهم.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) ، لمّا هم فرعون بقتله ـ لقول القواد : هو الذي نحذر : هو (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ، فقال فرعون : لك ، لا لى. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها» (٢) ، وهذا على سبيل الفرض ، أي : لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت : (لا تَقْتُلُوهُ) ، خاطبته خطاب الملوك ، أو خاطبت

__________________

(١) انظر تفسير الطبري (٢٠ / ٣٢) والبغوي (٦ / ١٩٢).

(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢ / ٨٩٧) للنسائى ـ فى الكبرى فى التفسير ـ من حديث ابن عباس ـ رضى الله عنه.

٢٣٢

القواد. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ؛ فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ؛ أو : نتبناه ؛ فإنه أهل لأن يكون ولد الملوك. قال تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ما يكون من أمره وأمرهم ، أو : لا يشعرون أن هلاكهم على يديه ، أو : لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم فى التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب ، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع (١) ، فألقه فى اليم ؛ فى بحر الحقائق ، ولا تخف ولا تحزن ، إنا رادوه إلى بر الشرائع ، ليكون من الكاملين ، لأن من غرق فى بحر الحقيقة ، على يد شيخ كامل ، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة ، ويسمى البقاء ، وهو القيام برسم الشرائع ، فالبقاء يطلب الفناء ، فمن تحقق بمقام الفناء ؛ فلا بد أن يخرج إلى البقاء ، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح ، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى شىء ، ولا يعتمدون على شىء ؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع ، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر ، وقد ينتفع على أيدى الأعداء ، ويضرّ على أيدى الأحبّاء ، فليكن العبد سلما بين يدى سيده ، ينظر ما يفعل به. (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

ثم قال تعالى :

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (وَأَصْبَحَ) أي : صار (فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) من كل شىء إلا من ذكر موسى وهمه ، أو : فارغا : خاليا من العقل ؛ لما دهمها من الجزع والحيرة ، حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون ، ويؤيده قراءة ابن محيصن : «فزعا» ؛ بالزاي بلا ألف ، أو : فارغا من الوحى الذي أوحى إليها أن تلقيه فى اليم ، ناسيا

__________________

(١) أي : الوقوف الظاهري ، الشكلانى ، دون تحقق القلب والنفس بحقائق الإيمان ولوازمه. فهذا هو الذي يخاف منه ، مثل وقوف الخوارج ، الذين وصفهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم ، وأن قراءتهم لا تجاوز تراقيهم ، وأن صلاتهم لا تجاوز تراقيهم ، أي : أن تعبدهم وتدينهم هو تدين برّانى ، شكلانى ، لا ينبثق من الأعماق ، من الكيان الجواني للإنسان.

٢٣٣

للعهد أن يرده إليها ، لما دهمهما من الوجد ، وقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنت. وبلغها أنه وقع فى يد فرعون ، فعظم البلاء ، (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) : لتبوح به وتظهر شأنه وأنه ولدها.

قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت ؛ كادت تصيح وتقول : يا ابناه ، وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله ، فكادت تقول : يا ابناه ؛ شفقة عليه. و «أن» مخففة ، أي : إنها كادت لتظهره (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها). والربط : تقويته ؛ بإلهام الصبر والتثبيت ، (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : من المصدقين بوعدنا ، وهو : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ). وجواب «لو لا» : محذوف ، أي : لأبدته ، أو : فارغا من الهم ، حين سمعت أن فرعون تبناه ، إن كادت لتبدى بأنه ولدها ؛ لأنها لم تملك نفسها ؛ فرحا وسرورا مما سمعت ، لو لا أنا ربطنا على قلبها وثبتناه ؛ لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله ، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن : أمرت أم موسى بشيئين ، ونهيت عن شيئين ، وبشرت ببشارتين ، فلم ينفعها الكل ، حتى تولى الله حياطتها ، فربط على قلبها.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) مريم : (قُصِّيهِ) : اتبعى أثره ؛ لتعلمى خبره ، (فَبَصُرَتْ بِهِ) أي : أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) ؛ عن بعد. قال قتادة : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها أخته ، وأنها تقصه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ينبغى للعبد ، الطالب لمولاه ، أن يصبح فارغا من كل ما سواه ، ليس فى قلبه سوى حبيبه ، فحينئذ يرفع عنه الحجاب ، ويدخله مع الأحباب ، فعلامة المحبة : جمع الهموم فى هم واحد ، وهو حب الحبيب ، ومشاهدة القريب المجيب ، كما قال الشاعر :

كانت لقلبى أهواء مفرّقة

فاستجمعت ، مذ رأتك العين ، أهوائى

فصار يحسدنى من كنت أحسده

وصرت مولى الورى مذ صرت مولائى

تركت للنّاس دنياهم ودينهم

شغلا بذكرك يا دينى ودنيائى

فرّغ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غير ، وهو ما سوى الله ، فإن تلاشى الغير عن عين العبد ؛ شاهد مولاه فى غيب ملكوته ، وأسرار جبروته ، وفى ذلك يقول القائل:

إن تلاشى الكون عن عين قلبى

شاهد السّرّ غيبه فى بيان

فاطرح الكون عن عيانك ، وامح

نقطة الغين إن أردت ترانى

٢٣٤

فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدى به ، ويبوح بسره ؛ فرحا واغتباطا به ، لو لا أن الله يربط على قلبه ، ليكون من الثابتين الراسخين فى العلم به ، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة ، وبالله التوفيق.

ثم ذكر رجوع موسى إلى أمه ، فقال :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

قلت : المراضع : جمع مرضع ، وهى المرأة التي ترضع ، أو : مرضع ـ بالفتح ـ : موضع الرضاع ، وهو الثدي. و (لا تحزن) : معطوف على (تقر).

يقول الحق جل جلاله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي : تحريم منع ، لا تحريم شرع ، أي : منعناه أن يرضع ثديا غير ثدي أمه. وكان لا يقبل ثدى مرضع حتى أهمهم ذلك. (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل قصصها أثره ، أو : من قبل أن نرده إلى أمه. (فَقالَتْ) أخته. وقد دخلت داره بين المراضع ، ورأته لا يقبل ثديا : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) ؛ أرشدكم (عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ) ؛ يحفظون موسى (لَكُمْ ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) ؛ لا يقصرون فى إرضاعه وتربيته. والنصح : إخلاص العمل من شائبة الفساد. روى أنها لما قالت : (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) ؛ قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فهو الذي نحذر ، فقالت : إنما أردت : وهم للملك ناصحون.

فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها ، والصبى على يد فرعون يعلله ؛ شفقة عليه ، وهو يبكى يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه ، فقد أبى كل ثدى إلا ثديك؟ فقالت : إنى امرأة طيبة الريح ، لا أوتى بصبى إلا قبلنى. فدفعه إليها ، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل : دينارا فى اليوم ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله لها وعده فى الرد ، فعندها ثبت واستقر فى علمها أنه سيكون نبيا. وذلك قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بولدها ، (وَلا تَحْزَنَ) لفراقه ، (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، أي : وليثبت علمها ؛ مشاهدة ، كما ثبت ؛ علما.

٢٣٥

وأما جزعها وحيرتها ؛ فذلك من الطبع البشرى الجبلّىّ ، اللازم لضعف البشرية ، لا ينجو منه إلا خواص الخواص ، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار فى اليوم ، كما قال السدى : لأنه مال حربى ، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : القبط ، أو الناس جملة ، (لا يَعْلَمُونَ) أن ما وعد الله لا بد من إنجازه ، ولو بعد حين ، وهو داخل تحت علمها ، أي : لتعلم أن وعد الله حق ، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها ؛ حين سمعت بوقوع موسى فى يد فرعون ، فجزعت ، وهذا من الطبع البشرى كما تقدم. وأيضا يجوز أن يكون الوعد منوطا بشروط وأسباب ، قد لا تعرفها ، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع ، من لبان الخمرة الأزلية ، من قبل أن نلقيه بأهلها ، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية ، والهفوات القلبية ، وهى الإصرار على المساوئ والذنوب ، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون ، يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره. ؛ فإن من دلّك على الله فقد نصحك ، ومن دلّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه ، وهى الحضرة القدسية ، التي خرج منها ، بمتابعة شهوته وغفلته ، كى تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها ، ولا تحزن على فوات شىء ، إذ لم تفقد شيئا ، حيث وجدت الله تعالى ؛ «ماذا فقد من وجدك؟ وما الذي وجد من فقدك؟» (١) ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق ، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.

ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر ، فقال :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))

قلت : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) : حال ، أي : دخل مخفيا.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَمَّا بَلَغَ) موسى (أَشُدَّهُ) أي : نهاية القوة وتمام العقل ، جمع شدّة ؛ كنعمة وأنعم. وأول ما قيل فى الأشد : بلوغ النكاح ، وذلك أوله ، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة. (وَاسْتَوى) أي : اعتدل

__________________

(١) من مناجاة سيدى ابن عطاء الله السكنندرى. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي / ص ٤٢.

٢٣٦

عقله وقوته ، وهو أربعون سنة ، ويروى أنه لم يبعث نبى إلا على رأس أربعين سنة. (آتَيْناهُ حُكْماً) : نبوة ، أو : حكمة (وَعِلْماً) : فقها فى الدين ، أو : علما بمصالح الدارين. والحاصل : لما تكامل عقله وبصيرته آتيناه حكما على عبادنا وعلما بنا. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : كما فعلنا بموسى وأمه ؛ لمّا استسلمت لأمر الله ، وألقت ولدها فى البحر ، وصدقت بوعد الله ، فرددنا لها ولدها ، ووهبنا له الحكمة والنبوة ، فكذلك نجزى المحسنين فى كل أوان وحين.

قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان ؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة ، التي هى جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه ؛ لأنه تعالى قال : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، فجعلهم جهالا ، إذ لم يعملوا بالعلم. ه.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي : مصر ، آتيا من قصر ، فرعون ، وكان خارجا ، وقال السّدّى : مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : قرية «حابين» ، على فرسخين من مصر. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، وهو ما بين العشاءين ، أو : وقت القائلة ، يعنى : انتصاف النهار. قال السدى : لما كبر موسى ؛ ركب مراكب فرعون ، ولبس ملابسه ، فكان يدعى موسى بن فرعون ، فركب فرعون يوما وركب موسى خلفه ، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف ، فدخلها نصف النهار ، وقد غلقت أسواقها ، وليس فى طرقها أحد ، فوجد موسى رجلين .. إلخ.

قال ابن إسحاق : كان يجتمع إلى موسى طائفة من بنى إسرائيل ويقتدون به ، فرأى مفارقة فرعون ، وتكلم فى ذلك حتى ظهر أمره ، فأخافوه ، فكان لا يدخل قرية إلا مستخفيا ، فدخلها على حين غفلة. وقيل : إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى ، فقال : هذا عدو لى ، فأخرجه من مصر ، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده ، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره (٢) ، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) ؛ يتضاربان ، (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ؛ ممن على دينه من بنى إسرائيل ، وقيل : هو السامري. وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) ؛ من مخالفيه من القبط ، وهو طباخ فرعون. واسمه : «فليثور» ، وقيل فيهما : «هذا وهذا» ، وإن كانا غائبين ؛ على جهة الحكاية ، أي : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا وهذا.

وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده كان يحمى بنى إسرائيل من الظلم والسخرة ، فبينما هو يمشى نظر رجلين يقتتلان ، أحدهما من القبط والآخر من بنى إسرائيل.

__________________

(١) من الآية ١٠٢ من سورة البقرة.

(٢) أخرج هذه الأقوال الطبري فى تفسيره (٢٠ / ٤٣ ـ ٤٤).

٢٣٧

(فَاسْتَغاثَهُ) ؛ فاستنصره (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي : فسأله أن يغيثه الإعانة. ضمّن استغاث أعان ، فعداه ب «على». روى أنه لما استغاث به ، غضب موسى ، وقال للفرعونى : خله عنك؟ فقال : إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، ثم قال الفرعون لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، (فَوَكَزَهُ مُوسى) ؛ ضربه بجمع كفه ، أو : بأطراف أصابعه. قال الفراء الوكز : الدفع بأطراف الأصابع. (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله ، ولم يتعمد قتله ، وكان موسى عليه‌السلام ذا قوة وبطش ، وإنما فعل ذلك الوكز ؛ لأن إغاثة المظلوم والدفع عنه دين فى الملل كلها ، وفرض فى جميع الشرائع. وإنما عدّه ذنبا ؛ لأن الأنبياء لا يكفى فى حقهم الإذن العام ، فلذلك (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : القتل الحاصل ، بغير قصد ، من عمل الشيطان ، واستغفر ، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان ، وسماه ظلما لنفسه ، واستغفر منه ؛ لأنه كان مستأمنا فيهم ، أو : لأنه قتله قبل أن يؤذن له فى القتل. وعن ابن جريح : ليس لنبى أن يقتل ما لم يؤمر ، ولأن الخصوص يعظمون محقرات ما فرط منهم. (إِنَّهُ) أي : الشيطان (عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ؛ ظاهر العداوة.

(قالَ رَبِ) أي : يا رب (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بفعل صار قتلا (فَاغْفِرْ لِي) زلتى ، (فَغَفَرَ لَهُ) زلته ، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) بإقالة الزلل ، (الرَّحِيمُ) بإزالة الخجل ، (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي : بحق إنعامك علىّ بالمغفرة ولم تعاقبنى (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي : لا تجعلنى أعين على خطيئة ، توسل للعصمة بإنعامه عليه. وقيل : إنه قسم حذف جوابه ، أي : أقسم بإنعامك علىّ بالمغفرة ، إن عصمتنى ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون ، وانتظامه فى جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد.

قال ابن عطية : واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية فى منع خدمة أهل الجور ، ومعونتهم فى شىء من أمورهم ، ورأوا أنها تتناول ذلك. ه. قال الوصافي لعطاء بن أبى رباح : إن لى أخا يأخذ بقلمه ، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج ، وله عيال ، ولو ترك لاحتاج وادّان. فقال : من الرأس؟ فقال : خالد بن عبد الله ، قال : أما تقرأ قول العبد الصالح : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ، فإن الله عزوجل سيعينه. ه.

الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة ، لا تعطى ، غالبا ، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل ، وحصول الاستواء ، وهو أن يستوى عنده المدح والذم ، والعز والذل ، والمنع والعطاء ، والفقر والغنى ، وتستوى حاله فى القبض والبسط ، والغضب والرضا ، فإذا استوى فى هذه الأمور آتاه الله حكما وعلما ، وجزاه جزاء المحسنين ، وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمّا بعد ، فإن تورعت فى أقوالك وأفعالك ، وتوسعت فى أخلاقك ، حتى

٢٣٨

يستوى عندك من يمدحك ويذمك ، ويعطيك ويمنعك ، ومن يؤذيك وينفعك ، ومن يشدد عليك ويوسع ، فلا أشك فى كمالك. ه.

فإن قلت : لم ذكر الحق ، جلّ جلاله ، الاستواء فى حق سيدنا موسى ، ولم يذكره فى حق نبيه يوسف ـ عليهما‌السلام؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه‌السلام تربى فى السجن وفى نار الجلال ، وكل محنة تزيد تهذيبا وتدريبا ، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء ، بخلاف سيدنا موسى عليه‌السلام فإنه تربى فى العز والجمال ، فاحتاج إلى تربية وتهذيب ، بعد كمال الأشد ، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به ، فلذلك ذكره فى حقه. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

قلت : جملة (يسعى) : حال من (رجل) ؛ لأنه وصف بالجار.

يقول الحق جل جلاله : (فَأَصْبَحَ) موسى (فِي الْمَدِينَةِ) أي : مصر (خائِفاً) على نفسه من قتله ؛ قودا بالقبطي ، وهذا الخوف أمر طبيعى لا ينافى الخصوصية ، (يَتَرَقَّبُ) : ينتظر الأخبار عنه ، أو ما يقال فيه ، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء : خائفا على نفسه ، يترقب نصرة ربه ، (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) : يستغيثه ، مشتق من الصراخ ؛ لأنه يقع فى الغالب عند الاستغاثة. والمعنى : أن الإسرائيلى الذي خلصه موسى استغاث به ثانيا من قبطى آخر ، (قالَ لَهُ مُوسى) أي : للإسرائيلى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : خال عن الرشد ، ظاهر الغى ، فقد قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك. قال ابن عباس : أتى فرعون ، فقيل له : إن بنى إسرائيل قد قتلوا منا رجلا ، فالقصاص ، فقال : ابغوني القاتل والشهود ، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد ،

٢٣٩

فرأى ذلك الإسرائيلى يقاتل فرعونيا آخر ، يريد أن يسخره ، فاستغاث به الإسرائيلى على الفرعوني ، فوافق موسى نادما على القتل ، فقال للإسرائيلى : إنك لغوى مبين (١).

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) موسى (أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي) ؛ بالقبطي الذي (هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) ؛ لموسى وللإسرائيلى ؛ لأنه ليس على دينهما ، أو : لأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل ، أي : فلما مدّ موسى يده ؛ ليبطش بالفرعوني ، خشى الإسرائيلى أن يريده ، حين قال : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، فقال : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) ، يعنى : القبطي ، (أَنْ) ؛ ما (تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) ؛ قتالا بالغضب ، (فِي الْأَرْضِ) ؛ أرض مصر ، (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) فى كظم الغيظ.

وقيل : القائل : (يا مُوسى أَتُرِيدُ ...) إلخ ، هو القبطي ، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلى استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى ، فلما ذكر ذلك شاع فى أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس ، فأمسك موسى عنه ، ثم أخبر فرعون بذلك ؛ فأمر بقتل موسى.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ؛ من آخرها ، واسمه : «حزقيل بن حبورا» ، مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، (يَسْعى) : يسرع فى مشيه ، أو : يمشى على رجله ، (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) ، أي : يتشاورون فى قتلك ، ويأمر بعضهم بعضا بذلك. والائتمار : التشاور ، (فَاخْرُجْ) من المدينة ، (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ، فاللام فى (لك) : للبيان ، وليس بصلة ؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، إلا أن يتسامح فى المجرور ، (فَخَرَجَ مِنْها) ؛ من مصر (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : ينتظر الطلب ويتوقعه ، (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ؛ قوم فرعون. والله تعالى أعلم.

الإشارة : فى الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافى الخصوصية ؛ لأنه أمر جبلّى ، لكنه يخف ويهون أمره ، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك ، يفرّ من الله إلى الله ، ولا ينافى التوكل ، وقد اختفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار بغار ثور ، واختفى الحسن البصري من الحجّاج ، عند تلميذه حبيب العجمي. وفيها أيضا دليل على أن المعصية قد تكون سببا فى نيل الخصوصية ، كأكل آدم من الشجرة ، كان سببا فى نيل الخلافة ، وعمرة الأرض ، وما نشأ من صلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء ، وكقتل موسى عليه‌السلام نفسا لم يؤمر بقتلها ، كان سببا فى خروجه للتربية عند شعيب عليه‌السلام ، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية ، فكل ما يوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار ، والحاصل : أن من سبقت له العناية ، ونال فى الأزل مقام المحبوبية ؛

__________________

(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ١٩٨).

٢٤٠