البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

الإشارة : ألم تر أن الله يولج ليل القبض فى نهار البسط ، ونهار البسط فى ليل القبض ، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار ، فإذا تأدب مع كل واحد منهما ؛ زاد بهما معا ، وإلا نقص بهما ، أو بأحدهما. فآداب القبض : الصبر ، والرضا ، والسكون تحت مجارى الأقدار. وآداب البسط : الحمد ، والشكر ، والإمساك عن الفضول فى كل شىء. وسخّر شمس العيان وقمر الإيمان ، كلّ يجرى إلى أجل مسمى ؛ فقمر الإيمان يجرى إلى طلوع شمس العرفان ، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق ، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق ، بطلوع شمس العيان ، زهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجرى فى بحار التوحيد ، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار ، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن فى ذلك لآيات لكل صبّار على مجاهدة النفس ، شكور على نعمة الظّفر بحضرة القدّوس.

وإذا غشيهم ، فى حال استشرافهم على بحر الحقيقة ، موج من أنوار ملكوته ، فكادت تدهشهم ، تضرعوا والتجئوا إلى سفينة الشريعة ، حتى يتمكنوا ، فلما نجاهم إلى بر الشريعة ، فمنهم مقتصد ؛ معتدل بين جذب وسلوك ، بين حقيقة وشريعة ، ومنهم : غالب عليه السكر والجذب ، ومنهم : غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله ، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختّار جاحد. قال القشيري : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) ؛ إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير ؛ تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة ، فإذا جاء الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.

فكم قد جهلتم ، ثم عدنا بحلمنا ،

أحبّاءنا : كم تجهلون ونحلم!

ثم ختم بالوعظ والتذكير ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

قلت : (بأى أرض) ؛ قال فى المصباح : الأفصح : استعمال «أي» فى الشرط والاستفهام بلفظ واحد ، للمذكر والمؤنث ، وعليه قوله تعالى : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (١) ، وقد تطابق فى التذكير والتأنيث ، نحو : أي رجل ، وأي وأية امرأة. وفى الشاذ : بأية أرض تموت. ه.

__________________

(١) من الآية ٨١ من سورة غافر.

٣٨١

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ؛ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بطاعته وترك معصيته. (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) شيئا ، لا يقضى عنه شيئا ، ولا يدفع عنه شيئا. والأصل : لا يجزى فيه ، فحذف. (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ، وتغيير النظم فى حق الولد ، بأن أكده بالجملة الاسمية ، وبزيادة لفظ (هو) ، وبالتعبير بالمولود ؛ للدلالة على حسم أطماعهم فى أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر ؛ بالشفاعة فى الآخرة. ومعنى التأكيد فى لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه ، فضلا عن أن يشفع لأجداده ؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود ؛ لإنه لما ولد منك. كذا فى الكشاف ، قلت : وهذا فى حق الكفار ، وأما المؤمنون ؛ فينفع الولد والده ، والوالد ولده بالشفاعة ، كما ورد فى قارئ القرآن والعالم ، وكل من له جاه عند الله ، كما تقدم فى سورة مريم (١).

ثم قال تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والحساب والجزاء ، (حَقٌ) لا يمكن خلفه ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ؛ بزخارفها الغرارة ؛ فإنّ نعمها دانية ، ولذاتها فانية ، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء ، بالزهد فيها ، والتفرغ لما يرضى الله ، من توحيده وطاعته ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) ، أي : لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحمله ، أو : لا يوقعنكم فى الجهل بالله والغرة به ، (الْغَرُورُ) أي : الشيطان ، أو : الدنيا ، أو : الأمل. وفى الحديث : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأمانى» (٢). وفى الحديث أيضا : «كفى بخشية الله علما ، وبالاغترار به جهلا».

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : وقت قيامها ، فلا يعلمه غيره ، فتأهبوا لها ، قبل أن تأتيكم بغتة. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل ، أي : إن الله يثبت عنده علم الساعة ، وينزل الغيث فى وقته ، من غير تقديم ولا تأخير ، وفى محله ، على ما سبق فى التقدير ، ويعلم كم قطرة ينزلها ، وفى أي بقعة يمطرها. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) ؛ أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وشقى أو سعيد ، وحسن أو قبيح. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، ووفاق وشقاق ، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شرا ، أو على شر فعملت خيرا. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحها ، فترمى بها مرامى القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.

روى أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه‌السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : من هذا؟ فقال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدنى ، فسأل سليمان أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظرى إليه تعجبا منه ، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند ، وهو عندك. ه.

__________________

(١) راجع إشارة الآية ٨٧ من سورة مريم.

(٢) سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات : ٣٨ ـ ٤٠ من سورة العنكبوت.

٣٨٢

وجعل العلم لله والدراية للعبد ، لما فى الدراية من معنى التكسب والحيلة ، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت ؛ فإنه يقول بالقياس والنظر فى المطالع ، وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا ، على أنه مجرد الظن ، والظن غير العلم. وعن ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب. وجاءه يهودى منجم ، فقال : إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول علىّ الحول حتى أموت. قال له : أين موتك؟ قال : لا أدرى ، فقال ابن عباس : صدق الله : (ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). ورأى المنصور فى منامه ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. ه.

وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى فى حاشيته : قيل : إن الله تعالى يعلم الأشياء بالوسم والرسم ، والرسم يتغير ، والوسم لا يتغير ، فقد أخفى الله تعالى الساعة ، ولم يخف أمارتها ، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه ، ولكن لا من كل وجوهه ، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره ، وبالجملة فعلم ما يكون من الخواص ، جملة لا تفصيلى ، وجزئى لا كلى ، ومقيد لا مطلق ، وعرضى لا ذاتى ، بخلاف علمه تعالى. ه.

قال المحلى : روى البخاري ؛ عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ..) (١) إلى آخر السورة .. ونقل ابن حجر عن ابن أبى جمرة ، بعد كلام ، ما نصه : والحكمة فى جعلها خمسة : الإشارة إلى حصر العوالم فيها ، ففى قوله : (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) : الإشارة إلى ما يزيد فى الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر ، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها ، فغيرها بطريق الأولى. وفى قوله : لا يعلم متى يأتى المطر : إشارة إلى أمور العالم العلوي ، وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجرى العادة على وقوعه ، لكنه من غير تحقيق. وفى قوله : «لا تدرى نفس بأى أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلى ، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ، ولكن ليس ذلك حقيقة ، وإن مات ببلده لا يعلم بأى بقعة يدفن فيها ، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه ، بل قبر أعده هو له.

وفى قوله : «ولا يعلم ما فى غد إلا الله» : إشارة إلى أنواع الزمان ، وما فيها من الحوادث ، وعبّر بلفظ (غد) ؛ لكون حقيقته أقرب الأزمنة إليه ، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه ، مع إمكان الأمارة والعلامة ، فما بعد

__________________

(١) أخرج حديث مفاتيح الغيب ، البخاري فى (الاستسقاء ، باب لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله ح ١٠٣٩).

٣٨٣

عنه أولى. وفى قوله : «متى تقوم الساعة إلا الله» ؛ إشارة إلى علوم الآخرة ، فإن يوم القيامة أولها ، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعد ، فجمعت الآية أنواع الغيوب ، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن فى قوله تعالى : فى الآية الأخرى ، وهى قوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى ..) (١) الآية ، أن الاطلاع على شىء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. ه ملخصا.

والحاصل : أن العوالم التي اختص الله بها خمسة : عالم القيامة وما يقع فيه ، والعالم العلوي وما ينشأ منه ، وعالم الأرض وما يقع فيه ، وعالم الإنسان وما يجرى عليه ، وعالم الزمان وما يقع فيه. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) عليم بالغيوب ، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري : أكثروا من قراءة سورة لقمان ؛ فإن فيها أعاجيب ه.

الإشارة : يا أيها الناس المتوجهون إلى الله ، إنّ وعد الله بالفتح ، لمن أنهض همته إليه ، حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ؛ بأشغالها ، عن النهوض إليها ، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطان الغرور ، فيغركم بكرم الله ، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة ؛ إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما ، إن الله عنده علم الساعة التي يفتح على العبد فيها ، وينزل غيث المواهب والواردات ، ويعلم ما فى أرحام الإرادة ، من تربية المعرفة واليقين ، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من زيادة الإيمان ونقصانه ، وما تلقاه من المقادير الغيبية ، فيجب عليها التفويض والاستسلام ، وانتظار ما يفعل الله بها فى كل غد ، وما تدرى نفس بأى أرض من العبودية تموت فيها ، إن الله عليم خبير.

قال القشيري : فى قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : خوّفهم ، تارة ، بأفعاله ، فيقول : (اتَّقُوا يَوْماً) (٢) ، وتارة بصفاته ، فيقول : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (٣) ، وتارة بذاته ، فيقول : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٤). ه. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

__________________

(١) الآيتان ٢٦ ـ ٢٧ من سورة الجن.

(٢) جاء فى آيات كثيرة ، منها الآية ٤٨ من سورة البقرة.

(٣) من الآية ١٤ من سورة العلق.

(٤) من الآية ٢٨ من سورة آل عمران.

٣٨٤

سورة السّجدة

مكية ، وقيل : إلا قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) (١) ، نزلت بالمدينة ، وهى ثلاثون آية ، أو : تسع وعشرون. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ...) إلى آخر الآيات ، فإنها كالاستدلال على قيام الساعة ، التي خوّف بها فى ختم السورة بعد تقرير الرسالة. وقيل : المناسبة : هى ما بعد هذه من تبيين الرسالة ، التي هى مستند ما ذكر قبلها من المعاد ودلائل التوحيد. وعن جابر ؛ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ : (الم) السجدة. و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، ويقول : «هما مفضلتان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة ، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة ، ومحى عنه سبعون سيئة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

قلت : (تنزيل) : إما خبر عن (الم) ، إن جعل اسما للسورة ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هذا تنزيل. أو : مبتدأ ، خبره : (لا ريب فيه). وعلى الأول (لا ريب) : خبر بعد خبر ، و (من رب العالمين) : خبر ثالث. أو : خبر عن «تنزيل» ، و (لا ريب فيه) : معترض. والضمير فى (فيه) : راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب فى ذلك ، أي : كونه منزلا من رب العالمين ، و «أم» : منقطعة بمعنى : «بل».

يقول الحق جل جلاله : (الم) ؛ أيها المصطفى المقرب ، هذا الذي تتلوه هو (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) ، لأنه معجز للبشر ، ومثله أبعد شىء عن الريب ، وهو (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لا محالة. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، أي : اختلقه محمد من عنده ، وهو إنكار لقولهم ، وتعجيب منه ؛ لظهور أمره فى عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى : (بَلْ هُوَ الْحَقُ) الثابت (مِنْ رَبِّكَ) ، ولم تفتره ، كما زعموا ؛ تعنتا وجهلا ، أنزله عليك (لِتُنْذِرَ قَوْماً) أي : العرب ، (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الصواب من الدين. والترجي مصروف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما كان (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) (٢) مصروفا إلى موسى وهارون.

__________________

(١) الآية ١٨.

(٢) من الآية ٤٤ من سورة طه.

٣٨٥

الإشارة : (الم) الألف : ألف المحبون قربى ، فلا يصبرون عنى. اللام : لمع نورى لقلوب السائرين ، فزاد شوقهم إلىّ. الميم : ملك الواصلون ملكى وملكوتى ، فلا يغيبون عنى. تنزيل الكتاب ، إذا طال أمد لقاء الأحباب ، فأعزّ شىء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابى كتابى ، وحملت إليهم بالرسل خطابى ، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى ، فإنهم منى فى أمان من عذابى. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، إنكار الأعداء على المحبين سنّة لازمة. فإن ألبس الحق على الأعداء فلا يضركم ، ولا عليكم ، فإنّ [صحبة] (١) الحبيب للحبيب ألذّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.

ثم ذكر المقصود بالذات ، وهو الاستدلال على البعث ، فقال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي) مقدار (سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي : استولى بقهرية ذاته. وسئل مالك عنه ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عن هذا بدعة. ه. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء ، بل أمسكوا عنه ، ولذلك قال مالك : السؤال عنه بدعة. وسيأتى شىء فى الإشارة. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ) ؛ من دون الله (مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي : إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا ، أي : ناصرا ينصركم ، ولا شفيعا يشفع لكم ، (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ؛ تتعظون بمواعظ الله.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى فى ملكه ، فهو كقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، أي : يبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي ، الجزئى ، لا الكلى ، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، نازلة آثارها إلى الأرض. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) من أيام الدنيا.

__________________

(١) فى الأصول : محبة ، والمثبت هو الذي فى القشيري ، وهو المناسب للسياق.

(٢) من الآية ٢٩ من سورة الرحمن.

٣٨٦

قال الأقليشى : جاء فى حديث : «إن بعد ما بين السماء والأرض ، وما بين سماء إلى سماء ، مسيرة خمسمائة سنة». وفى حديث آخر : «إن بين ذلك نيّفا وسبعين سنة» ، وإنما وقع الاختلاف فى ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة. وان سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل : من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل. وعليه يخرج قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ). وقال فى آية أخرى : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١). وهكذا الوجود من علوه إلى سفله ، من الملائكة من يقطعه فى مدة ما ، ويقطعه غيره فى أكثر منها أو أقل. ه. وقيل : المعنى : أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ، فيحكم فيه فى يوم كان مقداره ألف سنة ، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل : إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفا ، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية ، فقال : يدبر الأمر فى مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة : مقداره ألف سنة ؛ من عدّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة ؛ لهوله ، حسبما فى سورة المعارج. ه.

قلت : والتحقيق ، فى الفرق بين الآيتين ، أن الحق تعالى ، حيث لم يختص بمكان دون مكان ، وكانت الأمكنة فى حقه تعالى كلها واحدة ، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته ، كان العروج إنما هو إليه على كل حال ، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علق العروج بتدبير الأمور وتنفيذها ، قرّب المسافة ؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمّا علّق عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بعّد المسافة ؛ زيادة فى علو شأنه ورفعة قدره. وكل هذا العروج فى دار الدنيا. على قول من علّق (فى يوم) بتعرج فى سورة المعارج. فتأمله.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت ، وما شوهد فى عالم الحس من عجائب عالم الملك. (الْعَزِيزُ) ؛ الغالب أمره وتدبيره ، (الرَّحِيمُ) ؛ البالغ لطفه وتيسيره.

الإشارة : اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات ، قطعة من نور ذاته ، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش ، ثم بالماء ، فكان عرشه على الماء ، ثم بالكرسي ، ثم بالأرض ، ثم بالسماوات ، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمدانى رحمانى من بحر جبروته ، استوى به على عرشه ؛ لتدبير ملكه ، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم على صورته». وفى رواية : «على صورة الرحمن». وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده ، ولرؤيته ـ باعتبار العامة ـ ، وهذا التجلي كله ، من جهة معناه ، متصل بسائر التجليات ،

__________________

(١) الآية ٤ من سورة المعارج.

٣٨٧

جزئى من جهة تشكيله للمعنى الكلى ، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس : أن التجلي المستولى غير مرتد برداء الحس ؛ إذ لا عبودية فيه ، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء ، لأن كنزه ما زال مدفونا ، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل ، وسلّم ، إن لم تفهم ، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال ، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقة ، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.

ثم كمل ما بقي من أوصافه ، فقال :

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠))

قلت : (الذي) : صفة للعزيز ، أو : خبر عن مضمر. ومن قرأ (خَلَقَهُ) ؛ بالفتح (١) ؛ فصفة لكل ، ومن سكّنه ؛ فبدل منه ، أي : أحسن خلق كل شىء.

يقول الحق جل جلاله فى وصف ذاته : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي : أبدع خلق كل شىء ، أتقنه على وفق حكمته. أو : أتقن كل شىء من مخلوقاته ، فجعلهم فى أحسن صورة. ثم (بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) ؛ آدم (مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ؛ ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي : نطفة مسلولة من سائر البدن ، (مِنْ ماءٍ) أي : منّى ، وهو بدل من سلالة ، (مَهِينٍ) ؛ ضعيف حقير. (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي : سوّى صورته فى أحسن تقويم ، (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) ، أضافه إلى نفسه ، تشريفا ، إشارة إلى أنه خلق عجيب ، وأن له شأنا ومناسبة إلى حضرة الربوبية ، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم فى سورة الإسراء ، فى الكلام على الروح ، وجه المعرفة منه (٢). (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لتسمعوا كلامه ، وتبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته ، وتعقلوا ، فتعرفوا صانعكم ومدبر أمركم. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : تشكرون شكرا قليلا على هذه النعم ؛ لقلة التدبر فيها.

__________________

(١) قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : «خلقه» ؛ بفتح اللام ، فعلا ماضيا ، وقرأ الباقون : بسكونها ؛ بدل من «كل» ؛ بدل اشتمال. انظر : الإتحاف (٢ / ٣٦٦).

(٢) راجع إشارة الآية ٨٥ من سورة الإسراء. (٣ / ٢٢٨ ـ ٢٣٠).

٣٨٨

(وَقالُوا) ؛ منكرين للبعث : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) ، أي : صرنا ترابا ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء فى اللبن. أو : غبنا فى الأرض بالدفن فيها ، يقال : ضلل ؛ كضرب ، وضلل ؛ كفرح. وانتصب الظرف فى (أإذا) بقوله : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). أي : أنبعث ، ونجدد ، إذا ضللنا فى الأرض؟. والقائل لهذه المقالة أبىّ بن خلف ، وأسند إليهم ؛ لرضاهم بذلك ، (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) ؛ جاحدون. لمّا ذكر كفرهم بالبعث ؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون فى العاقبة ، لا بالبعث وحده. وقال المحشى : أي : ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة ؛ لأنهم يعترفون بقدرته ، ولكنهم اعتقدوا ألّا حساب عليهم ، وأنهم لا يلقون الله تعالى ، ولا يصيرون إلى جزائه. ه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل ما أظهر الحق تعالى : من تجلياته الكونية ؛ فهى فى غاية الإبداع والاتفاق فى أصل نشأتها ، كما قال صاحب العينية :

وكلّ قبيح ، إن نسبت لحسنه

أتتك معانى الحسن فيه تسارع

يكمّل نقصان القبيح جماله

فما ثمّ نقصان ، ولا ثمّ باشع (١)

وأكملها وأعظمها : خلقة الإنسان ، الذي خلق على صورة الرحمن ، حيث جعل فيه أوصافه ؛ من قدرة ، وإرادة ، وعلم ، وحياة ، وسمع ، وبصر ، وكلام ، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس ، وسخّر له جميع الكائنات ، وهيأه لحمل الأمانة ، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو فى أسفل سافلين. قال الورتجبي : ذكر حسن الأشياء ، ولم يذكر هنا حسن الإنسان ؛ غيرة ، لأنه موضع محبته ، واختياره الأزلى ، كقول القائل :

وكم أبصرت من حسن ، ولكن

عليك ، من الورى ، وقع اختياري

قال الواسطي : الجسم يستحسن المستحسنات ، والروح واحدية فردانية ، لا تستحسن شيئا. وقال ابن عطاء فى قوله : (ثُمَّ سَوَّاهُ ...) : قوّمه بفنون الآداب ، ونفخ فيه من روحه الخاص ، الذي ، به ، فضّله على سائر الأرواح ، لما كان له عنده من محل التمكين ، وما كان فيه من تدبير الخلافة ، ومشافهة الخطاب ـ بعد أن قال الورتجبي ـ : أخص الخصائص هو ما سقط من حسن تجلّى ذاته فى صورته ، كما ذكر بقوله : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ). ه.

ثم ذكر أمر اللقاء الذي أنكروه ، فقال :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً

__________________

(١) انظر النادرات العينية (٧٦ ـ ٧٧).

٣٨٩

إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ؛ بقبض أرواحكم فتموتون ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ؛ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفى : استيفاء الروح ، أي : أخذها ، من قولك : توفيت حقى من فلان ، إذا أخذته وافيا من غير نقصان. وعن مجاهد : زويت الأرض لملك الموت ، وجعلت مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء (١). وعن مقاتل والكلبي : بلغنا أن اسم ملك الموت «عزرائيل» ، وله أربعة أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، والخلق بين رجليه ، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وله الدنيا مثل راحة اليد ، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل : أن لملك الموت حربة ، تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الموتى ، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين ـ وفى حديث آخر ، خمس مرات ـ فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ؛ ضربه بتلك الحربة. وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات (٢).

فإن قيل : ما الجمع بين قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٣) و (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٤) و (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٥)؟ فالجواب : أن توفى الملائكة : القبض والنزع ، وتوفى ملك الموت الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها ، ثم يذهبون بها إلى عليين. وقبض الحق تعالى : خلق الموت فيه. والحاصل : أنّ قبض الملك : المباشرة ، وقبض الحق : الإخراج ؛ حقيقة.

قال الورتجبي : قال الحسن : ملك الموت هو الموكل بأرواح بنى آدم ، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكى الموت والحياة ، فقال العراقي : لم أجد له أصلا. ويعنى بملك الحياة : كون الأرواح ، أنفاس ملك الحياة ؛ كما فى الإحياء. ومذهب أهل السّنة قاطبة : أن ملك الموت هو الذي يقبض جميع الأرواح ، من بني آدم

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٩٨).

(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ٣٠٢).

(٣) من الآية ٦١ من سورة الأنعام.

(٤) من الآية ٩٧ من سورة النساء.

(٥) من الآية ٤٢ من سورة الزمر.

٣٩٠

والبهائم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تقبض أرواحها أعوان ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بنى آدم ، إنما هو عدم محض ، كيبس الشجر وجفاف الثياب ، فلا قبض لأرواحها ، وهو أعلم من كونها تبعث ، أو : لا ؛ بأن تعاد عن عدم ، بخلاف المكلف ، فإن روحه لا تعدم ، خلافا للملاحدة ، فإنهم جعلوا الموت كله عدما محضا ، كجفاف العود الأخضر ، وهو كفر.

هذا وقد اختلف فى كون الموت ضد الحياة ، فيكون معنى وجوديا ، أو هو عدم الحياة ، فيكون عدما ، وعلى كلا القولين فالأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان ، منعّمة أو معذبة.

(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الذين قالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ...) إلخ ، و «لو» و «إذ» للماضى ، وإنما جاز هنا ؛ لأن المترقّب محقق الوقوع. و (ترى) ، هنا ، تامة ، لا مفعول لها ، أي : لو وقعت منك رؤية (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي : وقت كون المجرمين ناكسى رؤوسهم من الذل والحياء والندم ، (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؛ عند حساب ربهم ، قائلين : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : صدّقنا الآن وعدك ووعيدك ، وأبصرنا ما حدّثتنا به الرسل ، وسمعنا منك تصديق رسلك ، (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) من الإيمان والطاعة ، (إِنَّا مُوقِنُونَ) بالبعث والحساب الآن. وجواب «لو» : محذوف ، أي : لرأيت أمرا فظيعا.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي : ما تهتدى به إلى الإيمان والطاعة ، أي : لو شئنا لأعطيناء فى الدنيا ، كل نفس ما عندنا من اللطف الذي ، لو كان منهم اختيار ذلك ، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف ؛ لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة ؛ فإن عندهم : قد شاء الله أن يعطى كل نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها ، لكنها لم تهتد ، وأوّلوا الآية بمشيئة الجبر ، وهو فاسد. قال تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، أي : ولكن وجب القول منى لأعمرنّ جهنم من الجنّة والناس ، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفى تخصيص الجن والإنس : إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفى الآية ما يقتضى تخصيص أهل النار بالجن والإنس ، فيرد ما يذكر أنه كان قبل آدم أمم كفروا ، ولا يصح ذلك ، إلا أن يكونوا من الجن.

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا ، وهو الإيمان به. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) : تركناكم فى العذاب ، (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي : العذاب الدائم الذي لا انقطاع له (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

٣٩١

ثم ذكر ضدهم بقوله : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) ؛ القرآن (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) ؛ سجدوا لله ؛ تواضعا وخشوعا ، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : نزّهوا الله عما لا يليق به ، وأثنوا عليه ؛ حامدين له ، (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنّه ، آمين.

الإشارة : أهل الفرق من أهل الحجاب ، يتوفاهم ملك الموت ، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان ؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام ؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء ؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم ـ أنه يتولى قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يبعثوا بها ، مشرقة بنور البقاء المجعول فيهم ، بالرجوع إليه من الفناء ، فيكون بقلوبهم بقاء الأبد مع الباقي الأحد عزوجل. وقد ورد فى الخبر : «من واظب على قراءة آية الكرسي ، دبر كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام». يعنى : من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلى ، واستغراقها فى الشهود ، وغيبتها عن الغير فى ذلك الوقت الهائل ، فيغيب عن الواسطة فى شهود الموسوط ، مع وجود الواسطة ؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.

قال القشيري : لو لا غفلة القلوب لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت ؛ لأنّ ملك الموت لا أثر منه فى أحد ، وما يحصل فى التوفّى فمن خصائص قدرة الحق ، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ ، فخاطبهم على قدر أفهامهم ، وعلّق بالأغيار قلوبهم. وكلّ يخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. ه. وقال فى قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ..) الآية : ملكتهم الدهشة وغلبتهم الحجة ، فاعترفوا ، حين لا عذر ، واعترفوا ، حين لا اعتراف. ه.

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ..). قال القشيري : لو شاء سهّل سبيل الاستدلال ، وأدام التوفيق لكلّ أحد ، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قطان ، كما يكون للجنة سكان ، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قوم وقوم. فمن المحال أن نريد ارتفاع معلومنا ، إذ لو لم يقع ، ولم يحصل ؛ لم يكن علما. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أريد ذلك. ويقال : من يتسلّط عليه من يحبه ؛ لم يجد فى ملكه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عمرك فى النكد والعناء ، وأمضيت أيامك فى الجهد والرجاء ، غيّرت صفتك ، وأكثرت مجاهدتك ، فما تفعل فيما مضى ، كيف تبدله؟ وما تصنع فى مشيئتى ، وبأى وسع تردّها؟ وأنشدوا :

شكا إليك ما وجد

من خانه فيك الجلد

حيران ، لو شئت ، اهتدى

ظمآن ، لو شئت ، ورد. (١). ه.

__________________

(١) البيتان لأبى هبة الله بن المنجم ، كما فى يتيمة الدهر (٣ / ٣٨٩).

٣٩٢

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ ....) الآية ، خروا سجدا بظواهرهم فى التراب ، وبسرائرهم ؛ بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب ، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب ، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله ، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.

ثم وصف أهل الخضوع ، وما أكرمهم به ، فقال :

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (تَتَجافى) أي : ترتفع وتتنحى (جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ؛ عن الفرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل : وهب لقوم هبة ، وهو أن أذن لهم فى مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته ، ثم مدحهم عليه فقال : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، (يَدْعُونَ) أي : داعين (رَبَّهُمْ خَوْفاً) ، أي : لأجل خوفهم من سخطه ، (وَطَمَعاً) فى رحمته ، وهم المجتهدون أو المتفكرون فى الليل. وسيأتى فى الإشارة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تفسيرها : «هو قيام العبد من الليل» (١). وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة ، وطلبت بساط القربة ، وعن أنس : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة ، فنزلت فيهم (٢). وقال ابن عمر رضي الله عنه : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عقب ـ أي : أحيا ـ ما بين المغرب والعشاء ؛ بنى له فى الجنة قصران مسيرة عام ، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهى صلاة الأوابين ، وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد : الدعاء ما بين المغرب والعشاء» (٣). ه. وقيل : هم الذين يصلّون العتمة ، ولا ينامون عنها.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فى طاعة الله ، يعنى : أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي : لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة ، مما تقرّ به العين من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب : «أخفى» ؛ على المضارع. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وعن الحسن : أخفى القوم أعمالهم فى الدنيا ؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل ؛ ليكون الجزاء وفاقا. قاله النسفي.

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٣٤٨) ، والحاكم فى المستدرك (٢ / ٤١٢) ، والطبري فى تفسيره (٢١ / ١٠٣) ، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ١٠٠).

(٣) عزاه فى كنز العمال (ح ١٩٤٥٠) لابن مردويه ، عن ابن عمر.

٣٩٣

وفى حديث أسماء ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ، يوم القيامة ، جاء مناد ينادى بصوت يسمعه الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع ، اليوم ، من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون ، وهم قليل. ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانوا يحمدون الله فى السراء والضراء ، فيقومون ، وهم قليل ، يسرحون جميعا إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» (١). وفى البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله ـ عزوجل ـ : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ، قال أبو هريرة : واقرأوا ، إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)» (٢).

وقال فى «البدور السافرة» : أخرج الترمذي ، عن أبى سعيد الخدري ؛ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ فى الجنّة مائة درجة ، لو أنّ العالمين اجتمعوا فى إحداهنّ لو سعتهم». (٣). ه. وقال ابن وهب : أخبرنى عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عتبة بن عبيد ، الضبي ، يذكر عمن حدّثه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن فى الجنة مائة درجة ، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ، أول درجة منها دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها ، من فضة ، والدرجة الثانية : دورها وبيوتها وسررها ومغاليقها من ذهب ، والدرجة الثالثة : دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسبع وتسعون درجة ، لا يعلم ما هى إلا الله تعالى» (٤). ه.

وقيل : المراد بقرة الأعين : النظر إلى وجه الله العظيم. قلت : قرة عين كل واحد : ما كان بغيته وهمّته فى الدنيا ، فمن كانت همته القصور والحور ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، ومن كانت بغيته وهمته النظرة ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، على الدوام. قال أبو سليمان : شتان بين من همّه القصور والحور ، ومن همه الحضور ورفع الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.

الإشارة : قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية ، وهم العبّاد والزهاد من الصالحين ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهم ؛ من نعيم القصور ، والحور ، والولدان ، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة ، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية ، ثم عن مضاجع الفرق ، إلى حال

__________________

(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٣ / ١٦٩ ح ٣٢٤٤).

(٢) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب ما جاء فى صفة الجنة ح ٣٢٤٤) ، ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها ، ٤ / ٢١٧٤ ، ح ٢٨٢٤).

(٣) أخرجه الترمذي فى (صفة الجنة ، باب فى صفة درجات الجنة ، ٤ / ٥٨٣ ، ح ٢٥٣٢).

(٤) أخرج الطبري نحوه فى التفسير (٢١ / ١٠٥) عن أبى اليمان الهذلي ، والجزء الأول من الحديث أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب درجات المجاهدين فى سبيل الله ح ٢٧٩٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ : «إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهد فى سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ...» الحديث.

٣٩٤

الجمع ، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهولاء على صلاتهم دائمون ، وفى حال نومهم عابدون ، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون ، وفى معاريج بحر عرفانهم سائحون ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهؤلاء من دوام النظرة ، والعكوف فى الحضرة ، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية ، سرية ؛ خفية عن الكرام الكاتبين ، بين فكرة وشهود وعبرة واستبصار ، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، وقد ورد : (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة). هذا تفكر الاعتبار ، وأما تفكر الشهود والاستبصار ، فكل ساعة ، أفضل من ألف سنة ، كما قال الشاعر :

كلّ وقت من حبيبى

قدره كألف حجّه

أي : سنة ، ومع هذا لا يخلون أوقاتهم من العبادة الحسية ، شكرا ، وقياما بآداب العبودية ، وهى فى حقهم كمال ، كما قال الجنيد : عبادة العارفين تاج على الرؤوس. ه. وفى مثل هولاء ورد الخبر : «إن أهل الجنة بينما هم فى نعيمهم ، إذ سطع عليهم نور من فوق ، أضاءت منه منازلهم ، كما تضىء الشمس لأهل الدنيا ، فنظروا إلى رجال من فوقهم ، أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الدري فى أفق السماء ، وقد فضّلوا عليهم فى الأنوار والنعم ، كما فضل القمر على سائر النجم ، فينظرون إليهم ، يطيرون على نجب ، تسرح بهم فى الهواء ، يزورون ذا الجلال الإكرام ، فينادون هؤلاء : يا إخواننا ، ما أنصفتمونا ، كنا نصلى كما تصلون ، ونصوم كما تصومون ، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قبل الله تعالى : كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويعطشون حين تروون ، ويعرون حين تكسون ، ويذكرون حين تسكتون ، ويبكون حين تضحكون ، ويقومون حين تنامون ، ويخافون حين تأمنون ، فلذلك فضّلوا عليكم اليوم. فذلك قوله تعالى : «فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون». ه.

قال القشيري : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، فى الظاهر ، عن الفراش ، قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد ، وفى الباطن : بتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قدر النفس ، وتوهم المقام ؛ لأن ذلك بجملته ، حجاب عن الحقيقة ، وهو للعبد سمّ قاتل ، فلا يساكنون أعمالهم ، ولا يلاحظون أحوالهم ، ويفارقون مآلفهم ، ويهجرون معارفهم. والليل زمان الأحباب ، قال الله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (١) يعنى : عن كلّ شغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم ، والنهار زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (٢) .. انظر بقية كلامه.

__________________

(١) من الآية (٧٣) من سورة القصص.

(٢) من الآية (١١) من سورة النبأ.

٣٩٥

ثم بيّن أن من كان فى نور الطاعة والإحسان ، ليس كمن كان فى ظلمة الكفر والعصيان ، فقال.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) بالله ورسله (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) ؛ خارجا عن الإيمان ، (لا يَسْتَوُونَ) أبدا عند الله تعالى. وأفرد ، أولا ؛ مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانيا مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي : المسكن الحقيقي ، وأما الدنيا ، فإنها منزل انتقال وارتحال ، لا محالة ، وقيل : المأوى : جنة من الجنان. قال ابن عطية : سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوى إليها. ه. أي : فى الدنيا ؛ لأنها فى حواصل طير خضر ، كما ورد فى الشهداء ، وأما الصدّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها ، تسرح حيث شاءت. (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : عطاء معجلا بأعمالهم. والنزل : ما يقدم للنازل ، ثم صار عاما.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : هى ملجأهم ومنزلهم ، (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) ، فلا خروج منها ، ولا موت ، (وَقِيلَ) لهم : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، هذا دليل على أن المراد بالفاسق : الكافر ؛ إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزى : فإن قيل : لم وصف ، هنا ، العذاب ، وأعاد عليه الضمير ، ووصف ، فى سبأ ، النار وأعاد عليها الضمير ، فقال : (عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١)؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أنه خص العذاب فى السجدة بالوصف ؛ اعتناء به ؛ لمّا تكرر ذكره فى قوله : (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ..) ، الثاني : أنه تقدم فى السجدة ذكر النار ، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر ، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر ، فكما لا يوصف المضمر ؛ لم يوصف ما قام مقامه ، وهو النار ، فوصف العذاب ، ولم يصف النار ، الثالث ـ وهو الأقوى : أنه امتنع فى السجدة وصف النار ، فوصف

__________________

(١) من الآية ٤٢ من سورة سبأ.

٣٩٦

العذاب ، وإنما امتنع وصفها ؛ لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت رجلا فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. ه.

الإشارة : أفمن كان مصدقا بطريق الخصوص ، داخلا فيها ، شاربا من خمرتها ، كمن كان فاسقا خارجا عنها ، مشتغلا بنفسه ، غريقا فى هواه ، لا يستوون أبدا. أما الذين آمنوا بها ، وصدقوا أهلها ، ودخلوا فى تربيتهم ، فلهم جنات المعارف ، هى مأواهم ومعشش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم ، فمأواهم نار القطيعة ، وعذاب الحرص ، وغم الحجاب ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم : ذوقوا وبال الإنكار ، وحرمان الخصوصية ، التي كنتم بها تكذبون.

قال القشيري : هذا ما يلقون يوم القيامة ، ثم ذكر ما يعجل لهم فى الدنيا ، فقال :

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي : عذاب الدنيا ؛ من القتل ، والأسر فى بدر ، أو ما محنوا به من السّنة ، سبع سنين. (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي : قبل عذاب الآخرة ، الذي هو أكبر ، وهو الخلود فى النار. وعن الداراني : العذاب الأدنى : الخذلان ، والعذاب الأكبر : الخلود فى النيران. وقيل : الأدنى : عذاب القبر ، والأكبر : النار. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ؛ يتوبون عن الكفر.

(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي : وعظ (بِآياتِ رَبِّهِ) ؛ القرآن ، (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي : تولى عنها ، ولم يتدبر فى معناها. و «ثم» ؛ للاستبعاد ؛ فإن الإعراض عن مثل هذه فى ظهورها ، وإنارتها ، وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى ، بعد التذكر بها ، مستبعد فى العقل ، كما تقول لصاحبك : وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهزها ـ ؛ استبعادا لتركه الانتهاز. (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ، ولم يقل : «منه» ، تسجيلا عليه بإعراضه بالإجرام ، ولأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم ، ثم توعد المجرمين ، عامة ، بالانتقام ، دلّ على إصابة الأظلم أوفر نصيب من الانتقام ، ولو قال بالضمير ؛ لم يفد هذه الفائدة.

الإشارة : ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب ، من العذاب الأدنى ، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع ، قبل العذاب الأكبر ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب. قال القشيري : قوم : الأدنى لهم : محن الدنيا ، والأكبر : عقوبة العقبى.

٣٩٧

وقوم : الأدنى لهم : فترة تداخلهم فى عبادتهم ، والأكبر : قسوة تصيبهم فى قلوبهم. وقوم : الأدنى لهم : وقفة مع سلوكهم تمسهم ، والأكبر : حجبة عن مشاهدتهم بسرهم ـ قلت : الأول فى حق العوام ، والثاني : فى حق الخواص ، وهم العباد والزهاد. والثالث : فى حق أهل التربية من الواصلين ـ ثم قال : ويقال : الأدنى : الخذلان فى الزلة ، والأكبر : الهجران فى الوصلة. ويقال : الأدنى : تكدّر مشاربهم ، بعد صفوها ، والأكبر : تطاول أيام الحجب ، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا :

تطاول بعدنا ، يا قوم ، حتى

لقد نسجت عليه العنكبوت (١)

ه. ببعض المعنى.

أذقناهم ذلك ؛ لعلهم يرجعون إلى الله ، فى الدنيا ؛ بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يذكّرهم بالله ؛ من الداعين إلى الله ، ثم أعرضوا عنه ، فلا أحد أظلم منهم ، ولا أعظم جرما. إنا من المجرمين منتقمون.

ولمّا قرر الأصول الثلاثة ؛ الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو الرسالة ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ؛ التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) ؛ شك (مِنْ لِقائِهِ) ؛ من لقاء موسى الكتاب ، أو : من لقائك موسى ليلة المعراج ، أو : يوم القيامة ، أو : من لقاء موسى ربّه فى الآخرة ، كذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ؛ وجعلنا الكتاب المنزّل على موسى عليه‌السلام هدى لقومه ، (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس ، ويدعون إلى الله وإلى ما فى التوراة من دين الله وشرائعه ، (بِأَمْرِنا) إياهم بذلك ، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم ، (لَمَّا صَبَرُوا) على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو : على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأخوان : بكسر اللام ، أي : لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها. وفيه دليل على أن الصبر ؛ ثمرته إمامة الناس والتقدم فى الخير. (وَكانُوا بِآياتِنا) ؛ التوراة (يُوقِنُونَ)

__________________

(١) فى القشيري :

تطاول نأينا يا نور حتى

كأن نسجت عليه العنكبوت

٣٩٨

يعلمون علما لا يخالجه شك ولا وهم ؛ لإمعانهم النظر فيها ، أو : هبة من الله تعالى. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) ؛ يقضى (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : بين الأنبياء وأممهم ، أو : بين المؤمنين والمشركين ، (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين ، فيظه المحقّ من المبطل.

الإشارة : أئمة الهدى على قسمين : أئمة يهدون إلى شرائع الدين ، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين ، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان ، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون : من عامة أهل اليمين ، والآخرون : من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم ، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس ، حتى وردوا حضرة القدّوس. قال القشيري ، فى شأن القسم الثاني : لمّا صبروا على طلبنا ؛ سعدوا بوجودنا ، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متّبعيهم ، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهليهم ، فهم للخلق هداة ، وفى الدين عيون ، وللمسترشدين نجوم. ه.

وفى الإحياء : للإيمان ركنان : أحدهما : اليقين ، والآخر : الصبر. والمراد باليقين : المعارف القطيعة ، الحاصلة بهداية الله عبده إلى أصول الدين ، والمراد بالصبر ، العمل بمقتضى اليقين ؛ إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. ه. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ..) ، قال القشيري : يحكم بينهم ، فيبين المقبول من المردود ، والمهجور من الموصول ، والرّضى من الغوىّ ، والعدو من الولىّ. فكم من بهجة دامت هناك! وكم من مهجة ذابت كذلك. ه.

ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم ، فقال :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

قلت : فاعل «يهد» : هو الله ، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون ، ولا يجوز أن يكون الفاعل «كم» ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي : يبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به ، فينظروا (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) ؛ كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، (يَمْشُونَ) يعنى : قريشا ، (فِي مَساكِنِهِمْ) حين

٣٩٩

يمرون على ديارهم ، ومنازلهم ، خاوية ، فى متاجرهم إلى الشام ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالة على قدرتنا ، وقهريتنا (أَفَلا يَسْمَعُونَ) المواعظ ، فيتعظون بها؟.

الإشارة : قال القشيري : لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا فى حبرة ، فصاروا فى عبرة ، كانوا فى سرور ، فآلوا إلى ثبور ، فجميع ديارهم وتراثهم صارت لأغيارهم ، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم ، سكنوا فى ظلالهم ، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم ، وفى مثلهم قيل :

نعم ، كانت على قو

م زمانا ، ثم فاتت ،

هكذا النعمة والإح

سان قد كانت وكانت. ه. (١)

ثم ذكّرهم بآثار قدرته ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) : المطر (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي : التي جرز نباتها ، أي : قطع ، ولم يبق منه شىء ؛ إما لعدم الماء ، أو لأنه رعى. يقال : جرزت الجراد الزرع ؛ إذا استأصلته ، وفى القاموس : وأرض جرز : لا تنبت ، أو أكل نباتها ، أو لم يصبها مطر. ثم قال : وأرض جارزة : يابسة غليظة ، وفيه أربع لغات : جرز وجرز وجرز وجرز. ولا يقال للتى لا تنبت ؛ كالسباخ : جرز ، بدليل قوله : (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي : بالماء ، (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ) أي : الزرع ، (أَنْعامُهُمْ) ؛ كالتبن والورق ، (وَأَنْفُسُهُمْ) ؛ كالحب والتمر ، والمراد بالزرع : كل ما يزرع ويستنبت ، (أَفَلا يُبْصِرُونَ) ، فيستدلون به على قدرته على إحياء الموتى؟.

__________________

(١) ورد البيتان :

نعم ، كانت على قو

م زمانا ، ثم بانت ،

هكذا النعمة والإنسان

مذ كان وكانت.

وانظر : محاضرات الأدباء ص ٢٥٩.

٤٠٠