البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

وقالت النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (١) ، (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٢). وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه. وقيل : يؤذونه : يلحدون فى أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله ، حين شج وجهه ، وكسرت رباعيته ، وقيل له : هو ساحر وشاعر ومجنون. أو : بترك سنّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسول الله فقط بالتنقيص ، أو بالتعرض لنسائه. وذكر اسم الله للتشريف. (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي : أبعدهم من رحمته فى الدارين (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويخزيهم فى النار.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) ؛ بغير جناية يستحقون بها الإيذاء ، (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) ؛ كذبا (وَإِثْماً مُبِيناً) ؛ ظاهرا ، وإنما أطلق فى إيذاء الله ورسوله ، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق ، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق ، كالحدّ والتعزير ، ومنه باطل. وقيل : نزلت فى ناس من المنافقين ، كانوا يؤذون عليّا رضي الله عنه ، ويسمعونه ، وقيل : فى زناة المدينة ، كانوا يمشون فى طرق المدينة ، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا (٣). وعن الفضيل : لا يحلّ أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق ، فكيف بالمؤمنين؟. ه.

الإشارة : إذاية الله ورسوله هى إذاية أوليائه ، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني ، فقال : فأراد الله تعالى المبالغة فى النهى عن أذى أوليائه ، فجعل أذاهم أذاه. ه. ويؤيده الحديث القدسي : «من آذى لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة» (٤) ، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة ، تكون باللسان وبغيره ، وقد قالوا : البر لا يؤذى الذر. ومن أركان التصوف : كف الأذى ، وحمل الجفا ، وشهود الصفا ، ورمى الدنيا بالقفا. وبالله التوفيق.

ثم أمر بتمييز الحرائر من الإماء فى اللباس ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

__________________

(١) كما ذكرت الآية ٣٠ من سورة التوبة.

(٢) كما ذكرت الآية ٧٣ من سورة المائدة.

(٣) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٧) والبغوي فى التفسير (٦ / ٣٧٦) عن الضحاك ، والسدى ، والكلبي.

(٤) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب : التواضع ، ح ٦٥٠٢). من حديث أبى هريرة بلفظ : «من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب ..» الحديث وأخرجه الإمام أحمد فى المسند (٦ / ٢٥٦) من حديث السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ بلفظ : «من أذل لى وليّا فقد استحل محاربتى ...» الحديث.

٤٦١

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي : يرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوههن. والجلباب : كل ما يستر الكل ، مثل الملحفة ، والمعنى : قل للحرائر يرخين أرديتهن وملاحفهن ويغطين بها وجوههن ورؤوسهن ، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. و (ذلِكَ أَدْنى) أي : أقرب وأجدر ، (أَنْ يُعْرَفْنَ) من الإماء (فَلا يُؤْذَيْنَ) ، وذلك أن النساء فى أول الإسلام كن على زيهنّ فى الجاهلية متبدّلات ، تبرز المرأة فى درج وخمار ، لا فصل بين الحرّة والأمة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء ، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ فى النخيل والغيضات (١) ، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر ، فربما تعرضوا للحرّة ، يحسبونها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلباس الجلابيب ، وستر الرؤوس والوجوه ، فلا يطمع فيهنّ طامع.

قال ابن عباس رضي الله عنه : أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة. قلت : وقد مرّ فى سورة النور (٢) أن الوجه والكفين ليس بعورة ، إلا لخوف الفتنة ، وأما الإماء فلا تسترن شيئا إلا ما بين السرة والركبة ، كالرجل. قال أنس : مرت جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة ، وقال : يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر ، فألق القناع. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط ، (رَحِيماً) بتعليمهن آداب المكارم.

الإشارة : ينبغى لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة ؛ بزيادة الصّون والتحفظ ، وقلة الخروج ، فإذا لزمهنّ الخروج ، فليخرجن فى لباس خشين ، بحيث لا يعرفن ، أو يخرجن ليلا. وثبت أن زوجة الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتن ؛ خرجة حين زفت إلى زوجها ، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.

ثم هدد المنافقين ، حيث كانوا [يؤذوان] (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، فقال :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

__________________

(١) الغيضة : هى الشجر الملتف ، وجمعه : غياض وغيضات. انظر اللسان (غيض ٥ / ٣٣٢٧).

(٢) راجع تفسير الآية ٣١ من سورة النور.

(٣) فى الأصول الخطية [يؤذوا] ..

٤٦٢

قلت : (لنغرينك) : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و (ثم لا يجاورنك) : عطف عليه ؛ لأنه يصح أن يجاب به القسم ؛ لصحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورنك ، ولمّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف بثم ، لبعد حاله عن حال المعطوف عليه. و (ملعونين) : نصب على الشتم أو الحال ، والاستثناء دخل على الظرف والحال معا ، أي : لا يجاورنك إلا قليلا فى اللعنة والبعد ، ولا يصح نصبه بأخذوا ؛ لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.

يقول الحق جل جلاله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن نفاقهم وإيذائهم ، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ؛ فجور ، وهم الزناة من قوله : «فيطمع الذي فى قلبه مرض». (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) ، وهم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء فى المدينة ، من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال : رجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقته ؛ لكونه خبرا مزلزلا غير ثابت ، من : الرجفة ، وهى الزلزلة ، (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء ، أو : لنسلطنك عليهم ، (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) ؛ فى المدينة (إِلَّا) زمنا (قَلِيلاً).

والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يلقون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم ، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة ، وألّا يساكنوك فيها إلّا زمنا قليلا ، ريثما يرتحلون. فسمّى ذلك إغراء ، وهو التحريش ، على سبيل المجاز. حال كونهم (مَلْعُونِينَ) أي : لا يجاورونك إلا ملعونين ، مبعدين عن الرحمة (أَيْنَما ثُقِفُوا) ؛ وجدوا ، (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) ، والتشديد للتكثير.

(سُنَّةَ اللهِ) أي : سنّ الله ذلك سنّة (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) فى المنافقين الذين كانوا ينافقون الأنبياء من قبل ، ويسعون فى وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وجدوا ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : لا يبدل الله سنّته ولا يقدر أحد أن يبدلها ، بل يجريها مجرى واحدا فى الأمم كلهم.

قال ابن جزى : تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا ، ولم ينفذ الوعيد فيهم. ففى ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد فى الآخرة. وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم ؛ فكف عنهم إنفاء الوعيد. ه.

الإشارة : منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية ، ويدّعون محبة القوم ، وهم يعترضون على الفقراء ، ويرفعون الميزان عليهم ، وهم الذين فى قلوبهم مرض ، أي : حيرة وضيق من غم الحجاب ؛ إذ لو ارتفع عنهم

٤٦٣

الحجاب لم يعترضوا على أحد ، وهم المرجفون بأهل النسبة ، إذا سمعوا شيئا يسوؤهم أفشوه ، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليسلطن الله عليهم من يخرجهم من النسبة بالكلية ، ثم لا يبقون فيها إلا قليلا ، ممقوتين عند أهل التحقيق ، أينما وجدوا ، أخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألّف بعض الفقهاء تأليفا فى الرد على الفقراء ، فسلط الله عليه من أهانه ، ووسمه بالبلادة والجمود ، ولا زال مهانا أينما ذكر ، والعياذ بالله.

ولما ذكر حال المنافقين ، ذكر حال المشركين ، لاشتراكهم فى الكفر ، فقال :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

يقول الحق جل جلاله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) ، كان المشركون يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الساعة ، استعجالا واستهزاء ، واليهود يسألون امتحانا ؛ لأن الله تعالى أخفى وقتها فى التوراة وفى كل كتاب ، فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام ـ أنها قريبة الوقوع ، تهديدا للمستعجلين ، وإسكاتا للممتحنين فقال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ، لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي : شيئا قريبا ، أو : فى زمان قريب ، فتنصب على الظرفية ، ويجوز أن يكون التذكير ؛ لأن الساعة فى معنى اليوم أو الزمان.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) ؛ أبعدهم عن رحمته ، (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) ؛ نارا شديدة التسعير ، أي : الإيقاد ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، وهذا يرد مذهب الجهمية فى زعمهم أن النار تفنى ، و (خالدين) : حال مقدرة من ضمير «لهم». (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحفظهم ، (وَلا نَصِيراً) يمنعهم ويدفع العذاب عنهم ، وذلك (يَوْمَ تُقَلَّبُ) أو : واذكر (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ؛ تطوف من جهة إلى جهة ، كما ترى البضعة (١) من اللحم تدور

__________________

(١) البضعة : القطعة. انظر اللسان (بضع ، ١ / ٢٩٦).

٤٦٤

فى القدر إذا غلت. وخصّت الوجوه ؛ لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو : يكون الوجه كناية عن الجملة. حال كونهم (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فى الدنيا ، فنتخلص من هذا العذاب ، فندّموا حيث لم ينفع الندم.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) ، والمراد : رؤساء الكفر ، الذين لقنوهم الكفر ، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» بالجمع ، جمع : سادة ، وسادة : جمع سيد ، فهو جمع الجمع ، (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي : أتلفونا عن طريق الرشد. يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف للإطلاق. (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي : مثلى ما آتيتنا منه للضلال والإضلال ، (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (١) كثير العدد ، تكثيرا لأعداد اللاعنين ، أو : العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء ، أي : لعنا هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدد الأجزاء والأفراد.

الإشارة : مذهب العباد والزهاد والصالحين : جعل الساعة نصب أعينهم ، لا يغيبون عنها ، فهم يجتهدون فى التأهب لها ليلا ونهارا. ومذهب العارفين الموحّدين : الغيبة عنها ، بالاستغراق فى شهود الحق ، فلا يشغلهم الحق ، دنيا ولا آخرة ، ولا جنة ولا نار ؛ لما دخلوا جنة المعارف ، غابوا عن كل شىء ، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوّن ، وجعلوا الوجود وجودا واحدا ؛ إذ المتجلى هنا وثم واحد. وإذا كان كبراء الضلال يضاعف عذابهم ، وكان كبراء الهداية يضاعف ثوابهم ، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد ، فمن دلّ على هدى كان له أجره وأجر من اتبعه إلى يوم القيامة ، ومن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره ، وكان فى ميزانه كل من تبعه كذلك ، وفى ذلك يقول القائل:

والمرء فى ميزانه اتباعه

فاقدر إذن قدر النبىّ محمد (٢)

ثم رجع إلى النهى عن إذاية الرسول ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

__________________

(١) قرأ عاصم «كبيرا» بالباء ، وقرأ الباقون «كثيرا» بالتاء ، من الكثرة. انظر الإتحاف (٢ / ٣٧٨).

(٢) انظر ديوان البوصيرى (ص ١٢٢) ، وفيه :

والمرء فى ميراثه أتباعه

فاقدر إذن فضل النبي محمد

٤٦٥

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) من بنى إسرائيل (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا). وذلك أن بنى إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى عليه‌السلام يستتر لشدة حيائه ، فقالوا : ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر ـ والأدرة : انتفاخ الأنثيين ـ أو : به عيب من برص أو غيره ، فذهب يغتسل وحده ، فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فلجّ فى أثره يقول : ثوبى حجر ، ثوبى حجر! حتى نظروا إلى سوأته ، فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضربا ، ثلاثا أو أربعا (١).

وقيل : كان أذاهم : ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال علىّ رضي الله عنه : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته. وكان أشدّ لنا حبا ، وألين منك ، فآذوه بذلك ، فأمر تعالى الملائكة فحملته ، حتى مرت به على بنى إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بمماته ، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبّرأ الله موسى من ذلك ، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرّخم (٢) من الطير ، وإن الله جعله أصم أبكم (٣) ، وقيل : إنه على سرير فى كهف الجبل. وقيل : إن قارون استأجر امرأة مومسة ، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها الله ، وبرأ موسى ، وأهلك قارون (٤). وقد تقدم.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ؛ ذا جاه ومنزلة رفيعة ، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبدا لله وجيها».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فى ارتكاب ما يكرهه ، فضلا عما يؤذى رسوله ، (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ؛ صدقا وصوابا ، أو : قاصدا إلى الحق. والسداد : القصد إلى الحق والقول بالعدل. والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل فى القول. والحث على أن يسددوا قولهم فى كل باب ؛ لأن حفظ اللسان ، وسداد القول رأس كل خير ، ولذلك قال : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي : يوفقكم لصالح الأعمال ، أو : يقبل طاعتكم ، ويثيبكم عليها ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي : يمحها.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الأنبياء ـ باب ٢٨ ح ٣٤٠٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) الرّخم : نوع من الطير معروف ، واحدته : «رخمة» ، وهو موصوف بالغدر ، وقيل بالقذر. انظر النهاية (٢ / ٢١٢).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢ / ٥٢) والحاكم وصححه () ، وانظر الدر المنثور (٥ / ٤١٩).

(٤) ذكره البغوي فى التفسير (٦ / ٣٧٩) عن أبى العالية.

٤٦٦

والمعنى : راقبوا الله فى حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة ؛ من تقبل حسناتكم ، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتى قبلها ، فدلت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله فى حفظ اللسان ، ليترادف عليها النهى والأمر ، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه‌السلام ، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.

ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فى الأوامر والنواهي (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ، يعيش فى الدنيا حميدا ، وفى الآخرة سعيدا. جعلنا الله منهم ، آمين.

الإشارة : فى الآية تسلية لمن أوذى من الأولياء بالتأسى بالأنبياء. روى أن موسى عليه‌السلام قال : يا رب احبس علىّ ألسنة الناس ، فقال له : هذا شىء لم أصنعه لنفسى ، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير : إن لم تطب نفسا بأن أجعلك علكا فى أفواه الماضغين ، لم أثبتك عندى من المتواضعين. ه.

واعلم أن تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير ، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلى الكبير ، وتقوى الله أساس الطريق ، وحفظ اللسان وتحرى القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه فى بعض وصاياه ـ بعد كلام ـ : ولكن قد تصعب التقوى على النفس ؛ لاتساع أمرها ، فتوجّه لترك العظائم والقواعد المقدر عليها ، تعن على ما بعدها ، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولا وسماعا ، فإنها خفيفة على النفوس ؛ لإلفها ، مستسهلة ؛ لاعتيادها ، مع أنها صاعقة الدين ، وآفة المذنبين ، من اتقاها أفلح فى بقية أمره ، ومن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ...) الآية ، فجعل صلاح العمل متوقفا على سداد القول ، وكذلك ورد : أن الجوارح تصبح تشتكى اللسان ، وتقول : اتق الله فينا ، فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخى لسانك ، وخصوصا فى هذه الخصلة ، فتورع فيها أكثر ما تورع فى مأكلك ومشربك ، فإذا فعلت طابت حياتك ، وكفيت الشواغب ، ظاهرا وباطنا. ه.

فإذا تحققت بالتقوى ، وحصّنت لسانك بالقول السديد ، كنت أهلا لحمل الأمانة ، كما قال تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ

٤٦٧

وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) ، الأمانة هنا هى التوحيد فى الباطن ، والقيام بوظائف الدين فى الظاهر ، من الأوامر والنواهي ، فالإيمان أمانة الباطن ، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر ، فمن قام بهاتين الخصلتين كان أمينا ، وإلا كان خائنا. والمعنى : إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام ، ولها الثواب العظيم ، إن أحسنت القيام بها ، والعقاب الأليم إن خانت ، فأبت وأشفقت واستعفت منها ، مخافة ألا تقدر عليها ، فطلبت السلامة ، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها). فيحتمل أن يكون الإباء بإدراك ، خلقه الله فيها ، وقيل : أحياها وأعقلها ، كقوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (١). ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.

وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : وقد يقال : الأمانة هى ما أخذ عليهم من عهد التوحيد فى الغيب بعد الإشهاد لربوبيته ، وينظر لذلك قوله : «لن يسعنى أرضى ولا سمائى ووسعني قلب عبدى المؤمن». وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمى ؛ لأن الجن أيضا مكلف ، ومناسبة الآية لما قبلها : أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. ه.

وقيل : لم يقع عرض حقيقة ، وإنما المقصود : تعظيم شأن الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء. والمعنى : أنها لعظمة شأنها لو عرضت على هذه الأجرام العظام ، وكانت ذا شعور وإدراك ، لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، مع ضعف بنيته ، ورخاوة قوته ، لا جرم ، فإن الراعي لها ، والقائم بحقوقها ، بخير الدارين. ه. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية : الاستعفاء ، لا الاستكبار ، أي : أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : آدم. قيل : فما تم له يوم من تحملها حتى وقع فى أمر الشجرة ، وقيل : جنس الإنسان ، وهذا يناسب حمل الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح فى عالم الغيب. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) حيث تعرض لهذا الخطر الكبير ، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل ، وكان صالحا أمينا

__________________

(١) الآية ١١ من سورة فصلت.

٤٦٨

عدولا ، وإن خانها ولم يقم بها ، كان ظلوما جهولا ، كلّ على قدر خيانته وظلمه ، فالكفار خانوا أصل الأمانة ، وهى الإيمان فكفروا ، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة ، فبعضهم أشد ، وبعضهم أهون ، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.

ثم علل عرضها ، وهو : لتقوم الحجة على عباده ، فقال : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) ؛ حيث لم يقوموا بها ، وخانوا فيها ، فتقوم الحجة عليهم ، ولا يظلم ربك أحدا. وقال أبو حيان : اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء : اللام متعلق بحملها ، وحينئذ تكون للعاقبة قطعا. (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، حيث حملوا الأمانة ، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط ، قال تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (١) وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) ولذلك قال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، فالغفران لمن لحقه تفريط وتقصير ، والرحمة لمن اجتهد قدر طاقته ، كالأولياء وكبار الصالحين.

والحاصل : أن العذاب لمن تحملها أولا ، ولم يقم بحقها ثانيا. والغفران لمن تحملها وقام بحقها ، والرحمة لمن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال هى شهود أسرار الربوبية فى الباطن ، والقيام بآداب العبودية فى الظاهر ، أو تقول : هى إشراق أسرار الحقائق فى الباطن ، والقيام بالشرائع فى الظاهر ، مع الاعتدال ، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع ، ولا الشرائع على الحقائق ، فلا يغلب السكر على الصحو ، ولا الصحو على السكر. وهذا السر خاص بالآدمى ؛ لأنه اجتمع فيه الضدان ؛ اللطافة والكثافة ، النور والظلمة ، المعنى والحس ، القدرة والحكمة ، فهو سماوى أرضى ، روحانى بشرى ، معنوى وحسى. ولذلك خصه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٣) أي : بيد القدرة والحكمة ، فكان جامعا للضدين ، ملكيا ملكوتيا ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة. وليست هذه المزية لغيره من الكائنات ، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم ، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهيمان ، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم ، فلا يظهر عليهم شىء من الأنوار والأسرار.

__________________

(١) الآية ٢٣ من سورة عبس.

(٢) الآية ٦٧ من سورة الزمر.

(٣) من الآية ٧٥ من سورة (ص).

٤٦٩

وهذا السر الذي خص به الآدمي هو كامن فيه ، من حيث هو ، كان كافرا أو مؤمنا ، كما كمن الزبد فى اللبن ، فلا يظهر إلا بعد الترييب والضرب والمخض ، وإلا بقي فيه كامنا ، وكذلك الإنسان ، السر فيه كامن ، وهو نور الولاية الكبرى ، فإذا آمن ووحد الله تعالى ، واهتز بذكر الله ، وضرب قلبه باسم الجلالة ، ظهر سره ، إن وجد شيخا يخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.

وله مثال آخر ، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحب فى الغصون قبل ظهوره ، فإذا نزل المطر ، وضربت الرياح أغصان الأشجار ، أزهرت الأغصان وأثمرت ، وإليه أشار فى المباحث الأصلية ، حيث قال :

وهى من النفوس فى كمون

كما يكون الحب فى الغصون

حتى إذا أرعدت الرعود

وانسكب الماء ولان العود

وجال فى أغصانها الرياح

فعندها يرتقب اللقاح

ثم قال :

فهذه فواكه المعارف

لم تشر بالتالد أو بالطارف (١)

ما نالها ذو العين والفلوس

وإنما تباع بالنفوس

فلا يظهر هذا السر الكامن فى الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه ، وهى المجاهدة والمكابدة ، وقتل النفوس ، بخرق عوائدها ، وبعد نزول أمطار النفخات الإلهية ، والخمرة الأزلية ، على يد الأشياخ ، الذين أهّلهم الله لسقى هذا الماء ، وتجول فى أغصان عوالمه رياح الواردات ، وينحط مع أهل الفن ، حتى يسرى فيه أنوارهم ، ويتأدب بآدابهم ، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه ، ويجنى ثمار معارفه ، وإلا بقي السر أبدا كامنا فيه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

__________________

(١) التالد : المال القديم الأصلى ، الذي ولد عندك ، وطال فى ملكك. انظر اللسان (تلد ، ١ / ٤٣٩) والطارف والطريف : الحادث من المال ، أي : الذي تجدد ملكه ، وهو ضد التالد. انظر (طرف ، ٤ / ٢٦٥٧) وانظر شرح الأبيات فى الفتوحات الإلهية (١١٧ ـ ١٢٦).

٤٧٠

سورة سبإ

مكية ، إلا قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) الآية (١) ، فاختلف فيه ، مكى أو مدنى؟ وهى خمس وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) مع قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وكأنه يشير إلى أنه تعالى غنى عمن حمل الأمانة ، ومن لم يحملها ، فمن حملها فلنفسه ، ومن تركها فعليها ، وإن الله لغنى عن العالمين ، ولذلك افتتح بالثناء عليه ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

يقول الحق جل جلاله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام فى (لله) للتمليك ؛ لأنه خالق ناطق الحمد أصلا ، فكان بملكه مالك للحمد ، وللتحميد أهلا ، (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا ، وملكا ، وقهرا ، فكان حقيقا بأن يحمد سرا وجهرا ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) كما له الحمد فى الدنيا ؛ إذ النعم فى الدارين هو موليها والمنعم بها. غير أن الحمد هنا واجب ؛ لأن الدنيا دار التكليف. وثمّ لا ؛ لأن الدار دار التعريف ، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروا بالنعيم ، وتلذذا بما نالوا من الفوز العظيم ، كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ..) (٣) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ..) (٤) فأشار إلى استحقاقه الحمد فى الدنيا بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وأشار إلى استحقاقه فى الآخرة بقوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ) بتدبير ما فى السموات والأرض ، (الْخَبِيرُ) بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ) : ما يدخل (فِي الْأَرْضِ) من الأموات والدفائن ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وجواهر المعادن ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار وأنواع البركات ، (وَما يَعْرُجُ) ؛ يصعد (فِيها) من الملائكة والدعوات ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بإنزال ما يحتاجون إليه ، (الْغَفُورُ) بما يجترئون عليه. قاله النسفي.

__________________

(١) الآية ٦ من السورة.

(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.

(٣) من الآية ٧٤ من سورة الزمر.

(٤) من الآية ٣٤ من سورة فاطر.

٤٧١

الإشارة : المستحق للحمد هو الذي بيده ما فى سماوات الأرواح ؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات ، إلى ما لا نهاية له ، من عظمة الذات ، وبيده ما فى أرض النفوس ؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات ، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات ، وبيده ما يتحفهم به فى الآخرة ، من التعريفات الجمالية ، والفتوحات الربانية ، والترقي فى الكشوفات السرمدية. فله الحمد فى هذه العوالم الثلاثة ؛ إذ كلها بيده ، يخص بها من يشاء من عباده ، مع غناه عن الكل ، وإحاطته بالكل ، ورحمته للكل ، يعلم ما يلج فى أرض النفوس من الهواجس والخواطر ، وما يخرج منها من الصغائر والكبائر ، أو من الطاعة والإحسان من ذوى البصائر ، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار ، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار ، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال ، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.

ثم ردّ على من أنكر الآخرة ، التي تقدم ذكرها ، فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))

قلت : (ولا أصغر) و (لا أكبر) : عطف على (مثقال) ، أو : مبتدأ ، وخبره : ما بعد الاستثناء. و (ليجزى) : متعلق بقوله : (لتأتينكم) ، وتجويز ابن جزى تعلقه بيعزب بعيد ؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية ، والذاتي لا يعلل ، وإنما تعلل الأفعال ؛ لجوازها ، ويصح تعلقه بما تعلق به (فى كتاب) أي : أحصى فى كتاب مبين للجزاء.

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : منكر والبعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب ، ووافق عليها غيره ، وقد أسلم هو. قالوا : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) ، وإنما هى أرحام تدفع ، وأرض تبلع. قبّح الله رأيهم ، وأخلى الأرض منهم. (قُلْ) لهم : (بَلى) ، أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى ، التي للإضراب ، وأوجب ما بعدها ، أي : ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه ، مؤكدا بما هو الغاية فى التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزوجل ، فقال : (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

٤٧٢

ولمّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ) ، وقرأ حمزة والكسائي : «علّام الغيب» ، بالمبالغة ، يعلم ما غاب فى عالم ملكه وملكوته ، (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : لا يغيب عن علمه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) : مقدار أصغر نملة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أي : من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ؛ فى اللوح المحفوظ ، أو فى علمه القديم ، وكنّى عنه بالكتاب ؛ لأن الكتاب يحصى ما فيه.

قال الغزالي ، فى عقيدة أهل السنة : وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، محيط بما يجرى من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، فى الليلة الظلماء ، ويدرك حركة الذر فى جو السماء ، ويعلم السر وأخفى ، ويطّلع على هواجس الضمائر ، وحركات الخواطر ، وخفيات السرائر ، بعلم قديم أزلى ، لم يزل موصوفا به فى أزل الأزل. ه.

ثم علل إتيان الساعة بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما اقترفوا من العصيان ، وما قصروا فيه من مدراج الإيمان ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لما صبروا عليه من مناهج الإحسان. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) بالإبطال وتعويق الناس عنها ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي : لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع «أليم» مكى وحفص ويعقوب ، نعت لعذاب ، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة : الرجز : سوء العذاب (١).

الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان فى القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده ، حتى يكون نصب عين المؤمن ، لا يغيب عنه ساعة ، فإذا دخل مقام العيان ، استغرق فى شهود الذات ، فغاب عن الدارين ، ولم يبق له إلا وجود واحد ، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفى الحقيقة ما ثمّ إلا واحد أحد ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن كما كان ، ويكون فى المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر ضدهم ، فقال :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦١).

٤٧٣

قلت : (ويرى) : مرفوع ، استئناف ، أو منصوب ، عطف على (ليجزى). و (الحق) : مفعول ثان ليرى العلمية. والمفعول الأول : (الذي أنزل) وهو ضمير فصل.

يقول الحق جل جلاله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصحابة ، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم ، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أي : يعلمون (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ؛ يعنى القرآن (هُوَ الْحَقَ) ، لا يرتابون فى حقيّته ؛ لما انطوى عليه من الإعجاز ، وبموافقته للكتب السالفة ، على يد من تحققت أميته. أو : ليجزى المؤمنين ، وليعلم أولو العلم عند مجىء الساعة أنه الحق ، علما لا يزاد عليه فى الإيقان ، لكونه محل العيان ، كما علموه فى الدنيا من طريق البرهان. (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، وهو دين الله ، من التوحيد ، وما يتبعه من الاستقامة.

الإشارة : أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده ، فيسمع كلامه منه ، لكن من وراء رداء الكبرياء ، وهو رداء الحس والوهم ، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته ، فيلزمه الخشوع والبكاء والرقة عد تلاوته. قال جعفر الصادق : «لقد تجلى الحق تعالى فى كلامه ولكن لا تشعرون». ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى ، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب ، فتغيب حلاوة الكلام فى حلاوة شهود المتكلم ، فينقلب البكاء سرورا ، والقبض بسطا. وعن هذا المعنى عبّر الصدّيق عند رؤيته قوما يبكون عند التلاوة ، فقال : «كذلك كنا ولكن قست القلوب» (١) فعبر عن حال التمكن والتصلب بالقسوة ؛ لأن القلب قبل تمكن صاحبه يكون سريع التأثر للواردات ، فإذا تمكن واشتد لم يتأثر بشىء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مقالة أخرى للكفرة ، فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

__________________

(١) راجع التعليق على إشارة الآية ٥٨ من سورة مريم.

٤٧٤

قلت : (إذا) : العامل فيه محذوف ، دلّ عيه : (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). و (ممزّق) : مصدر ، أي : تجددون إذا مزقتم كل تمزيق ، و (جديد) : فعيل بمعنى فاعل ، عند البصريين. تقول : جدّ الثوب فهو جديد ، أو بمعنى مفعول ، كقتيل ، من جد النساج الثوب : قطعه. ولا يجوز فتح (إنكم) للأم فى خبره. و (أفترى) : الهمزة للاستفهام ، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها.

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من منكرى البعث : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) ، يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نكّروه ـ مع أنه كان مشهورا علما فى قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم ـ تجاهلا به وبأمره. وباب التجاهل فى البلاغة معلوم ، دال على سحرها ، (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب ، إنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا ، بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ، وتمزق أجسادكم بالبلى ، كل تمزيق ، وتفرقون كل تفريق ، (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : جنون توهمه ذلك ، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه ، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب ، لاختصاص الافتراء بالتعمد ، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمد الكذب أو لم يتعمد بل به جنون.

قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : ليس محمد من الافتراء والجنون فى شىء ، وهو منزه عنهما ، بل هؤلاء الكفرة ، المنكرون للبعث ، واقعون فى عذاب النار ، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق ، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه ، وهم لا يشعرون بذلك ، وذلك أحق بالجنون. جعل وقوعهم فى العذاب رسيلا لوقوعهم فى الضلال ، مبالغة فى استحقاقهم له ، كأنهما كائنان فى وقت واحد ؛ لأن الضلال ، لمّا كان العذاب من لوازمه ، جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازى ؛ لأنّ البعيد فى صفة الضالّ إذا بعد عن الجادة.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما أينما كانوا ، وحيثما ساروا ، وجدوهما أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، وأن يخرجوا عما هم فيه ، من ملكوت الله ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم فى الأرض ، أو يسقط عليهم (كِسَفاً) ؛ قطعة ، أو قطعا من السماء بتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بما جاء به الرسول ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.

وقرأ حمزة والكسائي «يخسف» ، و «يسقط» بالياء (١) ؛ لعود الضمير على (الله) فى قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) ، وقرأ حفص : «كسفا» بالتحريك ، جمعا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ؛ إن فى النظر إلى السماء والأرض والتفكر فيهما ،

__________________

(١) وكذا قوله : (يشأ). وقرأ الباقون بنون العظمة فى الثلاثة. انظر الإتحاف (٢ / ٣٨٢).

٤٧٥

وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالة ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق ، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ؛ راجع بقلبه إلى ربه ، مطيع له تعالى ، إذ المنيب لا يخلو من النظر فى آيات الله ، فيعتبر ، ويعلم أن من قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام ، قادر على إحياء الأموات وبعثها ، وحسابها وعقابها.

الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله ، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن ، فيقع الإنكار عليهم ، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم فى الظاهر كل ممزق ، يجدد الايمان والإحسان فى بواطنكم ، أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ بل الذي لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهى حياة الروح بمعرفة الله ـ فى عذاب الحجاب والضلال ، عن معرفة العيان بعيد ، ما داموا على ذلك الاعتقاد ، ثم يهددون بما يهدد به منكر والبعث. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان ، احتجاجا على ما منح محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الرسالة والوحى ، ردا لقولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

قلت : (يا جبال) : بدل من (فضلا) ، أو يقدر : وقلنا. و (الطير) : عطف على محل الجبال ، ومن رفعه فعلى لفظه.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي : مزية خصّ بها على سائر الأنبياء ، وهو ما جمع له من النبوة ، والملك ، والصوت الحسن ، وإلانة الحديد ، وتعلم صنعة الزرد ، وغير ذلك مما خص به ، أو : فضلا على سائر الناس بما ذكر ، وقلنا : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) ؛ رجّعى معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه : أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحا ، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه‌السلام ، فكان إذا تخلل الجبال وسبح ؛ جاوبته الجبال بالتسبيح ، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب ، أي : الترجيع ، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع ، أي : ارجعي معه بالتسبيح. (وَالطَّيْرَ) أي : أوبى معه ، أو : وسخرنا له الطير تؤب معه. قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه ، من أجل زلته ، أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم (١).

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ٣٨٨).

٤٧٦

قال القشيري : يقال أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك ، فقال : يا رب ؛ وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال : كنت تجىء بأقدار المطيعين ، والآن تجىء بانكسار المذنبين ، يا داود أنين المذنبين أحب إلىّ من صراخ العابدين. ه. مختصرا. وفى هذا اللفظ من قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) من الفخامة ما لا يخفى ، حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء ؛ الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال : آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير ؛ لم يكن فيه هذه الفخامة.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي : جعلناه له لينا ، كالطين المعجون ، يصرفه بيده كيف يشاء ، من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، قيل : سبب لينه له : أنه لما ملك بنى إسرائيل ، وكان من عادته أن يخرج متنكرا ، ويسأل كل من لقيه : ما يقول الناس فى داود؟ فيثنون خيرا ، فلقى ملكا فى صورة آدمي ، فسأله ، فقال : نعم الرجل ، لو لا خصلة فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبه ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يغنيه عن بيت المال ، فألان له الحديد مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وهو أول من اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح (١).

ويقال : كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله ، ويتصدق على الفقراء والمساكين. وقيل : كان يلين له ولمن اشتغل معه له ، قلت : ذكر ابن حجر فى شرح الهمزية أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه ، وهذا أبلغ من إلانة الحديد ؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار ، ولا بغيرها ، بخلاف الحديد. ه. وقيل : لأن لين الحديد فى يد داود عليه‌السلام لما أولى من شدة القوة.

وأمرناه (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي : دروعا واسعة تامة ، من : السبوغ ، بمعنى الإطالة ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ؛ لا تجعل المسامير دقاقا فيقلق ، ولا غلاظا فتنكسر الحلق ، أو تؤذى لابسها. والتقدير : التوسط فى الشيء ، والسرد : صنعة الدروع ، ومنه قيل لصانعه : السراد والزراد. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) شكرا لما أسدى إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح : ما يصلح للقبول ؛ لإخلاصه واتقائه ، (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم عليه.

الإشارة : الفضل الذي أوتيه داود عليه‌السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون ، فلما شهد المكون ، كانت الأكوان معه. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك». ولا يلزم من كونها معه فى المعنى ، بحيث تتعشق له وتهواه ، أي : تتقاد كلها له فى الحس ، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وتسبق به المشيئة ، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فى الظاهر : الحديد

__________________

(١) ذكر البغوي (٦ / ٣٨٨) وابن كثير (٣ / ٥٢٧).

٤٧٧

الحسى ، وفى الباطن : القلوب الصلبة كالحديد ، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا فى حق كل عارف تلين لوعظه القلوب ، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعا من لين الحديد الحسى. ويقال له : أن اعمل سابغات ، أي : دروعا تامة ، يتحصن بها من الشيطان والهوى ، وهو ذكر الله ، يستعمله ويأمر به ، ذكرا متوسطا ، من غير إفراط ممل ، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كبر قدره عند ربه ، فيؤمر بالشكر ، وهو قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). والله تعالى أعلم.

ثم ذكر سليمان عليه‌السلام ، فقال :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

قلت : «الريح» : مفعول بمحذوف ، أي : وسخرنا له الريح ، ومن رفعه ؛ فمبتدأ تقدم خبره.

يقول الحق جل جلاله : (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) ، وهى الصبا ، (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي : جريها بالغد مسيرة شهر ، إلى نصف النهار ، وجريها بالعشي كذلك. فتسير فى يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق ، مكان داره ، فيقيل بإصطخر فارس ، وبينهما مسيرة شهر ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل ، وبيهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل : كان يتغذّى بالرىّ ، ويتعشى بسمرقند. وعن الحسن : لمّا عقر سليمان الخيل ، غضبا لله تعالى ، أبدله الله خيرا منها الريح ، تجرى بأمره حيث شاء ، غدوها شهر ورواحها شهر. ه (١).

قال ابن زيد : كان لسليمان مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن ، فى كل ركن ألف بيت معه ، فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان ، يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت : وقد تقدم أن العاصفة هى التي ترفعه ، والرخاء تسير به ، وهو أصح. ثم قال : فتقيل عند قوم ، وتمسى عند قوم ، وبينهما شهر ، فلا يدرى القوم إلا وقد أظلهم ، معه الجيوش.

__________________

(١) عزاه فى الدر المنثور (٥ / ٤٢٧) لعبد الرزاق ، وابن أبى شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن الحسن.

٤٧٨

ويروى أن سليمان سار من أرض العراق ، فقال بمدينة مرو ، وصلى العصر بمدينة بلخ ، تحمله الريح ، وتظله الطير ، ثم سار من بلخ متخللا بلاد الترك ، ثم سار به إلى أرض الصين ، ثم عطف يمنة على مطلع الشمس ، على ساحل البحر ، حتى أتى أرض فارس ، فنزلها أياما ، وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى اليمن ، وكان مستقره بها بمدنية تدمر ، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح ، والعمد ، والرخام الأبيض والأصفر. ه.

قلت : وذكر أبو السعود فى سورة «ص» أنه غزا بلاد المغرب الأندلسى وطنجة وغيرهما ، والله تعالى أعلم. ووجدت هذه الأبيات منقورة فى صخرة بأرض كسكر ، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه‌السلام :

ونحن ولا حول سوي حول ربّنا

نروح إلى الأوطان من أرض كسكر

إذ نحن رحنا كان ريث رواحنا

مسيرة شهر والغدوّ لآخر

أناس أعزّ الله طوعا نفوسهم

بنصر ابن داود النبىّ المطهّر

لهم فى معالى الدّين فضل ورفعة

وإن نسبوا يوما فمن خير معشر

متى يركب الريح المطيعة أسرعت

مبادرة عن شهرها لم تقصّر

تظلّهم طير صفوف عليهم

متى رفرفت من فوقهم لم تنفّر (١)

قال القشيري : وفى القصة أنه لا حظ يوما ملكه ، فمال الريح ، فقال له : استو ، فقال له مادمت أنت مستويا بقلبك كنت مستويا لك ، فحيث ملت. ه.

ثم قال : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي : معدن النحاس. والقطر : النحاس ، وهو الصفر ، ولكنه أذابه له ، وكان يسيل فى الشهر ثلاثة أيام ، كما يسيل الماء. وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع منها ما أحب. وقيل : القطر : النحاس والحديد ، وما جرى مجرى ذلك ، كان يسيل له منه عيون. وقيل : ألانه له كما ألان الحديد لأبيه ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان ، كما قيل.

(وَ) سخرنا له (مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) ما يشاء (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي : بأمر ربه ، (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي : ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) : عذاب الآخرة. وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار ، فمن زاغ عن طاعة سليمان ضربة بذلك ضربة أحرقته.

__________________

(١) انظر الأبيات فى : تفسير القرطبي (٦ / ٥٥٠٤ ـ ٥٥٠٥) والبحر المحيط (٧ / ٢٥٤).

٤٧٩

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي : مساجد ، أو مساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. (وَتَماثِيلَ) ؛ صور الملائكة والأنبياء ، على ما اعتادوا من العبادات ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم. صنعوا له ذلك فى المساجد ، ليجتهد الناس فى العبادة. أو : صور السباع والطيور ، روى أنهم عملوا له أسدين فى أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحا. (وَجِفانٍ) ؛ وصحاف ، جمع : جفنة ، وهى القصعة ، (كَالْجَوابِ) ؛ جمع جابية ، وهى الحياض الكبار. قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل ، يأكلون بين يديه ، (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ؛ ثابتات على الأثافى ، لا تنزل ؛ لعظمها ، ولا تعطل ؛ لدوام طبخها. وقيل : كان قوائمها من الجبال ، يصعد إليها بالسلالم ، وقيل : باقية باليمن.

وقلنا : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي : اعملوا بطاعة الله ، واجهدوا أنفسكم فى عبادته ، شكرا لما أولاكم من نعمه. قال ثابت : كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتى ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلّى. ه (١).

وقال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه ، فعالجها ، فلم تنفتح ، حتى قال : بصلوات آل داود إلا فتحت الأبواب ، ففتحت ، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بنى إسرائيل ؛ خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتى ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزوجل يعبد فيها. ه. وعن الفضيل : (اعملوا آل داود) أي : ارحموا أهل البلاء ، وسلوا ربكم العافية.

و (شكرا) : مفعول له ، أو حال ، أي : شاكرين ، أو مصدر ، أي : اشكروا شكرا ؛ لأن «اعملوا» فيه معنى اشكروا ، من حيث إن العمل للنعم شكر ، أو : مفعول به ، أي : إنّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكرا.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ، يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه‌السلام ، أو خطاب لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والشكور :

القائم بحق الشكر ، الباذل وسعه فيه ، قد شغل به بقلبه ولسانه وجوارحه فى أكثر أوقاته ، اعتقادا واعترافا وكدحا. وعن ابن عباس : هو من يشكر على أحواله كلها. وقيل : من شكر على الشكر ، ومن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي : لأن توفيقه للشكر نعمة ، فتقتضى شكرا آخر ، لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر. ه.

الإشارة : وسخرنا لسليمان ريح الهداية ، تهب بين يديه ، يهتدى به مسيرة شهر وأكثر ، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة ، فقطرت بالدموع خشوعا وخضوعا. وكل من أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات ، جنها وإنسها ، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود : اعملوا آل داود شكرا. قال الجنيد : الشكر : بذل المجهود بين يدى المعبود. وقال أيضا : الشكر ألا يعصى الله بنعمه.

__________________

(١) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٤٣٠) لابن أبى شيبة ، وأحمد ، فى الزهد ، وابن أبى حاتم ، والبيهقي فى الشعب ، عن ثابت البناني.

٤٨٠