البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر ، وأنه لوزم بين القتلى. وفى المشارق : اللزام : الفيصل ، وقد كان يوم بدر. ه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا) بأهل اللغو ، وهم المتكلمون فى حس الأكوان ، مروا كراما ؛ مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم ، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا ..) إلخ ، قال القشيري : قرة الروح : حياتها ، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائما. ويقال : قرة العين من كان لطاعة الله معانقا ، ولمخالفة أمره مفارقا. ه. قلت : قرة العين تكون فى الولد الروحاني ، كما تكون فى الولد البشرى ؛ فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مجدّا صادقا فى الطلب ، حصل له بذلك غاية السرور والطرب ، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وصحبه وسلّم تسليما.

١٢١
١٢٢

سورة الشّعراء

مكية ، إلا قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ؛ فإنها مدنية. وهى مائتان وسبع وعشرون آية. وفى الحديث : «أعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» (١) عليه‌السلام ؛ أي : بدلها ، كما فى حديث آخر. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر تكذيب قريش وأوعدهم بلزوم العذاب ، ذكر تلهف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، حيث لم يؤمنوا حتى استوجبوا ذلك بقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية ، ثم سلاه بما ذكر من قصص الأنبياء وتكذيب قومهم وإهلاكهم بأنواع العذاب ، ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه ، كما هو شأنه حين يريد أن يقص عليه قصص من قبله ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (طسم) أي : يا طاهر ، يا سيد ، يا محمد ، أو : أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي : أقسم تعالى بطوله وسنائه وملكه ، والمقسم عليه : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ ...) إلخ. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي : ما نسرده عليك فى هذه السورة وغيرها من الآيات ، هى آيات الكتاب ، أي : القرآن المبين ، أي : الظاهر إعجازه ، وأنه من عند الله ، على أنه من أبان ، بمعنى بان ، أو : المبين للأحكام الشرعية والحكم الربانية ، أو : الفاصل بين الحق والباطل. وما فى الإشارة من معنى البعد ؛ للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه فى الفخامة ورفعة القدر.

ثم شرع فى تسليته بقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي : قاتل نفسك. قال سهل : تهلك نفسك باتباع المراد فى هدايتهم وإيمانهم ، وقد سبق منى الحكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين ، فلا تبديل ولا تغيير. و «لعل» : للإشفاق ،

__________________

(١) أخرجه مطولا ، البيهقي فى السنن (١٠ / ٩) ، والحاكم فى المستدرك (١ / ٥٦٨) عن معقل بن يسار. وفيه «عبد الله بن أحمد». قال الذهبي : تركوا حديثه.

١٢٣

أي : أشفق على نفسك أن تقتلها ؛ حسرة على ما فاتك من إسلام قومك (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين ، (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) ، هو تعليل لما قبله من النهى عن التحسر ؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة ، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ، والمفعول محذوف ، أي : إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاهرة لهم عليه ، (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ؛ منقادين. والأصل : فظلوا لها خاضعين ، فأقمحت الأعناق ؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع ، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل : لمّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم ، كقوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). وقيل : المراد بالأعناق : الرؤساء ومقدمو الجماعة ، وقيل : الجماعة ، من قولهم : جاءنا عنق من الناس ، أي : فوج. وقرئ : خاضعة ، على الأصل.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب ؛ لصرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحرص على إسلامهم ، وقطع رجائه فيهم على الجملة ، قال القشيري : أي : ما نجدّد لهم شرعا ، أو نرسل رسولا إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه ، وقابلوه بالتكذيب ، فلو أنهم أنعموا النظر فى آياتهم ، لا تضح لهم صدقهم ، ولكن المقسوم من الخذلان فى سابق الحكم يمنعهم من الإيمان والتصديق. ه.

والتعرض لعنوان الرحمة ؛ لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم ؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عزوجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعما يأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية ، أو من طائفة نازلة من القرآن تذكّرهم أكمل تذكير ، وتنبههم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضا عنه ؛ على وجه التكذيب والاستهزاء ؛ إصرارا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال.

(فَقَدْ كَذَّبُوا) بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا مقارنا للاستهزاء ، (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي : فسيعلمون (أَنْبؤُا) أي : أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، وأنباؤه : ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة ، عبّر عنها بالأنباء ؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم ، وإما لأنهم ، بمشاهدتها ، يقفون على حقيقة القرآن الكريم ، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم ، باستماع الأنباء. وفيه تهويل : لأن الأنباء لا تطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير ، أي : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به ، إما فى الدنيا ، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتوف ، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ٤ من سورة يوسف.

١٢٤

الإشارة : طسم ، الطاء تشير إلى طهارة سره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والسين تشير إلى سيادة قدره ، والميم إلى مجادة أمره ، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو : الطاء تشير إلى التنزيه للقلب ، من حيث هو ، والتطهير. والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير ، والميم تشير إلى تصرفه فى الملك والملكوت بإذن العلى الكبير. وهذه بداية السير ونهايتة ، فيكون حيئذ عارفا بالله ، خليفة رسول الله فى العودة إلى الله ، فإن حرص على هداية الخلق فيقال له : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعا ، ولا يزالون مختلفين ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ). وبالله التوفيق.

ثم ذكر دلائل قدرته على ما ذكر ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

قلت : الهمزة : للإنكار التوبيخي ، والواو : للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب ، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض .. إلخ. و (كم) : خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : ينظروا (إِلَى) عجائب (الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ؛ أي : من كل صنف محمود كثير المنفعة ، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر ، دون ماعداه من الأصناف ؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معا. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات ؛ نافعها وضارها ، ويكون وصف الكل بالكرم ؛ للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة ، إما وحده ، أو بانضمامه إلى غيره ، كما نطق به قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) ؛ فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلا إلا وفيه حكمة بالغة ، وإن غفل عنه الغافلون ، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتى الكثرة والإحاطة ، وهما «كم» و «كلّ» ؛ أنّ كلمة «كلّ» تدل على الإحاطة بأزواج النبات ؛ على سبيل التفصيل ، و «كم» تدل على أنّ هذا المحاط متكاثر ، مفرط الكثرة ، وبه نبّه على كمال قدرته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنبات ، أو : كل صنف من تلك الأصناف (لَآيَةً) عظيمة دالة على كمال قدرته ، وسعة علمه وحكمته ، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان ، الوازعة عن الكفر والطغيان. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي : أكثر قومه ـ عليه الصلاة والسلام ـ (مُؤْمِنِينَ) فى علم الله تعالى وقضائه ، حيث علم أنهم سيصرفون عنه ، ولا يتدبرون فى هذه الآيات العظام. وقال سيبويه : «كان» : صلة ، والمعنى : وما أكثرهم مؤمنين ، وهو الأنسب بمقام

__________________

(١) من الآية ٢٩ من سورة البقرة.

١٢٥

عتوهم وغلوهم فى المكابرة والعناد ، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذرون فيه بحسب الظاهر ؛ لأن التفريق بين القدرة والحكمة ، اللتين هما محل التحقيق والتشريع ، قد خفى على مهرة العلماء ، فضلا عن غيرهم. فالحكم بزيادة «كان» أقرب ؛ كأنه قيل : إن فى ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان ، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك ؛ لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم ؛ لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) ؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من هؤلاء ، (الرَّحِيمُ) ؛ المبالغ فى الرحمة ، ولذلك يمهلهم ، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفى التعرض لوصف الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، من تشريفه والعدة الحقيّة (١) بالانتقام من الكفرة ما لا يخفى. قاله أبو السعود.

الإشارة : أو لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة ، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة ، والحكم العجيبة ، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة ، إنّ فى ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها ، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو : أولم يروا إلى أرض العبودية ، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية ، والمقامات اليقينية ، والمكاشفات الوهبية ، إن فى ذلك لأية ، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ، يعز من يشاء ، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.

ثم شرع فى قصص الأنبياء ؛ تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدأ بموسى عليه‌السلام ؛ لشدة معالجته لقومه ، فقال :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر يا محمد (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) أي : وقت ندائه إياه ، وذكّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم ؛ زجرا لهم ، وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين.

__________________

(١) فى تفسير أبى السعود : «الخفية».

١٢٦

أو : واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه ، حيث أرسله وقال له : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، أو : بأن ائت القوم الظالمين بالكفر والمعاصي ، أو : باستعباد بنى إسرائيل وذبح أبنائهم. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : عطف بيان ، تسجيل عليهم بالظلم ، ثم فسرهم ، وقل لهم : (أَلا يَتَّقُونَ) الله ، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب ؛ على طريقة الالتفات ، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم ، كأنّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به ، بل ما فى سورة طه من قوله : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ..) (١) إلخ ، واختصره هنا لمقتضى المقام.

(قالَ) موسى عليه‌السلام ؛ متضرعا إلى الله عزوجل : (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) من أول الأمر ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي) بتكذيبهم إياى ، (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) ؛ بأن تغلبنى الحمية على ما أرى من المحال ، وأسمع من الجدال ، أو : تغلبنى عقدة لسانى ، (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أخى ، أي : أرسل جبريل إليه ، ليكون نبيا معى ، أتقوّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف فى الأمر ، وإنما هو استدعاء لما يعينه على الامتثال ، وتمهيد عذره.

ثم قال : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي : تبعة ذنب بقتل القبطىّ ، فحذف المضاف ، أو : سمّى تبعة الذنب ذنبا ، كما يسمّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنبا بحسب زعمهم. (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به ؛ قصاصا. وليس هذا تعللا أيضا ، بل استدفاع للبلية المتوقعة ، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ولذلك وعده بالكلاءة ، والدفع عنه بكلمة الردع ، وجمع له الاستجابتين معا بقوله :

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا) ؛ لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف ، والتمس منه رسالة أخيه ، فأجابه بقوله : (فَاذْهَبا) ، أي : جعلته رسولا معك (فَاذْهَبا بِآياتِنا) أي : مع آياتنا ، وهى اليد والعصا وغير ذلك ، فقوله : (فَاذْهَبا) : عطف على مضمر ، ينبئ عنه الردع ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوبا بآياتنا ، فإنها تدفع ما تخافه.

(إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي : سامعون ما يقال لك ، وما يجرى بينكما وبينه ، فنظهر كما عليه. شبّه حاله تعالى بحال ذى شوكة قد حضر مجادلة ، فسمع ما يجرى بينهم ، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم ؛ مبالغة فى الوعد بالإعانة ، فاستعير الاستماع ، الذي هو الإصغاء للسمع ، الذي هو العلم بالحروف والأصوات ، وهو تعليل ؛ للردع عن الخوف ، ومزيد تسلية لهما ، بضمان كمال الحفظ والنصر ، كقوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٢).

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب ؛ لأن معنى هذا : الوصول إلى المرسل إليه ، والذهاب : مطلق التوجه ، ولم يثنّ الرسول هنا كما ثناه فى سورة طه (٣) ؛ لأن الرسول

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة طه.

(٢) الآية ٤٦ من سورة طه.

(٣) فى قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ، الآية ٤٧.

١٢٧

يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة ، فيكون مصدرا ، فجعل ثمّة بمعنى المرسل فثنى ، وجعل هنا بمعنى الرسالة ، فسوّى فى الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، كما تقول : رجل عدل ، ورجلان عدل ، ورجال عدل ؛ لاتحادهما فى شريعة واحدة ، كأنهما رسول واحد. قلت : والنكتة فى إفراد هذا وتثنية الآخر ؛ أن الخطاب فى سورة طه توجه أول القصة إليهما معا بقوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) فجرى فى آخر القصة على ما افتتحت به ، وهنا توجه الخطاب فى أولها إلى موسى وحده ، بقوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. والله تعالى أعلم.

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، «أن» مفسرة ؛ لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ، أي : خلّ بنى إسرائيل تذهب معنا إلى الشام ، وكان مسكنهم بفلسطين منه ، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه‌السلام إلى مصر ، فى زمن يوسف عليه‌السلام. والله تعالى أعلم.

الإشارة : من كان أهلا للوعظ والتذكير لا ينبغى أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية ، فإن الله معه بالحفظ والرعاية. نعم ؛ إن طلب المعين فلا بأس ، فإن أبهة الجماعة ، فى حال الإقبال على من يعظمهم ، أقوى فى إدخال الهيبة والروع فى قلوبهم ، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر جواب فرعون ومجادلته ، فقال :

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩))

١٢٨

يقول الحق جل جلاله : لما أتى موسى وهارون فرعون وبلّغا الرسالة ، (قالَ) له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ ..) إلخ ، روى أنهما أتيا بابه فلم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال : ائذن له ، لعلنا نضحك منه ، فأذن ، فدخل ، فأدى الرسالة ، فعرفه فرعون (١) ، فقال له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) ؛ فى حجرنا ومنازلنا ، (وَلِيداً) أي : طفلا. عبّر عنه بذلك ؛ لقرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه‌السلام : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، بنسبته تربيته إليه وليدا. ولذلك تجاهل بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي ...) إلخ ، (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين ، وأقام به عشر سنين ، ثم عاد يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ ثلاثين سنة ، ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : قتل القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة ، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم.

ثم قال له : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعنى : قتل القبطي ، بعد ما عدد عليه نعمته ؛ من تربيته ، وتبليغه مبلغ الرجال ، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه ، أي : قتلت صاحبى ، (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي ، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصى ، أو : أنت حينئذ ممن تكفر بهم الآن ، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفرا ، وهذا افتراء منه عليه ؛ لأنه معصوم ، وكان يعاشرهم بالتقية ، وإلا فأين هو عليه‌السلام من مشاركتهم فى الدين.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً) أي : إذ ذاك (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : من المخطئين ؛ لأنه لم يتعمد قتله ، بل أراد تأديبه ، أو : الذاهلين عما يؤدى إليه الوكز. أو : من الضالين عن النبوة ، ولم يأت عن الله فى ذلك شىء ، فليس علىّ توبيخ فى تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر ، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع ، وهذا كله لا ينافى النبوة ، وكذلك التربية لا تنافى النبوة.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) إلى ربى ، متوجها إلى مدين (لَمَّا خِفْتُكُمْ) أن تصيبنى بمضرة ، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : حكمة ، أو : نبوة وعلما ، فزال عنى الجهل والضلالة ، (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ؛ من جملة رسله ، (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : تلك التربية نعمة تمنّ بها علىّ ظاهرا ، وهى فى الحقيقة تعبيدك بنى إسرائيل ، وقهرك إياهم ، بذبح أبنائهم ، فإنه السبب فى وقوعي عندك وحصولى فى تربيتك ، ولو تركتهم لربانى أبواى. فكأن فرعون فى الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه‌السلام : أو تلك نعمة تمنّها علىّ ؛ استعبادك لهم ، ليس ذلك بنعمة ، ولا لك فيها علىّ منة ، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير فى «تمنّها» و «عبّدت» ، وجمعها فى «منكم» و «خفتكم» ؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملائه المؤتمرين به ، وأما الامتنان فمنه وحده.

__________________

(١) انظر البحر المحيط (٧ / ١٠).

١٢٩

وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين ، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده ؛ مكابرة وتجاهلا وتعاميا ، طلبا للرئاسة ، كما قال تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ، أي : أىّ شىء رب العالمين ، الذي ادعيت أنك رسوله ، منكرا لأن يكون للعالمين رب غيره ، حسبما يعرب عنه قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١) ، وقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢). أو : فما صفته ، أو حقيقته؟ (قالَ) موسى : هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي : ما بين الجنسين ، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي : إن كنتم موقنين بالأشياء ، محققين لها ، علمتم ذلك ، أو : إن كنتم موقنين شيئا من الأشياء ، فهذا أولى بالإيقان ؛ لظهور دليله وإنارة برهانه.

(قالَ) فرعون ، عند سماع جوابه عليه‌السلام ، خوفا من تأثيره فى قلوبهم ، (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه ، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) ، أنا أسأله عن الماهية ، وهو يجيبنى بالخاصية. ولما كانت ماهية الربوبية لا تدرك ولا تنال حقيقتها ، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية.

ثم (قالَ) عليه‌السلام : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، أي : وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية ، وإنما قال : (وَرَبُّ آبائِكُمُ) ؛ لأن فرعون كان يدعى الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.

(قالَ) فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ؛ حيث يزعم أن فى الوجود إلها غيرى ، أو : حيث لا يطابق جوابه سؤالى ؛ لأنى أسأله عن الحقيقة وهو يجيبنى بالخاصية ، (قالَ) موسى عليه‌السلام : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد ، حيث عمم أولا بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم ؛ لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد من أحواله ، من وقت ميلاده إلى وفاته ، ثم خصّص المشرق والمغرب ؛ لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها فى الآخر ، على تقدير مستقيم وحساب مستو ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية ، ووجوب وجودها. أو : تقول : لما سأله عن ماهية الربوبية ؛ جهلا ؛ فأجابه ، بالخاصية ، قال (أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ فعاد موسى إلى مثل قوله ، فجنّنه فرعون ، زاعما أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثا مبينا أن الواجب الوجود ، الفرد الصمد ، لا يدرك بالكنه ، إنما يعرف بالصفات ، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص ، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، أي : إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق.

__________________

(١) من الآية ٢٤ من سورة النازعات.

(٢) من الآية ٣٨ من سورة القصص.

١٣٠

قال ابن جزىّ : إن قيل : كيف قال أولا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، ثم قال آخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟ فالجواب : أنه لاين أولا ؛ طمعا فى إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله : «إن كنتم تعقلون» ، وجعل ذلك فى مقابلة قول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). ه.

ولما تجبر فرعون وبهت (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ، أي : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم فى سجونى ، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه ، فيطرحه فى هوّة ذاهبة فى الأرض ، بعيدة العمق ، فردا ، لا ينظر فيها ولا يسمع ، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال : لأسجننك ، لم يؤد هذا المعنى ، وإن كان أخصر. قاله النسفي.

الإشارة : التربية لها حق يراعى ويجب شكرها ، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري : لم يجحد موسى حقّ التربية والإحسان إليه فى الظاهر ، ولكن بيّن أنه إذا أمر الله بشىء وجب اتباع أمره ، وإذا كانت تربية المخلوقين توجب حقا ، فتربية الله أولى بأن يعظّم العبد قدرها. ه. فكل من أحسن إلى بشريتك بشىء وجب عليك شكره ؛ بالإحسان إليه ، ولو بالدعاء ، وكل من أحسن إلى روحانيتك ؛ بالعلم أو بالمعرفة ، وجب عليك خدمته وتعظيمه ، وإنكار ذلك سبب المقت والطرد ، والعياذ بالله.

وقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) : سؤال عن حقيقة الذات ، ومعرفة الكنه متعذرة ؛ إذ ليس كمثله شىء ، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (١) فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات فى الجملة ، ولم تترك منها شيئا ، والإحاطة بالكنه متعذرة ، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين ترق ، مع أن ترقيهم فى كشوفات الذات لا ينقطع أبدا ، فى هذه الدار الفانية ، وفى تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.

ثم ذكر معجزة العصا وما يتبعها ، فقال :

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))

قلت : (لو) : هنا ، ليست امتناعية ، بل إغيائية ، فلا جواب لها ، أي : تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشىء مبين.

__________________

(١) من الآية ٣ من سورة الحديد.

١٣١

يقول الحق جل جلاله : (قالَ) موسى عليه‌السلام لفرعون ، لمّا هدده بالسجن : (أَوَلَوْ) ؛ أتفعل ما ذكرت من سجنى ولو (جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ؛ واضح الدلالة على صدقى ، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة ؛ فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته ، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والتعبير عنه بالشيء ؛ للتهويل. (قالَ) فرعون : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما قلت من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك ، أو : من الصادقين فى دعوى الرسالة.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي : ظاهر ثعبانيته ، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. روى أنها ارتفعت فى السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة على فرعون ، تقول : يا موسى ؛ مرنى بما شئت ، فيقول فرعون : أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها ، فعادت عصا. (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي : أخرجها من تحت إبطه ، (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي : بياضا خارجا عن العادة ، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه ؛ لخروجه عن العادة.

روى أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال : هل لك غيرها؟ فأخرج يده ، وقال لفرعون : ما هذه؟ قال : يدك ، فأدخلها تحت إبطه ، ثم نزعها ، ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شىء.

الإشارة : النفوس الفرعونية هى التي تتوقف فى الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة ، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة ، بل يخلق الله فيها الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية ، من غير توقف على شىء. وبالله التوفيق.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))

قلت : (حوله) : ظرف وقع موقع الحال ، أي : مستقرين حوله.

يقول الحق جل جلاله : (قالَ) فرعون ، لمّا رأى ما بهته وحيّره ، (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) ، وهم أشراف قومه : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ؛ فائق فى فن السحر. ثم أعدى قومه على موسى بقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) بما صنع (مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) ؛ تشيرون فى أمره ؛ من حبس أو قتل ، وهو من المؤامرة ، أي : المشاورة ، أو : ماذا تأمرون به ، من الأمر ، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره ، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده ـ فى زعمه ـ والامتثال لأمرهم ، وجعل نفسه مأمورة ، أو : إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم ، بعد ما كان مستقلا فى الرأى والتدبير.

١٣٢

(قالُوا) له : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي : أخّر أمرهما ، ولا تعجل بقتلهما ؛ خوفا من الفتنة أو : احبسهما ، (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي : شرطا يحشرون السحرة ، (يَأْتُوكَ) أي : الحاشرون (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) ؛ فائق فى فن السحر. وأتوا بصيغة المبالغة ؛ ليسكّنوا بعض روعته. والله تعالى أعلم.

الإشارة : المشاورة فى الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأى ، وفى الحديث : «ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار» (١) ، فالمشاورة من الأمر القديم ، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون فى أمورهم ؛ اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبالله التوفيق.

ثم ذكر جمع السحرة ، فقال :

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤))

يقول الحق جل جلاله : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، وهو ما عيّنه موسى عليه‌السلام بقوله : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٢). والميقات : ما وقت به ، أي : حدّ من زمان أو مكان. ومنه : مواقيت الحج. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي : اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام ؛ حثا على الاجتماع. واستبطاء لهم ، والمراد : استعجالهم إليه ، (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) فى دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي : إن غلبوا موسى ، ولا نتبع موسى فى دينه ، وليس غرضهم اتباع السحرة ، وإنما الغرض الكلى ألا يتبعوا موسى ، فساقوا كلامهم مساق الكناية ؛ حملا لهم على الاهتمام والجد فى المغالبة ؛ لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى ، وهو مرادهم ، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد فى المغالبة.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي : جزاء وافرا (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لموسى؟ (قالَ نَعَمْ) لكم ذلك ، (وَإِنَّكُمْ) مع ذلك ، (إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عندى فى المرتبة والحال ، فتكونون أول من

__________________

(١) أخرجه الطبراني فى الأوسط (٦٦٢٧) ، والصغير (٢ / ٧٨) ، والشهاب القضاعي فى مسنده (٧٧٤) ، من حديث أنس. وانظر كشف الخفاء (٢ / ١٨٥).

(٢) الآية ٥٩ من سورة طه.

١٣٣

يدخل علىّ ، وآخر من يخرج عنى. ولما كان قوله : (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) ، فى معنى جزاء الشرط ؛ لدلالته عليه ، وكان قوله : (وَإِنَّكُمْ إِذاً) : معطوفا عليه ، دخلت «إذا» ؛ قارة فى مكانها ، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.

(قالَ لَهُمْ مُوسى) بعد أن قالوا له : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (١) : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من السحر ، فسوف ترون عاقبته. ولم يرد به الأمر بالسحر والتمويه ، بل الإذن فى تقديم ما هم فاعلوه البتة ؛ توسلا به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل ، (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) ، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا. وقيل : كانت الحبال اثنين وسبعين ، وكذا العصىّ. (وَقالُوا) بعد الإلقاء ، لما رأوها تتحرك وتقبل وتدبر : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) ، قالوا ذلك ؛ لفرط اعتقادهم فى أنفسهم ، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر ، أقسموا بعزته وقوته ، وهو من أيمان الجاهلية. والله تعالى أعلم.

الإشارة : السحر على قسمين : سحر القلوب إلى حضرة الحق ، وسحر النفوس إلى عالم الخلق ، أو : إلى عالم الخيال. فالأول : من شأن العارفين بالله ، الداعين إلى الله ، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، فيقال فى شأنهم : فجمع السحرة بقلوبهم ، إلى ميقات يوم معلوم ، وهو يوم الفتح والتمكين ، أو يوم النفحات ، عند اتفاق جمعهم فى مكان معلوم. وقيل للناس ، وهو عوام الناس : هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم ، وتتيقظوا من نوم غفلتكم ، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، ولا شك فى غلبتهم ونصرهم ؛ لقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (٢).

ثم ذكر إبطال سحرهم ، وإسلامهم ، فقال :

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

__________________

(١) الآية ٦٥ من سورة طه.

(٢) من الآية ٤٠ من سورة الحج.

١٣٤

يقول الحق جل جلاله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) من يده ، (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي : تبتلع بسرعة (ما يَأْفِكُونَ) : ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ، ويزورونه ، فيخيّلون فى حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لما شاهدوا ذلك من غير تلعثم ولا تردد ، غير متمالكين لأنفسهم ؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر ، وأنه أمر إلهى ، يدل على تصديق موسى عليه‌السلام. وعبّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة ؛ لقوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ، فألقى ، فلما خروا سجودا ، (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال عكرمة : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. ه. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) : عطف بيان ، أو : بدل من (بِرَبِّ الْعالَمِينَ). فدفع توهم إرادة فرعون ؛ لأنه كان يدعى الربوبية ، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل : إن فرعون لما سمع منهم : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال : إياى عنيتم؟ قالوا : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي : بغير إذن لكم ، كما فى قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (١) ، لان أن الإذن منه ممكن أو متوقع ، (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فتواطأتم على ما فعلتم ؛ مكرا وحيلة. أراد بذلك التلبيس على قومه ؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هدّدهم بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) ، يدا من جهة ورجلا من أخرى ، أو : من أجل خلاف ظهر منكم ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) قيل : إنه فعل ذلك ، وروى عن ابن عباس وغيره ، وقيل : إنه لم يقدر على ذلك ، لقوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٢).

(قالُوا) أي : السحرة : (لا ضَيْرَ) أي : لا ضرر علينا فى ذلك ، فحذف خبر «لا» ، (إِنَّا إِلى رَبِّنا) الذي عرفناه وواليناه (مُنْقَلِبُونَ) لا إليك ، فيكرم مثوانا ويكفر خطايانا ، أو : لا ضرر علينا فيما توعدتنا به ؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت ، فلأن يكون فى ذاته وسبب دينه أولى ، قال الورتجبي : لمّا عاينوا مشاهدة الحق سهل عليهم البلاء ، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه ، بنعت الرضا والغفران. ه. ولذلك قالوا : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا) أي : لأن كنا (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل المشهد ، أو : من أتباع فرعون.

الإشارة : من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئا إلا بإذن من ملكهم ، ولذلك أنكر فرعون على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه ، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم ، فلا يفعلون فعلا حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ ، وللإذن سر كبير ، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة فى سورة الأعراف (٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ١٠٩ من سورة الكهف.

(٢) الآية ٣٥ من سورة القصص.

(٣) راجع إشارة الآيات ١١٧ ـ ١٢٦ من سورة الأعراف.

١٣٥

ثم ذكر خروج موسى عليه‌السلام من مصر وتوجهه إلى البحر ، فقال :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

قلت : أسرى وسرى : لغتان ، وقرئ بهما.

يقول الحق جل جلاله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ) بقطع الهمزة ووصلها ، أي : سر (بِعِبادِي) ليلا. وسماهم عباده ؛ لإيمانهم بنبيهم ، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين ، أقام بين أظهرهم ، يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات ، ثم أمره بالخروج ، وقال : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي : يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين ، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر ، فيدخلوا مداخلكم ، فأطبقه عليهم فأغرقهم. روى أنه مات فى تلك الليلة فى كل بيت من بيوت القبط ولد ، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروى أن الله أوحى إلى موسى : أن اجمع بنى إسرائيل ، كلّ أربعة أبيات فى بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإنى سآمر الملائكة فلا تدخل بيتا فيه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار القبط ، واخبزوا فطيرا ؛ فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهى إلى البحر فيأتيك أمرى. (١) ه. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بنى إسرائيل ، فلا تقتل الملائكة فيها أحدا. عاملهم على قدر عقولهم ، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أمر به.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين أخبر بمسيرهم (فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) ؛ جامعين للعساكر ليتبعهم ، فلما اجتمعوا قال : (إِنَّ هؤُلاءِ) ، يريد بنى إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ) ؛ طائفة قليلة (قَلِيلُونَ) ، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة ، ثم جعلهم قليلا بالوصف ، ثم جمع القليل ، فيدل على أن كل حزب منهم قليل. أو : أراد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدد ، أي : إنهم ؛ لذلتهم ، لا يبالى بهم ، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة : شرذمة : تقليل لهم باعتبار الكيفية ، وقليلون : باعتبار الكمية ، وإنما استقلّ قوم موسى ـ وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا ـ ؛ لكثرة من معه ، فعن الضحاك : كانوا سبعة آلاف ألف ، وروى أنه أرسل فى أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر ، مع كل ملك ألف ، وخرج فرعون فى جمع عظيم ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان ، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنه خرج فرعون فى ألف ألف حصان ، من سوى الإناث. ه (٢).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري (١٩ / ٧٦) ، والدر المنثور (٥ / ١٥٨) والبغوي (٦ / ١١٣).

(٢) قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٣٣٦) بعد ذكره لبعض الأقوال فى تعيين عدد الذين خرجوا مع فرعون : والظاهر أن ذلك من مجازفات بنى إسرائيل ، والله أعلم. والذي أخبر به القرآن هو النافع ، ولم يعين عدتهم ؛ إذ لا فائدة تحته ، لأنهم خرجوا بأجمعهم.

١٣٦

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي : فاعلون ما يغيظنا ، وتضيق به صدورنا ، وهو خروجهم من مصر ، وحملهم حلينا ، وقتلهم أبكارنا ، (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي : ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم فى الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ؛ لئلا يظن العجز. وقرئ : (حذرون) (١) ؛ بالمد والقصر ، فالأول دال على تجد الحذر ، والثاني على ثبوته.

قال تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي : خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه ، (مِنْ جَنَّاتٍ) ؛ بساتين (وَعُيُونٍ) ؛ وأنهار جارية ، (وَكُنُوزٍ) ؛ أموال وافرة من ذهب وفضة ، وسماها كنوزا ؛ لأنهم لم ينفقوا منها فى طاعة الله تعالى شيئا. (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي : منزل رفيع بهيّ ، وعن ابن عباس : المنابر.

(كَذلِكَ) أي : الأمر كذلك ، أو : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب ، فهو خبر ، أو : مصدر تشبيهى لأخرجنا. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : ملكناها إياهم ، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث ؛ لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن : لما عبروا النهر رجعوا ، وأخذوا ديارهم وأموالهم. ه. قال ابن جزى : لم يذكر فى التواريخ ملك بنى إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على هذا : أورثناهم مثل ذلك بالشام. ه. قلت : بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف فى مصر ، ووصلت حكومتهم إليها ، ولم يرجعوا إليها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : لا ينتصر نبىّ ولا ولىّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه ؛ سنّة الله التي قد خلت من قبل ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا ، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة ؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). وبالله التوفيق.

ثم ذكر معجزة فلق البحر وغرق فرعون ، فقال :

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

__________________

(١) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي (حاذرون) بألف بعد الحاء. وقرأ الباقون بحذفها. انظر الإتحاف (٢ / ٣١٦).

١٣٧

يقول الحق جل جلاله : (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي : فأتبع فرعون وقومه بنى إسرائيل ، أي : لحقوا بهم ، وقرئ بشد التاء ، على الأصل ، (مُشْرِقِينَ) ؛ داخلين فى وقت شروق الشمس ، أي : طلوعها ، (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي : تقابلا ، بحيث يرى كلّ فريق صاحبه ، أي : بنو إسرائيل والقبط ، (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي : قرب أن يلحقنا عدونا ، وأمامنا البحر ، (قالَ) موسى عليه‌السلام ؛ ثقة بوعد ربه : (كَلَّا) ارتدعوا عن سوء الظن بالله ، فلن يدرككم أبدا ، (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي : سيهدينى طريق النجاة منهم.

روى أن موسى عليه‌السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمى بموج مثل الجبال ، فقال يوشع عليه‌السلام : يا كليم الله ، أين أمرت ، فقد غشينا فرعون ، والبحر أمامنا؟ قال عليه‌السلام : هاهنا ، فخاض يوشع الماء ، وضرب موسى بعصاه البحر ، فكان ما كان ، وقال الذي كان يكتم إيمانه : يا مكلم الله أين أمرت؟ قال : هاهنا. فكبح فرسه بلجامه ، ثم أقحمه البحر ، فرسب فى الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدرى كيف يصنع؟ فأوحى الله إليه : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) ، فضربه ، فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه ، لم يبتلّ لبده ولا سرجه (١).

وقال محمد بن حمزة : لما انتهى موسى إلى البحر ، دعا ، فقال : يا من كان قبل كل شىء ، والمكوّن لكلّ شىء ، والكائن بعد كلّ شىء ، اجعل لنا مخرجا ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر (٢) ، وذلك قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) أي : القلزم ، أو النيل ، (فَانْفَلَقَ) أي : فضرب فانفلق وانشقّ ، فصار اثنى عشر فرقا ، على عدد الأسباط. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) أي : جزء من الماء (كَالطَّوْدِ) : كالجبل المنطاد فى السماء (الْعَظِيمِ) ، وبين تلك الجبال من الماء مسالك ، بأن صار الماء مكفوفا كالجامد ، وما بينها يبس ، فدخل كل سبط فى شعب منها.

(وَأَزْلَفْنا) أي : قرّبنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي : فرعون وقومه ، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم ، (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) من الغرق ؛ بحفظ البحر على تلك الهيئة ، حتى عبروه ، (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ؛ بإطباقه عليهم. قال النسفي : وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب فى الآجال وغيرها من الحوادث ، فإنهم اجتمعوا فى الهلاك ، على اختلاف طوالعهم. روى أن جبريل عليه‌السلام كان بين بنى إسرائيل وبين آل فرعون ، فكان يقول لبنى إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم ، ويستقبل القبط فيقول : رويدكم ، ليلحق آخركم (٣). ه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي : فى جميع ما فصّل ؛ مما صدر عن موسى عليه‌السلام ، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة ، وفيما فعل فرعون وقومه ؛ من الأفعال والأقوال ، وما فعل بهم من العذاب والنكال ، لعبرة عظيمة ، لا تكاد توصف ، موجبة لأن يعتبر المعتبرون ، ويقيسوا شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن موسى عليه‌السلام ، وحال أنفسهم

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٩ / ٨٠) عن ابن جريج. وذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ١١٥).

(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٣٣٦) لابن أبى حاتم ، عن عبد الله بن سلام.

(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥ / ١٦٣ ـ ٩٦٤) لابن عبد الحكم وعبد بن حميد ، عن مجاهد.

١٣٨

بحال أولئك المهلكين ، ويجتنبوا تعاطى ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله ، كى لا يحل بهم ما حلّ بأولئك ، أو : إن فيما فصل من القصة ؛ من حيث حكايته عليه‌السلام إياها على ما هى عليه ، من غير أن يسمعها من أحد ، لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحى الصادق ، موجبة للإيمان بالله تعالى ، وتصديق من جاء بها وطاعته.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : وما كان أكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قصصهم منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مؤمنين ، فلم يقيسوا حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال موسى ، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ، ولم يتدبروا فى حكايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد ، مع كونه أميا لا يقرأ ، وكل من الطريقين مما يؤدى إلى الإيمان ، قطعا لانهماكهم فى الغفلة ، فكان ؛ على هذا ، زائدة ، كما هو رأى سيبويه ، فيكون كقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١) وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم فى المستقبل ، أو : وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه‌السلام ، قال مقاتل : لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين ؛ حزقيل المؤمن من آل فرعون ، وآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت ياموشى ، التي دلّت على عظام يوسف. ه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) ؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من المكذبين ، (الرَّحِيمُ) ؛ البالغ فى الرحمة ، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم ، أو : العزيز بالانتقام من أعدائه ، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا الله من خاصتهم بمنّه وكرمه ، آمين.

الإشارة : قوله تعالى : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) : اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام ، فالمعية ، باعتبار عامة الخلق ، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والاقتدار ، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه ، وفوض الأمر إلى سيده ، وكلما قوى التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام ، ولذلك فضّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٢) ، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله : (سَيَهْدِينِ) فتأمل. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر قصة إبراهيم عليه‌السلام ؛ لما فيها من الرد على أهل الشرك ؛ تقبيحا لما عليه قريش والعرب ، مع كونهم من ذريته ، فقال :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ

__________________

(١) من الآية ١٠٣ من سورة يوسف.

(٢) كما جاء فى الآية ٤٠ من سورة التوبة.

١٣٩

(٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي : على المشركين (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي : خبره العظيم الشأن ، ولم يأمر فى قصص هذه السورة بتلاوة قصّة إلا فى هذه ؛ تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمر التوحيد ، الذي دلت عليه. (إِذْ قالَ) أي : وقت قوله (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) أي : أىّ شىء تعبدون؟ وإبراهيم عليه‌السلام يعلم أنهم عبدة الأصنام ، لكنه سألهم ؛ ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً) ، وجواب (ما تَعْبُدُونَ) : هو قولهم : (أَصْناماً) ؛ لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة ، فكان حق الجواب أن يقولوا : أصناما ، كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (١) ، وكقوله تعالى : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) (٢). لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل ؛ قصدا إلى إبراز ما فى نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها ، (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي : فنقيم على عبادتها طول النهار. وإنما قالوا : (فَنَظَلُ) ؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. أو : يراد به الدوام.

(قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) أي : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم ، على حذف مضاف ، (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إن عبدتموها ، (أَوْ يَضُرُّونَ) ؛ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها ؛ إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر؟ (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فاقتدينا بهم. اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر ؛ من السمع ، والمنفعة ، والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء.

(قالَ) إبراهيم : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أي : أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) حق الإبصار ، أو حق العلم ، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي : فاعلموا أنهم أعداء لى ، لا أحبهم ولا يحبوننى ، أو : لو عبدتموهم لكانوا أعداء لى يوم القيامة ، كقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٣) ، وقال الفراء : هو من المقلوب ، أي : فإنى عدو لهم ، والعدو يجىء بمعنى الواحد والجماعة ؛ لأنه فعول ، كصبور. وفى قوله : (عَدُوٌّ لِي) ، دون «لكم» ؛ زيادة نصح ، لكونه أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال : فإنهم عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولم يقبلوه ، (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) : استثناء منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، بل هو

__________________

(١) من الآية ٢١٩ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٢٣ من سورة سبأ.

(٣) من الآية ٨٢ من سورة مريم.

١٤٠