البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) اليوم ، أي : أعميناهم وأذهبنا أبصارهم. والطمس : سد شق العين حتى تعود ممسوخة. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) ، على حذف الجار ، وإيصال الفعل ، أي : فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه ، وبادروا إليه ؛ لما يلحقهم من الخوف ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) ؛ فكيف يبصرون حينئذ من جهة سلوكهم ، فيضلون فى طريقهم عن بلوغ أملهم.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) قردة ، وخنازير ، أو حجارة ، (عَلى مَكانَتِهِمْ) : على منازلهم ، وفى ديارهم ، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام. (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) ؛ فلم يقدروا على ذهاب ومجىء ، أو : مضيا أمامهم ، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى : أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك ، لكنا لم نفعل ؛ لشمول الرحمة لهم ، واقتضاء الحكمة إمهالهم.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) ؛ نطل عمره (نُنَكِّسْهُ) (١) (فِي الْخَلْقِ) ؛ نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، وهو نوع من المسخ ، فصار بدل القوة ضعفا ، وبدل الشباب هرما ، وذلك أنا خلقناه على ضعف فى جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ، ويعقل ، ويعلم ما له وعليه ، فإذا انتهى نكّسناه فى الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبىّ ، فى ضعف جسده ، وقلّة عقله ، وخلوّه من العلم ، كما ينكس السهم ، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٢). قال ابن عباس : «من قرأ القرآن ـ أي وعمل به ـ لم يرد إلى أرذل العمر». (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أنّ من قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ، ومن القوة إلى الضعف ، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادر على أن يطمس على أعينهم ، ويمسخهم على مكانتهم ، ويبعثهم بعد الموت.

الإشارة : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ، فلا يهتدون إلى طريق السلوك ، ولا يسلكونها ، فيبقوا فى الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم ، من رجاحة العقل والفهم ، فلا يتدبرون إلا فى الأمور الحسية ،

__________________

(١) قرأ عاصم وحمزة «ننكسه» بضم الأول ، وفتح الثاني ، وتشديد الثالث وكسره ، مضارع : (نكّس) ، للتكثير ، وقرأ الباقون بفتح الأول ، وإسكان الثاني ، وضم الثالث ، وتخفيفه. مضارع «نكسه» كنصره. انظر الإتحاف (٢٠ / ٤٠٤).

(٢) الآية ٧٠ من سورة النحل.

٥٨١

فلا يستطيعون مضيا فى بلاد المعاني ، ولا رجوعا عن الحسيات. ومن نعمّره من هؤلاء ننكّسه فى الخلق ، فيلحقه الخرف والضعف ، وأما من اهتدى إلى طريق السير ، وسلك بلاد المعاني ، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحة فى العقل ، وقوة فى العلم ، وتمكينا فى المعاني والمعرفة.

قال القشيري : ومن نعمّره ننكّسه فى الخلق : نرده إلى العكس ، فكما كان يزداد فى القوة ، يأخذ فى النقصان ، إلى أن يبلغ أرذل العمر ، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف ، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء ، كما أنشدوا :

طوى العصران ما نشراه منى

فأبلى جدتى نشر وطى

أرانى كلّ يوم فى انتقاص

ولا يبقى مع النقصان شىّ (١)

وهذا فى الجثة والمبانى ، دون الأحوال والمعاني ، فإن الأحوال ـ فى حق الجثة ـ فى الزيادة إلى بلوغ حد الخرف ، فيختلّ رأيه وعقله. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبهم ، ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها ، وطراوة جدّتها. ه.

ثم أنكر على من رمى القرآن بكونه شعرا ، فقال :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أي : وما علّمنا نبينا محمدا الشعر ، حتى يقدر أن يقول شعرا ، فيتهم على القرآن ، أو : وما علّمناه بتعلم القرآن الشعر ، على معنى : أن القرآن ليس بشعر ، فإنه غير مقفّى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفية؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء ، (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي : وما يليق بحاله ، ولا يتأتى له لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ، ولم يسهل ، كما جعلناه أمّيا لم يهتد إلى الخط ؛ لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض.

__________________

(١) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل ، كما فى كتاب الوافي بالوفيات (٥ / ٢٢٢). ونسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا ، كما فى تاريخ بغداد (١٤ / ٣١١).

٥٨٢

وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أنا النّبىّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب» (١) ، وقوله : «هل أنت إلّا إصبع دميت ، وفى سبيل الله ما لقيت» (٢) ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد ، كما يتفق فى خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم ، ولا يسمى شعرا إلا ما قصد وزنه.

ولمّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر ، قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي : ما الذي يعلّم ويقوله إلا ذكر من الله ، يوعظ به الإنس والجن ، (وَقُرْآنٌ) أي : كتاب سماوى ، يقرأ فى المحاريب ، ويتلى فى المتعبّدات ، وينال بتلاوته والعمل به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر ، الذي هو من همزات الشيطان؟!.

أنزلناه إليك (لِتُنْذِرَ بِهِ) (٣) يا محمد ، أو : لينذر القرآن (مَنْ كانَ حَيًّا) بالإيمان ، أو عاقلا متأملا ؛ فإن الغافل كالميت ، أو : من سبق فى علم الله أنه يحيى ؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به ؛ لأنه المنتفع به ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي : تجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) المصرّين على الكفر ، وجعلهم فى مقابلة من كان حيا إشعار بأنهم بكفرهم فى حكم الأموات ، كقوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٤).

الإشارة : أما النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنفى الله عنه صنعة الشّعر ، والقوة عليه ، لئلا يتهم فيما يقوله ، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه ، ويصرف ذلك فى أمداح الخمرة الأزلية ، والحضرة القدسية ، أو فى الحضرة النبوية ، وينالون بذلك تقريبا ، ورتبة كبيرة ، وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا» (٥) فالمراد به شعر الهوى ، الذي يشغل عن ذكر الله ، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة ـ رضى الله عنها ـ أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثل بشىء من الشعر؟ فقالت : لم يتمثل بشىء من الشعر إلا بيت طرفة ، أخى بنى قيس :

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد.

وربما عكسه فقال : «ويأتيك من لم تزود بالأخبار» (٦). وبالله التوفيق.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاد دابة غيره فى الحرب ، ح ٢٨٦٤) ومسلم فى (الجهاد ، باب فى غزوة حنين ، ٣ / ١٤٠٠ ، ح ١٧٧٦) من حديث البراء بن عازب.

(٢) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من ينكب فى سبيل الله ، ح ٢٨٠٢) وفى (الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز) ومسلم فى (الجهاد ، باب لقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين والمنافقين ، ٣ / ١٤٢١ ، ح ١٧٩٦) من حديث جندب بن سفيان.

(٣) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب «لتنذر» بالخطاب. وقرأ الباقون «لينذر» بالغيب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٠٤).

(٤) من الآية ٢٢ من سورة فاطر.

(٥) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله ، ح ٦١٥٥) ومسلم فى (كتاب الشعر ، ٤ / ١٧٦٩ ح ٢٢٥٧).

(٦) أخرجه بنحوه ، وبدون ذكر بيت الشعر ، الطبري فى تفسيره (٢٣ / ٢٧) وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٠٥) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم. وانظر : تفسير البغوي (٧ / ٢٧) وتفسير ابن كثير (٣ / ٥٧٩).

٥٨٣

ثم ذكّرهم بالنعم ، عليهم ينقادوا بملاطفة الإحسان فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣))

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : أعملوا ولم يعلموا (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي : أظهرته قدرتنا ، ولم يقدر على إحداثه غيرنا. وذكر الأيدى ، وإسناد العمل إليها ، استعارة ، تفيد مبالغة فى الاختصاص والتفرد بالإيجاد ، (أَنْعاماً) ، خصّها بالذكر ؛ لما فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي : خلقناها لأجلهم ، فملكناها إياهم ، فهم يتصرفون فيها تصرّف المالك ، مختصّون بالانتفاع بها. أو : فهم لها حافظون قاهرون.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) ؛ وصيّرناها منقادة لهم. وإلا فمن كان يقدر عليها لو لا تذليله وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة ، ويسبح بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١) (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي : مركوبهم ، وهو ما يركب منها ، وقرىء بضم الراء ، أي : ذو ركوبهم. أو : فمن منافعها ركوبهم. (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) ؛ ما يأكلون لحمه ، أي : سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الجلود ، والأوبار ، والأصواف ، وغير ذلك ، (وَمَشارِبُ) من اللبن ، على تلونه من المضروب وغيره ، وهو جمع : مشرب ، بمعنى : موضع الشرب. أو : المصدر ، أي : الشرب. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعم الله فى ذلك؟ إذ لو لا إيجاده إيها لها ما أمكن الانتفاع بها.

الإشارة : قوم نظروا إلى ما منّ الله إليهم من المبرة والإكرام ، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان ، فعرفوا المنعّم ، وشكروا الواحد المنان ، فسخّر لهم الكون وما فيه ، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم ، فسلّط عليهم المصائب والنقم ، فانقادوا إليه قهرا بسلاسل الامتحان ، «عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل» (٢) ، وكل هؤلاء سبقت لهم

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الزخرف.

(٢) لفظ حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب الأسارى فى السلاسل ، ح ٣٠١٠) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.

٥٨٤

من الله العناية. وقوم لم ينجح فيهم نعم ولا نقم ، قد سبق لهم الخذلان ، فأصروا على العصيان ، ولم يشكروا الله على ما أسدى من سوابغ الإحسان ، وإلى هؤلاء توجه الخطاب بقوله :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) ، أشركوها معه فى العبادة ، بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة ، والنعم المتظاهرة ، وتحققوا أنه المنفرد بها ، فعبدوا الأصنام ، (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) بها إذا حزبهم أمر. والأمر بالعكس ، (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أبدا ، (وَهُمْ لَهُمْ) أي : الكفار للأصنام (جُنْدٌ) أي : أعوان وشيعة (مُحْضَرُونَ) يخدمونهم ، ويذبّون عنهم ، ويعكفون على عبادتهم. أو : اتخذوهم لينصروهم عند الله ، ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم ، محضرون لعذابهم ؛ لأنهم يجعلون وقودا للنار ، التي يحترقون بها.

ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) ؛ فلا يهمنّك تكذيبهم ، وأذاهم ، وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من عداوتهم وكفرهم ، (وَما يُعْلِنُونَ) ، فيجازيهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد ، ويستحضر فى نفسه صورة حاله وحالهم فى الآخرة ، حتى ينقشع عنهم الهمّ ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهى على طريق الاستئناف ، ولذلك لو قرئ «أنّا» بالفتح ، على حذف لام التعليل ، لجاز ، خلافا لمن أنكره وأبطل صلاة من قرأ به. انظر النسفي.

الإشارة : كل من ركن إلى شىء دون الله ، فهو فى حقه صنم ، كائنا ما كان ، علما ، أو عملا ، أو حالا ، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبى حسن الشاذلى ـ رضى الله عنهما ـ لمّا قال : بم تلقى الله يا أبا الحسن؟ فقال له : بفقري ، قال : إذا تلقاه بالصنم الأعظم ، أي : وإنما يلقى الله بالله ، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فيه تسلية لمن أوذى فى جانب الله. قال القشيري : إذا علم العبد أنه بمرأى من الحق ، هان عليه ما يقاسيه ، لا سيما إذا كان فى الله. ه.

٥٨٥

ثم أبطل دعوى من أنكر البعث ، وهو من جملة قولهم ، الذي أمر نبيه بالتسلى عنه ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) مذرة ، خارجة من الإحليل ، الذي هو قناة النجاسة ، (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ؛ بيّن الخصومة ، أي : فهو على مهانة أصله ، ودناءة أوله ، يتصدّى لمخاصمة ربه ، وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه. وهى تسلية ثانية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهوين ما يقولونه فى جانب الحشر ، وهو توبيخ بليغ ؛ حيث عجّب منه ، وجعله إفراطا فى الخصومة بيّنا فيها.

روى أن أبىّ بن خلف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم بال ، ففتّه بيده ، وقال : يا محمد ؛ أترى الله يحيى هذا بعد ما رمّ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» (١) فنزلت الآية.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) ، أمرا عجيبا ، بأن جعلنا مثل الخلق العاجزين ، فنعجز عما عجزوا عنه ؛ من إحياء الموتى ، (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) من المنىّ المهين ، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و «خلقه» : مصدر مضاف للمفعول ، أي : خلقنا إياه ، (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ؛ بال مفتت ، وهو اسم لما بلي من العظام ، لا صفة ، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبرا لمؤنث ، وقيل : صفة بمعنى مفعول ، من : رممته ، فيكون كقتيل وجريح. وفيه

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ٣٠) والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٩) عن قتادة. وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٠٨) لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، عن أبى مالك. وأخرج الحاكم (٢ / ٤٢٩) وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس : أن الآية نزلت فى العاص بن وائل. والآية عامة ، والألف واللام فى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) للجنس ، يعم كل منكر للبعث.

٥٨٦

دليل على أن العظم تحله الحياة ، فإذا مات صار نجسا ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تحلّه الحياة ، فهو طاهر كالشعر والعصب.

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) ؛ خلقها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : ابتداء ، (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) ؛ مخلوق (عَلِيمٌ) لا يخفى عليه أجزاؤه ، وإن تفرقت فى البر أو البحر ، فيجمعه ، ويعيده كما كان.

ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) ، كالمرخ والعفار ، (ناراً ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) ؛ تقدحون ، ولا تشكون أنها نار خرجت منه ، فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر ، مع ما فيه من المائية ، المضادة للنار ، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس ، وهى الزناد عند العرب ، وأكثرها من المرخ والعفار ، وفى أمثالهم : «فى كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار» أي : استكثر فى هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السواكين ، وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهى أنثى ، فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار ، إلا العناب ؛ لمصلحة الدقّ للثياب.

والمرخ ـ ككتف : شجر سريع الورى. قاله فى الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكلخ. وفى القاموس : عفار كسحاب : شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية : النار موجودة فى كل عود ، غير أنها فى المتحلحل ، المفتوح المسام ، أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار. ه.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مع كبر جرمهما ، وعظم شأنهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ؛ مثل أجسامهم فى الصّغر والحقارة ، بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو : أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه فى الذات والصفات ؛ لأن المعاد مثل المبدأ ، بل أسهل ، (بَلى) أي : قل : بلى هو قادر على ذلك ، (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) ؛ كثير الخلق والاختراع ، (الْعَلِيمُ) بأحوال خلقه ، أو : كثير المخلوقات والمعلومات.

(إِنَّما أَمْرُهُ) ؛ شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) يكونه (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فيحدث ، أي : فهو كائن موجود ، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته فى الأشياء ، بأمر المطاع للمطيع فى حصول المأمور ، من غير امتناع وتوقف ، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون ، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد ، كأنه يقول : كما لا يثقل عليكم قول «كن» ، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي : ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة فى الزمان المتحد ، وذلك ممتنع على غيره ، فقال : (إِنَّما أَمْرُهُ ...) الآية ، فيحدث من غير توقف ، فمن رفع «فيكون» ،

٥٨٧

فلأنه جملة من مبتدأ وخبر ، أي : فهو يكون. ومن نصب فللعطف على «يقول». والمعنى : أنه ليس ممن يلحقه نصب ولا مشقة ، ولا يتعاظمه أمر ، بل إيجاد المعدومات ، وإعدام الموجودات ، عليه أسرع من لمح البصر ه.

(فَسُبْحانَ) ؛ تنزيها له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب مما قالوا ، (الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) أي : ملك (كُلِّ شَيْءٍ) والتصرف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء ؛ للمبالغة ، أي : مالك كلّ شىء ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالبعث للجزاء والحساب.

الإشارة : أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة مهينة ، فإذا هو خصيم لنا فى تدبيرنا واختيارنا ، وينازعنا فى مرادنا من خلقنا ، ومرادنا منهم : ما هم عليه. فاستحى أيها الإنسان أن تخاصم الله فى حكمه ، أو تنازعه فى تقديره وتدبيره ، وسلّم الأمور لمن بيده الخلق والأمر. بكى بعض الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له : وما هو؟ قال : (قلت لشىء كان : ليته لم يكن). فارض بما يختاره الحق لك ، جلاليا كان أو جماليا ولا تختر من أمرك شيئا ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل من اهتم بأمر نفسه ، واشتغل بتدبير شئونها ، فقد ضرب لله مثلا ، بأن أشرك نفسه معه ، ونسى خلقه ، ولو فكر فى ضعف أصله ، وحاله ، لاستحيا أن يدبّر لنفسه مع ربه ، وفى الإشارات عن الله تعالى : أيها العبد لو أذنت لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيى منى أن تدبر لها ، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.

وكما قدر على إحياء العظام الرميمة ، يقدر على إحياء القلوب الميتة ، ومن قدر على استخراج النار من محل الماء ، يقدر على استخراج العلم من الجهل ، واليقظة من الغفلة ، ومن كان أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، ينبغى أن يرجع إليه فى جميع الشئون. قال القشيري : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شىء ، فلا يحدث شىء ـ قلّ أو كثر ـ إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه ، فمنه ظهر ما يحدث ، وإليه يصير ما يخلق. ه.

قال النسفي : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له ، وأعطى من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلم.

٥٨٨

سورة الصّافّات

مكية. وهى مائة وإحدى ، أو اثنتان ، وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : أنها رد على المشركين فى عبادة الأصنام ، وانكارهم البعث ، المختتم بهما السورة قبلها ، فقال فى صدر هذه : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ، ثم قال : (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذا مِتْنا ...) (١) إلخ. قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) ، أقسم بطوائف الملائكة ، الصافين أقدامهم فى مراتب العبادة ، كل على ما أمر به ، فالزجرات السحاب سوقا إلى ما أراد الله ، أو : عن المعاصي بإلهام الخير. أو : الشياطين عن التعرض لهم. (فالتاليات ذكرا) لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها ، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح ، حيث قال فى فتاويه : إن الملائكة لا تقرأ القرآن ، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال : فقد ورد أن الملائكة لم تعط ذلك ، فهى حريصة لذلك على استماعه من الإنس ، كما نقله عنه فى الإتقان ، فانظره.

أو : بنفوس العلماء والعمال ، الصافات أقدامها فى التهجد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله ، والدراسات شرائعه. أو : بنفوس الغزاة فى سبيل الله ، التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك ، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و (صفا) : مصدر مؤكد ، وكذلك (زجرا) ، والفاء تدلّ على الترتيب ، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر ، فتفيد الفضل للصف ، ثم للزجر ، ثم للتلاوة ، أو بالعكس.

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة الصافات.

٥٨٩

وجواب القسم : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) لا شريك معه يستحق أن يعبد ، (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وهو خبر بعد خبر ، أو : خبر عن مضمر ، أي : هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي : مطالع الشمس ، وهى ثلاث مائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كلّ يوم فى مشرق منها ، وتغرب فى مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب فى واحد يومين. وأما : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١) فإنه أريد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٢) فإنه أريد به الجهة ، فالمشرق جهة ، والمغرب جهة. قال الكواشي : لم يذكر المغارب ؛ لأن المشارق تدل عليها.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) ؛ القربى منكم ، تأنيث الأدنى ، (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بالإضافة ، أي : بأن زينتها الكواكب ومن قرأ بالتنوين والخفض (٣) فبدل ، أي : هى الكواكب ، ومن قرأ بالنصب فعلى إضمار «أعنى» ، أو : بدل من محل «بزينة» ، أي : زيّنا الكواكب ، أو : على إعمال المصدر منونا فى المفعول ، أي : بتزين الكواكب. قال البيضاوي : وركوز الثوابت فى الكوة الثامنة ، وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح فى ذلك ، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة ، متلألئة على سطحها الأزرق. ه.

(وَحِفْظاً) من الشياطين ، كما قال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (٤) أو : بإضمار فعله ، أي : حفظناها حفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) ؛ خارج عن الطاعة ، فيرمى بالشهب. (لا يَسَّمَّعُونَ) (٥) (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) : استئناف ؛ لبيان حالهم ، بعد بيان حفظ السماء منهم ، ولا يجوز وصفه لكل شيطان ؛ لأنه يقتضى أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلّ باعتبار المعنى ؛ لأنه فى معنى شياطين ، وتعدية (يسمعون) بإلى لتضمنه معنى الإصغاء ؛ مبالغة فى نفيه ، وتهويلا لما يمنعهم عنه. ومن قرأ بالتشديد فأصله : «يتسمّعون» فأدغم. والتسمّع : طلب السماع. يقال : تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم : الملائكة ؛ لأنهم فى السموات العلى ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل ؛ لأنهم سكان الأرض ، (وَيُقْذَفُونَ) ؛ يرمون بالشهب ، (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) ؛ من جميع جوانب السماء ، من أىّ جهة صعدوا للاستراق.

__________________

(١) الآية ١٧ من سورة الرحمن.

(٢) الآية ٩ من سورة المزمل.

(٣) قرأ حفص ، وحمزة ، بتنوين (زينة) وجر (الكواكب). وقرأ أبو بكر بتنوين (زينة) ونصب (الكواكب). والباقون بحذف التنوين ، على إضافة «زينة» للكواكب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٠٨).

(٤) الآية ٥ من سورة الملك.

(٥) قرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي ، بتشديد السين والميم ، والأصل «يتسمعون» فأدغمت التاء. وقرأ الباقون بالتخفيف.

انظر الإتحاف (٢ / ٤٠٨).

٥٩٠

(دُحُوراً) ؛ مفعول له ، أي : ويقذفون للدحور ، وهو الطرد ، أو : مدحورين ، على الحال ، أو : لأن القذف والطرد متقاربان فى المعنى ، فيكون مصدرا له ، فكأنه قيل : ويقذفون قذفا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ) آخر (واصِبٌ) ؛ دائم ، أو : شديد ، وهو عذاب الآخرة ، أو : عذاب الدنيا ؛ لأنه دائم الوجوب ؛ لأنهم فى الدنيا مرجمون بالشهب دائما ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) ، «من» : بدل من ضمير «يسمعون» ، أي : لا يتسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة ، أي : اختلس شيئا من كلام الملائكة بسرعة ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي : نجم مضىء يثقبه ، أو يحرقه ، أو يخبله ، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.

الإشارة : أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين ، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم ، فى طلب الحضور ، التالين لذكر ربهم لرفع الستور ، إنه منفرد فى ألوهيته ، متوحد فى ربوبيته ؛ إذ هو ربّ كل شىء ، ربّ سموات الأرواح ، وربّ أرض النفوس والأشباح ، وربّ مشارق أنوار العرفان ، وهى قلوب أهل العيان ، ولم يذكر المغارب ؛ لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا ..) إلخ ، قال القشيري : زيّن السماء بالنجوم ، وزيّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. ه. وقوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) ، قال القشيري : كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد ، فإذا قرب منها الشيطان رجمها بنجوم معارفهم ، إلا من خطف الخطفة ، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يلقى شيئا من وساوسه ؛ تذكّروا ، فإذا هم مبصرون. ه.

وقال فى لطائف المنن : إن الله تعالى إذ تولى وليّا صان قلبه من الأغيار ، وحرسه بدوام الأنوار ، حتى لقد قال بعض العارفين : إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشهب ؛ كى لا يسترق السمع منها ، فقلب المؤمن أولى بذلك ، لقول الله سبحانه ، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن». ه. والمراد : المؤمن الكامل ، الذي تولى الله حفظه ، وهو الولي العارف.

ثم ردّ على من أنكر البعث بعد هذه الدلائل الباهرة ، فقال :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (١٥) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧)

٥٩١

قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (١٩) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

يقول الحق جل جلاله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : فاستخبر كفّار مكّة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي : أقوى خلقا وأعظم ، أو : أصعب خلقا وأشقه. (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعنى ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما ، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب ، والشّهب الثواقب؟. وجىء ب «من» تغليبا للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة من قرأ : (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد : الرد على منكرى البعث ، فإنّ من قدر على خلق هذه العوالم ، على عظمها ، كان على بعثهم أقدر.

ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ؛ لاصق باليد ، أو : لازم. وقرئ به ، أي : يلزم من جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف ؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو : احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه إنما هو تراب ، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقا آخر؟ حيث قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) (١) إلخ ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعد ؛ من ذكر إنكارهم البعث.

(بَلْ عَجِبْتَ) من تكذيبهم إيّاك ، وإنكارهم البعث ، (وَيَسْخَرُونَ) هم منك ، ومن تعجبك ، أو : من أمر البعث ، قال الكواشي : ولمّا لم تؤثّر فيهم البراهين ، أمر نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإضراب عنهم ، والإعجاب منهم ، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث ، والمعنى : إنك تعجبت من تكذيبهم ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك. ه. قال قتادة : لمّا نزل القرآن عجب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به ، فلما سمعه المشركون ، ولم يؤمنوا ، وسخروا ، تعجّب من ذلك (٢). ه. وذكر ابن عطية وغيره : أن الآية نزلت فى ركانة ، الذي صرعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، وذكر ابن عبد البر : أنه أسلم يوم الفتح. ه.

وقرأ الأخوان «عجبت» بضم التاء ، أي : استعظمت. والعجب : روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء ؛ لخفاء سببه ، وهو فى حقه تعالى محال ، ومعناه : التعجب لغيره ، أي : كل من يرى حالهم يقول : عجبت ، ونحوه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجب الله من شاب ليست له صبوة» (٤). وهو عبارة عما يظهره الله فى جانب المتعجب منه ، من التعظيم أو التحقير ، أو : قل يا محمد : عجبت ويسخرون.

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الرعد.

(٢) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٤).

(٣) حديث صرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للركانة ، أخرجه الترمذي فى (اللباس ، باب العمائم على القلانس ٤ / ٢١٧ ح ١٧٨٤) وأبو داود فى (اللباس ، باب فى العمائم ٤ / ٣٤١ ح ٤٠٧٨) عن أبى ركانة.

(٤) أخرجه أحمد (٤ / ١٥١) والطبراني فى الكبير (١٧ / ٣٠٩) من حديث عقبة بن عامر. قال الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٢٧٠) : وإسناده حسن.

٥٩٢

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي : ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشىء لا يتعظون به. (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) ؛ معجزة ، كانشقاق القمر ، ونحوه ، (يَسْتَسْخِرُونَ) ؛ يبالغون فى السخرية ، ويقولون : إنه سحر ، ويستدعى بعضهم بعضا أن يسخر منها ، (وَقالُوا إِنْ هذا) ؛ ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ؛ ظاهر سحريته ، (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي : أنبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟ (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) ، فمن فتح الواو عطف على محلّ «إنّ» واسمها ، والهمزة للإنكار ، أي : أو يبعث أيضا آباؤنا الأولون الأقدمون ، على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. ومن سكّن (١) فمن عطف أحد الشيئين ، أي : أيبعث واحد منا ، على المبالغة فى الإنكار. (قُلْ نَعَمْ) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) ؛ صاغرون.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : صيحة واحدة ، وهى النفحة الثانية ، والفاء : جواب شرط مقدر ، أي : إذا كان كذلك فما هى إلا صيحة واحدة ، وهى مبهمة ، يفسرها خبرها. أو : فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل والغنم : إذا صاح عليها ، (فَإِذا هُمْ) أحياء (يَنْظُرُونَ) إلى سوء أعمالهم ، أو : ينظرون ما يحلّ بهم.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا) ، الويل : كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، (هذا يَوْمُ الدِّينِ) ؛ اليوم الذي يدان فيه العباد ، ويجازون بأعمالهم. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة ، (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، يحتمل أن يكون قوله : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) من كلام الكفرة ، بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون (يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) من كلام الكفرة ، وما بعده كلام الملائكة ، جوابا لهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : الإنسان فيه عالمان ، عالم فى غاية الضعف والخسة ، وهى بشريته الطينية ، أصلها من ماء مهين. وعالم فى غاية القوة والكمال ، وهى روحانيته السماوية النورانية ، فإذا حييت الروح بالعلم بالله ، واستولت على البشرية ، استيلاء النار على الفحمة ، أكسبتها القوة والشرف ، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل ، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل ، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شىء فى محله ، فينزل الضعف فى ظاهره ، والقوة فى باطنه ، فظاهره يمتد من الوجود بأسره ، وباطنه يمد الوجود بأسره. فمن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره ، ولذلك قال سيدنا على كرم الله وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة. ه.

__________________

(١) قرأ قالون ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، بإسكان الواو ، وقرأ الباقون بالفتح. انظر الإتحاف (٢ / ٤١٠).

٥٩٣

ومن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره ، لكن من آداب العبد : ألا يظهر بين يدى سيده إلا ما يناسب العبودية ، من الضعف ، والذل ، والفقر ، فإذا تحقق بوصفه مدّه الله بوصفه. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مثال أهل الكفر ، فقال :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤))

يقول الحق جل جلاله للملائكة يوم القيامة : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : اجمعوا الذين كفروا (وَأَزْواجَهُمْ) ؛ وأشباههم ، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام ، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو : نساءهم الكافرات ، أو : قرناءهم من الشياطين. و «الواو» بمعنى «مع» ، أو : عاطفة. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الأصنام ، اجمعوها معهم ، (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي : دلّوهم على طريقها ، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعى : يقال : هديته فى الدين هدى ، وهديته الطريق هداية.

(وَقِفُوهُمْ) : احبسوهم (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم ، (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ؛ لا ينصر بعضكم بعضا. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر ، بعد ما كانوا يتناصرون فى الدنيا ، أو : استهزاء بهم. وقيل : هو جواب لأبى جهل ، حيث قال يوم بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (١) ، وجملة النفي : حال ، أي : ما لكم غير متناصرين ، (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) ؛ منقادون لما يراد بهم ؛ لعجزهم ، وانسداد أبواب الحيل عليهم ، أو : قد أسلم بعضهم بعضا وخذله.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : التابع على المتبوع (يَتَساءَلُونَ) ؛ يتخاصمون ، ويسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتسخط ، (قالُوا) أي : الأتباع للمتبوعين : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي : تصدوننا عن

__________________

(١) كما حكت الآية ٤٤ من سورة القمر.

٥٩٤

الحق والإيمان ، قاله الحسن. وبيانه : أن العرب كانت تتيمن بالسانح (١) عن اليمين من الطير ، ويناسبه ما ذكره ابن عطية فى جملة التأويلات بقوله : ومنها : أن يريد باليمين اليمن ، أي : تأتوننا من جهة النصائح ، والعمل الذي يتيمن به. ه. قلت : والأحسن : أن يقدر معلق الجار ، أي : تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.

(قالُوا) أي : الرؤساء : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : بل أنتم أبيتم الإيمان ، وأعرضتم عنه مع تمكّنكم منه ، مختارين للكفر ، غير ملجئين إليه ، أو : بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا ، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كفركم لا استئنافه. (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وقهر ، نسلبكم به تمكّنكم واختياركم ، (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي : بل كنتم قوما مختارين للطغيان ، (فَحَقَّ عَلَيْنا) أي : لزمنا جميعا (قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) ، يعنى : حقت علينا كلمته بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ؛ لأنهم يتكلّمون بذلك عن أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم : (فَأَغْوَيْناكُمْ) ؛ فدعوناكم إلى الغي (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) ؛ فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا ، (فَإِنَّهُمْ) أي : الأتباع والمتبوعين جميعا ، (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين فى الغواية. (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) ؛ المشركين ، أي : مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.

الإشارة : ويقال على طريق العكس : احشروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم ، وأزواجهم ، ومن انتسب إليهم ، فاهدوهم إلى طريق الجنان ، وقفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم ، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم ، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون ، فينصر بعضكم بعضا فى هذا الموطن الهائل ، بل هم اليوم منقادون لأمر الله ، حتى يأذن لهم فى الشفاعة. وفى الحديث : «اتّخذوا يدا عند الفقراء ، فإن لهم دولة يوم القيامة» (٢) ودولتهم : الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى ، حتى وصلوا إلى حضرته. ومن صدّ الناس عن طريقه وصحبتهم ، يتعلق به المخذول عنهم ، فيقول له : (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ...) الآية.

ثم ذكر سبب ورودهم العذاب ، فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))

__________________

(١) السانح : ما أتاك عن يمينك من ظبى أو طائر ، أو غير ذلك ، والبارح : ما أتاك من ذلك عن يسارك. انظر اللسان (سنح ٣ / ٢١١٢).

(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٠٤) لأبى نعيم فى الحلية ، عن الحسين بن على رضي الله عنه. والحديث ضعفه السيوطي.

٥٩٥

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّهُمْ) أي : المشركين (كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، هو أعم من إذا قيل لهم : قولوها ، أو : ذكرت بمحضرهم ، (يَسْتَكْبِرُونَ) أي : يتعاظمون عن قولها ، أي : كانوا فى الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها ، وأبوا إلا الشرك ، (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ، يعنون نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) ؛ لكونه مصدّقا لما بين يديه من الرسل. وهو ردّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان ، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) مقابل لقولهم : «شاعر» ؛ لأن الشاعر فى الغالب كذوب ، وتصديق المرسلين فى مقابلة مجنون ؛ لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسول (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ؛ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، فعذبتم ، على الكفر والتكذيب ، وخلدتم ، على نيتكم الدوام عليه.

الإشارة : ينبغى للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد ، وهى «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه ، وتهتز جوارحه ، فرحا بها ، ويخضع لمن جاء بها ، ودلّ عليها ، حتى يدخله فى بحار معانيها ، وهو التوحيد الخاص ، أعنى : توحيد أهل العيان ، وهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التربية النبوية. قال القشيري : (.. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ..) إلخ. احتجابهم بقلوبهم أوقعهم فى وهدة عذابهم ، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته ، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ..) (١) وقال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ..) (٢) ، فمن عرف الله فلا لذة له إلا فى طاعته وعبوديته ، قال قائلهم :

ويظهر فى الورى عزّ الموالي

فيلزمنى له ذلّ العبيد

ولمّا لم يحتشموا من وصفه ـ سبحانه ـ بما لا يليق بجلاله ، لم يبالوا بها أطلقوا من المثالب فى جانب أنبيائه. ه.

ثم استثنى المخلصين ، فقال :

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠))

__________________

(١) من الآية ٢٠٦ من سورة الأعراف.

(٢) من الآية ١٧٣ من سورة النساء.

٥٩٦

يقول الحق جل جلاله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ـ بفتح اللام ، وكسرها (١) ـ أي : لكن عباد الله المخلصين فى أعمالهم ، أو : الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك ، فليسوا مع أولئك المعذّبين ، بل (أُولئِكَ) المخلصون (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) ، يأتيهم بكرة وعشيا ، كحال المياسير فى الدنيا ، فهو معلوم الوقت ؛ لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري : قد كان فى وقت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من له رزق معلوم ، فهو من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة ، لهم فى الآخرة رزق معلوم لأبشارهم وأسرارهم ، فالأغنياء ـ اليوم ـ لهم رزق معلوم لأبشارهم ، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. ه.

ثم فسّره بقوله : (فَواكِهُ) : جمع فاكهة ، وهى كل ما يتلّذذ به ، فليس قوتهم لحفظ الصحة ، بل رزقهم كله فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات ؛ لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد ، فما يأكلونه إنما هو للتلذذ. أو : معلوم ، أي : منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ، ورائحة ، ولذّة ، وحسن منظر ، (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) : معظّمون. قال القشيري : من ذلك : ورد الرسل عليهم من قبل الله ـ عزوجل ـ فى كل وقت ، وكذلك اليوم الخطاب وارد على قلوب الخواص فى كل وقت بكلّ أمر. ه.

وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، إما ظرف لمكرمون ، أو : حال ، أو : خبر ، أي : فى جنة ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) : يقابل بعضها بعضا ، إن استوت درجتهم ، فالتقابل أتم للسرور ، وآنس.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) ؛ إناء من زجاج فيه شراب ، ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب ، وإلا فهو إناء. وقد تسمّى الخمر كأسا. قال الأخفش : كل كأس فى القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. (مِنْ مَعِينٍ) ؛ من خمر معين ، أي : جارية فى أنهار ظاهرة للعيون ، وصف بما وصف به الماء ؛ لأنه يجرى فى الجنة أنهارا ، كما يجرى الماء ، قال تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) (٢). وقوله : (بَيْضاءَ) ؛ صفة للكأس ، أي : صافية فى نهاية اللطافة. (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي : لذيذة للشاربين ، وصفت باللذة ، كأنها نفس اللذة وعينها. أو : ذات لذة. (لا فِيها غَوْلٌ) أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، كخمر الدنيا ، وهو من : غاله يغوله : إذا أهلكه وأفسده. أو : لا فيها غول : إثم ، أو وجع بطن أو صداع ، وهو وجع الرأس ، أي : لا ينشأ عنها شىء مما ذكر. (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون ، من : نزف الشارب : إذا ذهب عقله. ويقال للسكران : نزيف ، ومنزوف. ومن قرأ بكسر الزاى (٣) فمعناه : لا ينفد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو منزف : إذا فنيت خمرته.

__________________

(١) قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، «المخلصين» بفتح اللام.

(٢) من الآية ١٥ من سورة سيدنا محمد.

(٣) قرأ بذلك حمزة ، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى .. انظر الإتحاف (٢ / ٤١١).

٥٩٧

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي : حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن ، لا يمددن طرفا إلى غيرهم (عِينٌ) : جمع عيناء ، أي : نجلاء ، واسعة العين. يقال : رجل أعين ، وامرأة عيناء ، ورجال ونساء عين. (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ؛ مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار ، فى الصفاء والبياض.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فى الجنة ، تساؤل راحة وتنعم. والمعنى : أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب ، كعادة الشّرب (١). قال الشاعر :

وما بقيت من اللّذّات إلّا

أحاديث الكرام على المدام

أو : أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم فى الدنيا. وجىء به ماضيا على ما عرف فى أخباره المحققة الوقوع.

الإشارة : المخلصين ـ بالفتح ـ أبلغ من المخلصين ـ بالكسر ـ المخلصين : أخلصهم الله واصطفاهم ، والمخلصى : ن طالبين الإخلاص ، مجتهدين فيه ، الأولون مجذوبون ، والآخرون سالكون ، الأولون محبوبون ، والآخرون محبون ، الأولون واصلون ، والآخرون سائرون. قال القشيري : والإخلاص : إفراد الحقّ ـ سبحانه ـ بالعبودية ، فالذى يشوب عمله برياء ليس بمخلص. ويقال : الإخلاص : تصفية العمل ، لا توفيقه ، وفى الخبر : «يا معاذ : أخلص العمل ، يكفك القليل منه» (٢). ويقال : الإخلاص : فقد رؤية الأشخاص. ه.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) للمخلصين ـ بالفتح ـ رزق أرواحهم وأسرارهم ، من النظر إلى وجه الحبيب فى كل ساعة. وللمخلصين ، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما ، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته فى الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة ، على قدر سعيهم هنا ، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني ، وشرب خمرة المعاني على قدر الغيبة عن حس الأوانى والزهد فى بهجتها.

وقوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ، كان من تمام نعميهم فى الشرب : التحادث عليها بما يناسب حالها ، ومدحها ، كما قال الشاعر :

وإذا جسلت إلى المدام وشربه

فاجعل حديثك كله فى الكأس

__________________

(١) الشّرب : القوم يشربون ، ويجتمعون على الشراب ، جمع شارب ، كركب ورجل. انظر اللسان (شرب ٤ / ٢٢٢).

(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٢٩٨) لابن أبى الدنيا فى الإخلاص ، والحاكم ، عن معاذ.

٥٩٨

كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة ، وغاب فى الشهود والنظرة ، لا يجول إلا فى عظمة الذات ، وأسرارها ، وبهائها ، وجمالها ، لا يخطر على باله غيرها ، فحديث روحه وسره كله فى الخمرة الأزلية. هذه هى الفكرة الصافية ، والنظرة الشافية ، متعنا الله بها على الدوام. آمين.

ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة ، فقال :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

يقول الحق جل جلاله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي : من أهل الجنة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) فى الدنيا ، قيل : كان شيطانا ، وقيل : من الإنس ، ففيه التحفظ من قرناء السوء ، وقيل : كانا شريكين بثمانية آلاف دينار ، أحدهما : قطروس ، وهو الكافر ، والآخر : يهوذا ، المؤمن ، فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله ، وكان الآخر مقبلا على ماله ، فحلّ الشركة مع المؤمن ، وبقي وحده ؛ لتقصير المؤمن فى التجارة ، وجعل الكافر كلما اشترى شيئا من دار ، أو جارية ، أو بستان ، عرضه على المؤمن ، وفخر عليه ، فيمضى المؤمن ، ويتصدق بنحو ذلك ، ليشترى به من الله تعالى فى الجنة. فكان من أمرهما فى الجنة ما قصّه الله تعالى فى هذه الآية (١). قال السهيلي : هما المذكوران فى سورة الكهف بقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ..) (٢) إلخ.

(يَقُولُ) أي : قرين السوء ، لقرينه المؤمن فى الدنيا : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث؟ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ؛ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من : الدين ، وهو الجزاء.

__________________

(١) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (٥ / ٥١٨ ـ ٥١٩) وعزاها لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن عطاء الخراسانى ، وأخرجها الطبري (٢٣ / ٥٦) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة ـ رحمه‌الله تعالى ـ القصة كاملة عند تفسير الآية ٣٢ من سورة الكهف.

(٢) الآية ٣٢ وما بعدها من سورة الكهف.

٥٩٩

(قالَ) ذلك القائل لمن معه فى الجنة : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) معى إلى النار ، لأريكم حال ذلك القرين. قيل : إن فى الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. قلت : حال الجنة كله خوارق ، فيكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل : القائل : هو الله ، أو : بعض الملائكة. يقول لهم : هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار ، لأريكم ذلك القرين ، أو : لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي : أو : إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة : هل أنتم ناظرون أخى فى النار؟ ، فيقولون له : أنت أعرف به منا ، فانظر إليه. (فَاطَّلَعَ) على أهل النار (فَرَآهُ) أي : قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ؛ فى وسطها.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) ؛ لتهلكنى بإغوائك. و «إن» مخففة ، واللام : فارقة ، أي : إنه قربت لتهلكنى ، (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) علىّ بالهداية ، والعصمة ، والتوفيق للتمسك بعروة الإسلام ، (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك ، أو : من الذين أحضروا العذاب ، كما أحضرته أنت وأمثالك.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ، الفاء للعطف على محذوف ، أي : أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه فى الجنة ، لما رأى ما نزل بقرينه ، ونظر إلى حاله وحال رفقائه فى الجنة ، تحدّثا بنعمة الله. أو : قاله بمرأى من قرينه ومسمع ؛ ليكون توبيخا له ، وزيادة تعذيب ، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه ، كأنه يقول : أين الذي كنت تقول فى الدنيا من أنّا نموت ، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) (١) والتقدير : أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمعذّبين ، بل الأمر وقع خلافه ، وكان يقال له : نحن نموت ونسأل فى القبر ، ثم نموت ونحيا ، فيقول : ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذّبين.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ..) إلخ ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ، أي : إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال الله ـ عزوجل : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي : لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون ، لا للحظوظ الدنيوية ، المشوبة بالالآم ، السريعة الانصرام. أو : لمثل هذا فليجتهد المجتهدون ، مادام يمكنهم الاجتهاد ، فإنّ الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء ، فبقدر ما يزرع هنا يحصد ثمّ ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة الدخان.

٦٠٠