البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

الإشارة : الحرم الآمن ، فى هذه الدار ، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها ، والتجريد من أسبابها ، فمن دخله أمن ظاهرا وباطنا ، ومن هجرها ، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها ، وهو يتفرج عليهم ، فالدنيا جيفة والناس كلابها ، فإن خالطتهم ناهشوك ، وإن تركت لهم جيفتهم سلمت منهم ، فمن كذّب بهذا فقد كذّب بالحق وآمن بالباطل ، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مآل أهل الجد والاجتهاد ممن تبتل وانقطع إلى الله فقال :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) ، أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ؛ ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين ، أي : جاهدوا نفوسهم فى طلبنا ، أو فى حقنا ، ومن أجلنا ، ولوجهنا ، خالصا ، (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي : طرق السير إلينا ، والوصول إلى حضرتنا ، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.

وعن الداراني : والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا ، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل : والذين جاهدوا فى طلب العلم ، أي : لله ، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل : والذين جاهدوا فى إقامة السنّة ، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء : جاهدوا فى إرضائنا ؛ لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس : جاهدوا فى طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.

وقال الجنيد : جاهدوا فى التوبة ، لنهدينهم سبل الإخلاص ، أو : جاهدوا فى خدمتنا ؛ لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا ، (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والمعونة فى الدنيا ، وبالثواب والمغفرة فى العقبى. والله تعالى أعلم.

الإشارة : المجاهدة ، على قدرها تكون المشاهدة ، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم ، وبها تحقق سير السائرين ، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم ؛ من الجاه والغنى وغيره ، والخصوص خالفوا نفوسهم ، ورفضوا حظوظهم ، وخرقوا عوائدهم ، فخرقت لهم العوائد ، وانكشفت عنهم الحجب ، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولا فى ترك الدنيا ، وتحملوا مرارة الفقر ، حتى تحققوا بمقام التوكل ، ثم جاهدوا فى ترك الجاه والرئاسة ، فتحققوا بالخمول ، وهو أساس الإخلاص ، ثم جاهدوا فى مخالفة النفس ، فحمّلوها كل ما يثقل

٣٢١

عليها ، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها ، وارتكبوا فى ذلك أهوالا وأحوالا صعابا ، حتى ماتت نفوسهم موتات ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم ، وأشرفت على البحر الزاخر ، بحر التوحيد الخاص ، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان ، ففنى من لم يكن ، وبقي من لم يزل ، فدخلوا جنة المعارف ، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف ؛ لأنها منطوية فيها. ولا بد من صحبة شيخ كامل ، قد سلك هذه المسالك ، يلقيه زمام نفسه ، حتى يوصله إلى ربه ، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ؛ تهوين وتسهيل على السائرين أمر نفوسهم ومجاهدتها ، إذا علموا أن الله معهم ، هان عليهم كل صعب ، وقرب كل بعيد. وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

٣٢٢

سورة الرّوم

مكية ؛ اتفاقا ، وقيل : إلى قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ ..) (١) إلخ. وهى تسع وخمسون ، أو ستون ، آية. ومناسبتها لما قبلها : أن نتيجة المعية التي ذكرها بقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) هى النصر والعز الذي بشر به المؤمنين فى صدر السورة بقوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ..) إلخ. قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

يقول الحق جل جلاله : بعد التسمية : (الم) أي : أيها المصطفى ، أو : المرسل ، (غُلِبَتِ الرُّومُ) أي : غلبت فارس الروم (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي : فى أقرب أرض العرب ؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، أي : غلبوا فى أدنى أرض العرب منهم ، وهى أطراف الشام. أو : أراد أرضهم ، على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : فى أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية : قرأ الجمهور : «غلبت» ؛ بضم الغين. وقالوا : معنى الآية : أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات ، وهى أدنى أرض الروم إلى مكة ، فسر لذلك كفار قريش ، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. ه. وهذا معنى قوله : (وَهُمْ) أي : الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) ، وقرئ : بسكون اللام ؛ كالحلب والحلب ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : وهم من بعد غلبة فارس إياهم (سَيَغْلِبُونَ) فارس ، وتكون الدولة لهم.

__________________

(١) الآية ١٧ من السورة.

٣٢٣

وذلك (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي : قيل : احتربت الروم [وفارس] (١) ، بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، والملك بفارس ، يومئذ ، كسرى «أبرويز» ، فبلغ الخبر مكة ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ؛ لأنّ فارس مجوس ؛ لا كتاب لهم ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون [وشمتوا] (٢) ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أمّيّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت الآية. فقال أبو بكر : والله ليظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبىّ بن خلف : كذبت ، فناحبه ـ أي : قامره ـ على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «زد فى الخطر وأبعد فى الأجل» ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبىّ من جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، أو : يوم بدر ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ ، فقال عليه الصلاة والسلام ـ : «تصدّق به» (٣).

وهذه آية بينة على صحة نبوته ، وأن القرآن من عند الله ؛ لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار ، [عن] (٤) قتادة. ومذهب أبى حنيفة ومحمد ـ رضى الله عنهما ـ : أن العقود الفاسدة ؛ كعقد الربا وغيره ، جائز فى دار الحرب بين المسلمين والكفار ، واحتجا بهذه القصة. ه. زاد البيضاوي : وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. ه. وقرئ : «غلبت» ؛ بالفتح ، و «سيغلبون» بالضم ، ومعناه : أن الروم غلبوا على ريف الشام ، وسيغلبهم المسلمون ، وقد غزاهم المسلمون فى السنة التاسعة من نزولها ، وفتحوا بعض بلادهم ، وعلى هذا يكون إضافة الغلب إلى الفاعل.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : من قبل كل شىء ، ومن بعد كل شىء. أو : من قبل الغلبة وبعدها ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين ـ وقبله : هو وقت كونهم مغلوبين ـ ومن بعد كونهم مغلوبين ـ وهو وقت كونهم غالبين ، يعنى : أن كونهم مغلوبين أولا ، وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله وقضائه. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (٥). (وَيَوْمَئِذٍ) أي : ويوم تغلب الروم فارس ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم ، (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) ، وتغلب من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النسفي.

(٢) فى الأصول : [شتموا].

(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٢١ / ١٧ ـ ١٨) عن عكرمة ، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (١ / ٢٧٦ ـ ٣٠٤) ، والترمذي فى (تفسير سورة الروم ، ٥ / ٣٢١ ح ٣١٩٣ ـ ٣١٩٤) ، وابن جرير (٢١ / ١٦ ـ ١٨) ، والطبراني فى الكبير (١٢ / ٢٩ ح ١٢٣٧٧) والحاكم (٢ / ٤١٠) ، وانظر الدر المنثور (٥ / ٢٨٩ ـ ٢٩٢).

(٤) فى الأصول [قال] ، والمثبت من تفسير النسفي.

(٥) من الآية ١٤٠ من سورة آل عمران.

٣٢٤

وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين ، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) : الغالب على أعدائه (الرَّحِيمُ) : العاطف على أوليائه.

(وَعْدَ اللهِ) أي : وعد ذلك وعدا ، فسينجزه لا محالة ، فهو مصدر مؤكّد لما قبله ؛ لأن قوله : (سَيَغْلِبُونَ) وعد ، (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) ؛ لامتناع الكذب عليه تعالى ، فلا بد من نصر الروم على فارس. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة وعده ، وأنه لا يخلف ، أو : لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله ؛ لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ؛ ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهرا وباطنا ، فظاهرها : ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء : إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار ، فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ، وسجن الإبرار ، ومجلس الأشرار ، الدنيا كالحية ، تجمع سموم نوائبها ، وتفرغه فى صميم قلوب أبنائها. ه. وباطنها : أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهرا) : مفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ؛ لا تخطر ببالهم ، ولا يتفكرون فى أهوالها وتوائبها. فهم ، الثانية : مبتدأ ، و (غافلون) : خبره ، والجملة : خبر الأولى ، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كما تقع الدولة بين الأشباح ، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح ، فتحجبها عن الله ، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس ، فتستر ظلمة حظوظها ، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. الم ، غلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس ، فى أدنى أرض العبودية ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة ، على ظلمة النفوس الظلمانية ، وذلك فى بضع سنين ، مدة المجاهدة ، والبضع : من ثلاث إلى عشر ، على قدر الجد والاجتهاد ، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع ، فمنهم من يظفر بنفسه فى مدة يسيره ، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله ، حيث نصرهم على نفوسهم ، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء ، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. ه.

وقال الورتجبي : قوله : (غُلِبَتِ الرُّومُ ..) الآية ، إشارة إلى أن الأرواح ، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة ، والشياطين الكافرة ؛ امتحانا من الله ، وتربية لها بمباشرة القهريات ، فإنها تغلب على النفوس ، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري : قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : استغراقهم فى الاشتغال بالدنيا ، وانهماكهم بما منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ علمه ؛ كما فى الأثر عن علىّ رضي الله عنه. قال :

وقيمة كلّ امرئ ما كان يتقنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

٣٢٥

فأهل الدنيا فى غفلة عن الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة ، هم بوجودها ، فى غفلة عن الله. ه. قلت : وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.

ثم أمر بالتفكر ، فقال :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

قلت : «فى أنفسهم» : يحتمل أن يكون ظرفا ، أي : أولم يحدثوا التفكر فيها ، وأن تكون صلة للتفكر ، نحو : تفكر فى الأمر : أجال فيه فكره. والأول أظهر.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : أولم يثبتوا التفكر فى أنفسهم ، أي : فى قلوبهم الفارغة ، فيتفكروا بها فى مصنوعات الله ، حتى يعلموا أنها ما خلقت عبثا ، والتفكر لا يكون إلا فى القلوب ، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقوله : اعتقده فى قلبك. أو : أو لم يتفكروا فى أنفسهم ، التي هى أقرب إليهم من غيرها ، وهم أعلم بأحوالها ، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ، ظاهرا وباطنا ، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه ، على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا ، عند ذلك ، أن سائر الخلائق مثلها ، وأنه لا بدّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، فيعلموا أن (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : ما خلقها باطلا وعبثا من غير حكمة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة البالغة ، وتنتهى إلى أجل مسمى ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، بالثواب والعقاب ، فيخرب هذا العالم ، ويقوم عالم آخر ، لا انتهاء لوجوده.

قال فى الحاشية الفاسية : وبالجملة : فخلق السموات والأرض ؛ للدلالة على التوحيد بوجودهما ، وعلى الآخرة بفنائهما ، وانقضاء أجلهما. ثم قال : والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضى جزاء أوليائه ، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهدا ومنزلا منزلة الآخرة ، والقالب منزلة الدنيا ، وكما أن عمل القالب يعود نفعه ، إذا فعل الطاعة ، على القلب ؛ بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية ، ويعود ضرره عليه ، إذا فعل ضد ذلك ، كما يعرفه أهل القلوب ، وأنه مزرعة للقلب ، ولا بقاء له ، وإنما خلق لقضاء ذلك ، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة ، وإنما خلقت لذلك ، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة ، فاعتبر ذلك. ه.

٣٢٦

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) ؛ بالبعث والجزاء (لَكافِرُونَ) : لجاحدون.

الإشارة : قد تقدم الكلام على فضل التفكر فى آل عمران (١). وقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : ما خلق الكائنات إلا بالحق ، من الحق إلى الحق ، فهى من تجليات الحق ، ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق ، فافهم.

ثم قال ؛ زيادة فى الأمر بالاعتبار ، أو : تقول : لمّا ذكر علمهم بظاهر الحياة الدنيا ، ذكر أن من قبلهم كانوا أعلم بها ، ولم ينفعهم مع التكذيب ، فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

قلت : من رفع «عاقبة الذين أساءوا» ؛ فالسوأى : منصوب خبر كان ، ومن نصب «عاقبة» ؛ فالسّوأى : مرفوع اسمها ، أو : مصدر لأساءوا. انظر البيضاوي. والسّوأى : تأنيث أسوأ. و (أن كذبوا) : مفعول من أجله ، أو : بدل ، على أن معنى (أساءوا) : كفروا.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي : أعموا ولم يسيروا (فِي الْأَرْضِ) ، ثم قرره بقوله : (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : فينظروا إلى آثار الذين من قبلهم ؛ كيف دمرهم الله ، وأخلا بلادهم ، وبقيت دراسة بعدهم ، كعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم العاتية ، والجبابرة الطاغية ، (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده ، (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) ؛ قلبوا وجهها بالحراثة ، واستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وغير ذلك. (وَعَمَرُوها) أي : عمر المدمّرون الأرض (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : أهل مكة ، فأكثر : صفة لمصدر محذوف. و (ما) : مصدرية ، أي : عمارة هؤلاء ، فإنهم أهل واد غير ذى زرع ، ولا تبسط لهم فى غيرها. وفيه تهكم بهم ؛ من حيث إنهم عمروا الأرض ، مغترون بالدنيا ، مفتخرون بها ، وهم أضعف حالا فيها ؛

__________________

(١) راجع تفسير الآيات : ١٩١ ـ ١٩٤ من سورة آل عمران ، ص ٤٥١ ـ ٤٥٢ من المجلد الأول.

٣٢٧

إذ مدار أمرها على التبسّط فى البلاد ، والتسلط على العباد ، والتصرف فى أقطار الأرض بأنواع العمارة ، وهم ضعفاء ملجأون إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.

(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ بالمعجزات الواضحات ، فلم يؤمنوا ؛ فأهلكوا ، (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ؛ بأن دمرهم بلا سبب ، أو : من غير إعذار ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ؛ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) بالكفر والمعاصي (السُّواى) أي : العقوبة السوأى ، والأصل : ثم كان عاقبتهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم ، وهو إساءتهم. والمعنى : أنهم عوقبوا فى الدنيا بالدمار ، ثم كان عاقبتهم فى الآخرة العقوبة التي هى أسوأ العقوبات ، وهى النار التي أعدت للكافرين. لأجل (أَنْ كَذَّبُوا) أو : بأن كذّبوا (بِآياتِ اللهِ) الدالة على صدق رسله ، أو : على وحدانيته. (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ؛ حيث قابلوها بالتكذيب ، أو : غفلوا عن التفكر فيها. أو : ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السّوآء أن طبع الله على قلوبهم ، حتى كذّبوا بالآيات ، واستهزءوا بها. أو : ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى ، وهو أن كذّبوا واستهزءوا ، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة ، فخبر كان ، على هذا : محذوف ؛ للتهويل. و (أن كذبوا) : بيان ، أو : بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.

الإشارة : السير إلى الله على أقسام : سير النفوس : بإقامة عبادة الجوارح ؛ لطلب الأجور ، وسير القلوب : بجولانها فى ميادين الأغيار ، للتبصر والاعتبار ؛ طلبا للحضور ، وسير الأرواح : بجولان الفكرة فى ميادين الأنوار ؛ طلبا لرفع الستور ودوام الحضور ، وسير الأسرار : الترقي فى أسرار الجبروت ، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري : سير النفوس فى أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات ، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات ، وغايته : الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدور ـ ثم تلك العلوم على درجات ـ وسير الأرواح فى ميادين الغيب : بنعت خرق سرادقات الملكوت. وقصاراه : الوصول إلى ساحل الشهود ، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار : بالترقي ـ أي : الغيبة ـ عن الحدثان بأسرها ، والتحقق ، أولا ، بالصفات ، ثم بالخمود ، بالكلية ، عمّا سوى الحق. ه.

وقال فى قوله : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) : من زرع الشوك لم يحصد الورد ، ومن استنبت الحشيش لم يقطف البهار ، ومن سلك سبيل الغىّ لم يحلل بساحة الرشد. ه.

ثم ذكر شأن البعث الذي هو عاقبة المسيء والمحسن : فقال :

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ

٣٢٨

كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ؛ ينشئهم ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ؛ يحييهم بعد الموت ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ للجزاء ؛ بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب ؛ للمبالغة فى إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح : بالغيب ، على الأصل. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ) : ييأس ويتحير (الْمُجْرِمُونَ) ؛ المشركون ؛ يقال : ناظرته فأبلس ، أي : أفحم وأيس من الحجة ، أو : يسكتون متحيرين ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) التي عبدوها من دون الله (شُفَعاءُ) يشفعون لهم ويجيرونهم من النار ، (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) ؛ جاحدين لها ، متبرئين من عبادتها ، حين أيسوا من نفعها. أو : كانوا فى الدنيا كافرين بسبب عبادتها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي : المسلمون والكافرون ، بدليل قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) ، أي : بستان ذى أزهار وأنهار ، وهى الجنة. والتنكير ؛ لإبهام أمرها وتفخيمه ، (يُحْبَرُونَ) : يسرّون ، يقال : حبره ، إذا سرّه سرورا تهلّل به وجهه ، وظهر فيه أثره.

ووجوه المسار كثيرة ، فقيل : يكرمون ، وقيل : يحلّون. وقيل : هو السماع فى الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء : كان عليه الصلاة والسلام يذكّر الناس بنعيم الجنان ؛ فقيل : يا رسول الله ؛ هل فى الجنة من سماع؟ قال : «نعم ، إنّ فى الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانة ، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط ، فذلك أفضل نعيم أهل الجنّة.» قال الراوي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح إن شاء الله (١). والخمصانة : المرهفة الأعلى ، الضخمة الأسفل. ه. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون فى نزهة تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر ، وقد ذكرناها فى شرحنا الكبير على الفاتحة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) ؛ بالبعث (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) : مقيمون ، لا يغيبون عنه. عائذا بالله من غضبه.

__________________

(١) ذكره القرطبي فى التفسير (٦ / ٥٢٤٣) ، وعزاه للثعلبى ، من حديث أبى الدرداء ، وأخرجه ، بنحوه ، البيهقي فى البعث والنشور (٤٢٥) من حديث أبى هريرة موقوفا.

٣٢٩

الإشارة : من اعتمد على غير الله ، أو ركن إلى شىء سواه ، فهو مجرم عند الخصوص ، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم فى حقه ، يتبرأ منه يوم القيامة ، ويبلس من نفعه ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) : الآية. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ؛ فريق هم أهل الوصلة ، وفريق هم أهل القطعة ، فريق فى المنة ، وفريق فى المحنة ، فريق فى السرور ، وفريق فى الثبور ، فريق فى الثواب ، وفريق فى العقاب ، فريق فى الفراق ، وفريق فى التلاق. قاله القشيري. وإذا كان الأمر هكذا ، فجدّ ، أيها المؤمن ، فى طاعة مولاك ، وأكثر من ذكره ، صباحا ومساء ، وليلا ونهارا ؛ لتنال ذلك الوعد ، وتنجو من الوعيد ، كما أبان ذلك بقوله :

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

قلت : «فسبحان» : مصدر لمحذوف ، أي : سبحوا سبحان. و (حين) : متعلق بذلك المحذوف ، وجملة : (وله الحمد) : معترضة بين معطوفات الظروف. و (فى السموات) : حال من الحمد ، أي : وله ، على عباده ، الحمد ؛ كائنا فى السموات .. إلخ.

يقول الحق جل جلاله : (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيها يليق به فى هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته ، وتجدد فيها نعمه ، وهى (حِينَ تُمْسُونَ) ؛ تدخلون فى السماء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ؛ تدخلون فى الصباح. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : وله ، على المميّزين كلّهم ، من أهل السموات والأرض ، أن يحمدوه ، (وَعَشِيًّا) أي : وسبحوه عشيا ؛ آخر النهار ، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ؛ تدخلون فى وقت الظهيرة.

قال البيضاوي : وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح ؛ لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر ، وتخصيص الحمد بالعشي ـ الذي هو آخر النهار ، من عشى العين ؛ إذا نقص نورها ـ والظهيرة ـ التي هى وسطه ؛ لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون (عَشِيًّا) معطوفا على (حِينَ تُمْسُونَ) ، وقوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ ..) إلخ ـ اعتراضا. وعن ابن عباس : الآية جامعة للصلوات الخمس ، (تمسون) : صلاتا المغرب والعشاء ، (تصبحون) : صلاة الفجر ، (وعشيا) : صلاة العصر ، (وتظهرون) : صلاة الظهر (١). ولذلك زعم الحسن أنها مدنيّة ؛ لأنه كان يقول :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير فى التفسير (٢١ / ٢٩) ، والطبراني فى الكبير (١٠ / ٣٠٤ ح ١٠٥٩٦) ، والحاكم فى المستدرك (٢ / ٤٠١) ، وصححه ، ووافقه الذهبي.

٣٣٠

كان الواجب عليه بمكة ركعتين ، فى أي وقت اتفقت ، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. ه.

ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، الطائر من البيضة ، والإنسان من النطفة ، أو : المؤمن من الكافر ، والعالم من الجاهل. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ، البيضة من الطائر ، والنطفة من الإنسان ، أو : الكافر من المؤمن ، والجاهل من العالم. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) بيبسها ، (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، والمعنى : أن الإبداء والإعادة متساويان فى قدرة من هو قادر على إخراج الحي من الميت ، وعكسه.

روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) .. إلى الثلاث آيات ، وآخر سورة الصافات : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ..) إلخ .. دبر كلّ صلاة ، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء ، وقطر الأمطار ، وورق الأشجار ، وتراب الأرض. فإذا مات ؛ أجرى له بكل لفظ عشر حسنات فى قبره» (١) نقله الثعلبي والنسفي. وعنه ـ عليه الصلاة والسلام : «من قال حين يصبح : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) .. إلى قوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ؛ أدرك ما فاته فى يومه ، ومن قاله حين يمسى ؛ أدرك ما فاته فى ليلته» (٢). رواه أبو داود.

وقال الضحاك : من قال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ..) إلخ ؛ كان له كعدل مائتى رقبة من ولد إسماعيل. ه. زاد كعب : ولم يفته خير كان فى يومه ، ولا يدركه شر كان فيه. وإن قالها فى المساء ؛ فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه‌السلام يقرأها ست مرات فى كل يوم وليلة. ه.

الإشارة : أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح ؛ فلأنّ المجوس كانوا يسجدون للشمس فى هذين الوقتين ؛ تسليما وتوديعا ، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه ، وأما العشى ؛ فلأنه وقت غفلة الناس فى جمع حوائجهم ، وأما وقت الظهيرة ؛ فلأن جهنم تشتعل فيه ؛ كما فى الحديث ، وأمر بحمده والثناء عليه فى كل وقت ؛ لما غمره من النعم الظاهرة والباطنة.

قال القشيري : فمن كان صباحه بالله ؛ بورك له فى يومه ، ومن كان مساؤه بالله ؛ بورك له فى ليلته ، وأنشدوا :

وإنّ صباحا نلتقى فى مسائه

صباح على قلب الغريب حبيب (٣)

__________________

(١) انظر : تفسير النسفي (٢ / ٦٩٥).

(٢) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب ما يقول إذا أصبح ، ٥ / ٣١٦ ، ح ٥٠٧٦) ، والطبراني فى الكبير (١٢ / ٢٣٩ ح ١٢٩٩١) ، وابن السّنّي فى عمل اليوم والليلة (ح ٥٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٤٢٨) : إسناده جيد.

(٣) البيت : لإبراهيم بن المهدى ، يذكر ابنه. انظر الكامل للمبرد (٢ / ٣١٤) ، وفيه : صباح إلى قلبى ، الغداة ، حبيب.

٣٣١

شتّان بين عبد : صباحه مفتتح بعبادته ، ومساؤه مختتم بطاعته ، وبين عبد : صباحه مفتتح بمشاهدته ، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت : الأول من عامة الأبرار ، والثاني من خاصة العارفين الكبار ، وبقي مقام الغافلين ، وهو : من كان صباحه مفتتح بهم نفسه ، ومساؤه مختتم برؤية حسه ، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس فى الآية ، كما تقدم ـ ثم قال : وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية فى اليوم والليلة خمس مرات ، فيقف على بساط المناجاة ، ويستدرك مافاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. ه.

وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) يخرج الذاكر من الغافل ، والغافل من الذاكر ، والعارف من الجاهل ، والجاهل من العارف ، ويحيى أرض النفوس باليقظة والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، وكذلك تخرجون من قبوركم على مامتم عليه ، من معرفة أو جهل ، من يقظة أو غفلة ، يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر دلائل البعث والخروج ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته ، الشاملة للبعث وغيره ، أو : ومن علامات ربوبيته : (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي : أباكم (مِنْ تُرابٍ) ؛ لأن أصل الإنشاء منه ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي : ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض ، آدم وذريته. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) ؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو : من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين ـ إذ كانا من جنس واحد ـ من الألفة والمودة والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه : إذا مال إليه. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي : جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.

وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة هى الولد. وقيل : المودّة للشابة الجميلة ، والرحمة للعجوز ، وقيل : المودة والرحمة من الله ، والفرك من الشيطان ـ أي : البغض من الجانبين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ؛ فيعلمون ما فى ذلك من الحكم ، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.

٣٣٢

الإشارة : أصل نشأة البشرية من الطين ، وأصل الروح من نور رب العالين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين ، فكان همها الطين ، وهوت إلى أسفل سافلين ، فلا تجد فكرتها وحديثها ، فى الغالب ، إلا فى عالم الحس ، ويكون عملها كله عمل الجوارح ، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة ؛ وذلك بدخول مقام الفناء ، حتى تستولى المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة ، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار ، فلا تجد فكرتها إلا فى أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعملها كله قلبى وسرى ، بين فكرة واعتبار ، وشهود واستبصار ، يبقى مع الروح ببقائها ، يجرى عليها بعد موت البشرية ، ويبعث معها ، كما تقدم فى الحديث : (يموت المرء ...) إلخ.

قال القشيري : يقال : الأصل تربة ، ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة. ه. قلت : إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية ، ثم قال : اصطفى الكعبة ، فهى خير من الجنة ، مع أن الجنة جواهر ويواقيت ، والكعبة حجر ومدر ، أي : كذلك المؤمن الكامل ، وإن كان أصله من الطين ، فهو أفضل من كثير من العوالم اللطيفة. ثم قال فى قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ..) الآية : ردّ المثل إلى المثل ، وربط الشكل بالشكل ، وجعل سكون البعض إلى البعض ، وذلك للأشباح والصّور ، والأرواح صحبت الأشباح ؛ كرها لا طوعا ، وأما الأسرار فمعتقة ، لا تساكن الأطلال ، ولا تتدنس بالأغيار. ه.

قلت : وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هى نفسية ، لا روحانية ، ولا سرية ؛ إذ الروح والسر لا يتصور منهما ميل إلى غير أسرار الذات العلية ؛ إذ محبة الحق جذبتها عن الميل إلى شىء من السّوى. واختلف الصوفية : هل تخلّ هذه المودة التي بين الزوجين بمحبة الحق ، أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه : لا تضر الروح ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث ..» (١) فذكر النساء ، إذا كان على وجه الشفقة والرحمة ، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة : أنه لا يتغير عند فقدها ، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم. (٢)

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ

__________________

(١) لفظ «ثلاث» لم يرد ـ مطلقا فى روايات الحديث الصحيحة. قال الحافظ ابن حجر : وليس فى شىء من طرقه «لفظ ثلاث» وراجع تخريج هذا الحديث الشريف عند إشارة الآية ٤٥ من سورة العنكبوت.

(٢) انظر : مجمع الأمثال للميدانى ١ / ١٢٩.

٣٣٣

خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

قلت : (يريكم البرق) : فيه وجهان ، أحدهما : إضمار «أن» ؛ كما فى حرف ابن مسعود ، والثاني : تنزيل الفعل منزلة المصدر ، كما قيل فى قولهم ، فى المثل : «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه». أي : إن تسمع ، أو : سماعك. و (خوفا وطعما) : مفعولان له ؛ على حذف مضاف ، أي : إرادة خوف ، وإرادة طمع ، أو : على الحال ، أي : خائفين وطامعين. و (إذا دعاكم) : شرطية ، و (إذا) ، الثانية ؛ فجائية ، نابت عن الفاء. و (من الأرض) : يتعلق بدعاكم.

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على باهر قدرته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال القشيري : السموات فى علّوها ، والأرض فى دنوّها ، هذه بنجومها وكواكبها ، وهذه بأقطارها ومناكبها ، هذه بشمسها وقمرها ، وهذه بمائها ومدرها ، واختلاف لغات أهلها فى الأرض ، واختلاف تسبيح الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ الذين هم سكان السماء. ه. (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) باختلاف اللغات ، وبأجناس النطق وأشكاله ، (وَأَلْوانِكُمْ) ، كالسواد والبياض وغيرهما ، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين ؛ إلا وبينهما نوع تخالف فى اللسان واللون ، وباختلاف ذلك وقع التعارف والتمايز ، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت المصالح. وفى ذلك آية بينة ، حيث ولدوا من أب واحد ، وهم على كثرتهم متفاوتون. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ؛ بفتح اللام وكسره (١). ويشهد للكسر قوله تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٢).

قال القشيري : واختصاص كلّ شىء من هذه ببعض جائزات حكمها ؛ شاهد عدل ، ودليل صدق ، يناجى أفكار المستيقظين ، وتنادى على أنفسها : أنها ، بأجمعها ، بتقدير العزيز العليم. ه.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ، أي : منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، أو : منامكم فى الزمانين ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، وهو حسن ؛ لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه ، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ؛ سماع تدبر ، بآذان واعية. قال القشيري : غلبة النوم لصاحبه من غير اختيار ، وانتباهه بلا اكتساب ، يدلّ على موته ثم بعثه ، ثم فى حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه يدل على حاله فى قبره. الله أعلم كيف حاله ، فى أمره ، فيما يلقاه من خيره وشره. ه. (٣)

__________________

(١) قرأ حفص : بكسر اللام قبل الميم ، جمع «عالم» ، ضد الجاهل ، وقرأ الباقون : بفتح اللام ؛ جمع «عالم». انظر الإتحاف (٢ / ٣٥٦).

(٢) من الآية ٤٣ من سورة العنكبوت.

(٣) بالمعنى.

٣٣٤

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ، أي : خوفا من الصواعق ، وطمعا فى الغيث ، أو : خوفا للمسافر وطمعا للحاضر ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) ؛ مطرا (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : يتفكرون بعقولهم.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ) بغير عمد (وَالْأَرْضُ) على ماء جماد (بِأَمْرِهِ) أي : بإقامته ، أو : تدبيره وقدرته. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) للبعث (دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) من قبوركم. وسبك الآية : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، واستمساكها بغير عمد ، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة ، يا أهل القبور ، خرجتم بسرعة. وإنما عطف هذا بثم ؛ بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر ، وإظهار اقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر ، كقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

تنبيه : عبّر عن مودة الزوجين بيتفكرون ؛ لأن المودة قلبية ، لا تدرك إلا بتفكر القلب ، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالمين ؛ لأن أمر ذلك يدركه كل أحد ، ممن له عقل أو علم ، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون ؛ لأن من كان فى الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ ، وإنما يسمعها من كان متيقظا ، وعبّر عن إظهار البرق ، وإنزال المطر ، وإحياء الأرض ، بيعقلون ؛ لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكة من عقل سليم ، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى علم.

الإشارة : ما نصبت هذه الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها ، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق ، ومظاهر من مظاهره ، وأنوار من أنوار ملكوته ، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله ، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها ، وباهر قدرته وحكمته ، فيقوى إيمانهم ويشتد إيقانهم.

قال فى الإحياء : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلال الله محال ، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه ، وبأفعال مملكته ، وأسرار مملكته ، وقويت ، كثر النعيم فى الآخرة وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن ؛ كثر الزرع وحسن. وقال أيضا ، فى كتاب شرح عجائب القلب : ويكون سعة ملك العبد فى الجنة بحسب سعة معرفته بالله ، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه ، ومن صفاته وأفعاله. ه.

ومن آياته خلق سماوت أرواحكم ، وأرض نفوسكم ، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية ، والنفوس بآداب العبودية ، واختلاف ألسنتكم ؛ فبعضها لا تتكلم إلا فى الفرق ، وبعضها إلا فى الجمع. وألوانكم ؛ بعضها ظهر فيها

__________________

(١) من الآية ٦٨ من سورة الزمر.

٣٣٥

سيما العارفين ، وبهجة المحبين ، وبعضها لم يظهر عليها شىء من ذلك. ومن آياته منامكم فى ليل الغفلة والبطالة ، وقت غفلتكم ، وابتغاؤكم من فضله ؛ بزيادة معرفته ، وقت يقظتكم. ومن آياته يريكم البرق ، أي : يلمع عليكم أسرار المعاني ، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة ، خوفا من الاصطلام والرجوع ، وطمعا فى الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته ، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون ، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصلته وتمكن معرفته. والله تعالى أعلم.

ثم برهن على كمال ملكه وعظمته ، فقال :

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ ملكا وملكا ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون ، كلّ لما أراد ، لا يستطيع التغير عن ذلك. أو : مقرّون بالعبودية ، أو : قائمون بالشهادة على وحدانيته. (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : ينشئهم ثم يعيدهم للبعث ، (وَهُوَ) أي : البعث (أَهْوَنُ) ؛ أيسر (عَلَيْهِ) عندكم ؛ لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء ، فلم أنكرتم الإعادة ، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى؟ وقال الزجاج وغيره : أهون بمعنى «هيّن» ؛ كقوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١) ، كما قالوا : أكبر ، بمعنى كبير. والإعادة فى نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء ؛ إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء ؛ لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الوصف الأعلى ، الذي ليس لغيره ، وقد عرف به ، ووصف فى السموات والأرض ، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شىء من إنشاء وإعادة ، وغيرهما من المقدورات ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : القاهر لكل مقدور ، (الْحَكِيمُ) الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس : المثل الأعلى هو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢). وعن مجاهد : هو قول : «لا إله إلا الله». ومعناه : وله الوصف الأرفع ، وهو اختصاصه بالألوهية فى العالم العلوي والسفلى ، ويعضده : ما بعده من ضرب المثل. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ٣٠ من سورة النساء.

(٢) من الآية ١١ من سورة الشورى.

٣٣٦

الإشارة : الأشياء كلها ، من عرشها إلى فرشها ، حيها وجامدها ، قانتة وساجدة لله تعالى ، من حيث حسّها الذي هو مقر العبودية ، وغنية عن السجود من حيث معناها ؛ لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد ، من حيث فرقه ، عبد خاضع ، ومن حيث جمعه : حر مطاع.

قال القشيري : قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي : فى ظنّكم وتقديركم. وفى الحقيقة السهولة والوعورة على الحق لا تجوز. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) والصفات العلى فى الوجود بحقّ القدم ، وفى وجوده ـ أي : للأشياء ـ بنعت الكرم ، وفى القدرة بوصف الشمول ، وفى النظرة بوصف الكمال ، وفى العلم بعموم التعلق ، وفى الحكم بوجود التحقق ، وفى المشيئة بوصف البلوغ ، وفى القضية بحكم النفوذ ، وفى الجبروت بعين العز والجلال ، وفى الملكوت بنعت الجد والكمال. ه. قلت : والحاصل أن المثل الأعلى يرجع إلى كمال ذاته ، تعالى ، وصفاته وأفعاله.

ثم ضرب مثلا لقبح الشرك ، بعد بيان علو شأنه ، فقال :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

يقول الحق جل جلاله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً) لقبح الشرك وبشاعته ، منتزعا (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) التي هى أقرب شىء إليكم ، وهو : (هَلْ لَكُمْ) ، معاشر الأحرار ، (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : من عبيدكم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها. فمن ، الأولى : للابتداء ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : مزيدة ؛ لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى : هل لكم ، من بعض عبيدكم ، شرك فيما رزقناكم ، أي : هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم فيما رزقناكم؟ (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) ؛ فتكونون أنتم وهم ، فيما رزقناكم من الأموال ، سواء ؛ يتصرفون فيه كتصرفكم ، ويحكمون فيه كحكمكم ، مع أنهم بشر مثلكم ، حال كونكم (تَخافُونَهُمْ) أن يستبدوا بالتصرف فيه ، (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض ـ فيما هو مشترك بينهم ـ أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو : تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال ، أو : يرثونها بعدكم ، كما تخافون ذلك من بعضكم ، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء فى استحقاق العبادة؟!

٣٣٧

(كَذلِكَ) ، أي : مثل هذا التفصيل البديع ، (نُفَصِّلُ الْآياتِ) ؛ نبينها ؛ لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ يتدبرون فى ضرب الأمثال ، ويعرفون حكمها وأسرارها ، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم ، فقال : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، أي : تبعوا أهواءهم ، جاهلين ، ولو كان لهم علم ؛ لرجى أن يزجرهم ، (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ)؟ أي : لا هادى له قط ، (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يمنعونهم من العذاب ، أو : يحفظونهم من الضلالة ، أو : من الإقامة فيها.

الإشارة : ما قيل فى الشرك الجلى يجرى مثله فى الشرك الخفي ؛ فإن الحق تعالى غيور ، لا يحب العمل المشترك ، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه ، وأنشدوا (١) :

لى محبوب إنما هو غيور

يطلّ فى القلب كطير حذور

ذا رأى شيئا امتنع أن يزور

فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يحب غيرك ، ويخضع له ، كذلك الحق تعالى ؛ لا يرضى منك أن تميل لغيره. قال القشيري : قوله : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) : أشدّ الظلم متابعة الهوى ؛ لأنه قريب من الشّرك. قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٢) ، ومن اتّبع هواه ؛ خالف رضا مولاه ، فهو ، بوضع الشيء فى غير موضعه ، صار ظالما ، كما أن العاصي ، بوضع المعصية فى موضع الطاعة ، صار ظالما ، كذلك بمتابعة هواه ، بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه ، صار فى الظلم متماديا. ه.

ثم أمر بالتوحيد الخالص ، المقصود من ضرب المثل ، فقال :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

__________________

(١) وهو الششترى ، كما ذكر الشيخ المفسر فى إيقاظ الهمم / ٤٣٧.

(٢) من الآية ٢٣ من سورة الجاثية.

٣٣٨

قلت : (حنيفا) : حال من (الدين) ، أو : من الأمور ، وهو ضمير (أقم) ، و (فطرة) : منصوب على الإغراء.

يقول الحق جل جلاله ، لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو : لكل سامع : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي : قوّم وجهك له ، غير ملتفت عنه ؛ يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لإقباله على الدين بكلّيته ، واستقامته عليه ، واهتمامه بأسبابه ؛ فإنّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه ، وسدّد إليه نظره ، (حَنِيفاً) ؛ أي : مائلا عن كل ما سواه من الأديان ، (فِطْرَتَ اللهِ) ؛ أي : الزموا فطرة الله. والفطرة : الخلقة : ألا ترى إلى قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)؟ فالأرواح ، حين تركيبها فى الأشباح ، كانت قابلة للتوحيد ، مهيّأة له ، بل عالمة به ؛ بدليل إقرارها به فى عالم الذر ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر ، ومن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفى حديث قدسى : «كلّ عبادى خلقت حنيفا ، فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم ، وأمروهم أن يشركوا بي غيرى» (١) ، وفى الصحيح : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه» (٢)

قال الزجّاج : معناه : أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به ، على ما جاء فى الحديث : «إن الله عزوجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم ، فقالوا : بلى» (٣) ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى ربّها وخالقها. ه. قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة : أنها الخلقة والهيئة فى نفس الطفل ، التي هى مهيئة لمعرفة الله والإيمان به ، الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرض لهم العوارض ؛ على حسب ما جرى به القدر ، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر ، كما فى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) ، أي : خلقهم معدين لذلك ، فأمر من ساعده القدر ، وصرف عن ذلك من لم يوفّق لما خلق له. ه.

فقوله فى الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة» أي : على القابلية والصلاحية للتوحيد ، ثم منهم من يتمحض لذلك ، كما سبق فى القدر ، ومنهم من لم يوفق لذلك ، بل يخذل ويصرف عنه ؛ لما سبق عليه من الشقاء. وقال فى المشارق : أي : يخلق سالما من الكفر ، متهيئا لقبول الصلاح والهدى ، ثم أبواه يحملانه ، بعد ، على ما سبق له فى الكتاب. ه. قال ابن عطية : وذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هى كثيرة. ثم قال : وقد فطر الله

__________________

(١) أخرجه بنحوه ، مطولا ، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب الصفات التي يعرف بها ، فى الدنيا ، أهل الجنة وأهل النار ٤ / ٢١٩٧ ، ح ٢٨٦٥) من حديث عياض المجاشعي. ولفظه : «إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. الحديث.

(٢) أخرجه البخاري فى (القدر ، باب الله أعلم بما كانوا عاملين ح ٦٥٩٩) ، ومسلم فى (القدر ، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ، ٤ / ٢٠٤٧ ، ح ٢٦٥٨) بزيادة فى آخره ، من حديث أبى هريرة ـ رضى الله عنه.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٢٧٢) وقال فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٥) : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.

(٤) الآية ٥٦ من سورة الذاريات.

٣٣٩

الخلق على الاعتراف بربوبيته ، ومن لازم ذلك توحيده ، وإن لم يوفّقوا لذلك كلّهم ، بل وحّده بعضهم ، وأشرك بعضهم ، مع اتفاق الكل على ربوبيته ؛ ضرورة أن الكلّ يشعر بقاهر له مدبر. قال فى الحاشية : والحاصل : أنه تعالى فطر الكل فى ابتداء النشأة ، على الاعتراف بربوبيته ، ولكن كتب منهم السعداء موحدين ، وكتب الأشقياء مشركين ، مع اعتراف الجميع بربوبيته ، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية ، فأشركوا ، فناقضوا لازم قولهم. ه.

وهذا معنى قوله تعالى : (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، أي : خلقهم فى أصل نشأتهم عليها ، (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي : ما ينبغى أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال الزجاج : معناه : لا تبديل لدين الله ، ويدل عليه قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة ذلك. حال كونكم.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي : راجعين إليه ، فهو حال من ضمير : الزموا. وقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : عطف على الزموا. أو : على (فأقم) ؛ لأن الأمر له ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر لأمته ، فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم ، منيبين إليه ، (وَاتَّقُوهُ) أي : خافوا عقوبته ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : أتقنوها وأدّوها فى وقتها ، (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ؛ ممن يشرك به غيره فى العبادة.

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : بدل من «المشركين» ؛ بإعادة الجار ، أي : لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أديانا مختلفة باختلاف ما يعبدونه ؛ لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأخوان : (فارقوا) أي : تركوا دين الإسلام الذي أمروا به ، (وَكانُوا شِيَعاً) أي : فرقا ، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها ، أي : تشيعه ، وتقوى سواده ، (كُلُّ حِزْبٍ) منهم (بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ؛ مسرورون ، ظنا بأنه الحق ، ثم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. والعياذ بالله.

الإشارة : الفطرة التي فطر الله الأرواح عليها هى معرفة العيان ؛ لأنها كلها كانت عارفة بالله ؛ لصفائها ولطافتها ، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كثافة الأبدان ، والاشتغال بحظوظها وهواها ، حتى نسيت تلك المعرفة. وفى ذلك يقول ابن البنا فى مباحثه (١) :

ولم تزل كلّ نفوس الأحيا

لامة درّاكة للأشيا

وإنّما تعوقها الأبدان

والأنفس النّزّع والشّيطان

فكل من أذاقهم جهاده

أظهر للقاعد خرق العادة

__________________

(١) انظر الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية ص ١١١.

٣٤٠