البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

بالفعل أم لا. وعن على رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها. وعن الفضيل : أنه قرأها ، ثم قال : ذهبت الأمانى هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قبض. (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) ما لا يرضاه الله ؛ من العلو والفساد وغير ذلك.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ؛ ذاتا وقدرا ووصفا ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) ؛ ما لا يرضاه الله تعالى ، (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) ، أصله : فلا يجزون ، وضع الظاهر موضع المضمر ؛ لما فى إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفيه أحلامهم ، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين ، (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ إلا جزاء عملهم فقط ، ومن فضله العظيم ألا يجزى السيئة إلا مثلها ، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.

الإشارة : جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين ، أهل الذل والانكسار ، والعاقبة المحمودة ـ وهى الوصول إلى الحضرة ـ للمتقين الشهرة والاستكبار ، وفى الحكم : «ادفن نفسك فى أرض الخمول ؛ فما نبت ممّا لم يدفن ؛ لا يتمّ نتاجه». قال فى التنبيه : لا شىء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت ؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه ، التي هو مأمور بتركها ، ومجاهدة النفس فيها ، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. ه.

وكان شيخ شيخنا يقول : نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته ، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. ه. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم : طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه : ما صدق عبد إلا سرّه ألا يشعر بمكانه. وقال فى القوت : ومتى ذل العبد نفسه ، واتضع عندها ، فلم يجد لذلته طعما ، ولا لضعته حسما ، فقد صار الذل والتواضع كونه ، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص فى نفسه ، ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة فى نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه ، لازمة لزوم الزبالة للزبال ، والكساحة للكساح ، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه ، قد ولّاه على نفسه ، وملّكه عليها ، فقفرها بعزه ، وهذا مقام محبوب ، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال : ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه ، كما يطلب المتكبر العز ، ويستحليه إذا وجده ، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله ، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش نفسه. ه.

قلت : وهذا مقام من المقامات ، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شىء ؛ إذ لم يفقد شيئا بعد أن وجد الله ، (ماذا فقد من وجدك). والذي ذكره فى القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق. (١)

__________________

(١) من مناجاة سيدى ابن عطاه الله السكندرى ، انظر الحكم بتويب المتقى الهندي / ٤٢.

٢٨١

ثم ذكر عاقبة سيد المتقين ، فقال :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

قلت : (ولا يصدنك) : مجزوم بحذف النون ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، حين دخلت نون التوكيد.

يقول الحق جل جلاله ، لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي : أوجب عليك تلاوته وتبليغه ، والعمل بما فيه ، (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) عظيم ، وهو المعاد الجسماني ؛ لتقوم المقام المحمود ، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك ، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو : لرادك إلى معادك الأول ، وهو مكة ، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها ؛ لأنها مولده ومولد آبائه ، وقد ردّه إليها يوم الفتح ، وإنما نكّره ؛ لأنه كان فى ذلك اليوم معاد له شأن ، ومرجع له اعتداد ؛ لغلبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونصره ، وقهره لأعدائه ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وحزبه.

والسورة مكية ، ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة ، لا بمكة ولا بالمدينة (١) ، وفى الآية وعد بالنصر ، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يختص بالآخرة ، بل يكون فى الدنيا له ولمتّبعيه ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان ، كما فى صدر السورة الآتية بعدها ، وبهذا يقع التناسب بينهما ، فإنها كالتعليل لما قبلها.

ولما وعده بالنصر قال له : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي : يعلم من جاء بالحق ، يعنى : نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب ، فى معاده ، (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ؛ وهم المشركون ، مع ما يستحقونه من العقاب فى معادهم.

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى) ؛ يوحى (إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : القرآن ، فكما ألقى إليك الكتاب ، وما كنت ترجوه ؛ كذلك يردك إلى معادك الأول ، من غير أن ترجوه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، لكن ألقاه إليك ؛ رحمة منه

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣).

٢٨٢

إليك ، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى ، كأنه قال : وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) ؛ معينا (لِلْكافِرِينَ) على دينهم ؛ بمداراتهم والتحمل عنهم ، والإجابة إلى طلبتهم.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) أي : لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها ، (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي : بعد وقت إنزالها ، و (إِذْ) : مضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذ ويومئذ. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ؛ إلى توحيده وعبادته ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، نهاه ؛ تنفيرا لغيره من الشرك.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به أهل دينه. قال البيضاوي : وهذا وما قبله تهييج ، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : استئناف ، مقرر لما قبله ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : ذاته ، فالوجه يعبّر به عن الذات ، أي : كل شىء فان مستهلك معدوم ، إلا ذاته المقدسة ، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية : إلا ما أريد به وجه الله ، من علم وعمل ، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : يجاء بالدنيا يوم القيامة ، فيقال : ميزوا ما كان لله تعالى منها ، فيميز ، ثم يؤمر بسائرها فيلقى فى النار. ه. وقال الضحاك : كل شىء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.

(لَهُ الْحُكْمُ) ؛ القضاء النافذ فى خلقه ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.

الإشارة : أهل الاشتياق يروّحون أرواحهم بهذه الآية ، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن ، أن تعمل به فى الدنيا ، لرادك إلى معاد جسمانى روحانى ، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب ، من غير عذول ولا رقيب ، على سبيل الاتصال ، من غير تكدر ولا انفصال ، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون : (رَبِّي أَعْلَمُ) الآية .. وما كنت ترجو أن تلقى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك ، فلا تكونن ظهيرا للكافرين المنكرين لها ، معينا لهم على إذاية من انتسب إليها ، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه ، بعد إذ أنزلت إليك ، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله ، الدالين عليه ، وادع إلى ربك ، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته ، ولا تكونن من المشركين بشهود شىء من السّوى ، فإن كل شىء هالك ، أي : معدم فى الماضي والحال والاستقبال ، إلا وجهه : إلا ذاته ، فلا موجود معها ، وفى ذلك يقول الشاعر :

الله قل ، وذر الوجود وما حوى

إن كنت مرتادا بلوغ كمال

فالكلّ ، دون الله ، إن حقّقته ،

عدم على التّفصيل والإجمال

واعلم بأنّك ، والعوالم كلّها ،

لولاه ، فى محو وفى اضمحلال

٢٨٣

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده ، لولاه ، عين

محال فالعارفون فنوا ، ولم يشهدوا

شيئا سوى المتكبّر الم

تعال ورأوا سواه على الحقيقة هالكا

فى الحال والماضي والاستقبال.

وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.

٢٨٤

سورة العنكبوت

مكية ، إلا صدرها ؛ العشر الآيات ، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة ، وإلا قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) إلى : (الْمُنافِقِينَ) (١) ؛ فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها ؛ من البشارة بالنصر ؛ لأنه لا يكون فى الغالب إلا بعد الامتحان ، كما قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣))

قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن ، بخلاف الشك ، فهو الوقوف بينهما. والعلم : هو القطع بأحدهما ، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل ، فلا أقول : حسبت زيدا ، وظننت الفرس ، بل حسبت زيدا قائما ، والفرس جوادا. والكلام الدال على المضمون ، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا.

يقول الحق جل جلاله : (الم) الألف : لوحدة أسرار الجبروت ، واللام : لفيضان أنوار الملكوت ، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته ، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ؛ ليظهر صدقه أو كذبه ، وهذا معنى قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) أي : أظن الناس (أَنْ يُتْرَكُوا) غير ـ مفتونين ومختبرين ، (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ؛ أظنوا أن يدّعوا الإيمان ولا يختبرون عليه ؛ ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف ؛ من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب فى الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ؛ ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت فى الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالى الدرجات ، فإن مجرد الإيمان ، وإن كان عن خلوص قلب ، لا يقتضى غير الخلاص من الخلود فى العذاب ، وما

__________________

(١) الآيات : ٩ ـ ١١.

٢٨٥

ينال العبد من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات ، مع ما فى ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.

روى أنها نزلت فى ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد جزعوا من أذى المشركين ، وضاقت صدورهم من ذلك ، وربما استنكر بعضهم أن يمكّن الله الكفرة من المؤمنين. فنزلت مسلّية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده ؛ اختبارا لهم.

قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بأنواع المحن ؛ فمنهم من كان يوضع المنشار على رأسه ، فيفرق فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد ، ومنهم من كان يطرح فى النار ، وما يصده ذلك عن دينه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) بذلك الامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) فى الإيمان بالثبات ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) بالرجوع عنه. ومعنى علمه تعالى به ، أي : علم ظهور وتمييز. والمعنى : وليميّزنّ الصادق منهم من الكاذب ، فى الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء : يتبيّن صدق العبد من كذبه فى أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر فى أيام الرخاء ، وصبر فى أيام البلاء ، فهو من الصادقين ، ومن بطر فى أيام الدنيا ، وجزع فى أيام البلاء ، فهو من الكاذبين. ه.

الإشارة : سنّة الله تعالى فى أوليائه : أن يمتحنهم فى البدايات ، فإذا تمكنوا من معرفة الله ، وكمل تهذيبهم ، أعزهم ونصرهم ، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه على ذلك ؛ وهم عرائس الملكوت ، ضنّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام ، وفى الحديث : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان فى دينه صلبا ، اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقّة ، ابتلى على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه من خطيئة» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشدّ الناس بلاء فى الدنيا : نبى أو صفى». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشدّ الناس بلاء : الأنبياء ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر ، حتى ما يجد إلا العباءة يحوّيها فيلبسها ، ويبتلى بالقمل حتى يقتله ، ولأحدهم كان أشدّ فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» (٢). من الجامع. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب ما جاء فى الصبر على البلاء ، ٤ / ٥٢٠ ، ح ٣٩٨) ، وابن ماجه فى (الفتن ، باب الصبر على البلاء ، ٢ / ١٣٣٤ ، ح ٤٠٢٣) ، والإمام أحمد فى المسند (١ / ١٧٤) من حديث مصعب بن سعد ، بن أبى وقاص رضي الله عنه.

(٢) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (٤ / ١٣٣٥ ، ح ٤٠٢٤) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات / ١) ، والحاكم (٤ / ٣٠٧) وصححه ، من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحوّيها» فى النهاية : التحوية : أن يدير كساء حول سنام البعير ، ثم يركبه ، والاسم : الحويّة. انظر النهاية (حوا ١ / ٤٦٥).

٢٨٦

ثم ذكر المؤذين لهم ، فقال :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين ، (أَنْ يَسْبِقُونا) أي : يفوتونا ، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و «أم» : منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول ؛ لأن ذلك يظن أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساوئه ، وشبهته أضعف ، ولذلك عقّبه بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ، أي : بئس ما يحكمون به حكمهم فى صفات الله أنه مسبوق ، وهو القادر على كل شىء ، فالمخصوص محذوف.

ثم ذكر الحامل على الصبر عند الامتحان ، وهو رجاء لقاء الحبيب ، فقال : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي : يأمل ثوابه ، أو يخاف حسابه ، أو ينتظر رؤيته ، (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) المضروب للغاية (لَآتٍ) لا محالة. وفيه تبشير بأن اللقاء حاصل ؛ لأنه لأجل آت ، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء ، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقوله عباده ، (الْعَلِيمُ) بما يفعلونه ، فلا يفوته شىء.

(وَمَنْ جاهَدَ) نفسه ، بالصبر على مشاق الطاعات ، ورفض الشهوات ، وإذاية المخلوقات ، وحبس النفس على مراقبة الحق فى الأنفاس واللحظات ، (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) ؛ لأن منفعة ذلك لها ، (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وعن طاعتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهى ؛ رحمة لهم ، ومراعاة لصلاحهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : الشرك والمعاصي ؛ بالإيمان والتوبة ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) مع غنانا عنهم ، (أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : أحسن جزاء أعمالهم ؛ بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : أم حسب الذين ينكرون على أوليائى ، المنتسبين إلىّ ، أن يسبقونا؟ بل لا بد أن نعاقبهم فى الدنيا والآخرة ، إما فى الظاهر ؛ بمصيبة تنزل بهم ، أو فى الباطن ، وهو أقبح ، كقساوة فى قلوبهم ، أو : كسل فى بدنهم ، أو : شك فى يقينهم ، أو : بعد من ربهم ، فإن من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذون فى جانبه ، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا ، وهو الوصول إلى حضرته ، والتنعم بقربه ومشاهدته ، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم ، وهو الغنى بالإطلاق.

٢٨٧

ثم حذّر من طاعة من يرد عن التوحيد والإخلاص ، فقال :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

قلت : «وصى» : حكمه حكم «أمر» ، يقال : وصيت زيدا بأن يفعل خيرا ، كما تقول : أمرته بأن يفعل خيرا ، ومنه : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) (١) ، أي : أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.

يقول الحق جل جلاله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ؛ أمرناه بإيتاء والديه (حُسْناً) أي : فعلا ذا حسن ، أو : ما هو فى ذاته حسن ؛ لفرط حسنه ، كقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٢) أو : وصينا الإنسان بتعاهد والديه ، وقلنا له : أحسن بهما حسنا ، أو : أولهما حسنا. (وَإِنْ جاهَداكَ) أي : حملاك بالمجاهدة والجد (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : لا علم لك بالإلهية ، والمراد نفي العلم نفى المعلوم ، وكأنه قيل : لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، وقيل : ما ليس لك به حجة ؛ لأنها طريق العلم ، فهو قوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (٣) ، بل هو باطل عقلا ونقلا ، (فَلا تُطِعْهُما) فى ذلك ؛ إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ، من آمن منكم ومن أشرك ، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ؛ فأجازيكم حق جزائكم. وفى ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك ، وحث على الثبات والاستقامة فى الدين. روى أن سعد بن أبى وقاص لما أسلم ، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد ، فشكى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية والتي فى لقمان (٤).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) ؛ ثبتوا على الإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : فى جملتهم ، والصلاح من أبلغ صفة المؤمنين ، وهو متمنى الأنبياء ، فقال سليمان عليه‌السلام : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٥). وقال يوسف عليه‌السلام : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٦) أو : فى مدخل الصالحين ، وهو الجنة.

__________________

(١) من الآية ١٣٢ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٨٣ من سورة البقرة.

(٣) من الآية ١١٧ من سورة المؤمنون.

(٤) أي : قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الآية «١٥» ونزول الآية فى شأن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه ، أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فى فضل سعد بن أبى وقاص ، ٤ / ١٨٧٧ ح ١٧٤٨) وانظر أسباب النزول للواحدى (ص ٣٥٠ ـ ٣٥١).

(٥) من الآية ١٩ من سورة النمل.

(٦) من الآية ١٠١ من سورة يوسف.

٢٨٨

الإشارة : قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين فى كل شىء ، إلا فى شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلى والخفي ، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدهما من صحبته ، ليتطهر من شركه ، فلا يطعهما ، وسيأتى فى لقمان دليل ذلك ، إن شاء الله. وبالله التوفيق.

ثم ذكر شأن من امتحن فافتضح ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) ، فيدخل فى جملة المسلمين ، (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي : مسّه أذى من الكفرة ؛ بأن عذبوه على الإيمان ، (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي : جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ، فيصرف عن الإيمان. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) ؛ فتح أو غنيمة ، (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي : متابعين لكم فى دينكم ، ثابتين عليه بثباتكم ، فأعطونا نصيبا من المغنم. والمراد بهم : المنافقون ، أو : قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي : هو أعلم بما فى صدور العالمين. ومن ذلك ما فى صدور هؤلاء من النفاق ، وما فى صدور المؤمنين من الإخلاص.

الإشارة : منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان فى الرخاء ويرجع عنه فى الشدة ، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب فى السعة والجمال ، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم ، فإذا أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب ، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز ، ليقولن : إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيرا من هذا النوع ، دخلوا فى طريق القوم ، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان ؛ رجعوا القهقرى ، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان ، وعند الحملة يتميز الجبان من الشجاع.

قال القشيري : المحن تظهر جواهر الرجال ، وتدلّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا ، أو نقص نصيبه فيها ، أو بموت قريب أو فقد حبيب ، فحقير قدره ، وكثير فى الناس مثله. ومن كانت محنته فى الله ولله ، فعظيم قدره ، وقليل مثله ، فى العدد قليل ، ولكن فى القدر والخطر جليل. ه. قلت : معنى كلامه : أن

٢٨٩

العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم ، فإن جزعوا فقدرهم حقير ، وإن صبروا فأجرهم كبير ، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله ، وإقبالهم عليه ، أو الأمر بمعروف أو نهى عن منكر ، فيؤذون فى جانب الله ، فمنهم من يسجن ، ومنهم من يضرب ، ومنهم من يجلى من بلده ، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. ثم قال : والمؤمن من يكفّ الأذى ، والولي من يتحمل من الناس الأذى ، من غير شكوى ، ولا إظهار دعوى. ه.

ولما وقعت الإذاية من الكفار للمسلمين طمعوا فيهم ، كما قال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من صناديد قريش ، (لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) الذي نسلكه ، وهو الدخول فى ديننا ، (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إن كان ذلك خطيئة فى زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم ، وهى طريقتهم التي كانوا عليها ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران فى الحصول. والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، أي : إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.

قال تعالى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما هم حاملين شيئا من أوزارهم ، (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ادعوا ؛ لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفى قلوبهم نية الخلف. (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي : أثقال أنفسهم بسبب كفرهم ، (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي : أثقالا أخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملها ، وهى أثقال الذين كانوا سببا فى ضلالهم ، كقولهم : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١) ، (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها.

الإشارة : كل من عاق الناس عن الدخول فى طريق التصفية والتخليص : تصدق عليه هذه الآية ، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم ، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآية ٢٥ من سورة النحل.

٢٩٠

ثم سلّى رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن أوذى معه ، بما جرى للأنبياء قبله ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) الله (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى الله ، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نصر ، فاصبر كما صبر ، فإن العاقبة للمتقين.

روى أنه عاش ألفا وخمسين سنة ، وقيل : إنه ولد فى حياة آدم ، وآدم يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وقيل : إلا أربعين. ذكره الفاسى فى الحاشية. والمشهور : أن بينه وبين آدم نحو العشرة آباء. وروى أنه بعث على رأس أربعين ، ولبث فى قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين (١). وعن وهب : أنه عاش فى عمره ألفا وأربعمائة ، وقيل : وستمائة ، فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمرا ؛ كيف وجدت الدنيا؟ قال : كدار لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل : تسعمائة وخمسين سنة ؛ لأنه ، لو قيل ذلك ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل هنا ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظا ، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه‌السلام من أمته ، وما كابده من طول المصابرة ؛ تسلية لنبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وجيء ، أولا : بالسّنة ثم بالعام ؛ لأن تكرار لفظ واحد فى كلام واحد حقيق بالاجتناب فى البلاغة.

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) ؛ طوفان الماء ، وهو ما طاف وأحاط ، بكثرة وغلبة ، من سيل ، أو ظلام ليل ، أو نحوها ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) أنفسهم بالكفر والشرك ، (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ، وكانوا ثمانية وسبعين نفسا ، نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، أولاد نوح : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم ، ومن آمن من غيرهم ، (وَجَعَلْناها) أي : السفينة ، أو الحادثة ، أو القصة ، (آيَةً) ؛ عبرة وعظة (لِلْعالَمِينَ) يتعظون بها.

الإشارة : كل ما سلّى به الأنبياء يسلّى به الأولياء ، فكل من أوذى فى الله ، أو لحقته شدة من شدائد الزمان ، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر ، ويتسلى بهم ، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه ، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : العارف هو الذي يغرق (٢) إساءته فى إحسان الله إليه ، ويغرق (٣) شدائد الزمان فى الألطاف الجارية من الله عليه ؛ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٠٧).

(٢ ، ٣) فى نسخة (يعرف) والمثبت من النسخة الأم.

٢٩١

ثم ذكر قصة إبراهيم ، فقال :

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

قلت : (إبراهيم) : عطف على (نوح) ، أو متعلق باذكر ، و (وإذ قال) : ظرف زمان لأرسلنا ، أو : بدل اشتمال من (إبراهيم) ؛ إن نصب باذكر ؛ لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِبْراهِيمَ) أي : وأرسلنا إبراهيم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي : أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره ، وبلغ من السن والعلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه ، ويأمرهم بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة : بالرفع. أي : ومن المرسلين إبراهيم ، قال فى وعظه : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه من الكفر ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ؛ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) ؛ أصناما (وَتَخْلُقُونَ) : تختلقون وتكذبون ، أو تصنعون أصناما بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسّلمى : «وتخلّقون» بالكسر والشد. من خلّق ؛ للمبالغة. (إِفْكاً) : وقرئ «أفكا» بفتح الهمزة (١) ، وهو مصدر ، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) : لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كلّه ؛ فإنه هو الرزاق وحده ، لا يرزق غيره. (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي : متوسلين إلى مطالبكم بعبادته ، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره ، (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي : تكذبونى (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) رسلهم ، (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الذي يزول معه الشك. والمعنى : وإن تكذبونى فلا تضروننى بتكذيبكم ؛ فإن الرسل قبلى قد كذبتهم أممهم ، وما ضروهم ، وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم العذاب. وأما الرسول فقد أدى ما

__________________

(١) فى الأصول [بفتح الفاء]. وانظر : البحر المحيط (٧ / ١٤١). فقد قال أبو حيان : «قرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان. (أفكا) بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب».

٢٩٢

عليه حين بلغ البلاغ المبين ، الذي لم يبق معه شك ، حيث اقترن بآيات الله ومعجزاته. أو : وإن كنت مكذّبا فيما بينكم ، فلى فى سائر الأنبياء أسوة ، حيث كذّبوا ، وعلى الرسول أن يبلّغ ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.

وهذه الآية من قوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه‌السلام لقومه ، والمراد بالأمم قبله : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وأن تكون من كلام الله فى شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشأن قريش ، معترضة بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت : الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت ؛ معترضة فيه ، فلا تقول : مكة ، وزيد قائم ، خير بلاد الله؟ قلت : قد وقع الاتصال ، وبيانه : أن إيراد قصة إبراهيم عليه‌السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أباه إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به ؛ من شرك قومه ، وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) يا معشر قريش محمدا ، فقد كذب إبراهيم قومه ، وكل أمة كذبت نبيها ؛ لأن قوله : (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) لا بد من تناوله لأمة إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض متصل ، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها ؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك ، وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضوح صحته وبرهانه. قاله النسفي.

قال ابن جزى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) يحتمل أن يكون وعيدا للكفار وتهديدا لهم ، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه ، بالتأسى بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومهم. ه.

الإشارة : قوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) : قال سهل رضي الله عنه : معناه : اطلبوا الرزق فى التوكل ، لا فى الكسب ، ؛ فإن طلبه بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله : اطلبوا الرزق فى الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري : وقدّم ابتغاء الرزق ؛ لتوقف القيام بالعبادة عليه ، ثم أمر بالشكر على الكفاية. ه.

ثم أمرهم بالاعتبار ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

٢٩٣

قلت : يقال : بدأ الله الخلق ، وأبداه : بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان فى هذه السورة. وقوله : (يعيده) : عطف على الجملة ، لا على (يبدئ) ؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة ، فإنها تعلم بالنظر والاستدلال ، وهم لا يقرونها ؛ لعدم النظر. وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات وإبداءه ، وعلى هذا تكون (ثم يعيده) : عطفا على (يبدئ).

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : كفار قريش (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي : يظهره من العدم ، أي : قد رأوا ذلك وعلموه ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالبعث ؛ للجزاء بالعذاب والثواب.

قال القشيري : الذي داخلهم فيه الشكّ هو بعث الخلق ، فاحتجّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها ، وإعادتها على الوجه الذي كان فى العام الماضي. وكما أن ذلك سائغ فى قدرته ، كذلك بعث الخلق. ه. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود فى الثمار ، من كونها تبدأ ، فتجنى ، ثم تفنى ، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان ، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا ، وخلق من الولد ولدا آخر ، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف «يعيد» على «يبدئ». (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : قل يا محمد ، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره : وأوحينا إليه أن قل : سيروا فى الأرض ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) على كثرتهم ، واختلاف أحوالهم وألسنتهم وألوانهم وطبائعهم ، وتفاوت هيئاتهم ، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة ، ويقوى إيمانكم بالبعث ، وهو قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي : البعث ، وهذا دليل على أنهما نشأتان : نشأة الاختراع ونشأة الإعادة ، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء ، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة ، وإنما عدل عنه ؛ لأن الكلام معهم وقع فى الإعادة ، فلما قررهم فى الإبداء ، بأنه من الله ، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة ، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قاله النسفي.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ فلا يعجزه شىء. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بعدله ، (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) بفضله ، أو : يعذب من يشاء بالخذلان ، ويرحم بالهداية للإيمان ، أو : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة ، أو : يعذب بالتدبير والاختيار ، ويرحم بالرضا والتسليم لمجارى الأقدار ، أو : يعذب بالإعراض عنه ، ويرحم

٢٩٤

بالإقبال عليه ، أو : بالاستتار والتجلي ، أو : بالقبض والبسط ، أو : بالمجاهدة والمشاهدة ، إلى غير ذلك. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) ؛ تردون للحساب والعقاب.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه ، (فِي الْأَرْضِ) الفسيحة ، (وَلا فِي السَّماءِ) التي هى أفسح منها وأبسط ، لو كنتم فيها. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولى أموركم ، (وَلا نَصِيرٍ) ؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) ؛ بدلائله على وحدانيته ، أو كتبه ، أو معجزاته ، (وَلِقائِهِ) ؛ وكفروا بلقائه ، (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) ؛ جنتى ، (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع. وبالله التوفيق.

الإشارة : أو لم ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ثم يبطنها ، فيردها لأصلها من اللطافة ، ثم ينشئها النشأة الثانية ، تكون معانيها أظهر من حسها ، وقدرتها أظهر من حكمتها ، فليس عند أهل التوحيد الخاص شىء يفنى ، وإنما يبطن ما ظهر ، ويظهر ما بطن ، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال ، وهو لب العلم ، وخالصة طريقة ذكر الله ، والتفرغ عن كل ما يشغل عن الله ، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس. وبالله التوفيق.

ثم ذكر جواب قوم إبراهيم ، فقال :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

قلت : (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) : من نصبها : فله وجهان ؛ أحدهما : على التعليل ، أي : لتوادوا بينكم ، والمفعول الثاني محذوف ، أي : اتخذتم أوثانا آلهة. والثاني : على المفعول الثاني لاتخذتم ، كقوله : (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١). و (ما) : كافة ، أي : اتخذتم الأوثان سبب المودّة ، على حذف مضاف ، أو : اتخذتموها مودودة بينكم. و (بينكم) : نصب على

__________________

(١) من الآية ٤٣ من سورة الفرقان.

٢٩٥

الظرفية ؛ نعت لمودة ، أي : حاصلة بينكم. ومن رفع : فله وجهان ؛ إما خبر إن ، و (ما) موصولة ، أو : عن مبتدأ محذوف ، أي : هى مودة بينكم ، و (بينكم) : مضاف إليه ما قبله.

يقول الحق جل جلاله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) ؛ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، قاله بعضهم لبعض ، أو : قاله واحد منهم ، وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعا فى حكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه ، (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) حين قذفوه فيها ؛ بأن جعلها بردا وسلاما. وتقدم فى الأنبياء تمام القصة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ فيما فعلوه به وفعلناه (لَآياتٍ) دالة على عظم قدرته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ؛ لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها. روى أنه لم ينتفع بها فى تلك الأيام أحد لذهاب حرها ؛ لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.

(وَقالَ) إبراهيم لقومه : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) ؛ أصناما آلهة (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : لتوادوا بينكم فى الحياة الدنيا ، وتواصلوا ؛ لاجتماعكم على عبادتها ، واتفاقكم عليها ، كما تنفق الناس على مذهب أو طريق ، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو : إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة ، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم ، أو : إن التي اتخذتموها أوثانا تعبدونها هى مودة بينكم فى الدنيا ، (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي : تتبرأ الأصنام من عابديها ؛ كقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١) ، أو : ينكر بعضكم بعضا ، ويقع بينكم التباغض ؛ كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٢). (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، فتلعن الأتباع الرؤساء ؛ (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي : مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يحصنونكم منها.

الإشارة : الإنكار على أهل الخصوصية سنّة الله فى خلقه ، فلا يأنف منها إلا جاهل ، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه ، كله يؤدى إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة ؛ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ، وهم المتحابون فى الله ، المجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

__________________

(١) من الآية ٨٢ من سورة مريم.

(٢) الآية ٦٧ من سورة الزخرف.

٢٩٦

يقول الحق جل جلاله : (فَآمَنَ) لإبراهيم ، أي : انقاد (لَهُ لُوطٌ) ، وكان ابن أخيه ، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. (وَقالَ) إبراهيم : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) ؛ إلى حيث أمرنى ربى بالهجرة ، وهو الشام ، فخرج من «كوثى» ، وهى من سواد الكوفة ، إلى حرّان ، ثم منها إلى فلسطين (١) ، وهى من برية الشام ، ونزل لوط بسدوم ، ومن ثمّ قالوا : لكل نبى هجرة ، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه ، فى هجرته ، لوط وسارة زوجته.

وقيل : القائل : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) هو لوط ، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي : أن أول من هاجر منا فى الإسلام بأهله : عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه قال : إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. ه. يعنى : الهجرة إلى الحبشة. وكانت ـ فيما ذكر الواقدي ـ سنة خمس من البعثة ، وأما الهجرة إلى المدينة ؛ ففى البخاري عن البراء : أول من قدم المدينة من الصحابة ؛ مهاجرا ، مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، ثم جاء عمّار ، وبلال ، وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب فى عشرين ، ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ،.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذي يمنعنى من أعدائى ، (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرنى إلا بما هو خير لى.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولدا ، (وَيَعْقُوبَ) ولد ولد ، ولم يذكر إسماعيل ؛ لشهرته ، أو : لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر ، فعظمت المنة به. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) أي : فى ذرية إبراهيم ، فإنه شجرة الأنبياء ، (وَالْكِتابَ) يريد به الجنس ؛ ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) أي : الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر ، ومحبة أهل الملل له ، أو : هو بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لغيره ، أو : المال الحلال ، واللفظ عام. وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر فى الدنيا ، ولا يخل بعلو منصبهم. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لحضرتنا ، والسكنى فى جوارنا. أسكننا الله معهم فى فسيح الجنان. آمين.

الإشارة : الهجرة سنّة الخواص ، وهى على قسمين : هجرة حسية ، وهجرة معنوية ، فالحسية هى هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله ، أو الإذاية والإنكار ، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية : هى هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة ، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة ، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة ، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية ، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني ، وهذه نهاية الهجرة.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ٢٣٨).

(٢) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة ، ح ٣٩٢٥) من حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنه.

٢٩٧

قال القشيري : لا تصحّ الهجرة إلى الله إلا بالتبرّى بالقلب عن غير الله ، والهجرة بالنفس يسيرة بالنسبة إلى الهجرة بالقلب ، وهى هجرة الخواص ، وهى الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمع ، والجمع بين التعريج فى أوطان التفرقة والكون فى مشاهدة الجمع متناف. ه. وقال فى قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي : للدنوّ والقربة والتخصيص بالزلفة. ه.

ثم ذكر قصة لوط ، فقال :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي : الفعلة البالغة فى القبح ، وهى اللواطة ، (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) : جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة ، كأن قائلا قال : لم كانت فاحشة؟ فقال : لأن أحدا ممن قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي : تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال ، كما هو شأن قطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة ، (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) ؛ فى مجالسكم الغاصة بأهلها ، ولا يقال

٢٩٨

للمجلس : ناد ، إلا مادام فيه أهله ، (الْمُنْكَرَ) ؛ فعلهم الفاحشة بالرجال ، أو : المضارطة ، أو : السباب والفحش فى المزاح ، أو : الحذف بالحصى ، أو : مضغ العلك ، أو الفرقعة.

وعن أم هانئ ـ رضى الله عنها ـ أنها سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)؟ فقال : «كانوا يحذفون من يمّر بهم الطريق ، ويسخرون منهم» (١). وقال معاوية : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن قوم لوط كانوا يجلسون فى مجالسهم ، وعند كل رجل قصعة من الحصى ، فإذا مر بهم عابر قذفوه ، فأيهم أصابه ؛ كان أولى به» (٢).

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تعدنا من نزول العذاب ، أو فى دعوى النبوة ، المفهومة من التوبيخ ، (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بإنزال العذاب (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها ، وسنّها لمن بعدهم. وصفهم بذلك ؛ مبالغة فى استنزال العذاب ، وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم ؛ بالولد ، والنافلة إسحاق ، ويعقوب ، أي : مروا عليه ، حين كانوا قاصدين قوم لوط ، (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ؛ سدوم ، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه‌السلام ، قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم ، قاله النسفي. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) ، تعليل للإهلاك ، أي : إن الظلم قد استمر منهم فى الأيام السالفة ، وهم عليه مصرّون ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. (قالَ) إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً) أي : أتهلكونهم وفيهم من هو برىء من الظلم ، أو : وفيهم نبى بين أظهرهم؟ (قالُوا) أي : الملائكة : (نَحْنُ أَعْلَمُ) منك (بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) ؛ الباقين فى العذاب.

ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم ، فقال : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي : ساءه مجيئهم وغمه ، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و «أن» : صلة ؛ لتأكيد الفعلين ، وترتيب أحدهما على الآخر ، كأنهما وجدا فى جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لمّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي : ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه وطاقته ، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند (٦ / ٣٤١) ، والترمذي وحسّنه فى (التفسير ، سورة العنكبوت ، ٥ / ٣١٩ ، ح ٣١٩٠) ، وصححه الحاكم (٢ / ٤٠٩) ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري (٢٠ / ١٤٥) ، والبغوي فى التفسير (٦ / ٢٣٩).

(٢) انظر تفسير البغوي (٦ / ٢٤٠).

٢٩٩

فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع ، إذا كان مطيقا للأمور ، والأصل فيه : أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير ، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.

(وَقالُوا) ، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف : (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) على تمكنهم منا ، (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) أي : وننجى أهلك ، فالكاف فى محل الجر ، و «أهلك» : نصب بفعل محذوف ، (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). فى الكلام حذف يدل عليه ما فى هود (١) ، أي : لا تخف ولا تحزن من أجلنا ، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك ، بل يهلكون جميعا ، وأما أنت ؛ فإنا منجوك .. إلخ ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر : إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) ؛ عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ؛ بسبب فسقهم.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) ؛ من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) ، هى حكايتها الشائعة ، أو آثار منازلهم الخربة ، وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض ، حيث بقيت أنهارهم مسودة ، وقيل : الحجارة المسطورة ، فإنها بقيت بعدهم آية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ يستعملون عقولهم فى الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قوله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال القشيري : من جملة المنكر : تخلية الفسّاق مع فسقهم ، وترك القبض على أيديهم ، ومن ذلك : ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. ه. وقال فى قوله تعالى : (إِنَّ فِيها لُوطاً) ، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط ، تكلم فى شأن لوط ، إلى أن قالوا : (لَنُنَجِّيَنَّهُ ..) إلخ ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط ، ولو كان بريئا ، لم يكن ظلما ، لو كان ذلك قبيحا لما كان إبراهيم ـ مع وفر علمه ـ يشكل عليه ، حتى كان يجادل عنه ، بل لله أن يعذّب من يعذّب ويعافى ، من يعافى بلا حجر ه.

قال شيخ شيوخنا الفاسى فى حاشيته : وما ذكره واضح من حيث العقيدة ، وإن كانت الآية ، وقول إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٢). والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) (٣) الآية. ه. قلت : ظاهر قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (٤) ؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط ؛ لغلبة الشفقة عليه ، كما هو شأنه ، ولذلك

__________________

(١) فى قوله تعالى : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ..) الآية ٨١.

(٢) من الآية ٣٣ من سورة الأنفال.

(٣) الآية ١٧ من سورة المائدة.

(٤) من الآية ٧٤ من سورة هود.

٣٠٠