البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ؛ كبنى إسرائيل ، استخلفهم الله فى مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومن قبلهم من الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله فى أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (١).

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) : عطف على (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) ، داخل معه فى سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها ؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فتصدير المواعد بها فى الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتا متمكنا مقررا لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصفه بقوله : (الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء ؛ تأليفا ومزيد ترغيب فيه وفضل تثبيت عليه. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء (أَمْناً).

نزلت حيث كان أصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون فى السلاح ويمسون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : «لا تصبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم ، محتبيا ، ليس معه حديدة» (٢) ، فأنجز الله وعده ، فأمنوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل : الخوف والأمن فى الآخرة.

ثم مدحهم بالإخلاص فقال : (يَعْبُدُونَنِي) وحدي ، (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئا من الأشياء ، شركا جليا ولا خفيا ؛ لرسوخ محبتهم ، فلا يحبون معه غيره ، (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد الوعد الكريم ، كفران النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهل الردة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ؛ الكاملون فى الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه ؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخوانا.

والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ؛ لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغى هم الخلفاء ـ رضي الله عنهم ـ.

__________________

(١) من الآية ١٣ من سورة إبراهيم.

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٥٩ ـ ١٦٠). وعزاه فى الدر المنثور (٥ / ١٠٠) لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، عن أبى العالية. وانظر أسباب النزول للواحدى (٣٣٨).

٦١

ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمنع الزكاة ، قرنه مع الصلاة فى الأمر به فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه ؛ لقوله : «عليكم بسنتى ، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ» (١) ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته ـ كما فعل أهل الردة ـ فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة ، لقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكى ترحموا ، فإنها من مستجلبات الرحمة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : سنة الله تعالى فى خواصه : أن يسلط عليهم فى بدايتهم الخلق ، فينزل بهم الذل والفقر والخوف من الرجوع عن الطريق ، ثم يعزهم ، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، كما قال الشاذلى رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ... إلخ كلامه.

قال القشيري : وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السنّة (٢) ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من يسترشد فى الله. ثم قال : فأما حفاظ الدين ؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله ، وهم أصناف : قوم هم حفّاظ أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحفّاظ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادّون على أهل العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه ، وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة وفى العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم فى الدّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون فى عالى مجلس السلطان ، فالدين معمور بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. ه (٣). وتقدم مثله فى قوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) إلخ (٤). والله تعالى أعلم.

ثم ذكر الفريق الثالث ، وهم الكفرة ظاهرا وباطنا ، فقال :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

__________________

(١) أخرجه ـ بطوله ـ أحمد فى المسند (٤ / ١٢٧) وأبو داود فى (السنة ، باب فى لزوم السنة ٥ / ١٣ ـ ١٤ ح ٤٦٠٧) والترمذي فى (العلم ، باب فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع ٥ / ٤٣ ، ح ٢٦٧٦) وابن ماجه فى (المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، ١ / ١٦ ح ٤٢) من حديث العرباض بن سارية.

قلت : والنواجذ آخر الأضراس ، واحدها : ناجذ. وأراد بذلك الجد فى لزوم السنة ، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه ، وعضّ عليها ، منعا له أن ينتزع.

(٢) فى القشيري : «الملّة».

(٣) بتصرف.

(٤) الآية ١٢٢ من سورة التوبة.

٦٢

يقول الحق جل جلاله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) أي : فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم ، فى قطر من أقطار الأرض ، بل لا بد من أخذهم ، عاجلا أو آجلا ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل سامع. و (الَّذِينَ) : مفعول أول ، و (معجزين) : مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب ، و (الذين) : فاعل ، والأول : محذوف ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين (فِي الْأَرْضِ). و (مَأْواهُمُ النَّارُ) : معطوف على محذوف ، أي : بل هم مدركون ، (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : مسكنهم ومرجعهم ، (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : والله لبئس المرجع هى. وفى إيراد النار ، بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم ، إثر نفى قوتهم بالهرب فى الأرض كل مهرب ، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون ، بل لا بد من غيرة الله عليهم ، عاجلا أو آجلا ، فى الظاهر أو الباطن ، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية : الباطل قد تكون له صولة لكنه يختل ، وما لذلك بقاء ، ولعل لبثه من عارض الشتاء فى القيظ ، أي : الحر. ه (١). والله تعالى أعلم.

ثم تمم الكلام على الاستئذان المتقدم ، ووسط بينهما مواعظ تحث على الامتثال ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ويدخل فيه النساء ، (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء ، (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي : والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ،

__________________

(١) العبارة فى لطائف الإشارات المطبوع : [إن الباطل قد تكون له دولة ، ولكنها تخييل ، ولذلك بقاء ، وأقل لبثا ، من عارض ينشأ عن القيظ].

٦٣

(ثَلاثَ مَرَّاتٍ) فى اليوم والليلة ، وهى (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ما ينام فيه من الثياب ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يجدهم فى هذا الوقت نائمين متجردين ، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) ؛ وهى نصف النهار فى القيظ ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة ، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) ؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ، والالتحاف بثياب النوم. هى (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ، ومن نصبه ؛ فبدل من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي : أوقات ثلاث عورات ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة ؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها (١) ، والعورة : الخلل ، ومنه سمى الأعور ؛ لاختلال عينه.

روى أن غلاما لأسماء بنت أبى مرثد دخل عليها فى وقت كرهته ، فنزلت (٢). وقيل : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري ، وكان غلاما ، وقت الظهيرة ، ليدعو عمر رضي الله عنه ، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي الله عنه : لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول فى هذه الساعات إلا بإذن ، فانطلق إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية (٣). والأمر ، قيل : للوجوب ، وقيل : للندب.

ثم عذرهم فى ترك الاستئذان فى غير هذه الأوقات ، فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي : لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان فى الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث ، أي : فى الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.

ثم بيّن العلة فى ترك الاستئذان فى هذه الأوقات بقوله : (طَوَّافُونَ) أي : هم (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) لحاجة البيت والخدمة ، (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : بعضكم طائف على بعض ، أو يطوف على بعض ، والجملة : إما بدل مما قبلها ، أو بيان ، يعنى : أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان فى كل وقت لأفضى إلى الحرج ، وهو مدفوع بالنص ، (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : كما بيّن الاستئذان ، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده ، (حَكِيمٌ) فيما دبّر وحكم به.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أي : الأحرار دون المماليك (الْحُلُمَ) أي : الاحتلام ، وهو البلوغ ، وأرادوا الدخول عليكم (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فى جميع الأوقات. قال القرطبي : لم يقل : فليستأذنوكم ، وقال فى الأولى :

__________________

(١) فى الأصول : «ستره» ، والمثبت من تفسير النسفي.

(٢ ـ ٣) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٣٠٣) والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٣٩) والبغوي فى التفسير (٦ / ٦٠) عن مقاتل ، بدون إسناد.

٦٤

(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) ؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. ه. قلت : فالمخاطبون فى الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به ، وهنا صاروا بالغين ، فأمرهم بالاستئذان (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال المذكورون فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ...) (١) الآية. والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم فى الدخول بغير إذن ، إلا فى العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحلم وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا فى جميع الأوقات ، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.

والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) ، وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ..) (٣). وعن سعيد بن جبير : (يقولون : إنها منسوخة ، والله ما هى بمنسوخة) (٤). وعن ابن عباس أيضا قال : إنما أمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر ، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبى محمد مكى : هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين ؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفى ، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حجر ؛ فلا تكفى الأبواب فى حقهم ، فلا بد من الاستئذان كما فى الآية.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك البيان العجيب (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ). قال ابن عرفة : قال قبل هذه وبعدها : الآيات ، وفى هذه : آياته ؛ لوجهين ، الأول : هذه خاصة بالأطفال ، وما قبلها عامة فى العبيد والأطفال ، فأطلقت الآية ، ولم تقيد بالإضافة ، وهذه خاصة ، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين ، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى ، تخويفا لهم وتشديدا عليهم. ه. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشى الفاسى. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيما أمر ودبر.

الإشارة : إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يكشف السر إلى غير أهله ؛ غيرة منه تعالى على كشف أسرار عباده ، وإذا كان غار على كشف سر عبده ، فغيرته على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى ، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله ، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له ، وهو من أعطى نفسه وماله ، وباعهما لله تعالى. وكل من أطلع على سر من سرار الله أو قضاء من قضائه ، ثم استشرف أن يعلم الناس بذلك فهو كذاب. وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيّتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك». وبالله التوفيق.

__________________

(١) الآية ٢٧ من سورة النور.

(٢) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

(٣) الآية ٨ من سورة النساء. والخبر عزاه ابن كثير فى التفسير (٣ / ٣٠٣) لابن أبى حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (١٨ / ١٦٣).

٦٥

ثم رخّص للعجائز فى عدم التستر من الرجال ، فقال :

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

قلت : «القواعد» جمع قاعد ، بغير تاء ؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء ، كالطالق والحائض ، فلا تحتاج إلى تمييز ، وهو مبتدأ ، و (اللاتي ..) إلخ : صفة له ، (فليس) : خبر ، وأدخلت الفاء لما فى المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي فى الألف واللام. و (يرجون) : مبنى لاتصاله بنون النسوة.

يقول الحق جل جلاله : (وَالْقَواعِدُ) أي : العجائز (مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي) قعدن عن الحيض والولادة ؛ لكبرهنّ. قال ابن قتيبة : سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر ، والظاهر أن قوله : (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) : نعت مخصّص ، إن فسّر القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد ؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رغبة للرجال. وقد يجعل كاشفا ؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن ، فقوله : (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي : لا يطمعن فى رغبة الرجال فيهن ، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) فى (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي : الثياب الظاهرة ، كالجلباب الذي فوق الخمار ونحوه.

قال ابن عطية : قرأ ابن مسعود وأبىّ : «أن يضعن من ثيابهن». والعرب تقول : امرأة واضع ، للتى كبرت فوضعت خمارها ، قال فى الحاشية : والآية صادقة بما إذا دخل أجنبى بعد الاستئذان ، وبخروجهن أيضا ، ومن التبرج : لبس ما يصف ؛ لكونه رقيقا ، أو : شفافا. ه.

ثم قيّد الرخصة بقوله : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي : مظهرات زينة ، يريد الزينة الخفية ، كالشعر والنحر والساق ونحوه ، أي : لا يقصدن بوضعهن التبرج وإظهار محاسنها ، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج : تكلّف إظهار ما يجب إخفاؤه ، من قولهم : سفينة بارجة : لا غطاء عليها ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) أي : يطلبن العفة عن وضع الثياب ، فيتسترن (خَيْرٌ لَهُنَ) من الانكشاف ، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع ما يجرى بينهن وبين الرجال من المقاولة ، عليم ، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن فى قصد التخفيف أو التبرج ، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.

الإشارة : إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه ، وكمل استغناؤه بربه ، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويهتدى ، ليعم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.

٦٦

ثم أسقط الحرج عن الأعمى فى الاستئذان ، واستطرد معه غيره ، ممن اشترك معه فى مطلق العذر ، وإن اختلف المرخّص فيه ، فقال :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ...)

يقول الحق جل جلاله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) فى الدخول من غير استئذان ؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره ، ثم استطرد من شاركه فى مطلق العذر فقال : (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره ، (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) فى ذلك. وقال سعيد بن المسيّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رخصة لهم (١). وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم ؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه ، والمريض لا يستطيع استيفاءه (٢). ه.

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : لا حرج عليكم (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي : البيت الذي فيه أهل بيتكم ؛ أزواجكم وعيالكم ، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شىء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله ؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة ، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل : المراد ببيوتكم : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم ؛ لأن ولد الرجل من كسبه ، وماله كماله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «أنت ومالك لأبيك» (٣) ، ولذلك لم يذكر الأولاد فى الآية ؛ لاندراجهم فى بيوتكم.

__________________

(١) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٤٠) عن سعيد بن المسيب ، وعزاه فى مجمع الزوائد (٧ / ٨٣) للبزار ، وابن أبى حاتم وابن مردويه ، وابن النجار ، عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها. وقال الهيثمي : رجال البزار رجال الصحيح.

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٦٨) وذكره الواحدي فى أسباب النزول (٣٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٣) أخرجه ، من حديث جابر ، ابن ماجة فى (التجارات ، باب ما للرجل من مال ولده ، ح ٢٢٩١) ، وأخرجه من حديث ابن مسعود ، الطبراني فى الأوسط (١ / ٢٢ ح ٥٧) ، وأخرجه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٢٠٤) ، وأبو داود فى (البيوع / ح ٣٥٢٨ ـ ٣٥٢٩) ، وابن ماجه فى الموضع السابق ذكره (ح / ٢٢٩٢).

٦٧

ولا حرج عليكم أيضا أن تأكلوا من (بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) الذكور (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) النساء ، (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) ؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت ؛ دلالة. واختلف العلماء فى إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة ، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه ، والناسخ : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» (٢). وقيل : محكمة ، ومعناها : إذا أذنوا فى ذلك ، وقيل : ولو بغير إذن ، والتحقيق : هو التفصيل : فمن علم منه طيب نفسه وفرحه بذلك ؛ بقرينة : حلّ أكل ماله ، ومن لا ؛ فلا.

(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) قال ابن عباس : هو وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمرة ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتح : كونها فى يده وتحت حوزه. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة ، وإن كانت له أجرة على فعله حرم ، يعنى : إلا إذا علم طيب نفس صاحبه ؛ فيدخل فى الصديق. وقيل : أريد به بيت عبده ؛ لأن العبد وما فى يده لمولاه.

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وهو من يصدقك فى مودته وتصدقه فى مودتك ، يؤلمه ما يؤلمك ويؤلمك ما يؤلمه ، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها أعتقها سرورا بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي (٣).

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) : مجتمعين (أَوْ أَشْتاتاً) : متفرقين ، جمع شتّ ، نزلت فى بنى ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكل أكل ضرورة. وقيل : فى قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. وقيل : فى قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس فى الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم. وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوى قرابته وصداقته ، ودعاه إلى طعام ، فيقول : إنى أتحرج أن آكل معك ، وأنا غنى وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآية ١٨٨ من سورة البقرة.

(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٧٢) فى حديث خطبة الوداع الطويل ، والبيهقي فى الكبرى (٦ / ١٠٠) عن أبى حرة الرشاقى ، عن عمه. وأخرجه الديلمي (الفردوس ح ٧٦٣٥) والدار قطنى (٣ / ٢٦) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(٣) انظر تفسير النسفي (٢ / ٥٢٠).

٦٨

الإشارة : ليس على من عميت بصيرته ، فلم ير إلا الكون حرج فى أن يقف مع رخص الشريعة ، ويتناول كل ما تشتهيه نفسه ، مما أباحته الشريعة ، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريض القلب بالخواطر والأوهام ، ومن عرجت فكرته عن شهود الملكوت ، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب ، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة ، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حلّيّته ، وفهموا عن الله فى أخذه وتركه ، لفتح بصيرتهم وشدة تبصّرهم.

وقال الورتجبي فى قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) : عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطون الأزل والغيب وغيب الغيب. وهذا من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى وصف جمال الحق سبحانه : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». فجعله معذورا ألا يدرك فى الحقيقة وحقيقة الحق ؛ إذ يستحيل الحدث أن يحيط بالقدم أن كان واجبا معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. ه. ومراده ببطون الأزل : تجلياته تعالى ، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبى ، وهى المراد بالغيب وغيب الغيب ، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبى ، لكنها ، لما تجلت ، كستها رداء الكبرياء ، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها ، أو قبلها ، أو معها ، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظّلمانيّة. والله تعالى أعلم.

ومذهب الصوفية فى تناول متاع بعضهم بعضا هو ما قال القائل : «نحن : لا مال مقسوم ، ولا سرّ مكتوم ، فتركتهم لا تقسم أبدا». دخل الجنيد بيت بعض إخوانه ، فوجد زوجته ، فقال : هل عندك شىء نطعم به الفقراء؟ فأشارت إلى وعاء فيه تمر ، لا يملك غيره ، فأفرغه على رأسه ، فأكلوا ، وأخذوا ما بقي ، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك ، فقال : الآن علمت أنه يحبنى.

ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان ، فقال :

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

يقول الحق جل جلاله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن ، (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم منكم ، الذين هم بمنزلة أنفسكم ؛ لما بينكم وبينهم من القرابة

٦٩

الدينية أو النّسبيّة. أو بيوتا فارغة ، أو مسجدا ، بأن تقولوا : السلام عليكم ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، إن كانت خاوية. (تَحِيَّةً) ، من نصب فعلى المصدر لسلّموا ؛ لأنها فى معنى تسليما ، (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأنها طلب للسلامة ، وهى بيد الله ، (مُبارَكَةً) : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما ، (طَيِّبَةً) : تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي الله عنه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «من لقيت أحدا من أمتى فسلم عليه ، يطل عمرك. وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» (١).

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) ، تكرير ؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : لكى تعقلوا ما فى تضاعيفها من الشرائع والأحكام ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.

الإشارة : السلام على النفس : هو طلب الأمان لها ومنها ، فإذا سلمت النفس من موجبات الغضب من الله ، سلم صاحبها منها ، قال القشيري : السلام : الأمان ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من الله على نفسه ، يعنى : بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى ، لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضى الله ، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة بالله ، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حفظه من الاتصاف بمكروه الشرع. ه.

ولمّا تكلم على الاستئذان فى الدخول ، تكلم على الاستئذان فى الخروج ، إذا كان مع كبير القوم ، فقال :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله فى حيز الصلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ ، مع تضمنه له ؛ تقريرا لما قبله ، وتمهيدا لما بعده ، وإيذانا بأن ما بعده حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان بهما ومنتظما فى سلكه.

__________________

(١) أخرجه مطولا ، البيهقي فى شعب الإيمان (ح ٨٧٥٨) ، وزاد المناوى عزوه فى الفتح السماوي (٢ / ٨٧٩) للثعلبى والجرجاني فى تاريخ جرجان ، وسنده ضعيف.

٧٠

(وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) : عطف على (آمنوا) ، داخل فى حيز الصلة ، أي : إنما الكاملون فى الإيمان : الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوه فى جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع ، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق ، كما إذا كانوا معه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أمر مهم يجب الاجتماع فى شأنه ؛ كالجمعة ، والأعياد ، والجهاد ، وتدريب الحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ، (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، ويأذن لهم ، ولو كان الأمر يقوم بدونهم ، ليتميز المخلص من المنافق ، فإن ديدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم الجرم ؛ لما فى الذهاب بغير إذنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخيانة.

ولمّا أراد الحقّ تعالى أن يريهم عظم الجناية فى ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم والصبر معه ، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان ، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له ، والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة ب «إنما ، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ؛ حيث أعاده على أسلوب آخر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، فقضى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفى «أولئك» : من تفخيم المستأذنين ، ما لا يخفى ، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) فى الانصراف (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي : أمرهم المهم وخطبهم الملم. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) لما علمت فى ذلك من مصلحة وحكمة.

وهذا بيان لما هو وظيفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذا الباب ، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، وأن الإذن منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس بأمر محتوم ، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام ، وفيه من رفع شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى. والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : بعد ما تحقق أن الكاملين فى الإيمان هم المستأذنون.

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) ، فإن الاستئذان ، وإن كان لعذر ، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة ، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ مبالغ فى غفران فرطات العباد ، وفى إفاضة آثار الرحمة عليهم.

وما ذكره الحق تعالى فى شأن الصحابة مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى شأن الاستئذان ينبغى أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم فى العلم والدين ، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت فى الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ، فنزلت (١). وبقي حكمها عاما إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ١١٠) لابن إسحاق وابن المنذر ، والبيهقي فى الدلائل ، عن عروة ومحمد بن كعب القرظي.

٧١

الإشارة : من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه ، أما أهل البدايات فيستأذنون فى الجليل والحقير ، كقضية الفقير الذي وجد بعض الباقلاء ـ أي : الفول ـ فى الطريق ، فأتى بها إلى الشيخ ، فقال : يا سيدى ما نفعل به؟ فقال : اتركه ، حتى تفطر عليه ، فقال بعض الحاضرين : يستأذنك فى الباقلاء؟ فقال : لو خالفنى فى أمر ؛ لم يفلح أبدا. وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق ، واستشرفوا على عين التحقيق ، وحصلوا على مقام الفهم عن الله ، فلا يستأذنون إلا فى الأمر المهم ؛ كالتزوج ، والحج ، ونحوهما. وصبره حتى يأمره الشيخ بذلك أولى ، فالمريد ، بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول ، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع الله بعد الوصول.

فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله ، لكن لما كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه ، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم فى غاية الصعوبة على النفس ، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية ، وجذبته جواذب العناية ، أعنى الدخول تحت الشيخ وتحكيمه على نفسه ، حتى لا يتحرك إلا بإذنه ، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان ، فإذا فعل المريد شيئا من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغى للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له ، لقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه ، ونائب عنه فى رتبة التربية. والله تعالى أعلم.

ثم نهاهم عن التساهل فى ترك الاستئذان ، فقال :

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

يقول الحق جل جلاله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي : إذا احتاج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اجتماعكم لأمر جامع ، فدعاكم ، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم

٧٢

بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الراعي ؛ لأن أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ وشأنه ليس كشأنكم. أو : لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد ، كدعاء بعضكم بعضا ، فإنّ غضبه عليه ليس كغضبكم ؛ لأن غضبه غضب الله ، ودعاؤه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهه التحذير عن ترك الاستئذان ، فإنّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودعائه عليه. أو : لا تجعلوا نداءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنداء بعضكم بعضا ؛ كندائه باسمه ، ورفع الصوت عليه ، وندائه من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم ؛ يا رسول الله ، يا نبى الله ، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت.

قال القشيري : أي : عظّموه فى الخطاب ، واحفظوا حرمته وخدمته بالأدب ، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. ه. فالإضافة ، على الأولين : للفاعل ، وعلى الثالث ؛ للمفعول ، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده فى قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) أي : يخرجون قليلا على خفية منكم ، (لِواذاً) أي : ملاوذين ، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن ؛ إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر ، أي : يلوذون لواذا. واللواذ : الملاوذة ، وهى التعلق بالغير ، وهو أن يلوذ هذا بهذا فى أمر ، أي : يتسللون عن الجماعة ؛ خفية ، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض.

ثم هددهم على المخالفة بقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي : الذين يصدون عن أمره ، يقال : خالفه إلى الأمر : إذا ذهب إليه دونه ، ومنه : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) (١) ، وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه. والضمير : إما لله سبحانه ، أو للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وهو أنسب ؛ لأنه المقصود بالذكر. والمعنى : فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنّته ، (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) ؛ محنة فى الدنيا ؛ كقتل أو زلازل وأهوال ، أو تسليط سلطان جائر ، أو عدو ، أو قسوة قلب ، أو كثرة دنيا ؛ استدراجا وفتنة.

قال القشيري : سعادة الدارين فى متابعة السّنّة ، وشقاوتهما فى مخالفتها ، ومما يصيب من خالفها : سقوط حشمة الدين عن القلب. ه.

(أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فى الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب ، وكلمة «أو» : لمنع الخلو ، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحا ؛ للاعتناء بالتهديد والتحذير.

__________________

(١) من الآية ٨٨ من سورة هود.

٧٣

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات ، خلقا وملكا وتصرفا ، وإيجادا وإعداما ، بدءا وإعادة ، و «ألا» : تنبيه على أن لا يخالفوا من له ما فى السموات والأرض. (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها المكلّفون ، من الأحوال والأوضاع ، التي من جملتها الموافقة والمخالفة ، والإخلاص والنفاق. وأدخل «قد» ؛ ليؤكد علمه بما هم عليه ، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. والمعنى : أن جميع ما استقر فى السموات تحت ملكه وسلطانه وإحاطة علمه ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين ، وإن اجتهدوا فى سترها؟! (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) أي : ويعلم يوم يردون إلى جزائه ، وهو يوم القيامة. والخطاب والغيبة فى قوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يجوز أن يكون للمنافقين ، على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) عاما ، و (يُرْجَعُونَ) للمنافقين. (فَيُنَبِّئُهُمْ) حينئذ (بِما عَمِلُوا) من الأعمال السيئة ، التي من جملتها : مخالفة الأمر ، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. روى عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم ، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. ه. وأما ما ورد فى فضل السور فموضوع ، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وبالله التوفيق.

الإشارة : شيوخ التربية خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القيام بالتربية النبوية ، فيجب امتثال كل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، فهم معناه أو لم يفهم. فإذا كانوا مجموعين على أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه ، ولا يكفى إذن بعض الفقراء ، إلا إن وجّهه الشيخ لذلك ، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضا فى التساهل فى مخالفة أمره ، أو امتثال أمره. قد يعلم الله الذين يتسللون ، فيفرون عنه ؛ لواذا ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ؛ كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه ، أو يصيبهم عذاب أليم ، وهو السلب بعد العطاء ، والعياذ بالله من الزلل ومواقع الضلال. نسأل الله تعالى أن يثبت قدمنا على المنهاج الحق ، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم ، ورسوخ القدم فى معرفة الرحمن الرحيم. آمين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه ، وسلم.

٧٤

سورة الفرقان

مكية. وهى سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما فى خاتمتها من تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله فى هذه : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قوله فيما قبلها : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

يقول الحق جل جلاله : (تَبارَكَ) أي : تكاثر خيره وتزايد ، أو : دام واتصل. وهى كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله ، والمستعمل منها الماضي فقط ، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات ، التي من جملتها : تنزيل القرآن ، المنطوى على جميع الخيرات الدينية والدنيوية ، أي : تعاظم (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أي : القرآن ، مصدر فرق بين اثنين ، إذا فصل بينهما. سمى به القرآن ؛ لفصله بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أو : لأنه لم ينزل جملة ، ولكن مفروقا مفصولا بين أجزائه شيئا فشيئا ، ألا ترى إلى قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) (٢)؟

أنزله (عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيراده ـ عليه الصلاة والسلام ـ بذلك العنوان ؛ لتشريفه ، والإيذان بكونه فى أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ؛ ردا على النصارى. أنزله (لِيَكُونَ) العبد المنزل عليه ، أو الفرقان (لِلْعالَمِينَ) من الثقلين ، زاد بعضهم : والملائكة ، أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه ، حيث لم يقف مع مقام ولا حال ، ويقتبسوا من أنواره ، وهو حكمة الإسراء ، وقيل : حتى إلى الحيوانات والجمادات ، أمرت بطاعته فيما يأمرها به ، وبتعظيمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وهذا كله داخل فى العالمين ؛ لأن ما سوى الله كله عالم ؛ كما تقدم فى الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه ـ عليه الصلاة والسلام ـ. (نَذِيراً) أي : مخوّفا ، وعدم التعرض للتبشير ؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة ، ولا بشارة لهم.

__________________

(١) الآية الأخيرة من سورة النور.

(٢) من الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.

٧٥

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له ، خاصة ، دون غيره ، لا استقلالا ولا اشتراكا. فالقهرية لازمة لهما ، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلى ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وأمرا ونهيا ، (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعم اليهود والنصارى فى عزير والمسيح ـ عليهما‌السلام ـ ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة ، والرد فى نحورهم.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : أحدث كل شىء وحده ، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي : أظهر كل شىء (فَقَدَّرَهُ) أي : فهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به ، (تَقْدِيراً) بديعا ، لا يقادر قدره ، ولا يبلغ كنهه ؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك ، والنظر والتدبير فى أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصنائع المتنوعة ، والدلائل المختلفة ، على وجود الصانع. أو : فقدّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّا ما كان ، فالجملة تعليل لما قبلها ، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق ، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه ، كيف يتوهم أنه ولد لله سبحانه ، أو شريك له فى ملكه. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الإشارة : عبّر بالعبودية فى التنزيل والإسراء ؛ إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حظ من تنزيل الفرقان على قلبه ، حتى يفرق بين الحق والباطل ، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت ، حتى يعاين عجائب أسرار ربه. وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم ، ومن العروج بروحهم ، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم ، حتى يكونوا مع مراده ، لا مع مرادهم ، لا يريدون إلا ما أراد ، ولا يشتهون إلا ما يقضى ، قد تحرروا من رقّ الأشياء ، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء ، يعرج بأرواحهم ، ويوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به بين الحق والباطل ، ليكونوا نذرا لعالمى زمانه ؛ قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١). وبالله التوفيق.

ثم ردّ على أهل الشرك ، فقال :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

__________________

(١) الآية ٢٤ من سورة فاطر.

٧٦

يقول الحق جل جلاله : (وَاتَّخَذُوا) أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذرين ، اتخذوا لأنفسهم (مِنْ دُونِهِ) تعالى (آلِهَةً) ؛ أصناما ، يعبدونها ويستعينون بها ، وهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) أي : لا يقدرون على خلق شىء من الأشياء ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) كسائر المخلوقات. والمعنى : أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق ، والملك والتقدير ، عبادا عجزة ، لا يقدرون على خلق شىء ، وهم مخلوقون ومصورون. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها ، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم ؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع فى الجملة ، وهؤلاء لا يقدرون على شىء البتة ، فكيف يملكون نفع من عبدهم ، أو ضرر من لم يعبدهم؟!

(وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً) أي : إماتة (وَلا حَياةً) أي : إحياء (وَلا نُشُوراً) ؛ بعثا بعد الموت ، أي : لا يقدرون على إماتة حى ، ولا نفخ الروح فى ميت ، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك. وفيه إيذان بغاية جهلهم ، وسخافة عقولهم ، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نفى عن آلهتهم مما ذكر ، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من ركن إلى غير الله ، أو مال بمحبته إلى شىء سواه ، فقد اتخذ من دونه إلها يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه ، فقد خاب مطلبه ومسعاه ؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ وفى الحكم : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ، فكيف يكون لها عن غيره رافعا؟».

قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير الله فهو فى غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شىء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، فى كل نفس وحين وأوان وزمان. ه. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود ؛ أما وعزتى وجلالى وعظمتى لا ينتصر بي عبد من عبادى دون خلقى ، أعلم ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا. أما وعزتى وجلالى لا يعتصم عبد من عبادى بمخلوق دونى ، أعلم ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخت الأرض من تحته ، ولا أبالى فى أي واد هلك. ه. وبالله التوفيق.

ولما ذكر شأن الفرقان ، ذكر من طعن فيه وفيمن نزل عليه ، فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى

٧٧

عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : تمردوا فى الكفر والطغيان. قيل : هم النضر ابن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد ، ومن ضاهاهم. وقيل : النضر فقط ، والجمع ؛ لمشايعة الباقين له فى ذلك. قالوا : (إِنْ هَذا) ؛ ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) ؛ كذب مصروف عن وجهه (افْتَراهُ) ؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه ، (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي : على اختلاقه (قَوْمٌ آخَرُونَ) ، يعنون : اليهود ، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة ، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل : هم عدّاس ، ويسار (١) ، وأبو فكيهة الرومي ، كان لهم علم بالتوراة والإنجيل. ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون ، ممن أسلم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال تعالى : (فَقَدْ جاؤُ) ، وأتوا (ظُلْماً) أو : بظلم ، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل ، فتتعدى تعديته ، أو بحرف الجر ، والتنوين للتفخيم ، أي : جاءوا ظلما هائلا عظيما ؛ حيث جعلوا الحق البيّن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إفكا مفترى من قول البشر ، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي ، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق ؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة ، المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية ، والأمور الغيبية ، بحيث لا يناله عقول البشر ، ولا تفى بفهمه الفهوم ، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. (وَ) أتوا أيضا (زُوراً) أي : كذبا كثيرا ، لا يبلغ غايته ؛ حيث نسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو برىء منه.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : هو أحاديث المتقدمين ، وما سطروه من خرافاتهم ؛ كرستم وغيره. جمع أسطار ، أو : أسطورة ، (اكْتَتَبَها) ؛ كتبها لنفسه ، أو : استكتبتها فكتبت له ، (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي : تلقى عليه من كتابه (بُكْرَةً) : أول النهار (وَأَصِيلاً) ؛ آخره ، فيحفظ ما يتلى عليه ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة ، قاتلهم الله ، أنى يؤفكون؟

__________________

(١) فى الأصول : سيار.

٧٨

(قُلْ) يا محمد : (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم كل سر خفى فى السماوات والأرض ، يعنى : أن القرآن : لما اشتمل على علم الغيوب ، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير تعلم إلهى ، دلّ على أنه من عند علام الغيوب ، أي : ليس ذلك مما يفترى ويختلق ، بإعانة قوم ، وكتابة آخرين ؛ من الأحاديث والأساطير المتقدمة ، بل هو أمر سماوى ، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء ، أودع فيه فنون الحكم والأحكام ، على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بأمور مغيبات ، وأسرار مكنونات ، لا يهتدى إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير ، ثم جعلتموه إفكا مفترى ، واستوجبتم بذلك أن يصبّ عليكم العذاب صبا ، لو لا حلمه ورحمته ، (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ؛ فأمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم ، أي : كان أزلا وأبدا مستمرا على المغفرة والرحمة ، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون فى حقه وفى حق رسوله ، مع كمال اقتداره.

ثم ذكر طعنهم فيمن نزل عليه ، فقال : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) وقعت اللام فى المصحف مفصولة عن الهاء ، وخط المصحف سنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا : أي شىء لهذا الزاعم أنه رسول ؛ يأكل الطعام كما تأكلون ، ويمشى فى الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون ، أي : إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) على صورته (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملكا مستغنيا عن المادة الحسية ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ، ويكون ردءا له فى الإنذار ، ويعبر عنه ، ويفسر ما يقوله للعامة.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) من السماء ، يستغنى به عن طلب المعاش معنا ، (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) ؛ بستان (يَأْكُلُ مِنْها) كالأغنياء المياسير. والحاصل : أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة ، مستغنيا عن الطعام والشراب ، وتعجبوا من كون الرسول بشرا ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك يصدقه ويعينه على الإنذار ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز ، يستظهر به على نوائبه ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلا له يستان يأكل منه ، كالمياسير ، أو نأكل نحن منه ، على قراءة حمزة والكسائي.

قال تعالى : (وَقالَ الظَّالِمُونَ) وهم الكفرة القائلون ما تقدم ، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش ، أي : قالوا للمؤمنين : (إِنْ تَتَّبِعُونَ) ؛ ما تتبعون (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ؛ قد سحر فغلب على عقله ، (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي : انظر كيف قالوا فى حقك تلك الأقاويل العجيبة ، الخارجة عن العقول ، الجارية ؛ لغرابتها ، مجرى الأمثال ، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة ، البعيدة عن الوقوع؟! (فَضَلُّوا) عن طريق الجادة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) ؛ فلا يجدون طريقا إليه ، أو : فلا يجدون سبيلا إلى القدح فى نبوتك ، بأن يجدوا قولا يستقرون عليه ، أو : فضلّوا عن الحق ضلالا مبينا ، فلا

٧٩

يجدون طريقا موصلا إليه ، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدى إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق.

الإشارة : تكذيب الصادقين سنّة ماضية ، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوما وأسرارا قالوا : ليست من فيضه ، إنما نقلها عن غيره ، وأعانه على إظهارها قوم آخرون ، قل : أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر فى السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما ، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته ، فوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، كما تقدم مرارا. والله تعالى أعلم.

ثم رد الله تعالى عليهم ، فقال :

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

قلت : (جنات) : بدل من خيرا ، و (يجعل) ، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط ، ومن رفعه فعلى الاستئناف ، أي : وهو يجعل لك قصورا ، ويجوز عطفه على الجواب ؛ لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز فى الجواب الرفع والجزم ، كما هو مقرر فى محله.

يقول الحق جل جلاله : (تَبارَكَ) أي : تكاثر وتزايد خيره (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) فى الدنيا (خَيْراً) لك (مِنْ ذلِكَ) الذي اقترحوه ؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها ؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك فى الجنة ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار ، كما اقترحوا ، (وَيَجْعَلْ لَكَ

٨٠