تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

وفي قرب الإسناد عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ قال : أتى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بمائتي درهم فقال : يا عبّاس! ابسط رداءك وخذ من هذا المال طرفا ، فبسط رداءه فأخذ منه طائفة ، ثمّ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : هذا من الذي قال الله : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ). (١)

أقول : وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ مثله. (٢)

قوله سبحانه : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الاولى دون التقارب ، حتّى نسخ ذلك (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ). (٣)

وفي تفسير القمّي قال ـ عليه‌السلام ـ في أوّل النبوّة : إنّ المواريث كانت على الاخوّة دون الولادة ، فلمّا هاجر رسول الله إلى المدينة آخى [بين المهاجرين والمهاجرين ، وبين الأنصار والأنصار] ، «ژ» وبين المهاجرين والأنصار وكان إذا مات الرجل يرثه أخوه في الدين ويأخذ المال ، وكان له ما ترك دون ورثته ، فلمّا كان بعد ذلك أنزل الله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٤) فنسخت آية الاخوّة : (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ). (٥) (٦)

__________________

(١). قرب الإسناد : ١٢.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٦٩ ، الحديث : ٧٩ و ٨٠.

(٣). مجمع البيان ٤ : ٨٦٢.

(ژ). ما بين المعقوفيتن غير موجود في المصدر المطبوع ولكنّه موجود في الأصل وفي تفسير الصافي نقلا عن تفسير القمي ، اي المصدر.

(٤). الأحزاب (٣٣) : ٦.

(٥). الأنفال (٨) : ٧٥.

(٦). تفسير القمّي ١ : ٢٨٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٦٢.

٨١

أقول : مقتضى الروايتين أنّ الميراث بالمؤاخاة كانت ثابتة بآية الاخوّة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، (١) وقد نسخها آية : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية من سورة الأحزاب.

وعلى هذا فالآيات الأربع من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) إلى آخر السورة ، غير متعرّضة لحال ولاية الإرث بل مطلق الولاية ، ويشهد به تثبيته سبحانه الولاية بين الكفّار بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

وفي المورد روايات اخر سيأتي جملة منها في سورة الأحزاب إن شاء الله العزيز عند قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ). (٢)

هذا آخر الكلام في سورة «الأنفال» ولله سبحانه الحمد وعلى رسوله وآله الصلاة.

تمّ يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب سنة ١٣٦٩.

__________________

(١). الحجرات (٤٩) : ١٠.

(٢). الأحزاب (٣٣) : ٦.

٨٢

سورة البراءة

٨٣
٨٤

[بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا

٨٥

يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)]

قوله سبحانه : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)

في المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : الأنفال وبراءة واحدة. (١) (٢)

أقول : ورواه العيّاشي في تفسيره عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ. (٣)

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٨١.

(٢). في المصدر : «الأنفال والبراءة واحد»

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٣ ، الحديث : ٣.

٨٦

وفي المجمع أيضا عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة ؛ لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف. (١)

أقول : ولعلّ لفظ سورة من كلام الراوي ، وهذه السورة لو كانت سورة وحدها ، فالغرض فيها رفع الأمان وشطر من الكلام المتعلّق بالمشركين والمنافقين.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : كان الفتح في سنة ثمان ، وبراءة في سنة تسع ، وحجّة الوداع في سنة عشر. (٢)

وفي تفسير القمّي مسندا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من غزوة تبوك في سنة تسع (٣) من الهجرة ، قال : وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحجّ في تلك السنة ، وكان سنّة من العرب في الحجّ أنّه من دخل مكّة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها ، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكّة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثمّ يردّه ، ومن لم يجد عاريّة اكترى ثوبا ، ومن لم يجد عارية ولا كرى (٤) ولم يكن له إلّا ثوب واحد ، طاف بالبيت عريانا فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى (٥) فلم تجده ، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها ،

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ٤ ؛ الكشف البيان ٥ : ٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٨١.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٣ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٧١.

(٣). في المصدر : «سبع» وهو تصحيف ، أنظر تاريخ الطبري ٣ : ١٤٢ ؛ الكامل ٢ : ٢٧٦.

(٤). في المصدر : «كراء»

(٥). في المصدر : «كراء»

٨٧

فقالت : وكيف أتصدّق وليس لي ثوب غيرها فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس ، فوضعت إحدى يديها على قبلها والاخرى على دبرها.

وقالت شعرا :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا احلّه

فلمّا فرغت من الطواف خطبها جماعة ، فقالت : إنّ لي زوجا ، وكانت سيرة رسول الله قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله ، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده ، وقد كان أنزل عليه في ذلك : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) ، (١) فكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين ، من اعتزله ومن لم يعتزله ، إلّا الذين قد عاهدهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم فتح مكّة إلى مدّة ، منهم : صفوان بن اميّة ، وسهيل بن عمرو ، فقال الله عزوجل : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا ، فهذه أشهر السياحة عشرين من ذي الحجّة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرة من شهر ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلّا رجل منك ، فبعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في طلب أبي بكر ، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات ، فرجع

__________________

(١). النساء (٤) : ٩٠.

٨٨

أبو بكر إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله أنزل الله فيّ شيئا؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا ، إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي. (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : خطب عليّ الناس واخترط سيفه فقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ولا يحجّنّ البيت مشرك ، ومن كانت له مدّة فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر ، وكان خطب يوم النحر ، فكانت عشرون من ذي الحجّة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من شهر ربيع الآخر. (٢)

قوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)

هذا تحديد للعهود المطلقة وليس من النقض في شيء ، مضافا إلى أنّ المشركين ما كان مأمونا من خيانتهم ونقضهم لو استطاعوا ، كما قال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) ، (٣) ونسب في المجمع الوجهين جميعا إلى الرواية ، (٤) وأمّا العهود المؤجّلة فسيتعرّض تعالى لاعتبارها إلى أن ينقضي أجلها.

قوله سبحانه : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)

الالتفات من الغيبة إلى خطاب المشركين مع أنّهم بمعزل عن المشافهة لما فيه من تحقيق الاقتدار وتثبيت عجزهم ، وأنّ موقعهم من الذلّ موقع يجري فيهم من الإرادة كلّ أمر ووجّه إليهم وحكم يحكم فيهم ، لأنّ المقام مقام الظهور بتمام

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٨١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٣٧٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٨١.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٤ ، الحديث : ٧ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢ ؛ مجمع البيان ٥ : ٧.

(٣). الأنفال (٨) : ٥٨.

(٤). مجمع البيان ٥ : ٥.

٨٩

الاقتدار ، وهذه طريقة معمولة بين العقلاء أنّ الإنسان إذا استذلّ عدوّه وجّه إليه ما يريده من توسعة وتضييق في صورة خطاب التعجيز ، وقد أكّد ذلك في الآية بوضع المتكلّم «من» وعن قبله ، وهو الله سبحانه ورسوله موضع الغيبة حيث قال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا ...).

فالله سبحانه هو المتكلّم ، وقد ظهر غائبا ورسوله مخاطب ، وقد جعل غائبا والمشركون في الغيبة ، وقد وجّه إليهم الخطاب وقد نسب العهد إلى المؤمنين أو إلى النبيّ مع المؤمنين ، لأنّه من فروع الولايات والسياسات ، وكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يداخلهم فيها ، فالخطاب في الحقيقة إلى الرسول وتوجيهه إلى المشركين للتعجيز فقط.

قوله سبحانه : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ)

الأذان بمعنى الإعلام.

إن قلت : ما وجه تكرار البراءة حيث قال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) وقال تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ)؟

قلت : ليس من التكرار في شيء ، فالآية الاولى : إعلام للمشركين خاصّة ، والثانية : لجميع الناس ، ولذا قال تعالى في الآية الاولى : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وفي الثانية : (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)

فما قيل في الجواب عن لزوم التكرار : إنّ الآية الاولى إخبار بثبوت البراءة ، والآية الثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت (١) غير مستقيم لمكان قوله تعالى في الآية الاولى : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) فإنّ قوله : (إِلَى) تشير إلى التبليغ والإعلام.

__________________

(١). تفسير الصافي ٣ : ٣٧٤.

٩٠

وفي تفسيري العيّاشي والقمّي عن السجّاد ـ عليه‌السلام : ـ الأذان أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ. (١)

أقول : وقد ورد هذا المعنى في عدّة من الروايات ، (٢) وفي بعضها عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : كنت أنا الأذان في الناس ، الحديث ، (٣) والمعنى واضح ، فإنّه ـ عليه‌السلام ـ كان المؤذن.

قوله سبحانه : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)

في العلل والمعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث فقيل له : فما معنى هذه اللفظة (الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) فقال : إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون ، ولم يحجّ المشركون بعد تلك السنة. (٤)

في الكافي والمعاني وتفسير العيّاشي في عدّة أخبار عنه ـ عليه‌السلام ـ : يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر والأصغر العمرة. (٥)

قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ)

اللام للعهد ، فهي الأربعة الأشهر المبتدءة من يوم الحجّ الأكبر المحرّمة بهذه الآيات.

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : هي يوم النحر إلى عشر مضين

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٣ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير القمّي ١ : ٢٨١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٨٨ ، الحديث : ١٦ و ٢٣.

(٢). شواهد التنزيل ١ : ٣٠٤.

(٣). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٨١ ، الحديث : ٢٤ ؛ تأويل الآيات ١ : ١٩٧ ، الحديث : ١.

(٤). علل الشرائع ٢ : ٤٤٢ ، الحديث : ١ ؛ معاني الأخبار : ٢٩٦ ، الحديث : ٥.

(٥). الكافي ٤ : ٢٩٠ ، الحديث : ١ و ٢ و ٣ ؛ معاني الأخبار : ٢٩٥ ، الحديث : ١ ـ ٥ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٧٤ ، الحديث : ٧ ؛ الكشاف ٢ : ٢٤٥ ؛ الكشف والبيان ٥ : ١١.

٩١

من ربيع الآخر. (١)

أقول : وقد مرّ عدّة من الروايات في ذلك ، والحصر : الحبس ، والمرصد : موضع الرصد والترقّب.

قوله سبحانه : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)

تكرار كيف للتأكيد.

وقوله : (يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)

كناية عن الظفر بهم.

وقوله : (لا يَرْقُبُوا)

من الرقوب بمعنى الرعاية.

وقوله : (إِلًّا)

الإلّ والأيل : هو كلّ عقد معقود إمّا طبعا وتكوينا كالقرابة ، وإمّا بالجعل والاعتبار كالحلف ، فالجميع يسمّى إلّا.

وقوله : (وَلا ذِمَّةً)

وهي النفس باعتبار ما يجعل كالوعاء للحقوق ، وهي كناية عن عدم رعايتهم كلّ حقّ يثبت للمؤمنين عليهم ، ففي مادّة الذمّ معنى استبطان الشيء وطلوع آثاره ،

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٧ ، الحديث : ٢٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٩٩ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥.

٩٢

وكان منه الذمّ خلاف المدح ، كما أنّ في مادّة المدح ذلك يقال : تمدّحت خواصر الماشية إذا اتّسعت شبعا. (١)

قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ)

تكرار الترديد لتفصيل الحكم ثانيا ، وأحد طرفي الترديد مع ذلك أخصّ الأصل ، فإنّ الأصل المذكور أنّهم إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة خلّي سبيلهم ، وإلّا قتلوا وكان الوجه فيه تعميم الحكم لغيرهم من اولي الحرمة والعهد ليكون توضيحا لقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).

قوله سبحانه : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)

وضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) للإشعار بأنّهم يصيرون بذلك قادة وسادة للكفّار ، أحقّاء للقتال ، ونفي الإيمان عنهم مع ثبوتها محمول على نفي الحقيقة.

وفي تفسير العيّاشي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : عذرني الله من طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين ، ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ، والله ما قوتل أهل هذه الآية منذ نزلت حتّى قاتلتهم وقرأ قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ). (٢)

أقول : وفي هذه المعنى عدّة روايات اخر.

__________________

(١). لسان العرب ١٣ : ٥٠.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٧٩ ، الحديث : ٢٨ ؛ الامالي للمفيد : ٧٢ ، الحديث : ٧ ؛ شواهد التنزيل ١ : ٢٧٦.

٩٣

قوله سبحانه : (مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : لا تتّخذوا من دون الله وليجة (١) فلا تكونوا مؤمنين ، فإنّ كلّ سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع ، إلّا ما أثبته القرآن. (٢)

أقول : وهو من جوامع الروايات.

وفي الكافي أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ : يعني بالمؤمنين الأئمّة. (٣)

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخر ، (٤) وهي من الجري والتطبيق ظاهرا.

*

__________________

(١). الوليجة : البطانة [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). الكافي ١ : ٥٩ ، الحديث : ٢٢ ؛ ٨ : ٢٤٢ ، الحديث : ٣٣٥.

(٣). الكافي ١ : ٤١٥ ، الحديث : ١٥ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٨٢.

(٤). البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٠٨ ، الحديث : ٣.

٩٤

[ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)]

٩٥

قوله سبحانه : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

في مقام التعليل لقوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ)، فالنهي عن تعميرهم المساجد لكون أعمالهم حبطا باطلة ليست بمرضية لله سبحانه ، فلا ملاك لتشريع تعميرهم ولا تناسب بينهم وبينها ، بخلاف المؤمنين العاملين المتلبّسين بتقوى من الله تعالى.

فإن قلت : فما معنى تشريع التحريم في حقّهم وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر؟

قلت : فائدته أنّ النهي ينتج عدم جعل الحقّ لهم في ذلك ، فعلى المؤمنين أن يمنعوهم من ذلك وينتظم بذلك نظام الدين وسيطرة انبساطه ، واعتلاء كلمة الله سبحانه ، هذا في الدنيا ، وأمّا في الآخرة فوباله عائد إليهم بناء على أنّ الكفّار يكلّفون بفروع الدين كأصوله.

قوله سبحانه : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ)

قرينة المقابلة تفيد أنّه قصر قلب أو إفراد كأنّ المشركين ، كانوا يزعمون أنّ حقّ تعمير البيت لهم فقط أو لكلّ من يريد ذلك من غير اختصاص بالمؤمنين ، فأبطل ذلك وجعل الحقّ للمؤمنين فقط.

وقوله : (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)

في معنى التعليل ، ويشعر بأنّ ملاك التشريع قابليّة الاهتداء ، فيجب في كلّ تشريع أن ينتهي بالآخرة إلى اهتداء المكلّفين.

وقد عرّف سبحانه الاهتداء بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، (١) وقال سبحانه أيضا : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٨٢.

٩٦

مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). (١)

فهذه الآيات تفيد أنّ كمال الإيمان وخالصه أن يرى العبد نفسه لله سبحانه محضا ، هو الذي يملكهم وهم مملوكون له راجعون إليه تعالى وهو خلوص الإيمان من شوب الظلم ، فبين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين مقام الاهتداء مقام ، وهو مقام الخشية وعدم تأثّر القلب من غير الله تعالى ، وإنّما كان وسطا لأنّ عدم التأثّر عن الغير لا يستلزم الإذعان بعدم تأثير في الغير ، فربما كان الإنسان لاعتماده على ناصر قويّ شديد أو ركونه إلى شهامة نفسه وقوّة إرادته لا يتأثّر عن عدوّه وإن أثبت له وجودا وأذعن له تأثيرا ، قال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، (٢) فهي تفيد أنّهم دفعوا الخشية اتّكالا منهم بالله سبحانه.

فمن لا يتأثّر لأنّه يرى أن لا عدوّ ولا تأثير فهو أرفع مكانا وآمن قلبا.

قوله سبحانه : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ)

الفرق بين الخوف والخشية : أنّ الخوف توقّع الشرّ ، ولذا كان يقابل الطمع أو الرجاء وهو توقّع الخير من أمر ، قال تعالى : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، (٣) وقال : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٤)

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٥٦.

(٢). آل عمران (٣) : ١٧٣.

(٣). الأعراف (٧) : ٥٦.

(٤). البقرة (٢) : ٣٨.

٩٧

وأمّا الخشية : فهي تأثّر القلب من توقّع المكروه على ما تفيده مادّتها ، وقد وجد في الإستعمال الخشى بمعنى اليبس ، ويقال : خشت النخلة إذا أحشفت تمرتها وإن كان هذا المثال من الواوي ، قال تعالى : (خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ،) (١) وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). (٢)

وبالجملة ، الخشية : صفة قلبيّة وجدانيّة بخلاف الخوف ، فالخوف ليس من حيث هو خوف رذيلة مذمومة ، بخلاف الخشية ، فالفارّ من سقف يخرّ عليه أو مكروه آخر لا يقدر على دفعه فإن لم تضطرب نفسه ولم يتزلزل إرادته فقد خاف ولا لوم عليه ، وإن اضطربت أركانه وبطلت قوّة نفسه فقد خشي وهو ملوم مذموم.

ولذا لم يذمّ سبحانه في كتابه الخوف من غيره إلّا في موارد لا ينبغي فيها الخوف ، لكن نهى عن خشية غيره ، قال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) ، (٣) وقال في زكريا : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ، (٤) وقال في موسى : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) ، (٥) وقال في امّ موسى : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) ، (٦) وقال سبحانه في انبيائه : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ، (٧) وقال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). (٨)

__________________

(١). الحشر (٥٩) : ٢١.

(٢). البقرة (٢) : ٧٤.

(٣). الأنفال (٨) : ٥٨.

(٤). مريم (١٩) : ٥.

(٥). الشعراء (٢٦) : ٢١.

(٦). القصص (٢٨) : ٧.

(٧). الأحزاب (٣٣) : ٣٩.

(٨). البقرة (٢) : ١٥٠.

٩٨

فإن قلت : فما هو الوجه في قول الله سبحانه عن صاحب موسى : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) ، (١) وقوله عن هارون : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، (٢) وقوله تعالى للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ، (٣) وقد نسب الخشية إلى هؤلاء الذين لا يجوز اتّصافهم بصفة مذمومة.

قلت : أمّا قوله : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) ، (٤) فالخشية من إضلال المؤمن الصالح خشية من الله سبحانه ، وكذا قوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ) ، (٥) فالخشية من موسى نبيّ الله خشية أيضا من الله تعالى.

وأمّا قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ، (٦) فقد نزلت في قصّة زينب امرأة زيد بن حارثة وإنّما كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يخشى الناس في جنب الله أن يفسد إيمانهم ويضعفوا في أمر الله وهو في الحقيقة خشية من الله تعالى ، فهو سبحانه إنّما يحوّله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من نوع من الخشية إلى نوع آخر منها ، أي من خير إلى ما هو خير منه ، والشاهد عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ، (٧) فهو نصّ في أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان لا يخشى إلّا الله سبحانه ، فقوله :

__________________

(١). الكهف (١٨) : ٨٠.

(٢). طه (٢٠) : ٩٤.

(٣). الأحزاب (٣٣) : ٣٧.

(٤). الكهف (١٨) : ٨٠.

(٥). طه (٢٠) : ٩٤.

(٦). الأحزاب (٣٣) : ٣٧.

(٧). الأحزاب (٣٣) : ٣٩.

٩٩

(وَتَخْشَى النَّاسَ) (١) لمعنى من الخشية غير ما هو المنساق إلى الذهن.

قوله سبحانه : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ)

في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : نزلت في عليّ والعبّاس وشيبة ، وقال العبّاس : أنا أفضل ، لأنّ سقاية الحاجّ بيدي ، وقال شيبة : أنا أفضل ، لأنّ حجابة البيت بيدي ، وقال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : أنا أفضل ، فإنّي آمنت قبلكما ثمّ هاجرت وجاهدت ، فرضوا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأنزل الله. (٢)

أقول : وروى في المجمع ما في معناه. (٣)

وروى مثله في تفسير العيّاشي أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٤) غير أنّه ذكر عثمان بن أبي شيبة مكان شيبة.

وعن الجمع بين الصحاح الستّ للعبدي من صحيح النسائي بإسناده قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، والعبّاس بن عبد المطّلب ، وعليّ بن أبي طالب فقال طلحة : بيدي مفتاح البيت ولو أشاء بتّ فيه ، وقال عبّاس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتّ في المسجد ؛ وقال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : ما أدري ما تقولان لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.) (٥)

__________________

(١). الأحزاب (٣٣) : ٣٧.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢٨٤.

(٣). مجمع البيان ٥ : ٢٣.

(٤). تفسير العيّاشي ٢ : ٨٣ ، الحديث : ٣٤.

(٥). لم نحصل كتاب الجمع بين الصحاح الستّ ولكنه موجود في تفسير الطبري ١٠ : ٦٨.

١٠٠