تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

[وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ

٢٢١

عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)]

قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)

يفيد أنّ تلاوته بمشيئة الله محضا لا يشوبه مشيئة النبيّ ، فلو شاء ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به ، والشاهد عليه قوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ).

وحاصل الكلام : إنّ معاشرتي معكم وتقلّبي في أطوار الحياة فيكم سنين من عمري يدلّكم على أنّ هذا الذي أتلوه عليكم من كتاب الله تعالى على ما هو عليه من عجيب الأمر لا ينتهي إلى نفسي واختياري وتدبيري ، بل إنّ هذا الأمر إلى الله محضا ، فلو شاء ما تلوته عليكم ولو شاء ما دريتم به ، فلو غيّرت شيئا منه من تلقاء نفسي لكنت أظلم الناس ، كما أنّكم إن كذّبتموه صرتم أظلم الناس لظلمكم في جنب الله ـ سبحانه ـ ، والظلم يعظم بعظم ما يتعلّق به.

٢٢٢

قوله تعالى : (بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ)

كناية عن عدم الوجود وهي كناية شائعة ، وفي تفسير القمّي ، قال : قال : كان قريش (١) يعبدون الأصنام ويقولون : إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فإنّا لا نقدر على عبادة الله ، فرّد الله عليهم وقال : قل لهم يا محمّد : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ)، أي : ليس يعلم فوضع حرفا ، مكان حرف أي : ليس له شريك يعبد (٢).

أقول : معنى الحديث أنّ الكلام وضع موضع المقابلة بالمثل ، فإنّهم قالوا : إنّا لا نعبد ما لا ندركه بوجه ، بل نعبد ما ندركه ليقرّبنا إليه ، فأجيبوا بأنّكم تعبدون ما لا يعلم الله به فكيف يقربّكم إليه وهو لا يعلم به؟!

قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً)

الآية تشير إلى حال الإنسان الأوّلي في بدء الخلقة لم يكن بينهم اختلاف في دنيا ولا دين ، بل كانوا على الفطرة المفطورة ، ثمّ نشأ فيهم الاختلاف ، فأخّر سبحانه القضاء الفصل بينهم لكلمة قالها فيهم عند إهباط آدم ـ عليه‌السلام ـ من الجنّة ، وهي قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣) ، وبعث فيهم الأنبياء وأنزل إليهم الكتاب ، وقد مرّت نظيرة الآية في سورة البقرة فارجع إليها (٤).

قوله سبحانه : (فَانْتَظِرُوا)

يدلّ على إمكان نزول ما كانوا يقترحونه من الآيات وترقّب نزوله ، وهو الشر

__________________

(١). في المصدر : «كانت قريش»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٣١٠.

(٣). البقرة (٢) : ٣٦.

(٤). البقرة (٢) : ٢١٣.

٢٢٣

الذي كانوا يستعجلونه من القضاء الفصل بين النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والامّة ، وسيعود هذا الرّجاء وعدا محتوما في أواسط السورة عند قوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (١) إلى تمام عشر آيات.

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً)

وإنّما كان أسرع مكرا لأنّ المكر الذي يمكرون به هو بعينه مكر من الله بهم وهو أقرب إليهم من أنفسهم ، فمكره بهم أسرع وصولا إليهم من مكرهم في آيات الله تعالى ، كما قال تعالى في الآية التالية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).

ويدلّ أيضا على ما ذكرنا جميع ما ورد في القرآن من آيات الاستدراج ونحوها.

قوله سبحانه : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)

سيجيء معنى كتابة الملائكة للأعمال في سورة الجاثية عند قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (٢) ، وإنّ كتابة الملائكة نفس الأعمال الخارجيّة لا رسوم مأخوذة منها نظير الكتابة المعمولة عندنا ، وعلى هذا يستقيم كون مكر الله تعالى أسرع بكتابة الرسل لأعمالهم فلا تغفل.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

لمّا بيّن أنّ لهم مكرا في آيات الله سبحانه ، وأنّ الله تعالى يقلب مكرهم إليهم ،

__________________

(١). يونس (١٠) : ٤٦.

(٢). الجاثية (٤٥) : ٢٩.

٢٢٤

قرّر تعالى ذلك بقوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ)، وهو نظير ما هو المعمول عندنا من بيان الحكم الكلّي ثمّ المثال بشيء من جزئيّاته ، فهو بيان بوجه وتعليل بوجه ، ولذلك جاء بالفصل من وصل.

وقوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)

التفات من الخطاب إلى الغيبة لفائدة التعجب ، فالمقام مقام من يحسن كلّ الإحسان إلى بعض المحتاجين إليه المرتزقين منه ، وهو يلتجىء إليه في وقت الشدّة وينساه في موسم الرخاء ، فيخاطبه بتقرير كرامته له وخيانته إيّاه ، وإعمال نفوذه ، وبسط اقتداره ، وإنّ غدره يعود إليه لا محالة ولا يتعدّاه إلى غيره ، فيخاطبه بقصصه حتّى إذا وصل إلى أعجب محلّ من أنبائه تركه ورجع في حديثه إلى بعض السامعين فقصّه بموضع العجب من القصّة ليتعجّب من أمرهم ثمّ يعود إلى ما كان عليه من الخطاب أوّلا ، فهو تعالى يخاطب هؤلاء الماكرين بقصصهم الّتي تنبيء عن ذلك ، حتّى إذا بلغ موضع غفلتهم عن ربّهم ، حيث لا يذكرون الله ولا يرقبون زوالا لنعمتهم ، وافتقارا إلى منعمهم ، تركهم وتحوّل في الخطاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ليقضي من أمرهم العجب ، ولذلك لم يقع الإلتفات من أوّل الآية بل أخّر إلى وسطها ، حيث يبلغ الحديث مبلغ العجب وهو جريان الريح الطيّبة وفرحهم بها ، كأنّهم قد ملكوها وانقادت لهم أسباب الأمن والسلامة.

قوله تعالى : (رِيحٌ عاصِفٌ)

أي شديدة الهبوب ، وقوله لهم تعالى : (أُحِيطَ بِهِمْ) كنّى بالإحاطة عن الهلاك.

٢٢٥

قوله تعالى : (لَمْ تَغْنَ)

أي لم تقم على ساق.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)

السلام والأمن متقاربا المفهوم ، غير أنّ السلام معنى وجوديّ والأمن معنى عدميّ ، فإنّ كونك في أمن من الشيء أن لا يضرّك بوجه ، وكونه سلاما عليك أن يلائم شأنك ويفيدك ، فالسّلام يستلزم الأمن بوجه ، والإنسان وهو في الدنيا لا يواجه السلام المطلق أبدا ، فإنّ هذه الأسباب الّتي تحفّ بنا وتحيط بنا من جميع الجهات لا يلائمنا إلّا شطر يسير منها ، ولا نستفيد إلّا من أقلّ قليل من بينها ، وإذا أخذت هذه الكلمة الّتي وصف الله سبحانه بها داره الّتي يدعو إليها أخذا على الحقيقة تحصّل عندك معنى دار الله وهي الجنّة والزلفى.

وفي المعاني عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في هذه الآية قال ـ عليه‌السلام ـ : إنّ السلام هو الله عزوجل ، وداره التي خلقها لعباده ولأوليائه هو الجنّة (١).

*

__________________

(١). معاني الاخبار : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، الحديث : ٢ ، وفيه : «التي خلقها لأوليائه الجنّة».

٢٢٦

[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)]

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى)

الحسنى خلاف السوأى واللام للجنس ، فإذا كان لهم جنس الحسنى من غير أن يتقيّد بعدد معيّن كالواحد بالواحد أو العشرة بالواحد دلّ على زيادة العناية في حقّهم ، قد قال تعالى في غيرهم : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ومن هنا يعلم أنّ قوله تعالى : (وَزِيادَةٌ)، هو من غير جنس الحسنى المذكور ، فإنّ جنس الحسنى لا يخرج منه شيء من جنسه حتّى يكون هو الزيادة وهو ظاهر ، وفي أمالي

٢٢٧

الشيخ عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فيما كتبه لمحمّد بن أبي بكر ليقرأ على أهل مصر ، وفيه قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) فأمّا الحسنى فهي الجنّة والزيادة هي الدنيا (١).

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخر ، والرواية تؤيّد ما ذكرناه أنّ الزيادة من غير جنس الحسنى ، وأمّا كون الإحسان وصالح العمل يهيّيء للإنسان حياة طيّبة آمنة مطمئنّة دون السيّئات فممّا لا يحتاج إلى بيان. وفي نهج البيان عن عليّ بن إبراهيم ، قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : الزيادة هبة الله عزوجل (٢).

أقول : ومراده ـ عليه‌السلام ـ أنّه أمر وراء ما يقابل العمل ويريده الإنسان بكسبه ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣). فإنّ ظاهره أنّ هذا المزيد غير ما يشاءونه وغير ما يمكن أن تتعلق به المشيئة ، فهو من غير جنس ثواب الأعمال ، ومن غير سنخ ما تدركه العقول ويريده الإنسان ، وسيجيء بقيّة الكلام فيه في قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) (٤).

وفي الصافي عن القمّي ، قال : الزيادة هي النظر إلى رحمة الله (٥). وفي المجمع عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب (٦).

__________________

(١). الأمالي للطوسيّ : ٢٤ ، الحديث : ٣٠.

(٢). لم نعثر عليه في نهج البيان المطبوع ، ولكن نقله البحراني عنه في البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢١ ، الحديث : ٥.

(٣). ق (٥٠) : ٣٥.

(٤). الزمر (٣٩) : ٣٤ ؛ الشورى (٤٢) : ٢٢.

(٥). تفسير الصافي ٢ : ٤٠٠ ؛ تفسير القمّي ٢ : ٣٢٦.

(٦). مجمع البيان ٥ : ١٧٩.

٢٢٨

أقول : لعلّ معنى الروايتين راجع إلى ما رواه في نهج البيان (١).

قوله تعالى : (قَتَرٌ)

القترة : غبرة لها سواد.

قوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)

الجملة خبر للموصول (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) جزاء سيئة واحدة منهم كائن بمثلها ، أو التقدير : والذين كسبوا السيّئات ليعلموا أنّ السيّئة الواحدة تجزي بمثلها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ)

غشيه الشيء إذا أحاط به من كلّ جانب ، وفي الكافي وتفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أما ترى البيت إذا كان الليل كان أشدّ سوادا (٢) فكذلك هم يزدادون سوادا (٣) (٤).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)

إلى آخر الآيات الثلاث من غرر الآيات القرآنية ، تبيّن حقيقة البعث على ألطف

__________________

(١). نهج البيان ٣ : ٦٣.

(٢). في المصدرين : + «من خارج»

(٣). في تفسير العياشي : «وجوههم تزداد سوادا»

(٤). الكافي ٨ : ٢٥٢ ، الحديث : ٣٥٥ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٢ ، الحديث : ١٧ ؛ بحار الانوار ٧ : ١٨٦ ، الحديث : ٤٥.

٢٢٩

بيان ممكن ، وتشير إليها على أدقّ إشارة وإيماء ، وهي كالشرح لإجمال قوله تعالى : (الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١).

قوله : (مَكانَكُمْ)

أي : الزموا مكانكم ولا تعدوه.

وقوله تعالى : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ)

أي فرّقنا بينهم ، كناية عن بطلان الروابط الدنيويّة التي زيّنها في أبصارهم والأوهام ، فيعود كلّ شيء فردا منفردا ليس معه إلّا نفسه وما كسبته نفسه والله المالك القاهر ، فيقول : (شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ.)

وهذا الكلام معهم كلام من غير مجرى العادة ، فإنّ الروابط قد تزيّلت والأسباب قد تقطّعت ، ثمّ يؤكّده أو يفسّره قوله تعالى : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ).

وهاتان الجملتان أعني قولهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ)، ثمّ قولهم : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) يبيّن بأتمّ البيان أنّ عبادة المشركين لشركائهم ليس إلّا في ظرف وهمهم ووعاء زعمهم ، فكان النفي له والغفلة عنه سيّين كما تشاهد في الجملتين بوضع إحداهما في جنب الاخرى ، فالشركاء يقولون : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) فينفون عبادتهم ، ثمّ يعطفون على ذلك بفاء التعليل قولهم : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) فمؤدّى الجملتين بمجموعهما هو قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما

__________________

(١). الانفطار (٨٢) : ١٩.

٢٣٠

تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (١).

ثمّ قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) ، بيان لما ينجرّ إليه أمرهم عندئذ برفع الأسباب ومزايلة البين.

فإنّ هذه الارتباطات إذا زالت وبطلت لم يبق للإنسان إلّا نفسه ، وما كسبته نفسه ، فتبلو نفسه وتختبر ما أسلفت وقدّمت ليومه ، ذلك وليس يملك هذه النفس ولا ما كسبته إلّا الله سبحانه فهو مولاه ووليّه وهو قوله تعالى عقيب هذه الجمل : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فهذا ما يفيده ظاهر هذه الآيات ، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) (٢).

وفي تفسير القمّي في قوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : يبعث الله نارا فتزيل (٣) بين الكفّار والمؤمنين (٤).

أقول : وهو اشارة إلى ما بيّناه من زوال الروابط.

*

__________________

(١). النجم (٥٣) : ٢٣.

(٢). الأنعام (٦) : ٩٣.

(٣). في المصدر : «تزيل»

(٤). تفسير القمّي ١ : ٣١١.

٢٣١

[قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)]

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

أمر سبحانه رسوله أن يحاجّهم في التوحيد بأمور أربعة :

أوّلها : توجّه الرزق إليهم من كلّ جانب من السماء والأرض ، وهو يستلزم رازقا.

٢٣٢

ثانيها : السمع والأبصار ، وكلّ ذي سمع وبصر لا يملك من هاتين الحاستين الحيويتين شيئا لا وجودا ولا عدما ، ولا بقاءا ولا زوالا فلهما مالك.

ثالثها : إرتباط الحياة بالممات ، وهو خروج الحيّ من الميّت ، والميّت من الحيّ ، وفوق ذلك رابط مخرج.

رابعها : تدبير أمر هذه الثلاثة ، وتأليف النظام الجاري بينها وهو يستدعى مدبّرا ، والإنسان مضطر مفطور على أن يسند هذه الأمور إلى غير عالم الطبيعة وهو الله عزّ اسمه ، وهو قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ)، ثمّ استنتج من قولهم الله سبحانه : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) ثمّ استنتج قوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فتمّ القول : إنّ المشركين في عبادتهم الأصنام على الضلال.

قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)

كأنّها إشارة إلى قوله تعالى في آخر الآية السابقة : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) فإنّ الحجّة السابقة أفادت أنّهم مع اعترافهم اعترافا فطريا اضطراريا أنّ الله هو ربّهم مشركون ، فهم منكرون في عين أنّهم معترفون ، وليس ذلك إلّا بصرف إلهيّ كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (١) فحقّت عليهم كلمة الله ـ سبحانه ـ أنّ الفاسقين لا يؤمنون ، وقد تكرّر في كلامه تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢).

__________________

(١). الجاثية (٤٥) : ٢٣.

(٢). المائدة (٥) : ٥١ ؛ الانعام (٦) : ١٤٤ ؛ القصص (٢٨) : ٥٠ ؛ الإحقاف (٤٦) : ١٠ ؛ ومثلهم في : البقرة (٢) : ٢٥٨ ؛ آل عمران (٣) : ٨٦ ؛ التوبة (٩) : ١٩ و ١٠٩ ؛ الصف (٦١) : ٧ ؛ الجمعة (٦٢) : ٥.

٢٣٣

قوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ)

إلى آخر الآيتين ، وهاتان الآيتان مشتملتان على حجّتين أخريين تشتملان على أخصّ صفات الله سبحانه ممّا يدلّ عليه نظام الخلق والبعث ، وليسا في شركائهم من الأصنام.

إحداها : إدارة البدء والعود في الأشياء.

والثانية : الهداية إلى الحقّ.

فقانون الإبداء والإعادة على ما مرّ بيانه في صدر السورة ممّا يستند إلى ربّ العالم وهو لا يستند إلى الأصنام ، فإنّها بنفسها واقعة تحته محكومة بحكمه ، والهداية إلى الحقّ أيضا مستند إليه وليس مستندا إلى الأصنام ، لأنّها لا تملك لأنفسها شيئا ، ولذا غيّر سياق هاتين الحجّتين عن سياق الحجّة السابقة ، فالحجّة الأولى في سياق السؤال عمّن يرزقهم؟ وعمّن يملك السمع والبصر؟ وعمّن يخرج الحيّ والميّت؟ وعمّن يدبّر الأمر كائنا من كان؟ وجواب المشركين : أنّه الله.

والحجّتان الأخيرتان في سياق السؤال عن أنّ شركائهم هل فيهم من يبدء ويعيد؟ وهل فيهم من يهدي إلى الحقّ؟ ولا جواب للمشركين في ذلك. ولذلك يقول سبحانه : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ويقول ـ سبحانه ـ : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ).

فلا يقال : ما الفرق بين السؤال الأوّل بقوله : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) وحيث أردفه بقوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) فذكر الجواب عن قبل المشركين ، وبين السؤال الثاني والثالث بقوله : (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، وبقوله : (مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ)

٢٣٤

حيث أردفهما بقوله : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وبقوله : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) فأجاب هو تعالى نفسه لا عن قبل المشركين ، مع أنّ هذه المعاني على نسق واحد ، فلو كان الأوّل فطريا فالثاني والثالث أيضا كذلك.

لأنّا نقول : إنّ الأمر كما ذكر ، فالجميع معان معلومة بالفطرة ، إلّا أنّ البيان مسوق سوقا مختلفا ، فالحجّة الأولى مسوقة للكشف عن ربّ واحد هو الله سبحانه ، ولذلك تمسّك بالفطرة ، والحجّتان الأخيرتان للكشف عن بطلان ربوبيّة الشركاء ، ولا جواب للمشركين في ذلك كما بيّناه آنفا فتدبّر.

وأمّا ما ذكره بعضهم في الآية : أنّه تعالى جعل الإعادة كالإبداء لظهور برهانها ، وإن لم يساعدوا عليها فهو معنى بعيد عن الآية بمراحل.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي)

أصل قوله : (يَهْدِي)» ، «يهتدي» قلب «التاء» ، «دالا» ثمّ أدغم إحدى الدالين في الأخرى ، وتقييد قوله : («لا يَهِدِّي) بقوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) يدلّ على أنّ المعنى لا يهتدي بنفسه إلّا أن يهديه غيره ، وحينئذ فالمقابلة بين قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) يدلّ على أنّ من يهدي إلى الحقّ يجب أن يهتدي بنفسه ، وأيضا أنّ من يهتدي بغيره لا يهدي إلى الحقّ ، فهو سبحانه لا يسمّى هاديا إلّا من لا يحتاج في كونه مهتديا إلى غيره ، ومن احتاج في إهتدائه إلى هداية الغير فليس بهاد.

وهذه الآية تدلّ على عصمة إلامام فإنّه هاد ، والهادي يجب أن يكون مهتديا بنفسه فلا يكون ضالّا ، وكلّ من اقترف معصية أو ظلما ضالّ غير مهتد ، وقد ورد

٢٣٥

في عدّة من روايات أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ التمسّك بهذه الآية (١).

*

__________________

(١). الكافي ٧ : ٢٤٩ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير القمّي ١ : ٣١٢ ؛ الامالي للصدوق : ٦٧٧ ، المجلس السابع والتسعون ، الحديث : ١ ؛ عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٢٠ ، الحديث : ١ ؛ كمال الدين ٢ : ٦٧٨ ، الحديث : ٣٢ ؛ الاحتجاج ١ : ١٥٠ ؛ ٢ : ٤٣٦ ؛ بحار الأنوار ٩ : ٢١٣ ، الحديث : ٩١ ؛ تفسير الصافى ٢ : ٤٠٢.

٢٣٦

[وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)]

قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)

٢٣٧

الضمير للقرآن ، وهذا يدلّ على تحقّق الإعجاز بسورة واحدة ، كسورة العصر وسورة الكوثر ، وإرجاع الضمير إلى نفس هذه السورة ، ـ أعني سورة يونس ـ ممّا يشمئز منه الطبع ، فضلا عن كلام الله فقد تقدّست ساحته عن أمثال هذه الاحتمالات.

قوله تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)

قد مرّ الكلام في التأويل والتنزيل في أوائل سورة آل عمران ، وذكرنا هناك أنّ التأويل ليس من قبيل المعاني والمفاهيم ، بل من قبيل الأمور الخارجيّة التي نسبتها إلى أمور أخر نسبة اللبّ إلى القشر ، ونسبة الممثّل إلى المثال ، ويشهد بذلك قوله تعالى في هذه الآية : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) والروايات أيضا تشهد بذلك ففي تفسير العيّاشي ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن الأمور العظام من الرجعة وغيرها ، فقال : إنّ هذا الذي تسألوني عنه لم يأت أوانه ، قال : الله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (١).

أقول : وروى هذا المعنى أيضا فيه ، وفي بصائر الدرجات عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٢).

وفي الكافي وتفسيري المجمع والعيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ إنّ الله خصّ هذه الأمّة (٣) بآيتين من كتابه : لا يقولون ما لا يعلمون ، وأن لا يردّوا ما

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٢ ، الحديث : ٢٠ ؛ بحار الانوار ٢ : ٧٠ ، الحديث : ٢٦.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٢ ، الحديث : ١٩ ؛ مختصر بصائر الدرجات : ٢٤.

(٣). في الكافي : «عباده»

٢٣٨

لا يعلمون (١) (٢) ، ثمّ قرأ عليهم : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) (٣) وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (٤).

قوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)

وعيد بالعذاب ، والآيات كما ترى مسوقة للوعيد ، متدرّجة من التلويح إلى التصريح.

كقوله أوّلا : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).

وقوله ثانيا : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ).

وقوله ثالثا : (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ).

وقوله رابعا : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ).

وقوله خامسا : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) (٥) حتّى ينتهي إلى قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) (٦) إلى آخر الآية.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله الحليم العليم إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه (٧).

__________________

(١). في الكافي : «أن لا يقولوا حتّى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا»

(٢). في تفسير العياشي : «ألا يقولوا»

(٣). الأعراف (٧) : ١٦٩.

(٤). الكافي ١ : ٤٣ ، الحديث : ٨ ؛ مجمع البيان ٥ : ١٩٠ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٣ ، الحديث : ٢٢.

(٥). يونس (١٠) : ٤٦.

(٦). يونس (١٠) : ٤٧.

(٧). الكافي ٨ : ٥٢ ، الحديث : ١٦ ، رسالة أبي جعفر (ع) إلى سعد الخير.

٢٣٩

أقول : وهذه استفادة لطيفة من الآية فإنّ هذه ـ الآية ـ أعني قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) واقعة في خلال آيات العذاب الّتي توعد هذه الأمّة بإرسال العذاب ، وإنفاذ القضاء الفصل بين النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبينهم ، وفيها استئصالهم بالانقطاع عن الحياة الدنيويّة ومزايا نعمها ، وهلاك أرواحهم بإضلال الله ـ سبحانه ـ إيّاهم عن صراط الهداية وسبيل الفلاح ، فلمّا نفى ـ سبحانه ـ عن نفسه في هذا المقام أنّه لا يظلم الناس شيئا ، دلّ ذلك على أنّ حرمان الشخص من الإنسان أو أمّة من الأمم الإنسانيّة عن شيء من النعم الظاهرة الجسمانيّة أو الباطنة الروحيّة لا يستند إليه تعالى ، بل إنّما يستند إلى نفسه كما مرّ بيانه في قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (١).

وتحصّلت من هاهنا قاعدة كلية وهي أنّ الله سبحانه لا يفيض عنه إلّا الخير ، وأمّا الشّر كائنا ما كان فهو لقصور المستفيض القابل ، وردّه وعدم قبوله لعوائد الفضل ورشحات الجود.

فإن قلت : الأمر لا يتمّ بما ذكرت فما المانع من أن نقول : إنّ الله يفيض خيرا وشرا ورضا وغضبا وهداية وإضلالا لكنّه يخصّ كلّا من الخير والشرّ بواحد من الفريقين فيرسل الخير والرضا والهداية بأهل الصلاح ، والشر والسخط والإضلال بأهل الفسوق والفساد.

قلت : يأبى عن ذلك ظاهر الآية فإنّها تدلّ على أنّ أمثال هذه البلاياء والنقمات ظلم ، غير أنّها لا تستند إليه تعالى بل إلى أنفسهم ، فهم يعملون أعمالا

__________________

(١). النساء (٤) : ٧٩.

٢٤٠