تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

قوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ)

الإرصاد هو الانتظار والإعداد.

وقوله : (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)

هو أبو عامر الراهب.

في الجوامع : إنّه كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح ، ولمّا قدم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثمّ هرب بعد فتح مكّة وخرج إلى الروم وتنصّر ، وكان هؤلاء يتوقّعون رجوعه إليهم ، وأعدّوا هذا المسجد ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، (١) وأنّه كان يقاتل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في غزواته إلى أن هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومات بقنسرين وجدا. (٢)

وروى بعض المفسّرين من العامّة : أنّه الذي سمّاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الفاسق ، وقد تنصّر في الجاهليّة وترهّب وطلب العلم ، فلمّا هاجر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عاداه لأنّه زالت رئاسته ، وقال : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ، ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمّا انهزمت الهوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا فإنّي ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند ، فأخرج محمّدا وأصحابه ، فبنوا مسجد الضرار وكانوا ينتظرون قدومه ، فمات بأرض الشام. (٣)

__________________

(١). جوامع الجامع ٢ : ٨٤.

(٢). تفسير الصافي ٣ : ٤٦٣.

(٣). الكشف والبيان ٥ : ٩٣ ؛ جامع البيان ١١ : ٢٠.

١٨١

أقول : فالقصّة تشهد كظاهر سياق الآية أنّ قوله : (مِنْ قَبْلُ) متعلّق بقوله : (حارَبَ)، لا بقوله : (اتَّخَذُوا) ، كما ذكره بعضهم. (١)

قوله : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً)

نهى عن الصلاة فيه بطريق آكد ، وهذه الجملة يمكن أن تكون خبرا لقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) لو كان مبتدءا ، ويمكن أن يكون قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا)، مبتدءا لخبر مقدّر ، أي : ومنهم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا)، ويمكن أن يكون منصوبا بالاختصاص.

قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى)

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : يعني مسجد قبا. (٢)

وفي رواية العيّاشي : وأمّا قوله : (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) قال ـ عليه‌السلام ـ : يعني من مسجد النفاق. (٣)

قوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هو الاستنجاء بالماء. (٤)

وفي المجمع عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : يحبّون أن يتطهّروا بالماء عن الغائط والبول. (٥)

__________________

(١). جوامع الجامع ٢ : ٨٥.

(٢). الكافي ٣ : ٢٩٦ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١١ ، الحديث : ١٣٦.

(٣). تفسير العيّاشي : نفس المصدر ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦٧.

(٤). تفسير العيّاشي ٢ : ١١٢ ، الحديث : ١٣٧.

(٥). مجمع البيان ٥ : ١١١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٥٥ ، الحديث : ١١.

١٨٢

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال لأهل قبا : ماذا تفعلون في طهركم؟ فإنّ الله قد أحسن عليكم الثناء ، قالوا : نغسل أثر الغائط ، فقال : أنزل الله فيكم : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). (١)

أقول : وفي هذه المعاني روايات اخرى. (٢)

قوله سبحانه : (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ)

الشفا مقصورا : الشفير ، والجرف : ما تجرّفته السيول وأكلته من الأرض ، أنهار الجرف أى : إنهدم. (٣)

*

__________________

(١). تفسير الصافي ٣ : ٤٦٨.

(٢). الكشف والبيان ٥ : ٩٤.

(٣). جوامع الجامع ٢ : ٨٦ ؛ الكشاف ٢ : ٣١٢.

١٨٣

[إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى

١٨٤

الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)]

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى)

تمثيل يمثّل به جهاد المؤمنين بأنفسهم في سبيل الله وإعطائه إيّاهم الجنّة بذلك.

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : يعني في الميثاق ، الحديث. (١)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١١٢ ، الحديث : ١٤٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧٢.

١٨٥

قوله سبحانه : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ)

في الكافي عن أبي بصير عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : قرأت عنده ـ عليه‌السلام ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) فقال : لا ، إقرأ : «التائبين العابدين ، إلى آخرها ، فسئل عن العلّة في ذلك فقال : اشترى من المؤمنين التائبين العابدين». (١)

وفي المجمع عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : إنّهما جرّا على الصفة للمؤمنين. (٢)

وفي الكافي : لقى عباد البصري عليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ في طريق مكّة ، فقال له : يا عليّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته؟! إنّ الله يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، فقال له عليّ بن الحسين : أتمّ الآية ، فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ)، فقال له عليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ : إذ رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ. (٣)

وفي الكافي أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قام رجل إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا نبيّ الله! أرأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتّى يقتل إلّا أنّه يقترف من هذه المحارم ، أشهيد هو؟ فأنزل الله عزوجل على رسوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ)، ففسّر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم وحليتهم بالشهادة والجنّة.

__________________

(١). الكافي ٨ : ٣٧٧ ، الحديث : ٥٦٩ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧١.

(٢). مجمع البيان ٥ : ١١٢.

(٣). الكافي ٥ : ٢٢ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٧٧ ، الحديث : ١.

١٨٦

فقال : التائبون من الذنوب العابدون الذين لا يعبدون إلّا الله ولا يشركون به شيئا ، الحامدون الذين يحمدون الله على كلّ حال في الشدّة والرخاء ، السائحون الصائمون ، الراكعون الساجدون ، الذين يواظبون على الصلوات الخمس ، الحافظون لها ، والمحافظون عليها بركوعها وسجودها والخشوع فيها وفي أوقاتها ، الآمرون بالمعروف بعد ذلك والعاملون به ، والناهون عن المنكر والمنتهون عنه.

قال : فبشّر من قتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنّة ، الحديث. (١)

أقول : وقد فسّر السياحة بالصوم لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : سياحة امّتي الصيام ، كذا قيل. (٢)

وفي تفسير العيّاشي قال ـ عليه‌السلام ـ : هم الأئمّة. (٣)

أقول : معناه أنّ حقائق هذه الصفات وكمالها فيهم ، كما في رواية القمّي. (٤)

قوله سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

ما مرّ من النهي عن الاستغفار كان متعلّقا بالمنافقين وهذا راجع إلى المشركين.

وقوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

كالتعليل للنهي وإرشاد إلى ملاكه ، إذ الاستغفار طلب لشمول المغفرة ، ومن

__________________

(١). الكافي ٥ : ١٥ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٦٠ ، الحديث : ٢.

(٢). أنوار التنزيل ١ : ٤٣٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧١ ؛ النهاية لابن الأثير ٢ : ٤٣٣ ؛ تفسير ابن كثير ٢ : ٣٥٧.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ١١٣ ، الحديث : ١٤٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧٢.

(٤). تفسير القمّي ١ : ٣٠٦.

١٨٧

المحال شمول المغفرة لمن حقّت عليه كلمة العذاب ، وقد قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١)

وأمّا تبيّن كونهم من أصحاب الجحيم فبموتهم على الشرك أو بوحي من الله سبحانه كقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢)

والإتيان بلفظ التبيّن مقابلة لما يتلوه من قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)

قوله سبحانه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ)

استدراك ودفع دخل لما حكاه الله سبحانه في كلامه من استغفار إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأبيه ، قال سبحانه حكاية عنه وعن أبيه : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا* وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٣)

والآيات كما ترى تشعر بأنّه ـ عليه‌السلام ـ إنّما قال ذلك عند موادعة أبيه فيما ألزمه بالهجرة والبعد عنه رجاء منه في إيمانه ، وتطميعا له في مغفرة الله سبحانه ، ثمّ قال سبحانه حكاية عنه ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى أن قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) إلى أن قال :

__________________

(١). النساء (٤) : ٤٨ و ١١٦.

(٢). البقرة (٢) : ٦.

(٣). مريم (١٩) : ٤٦ ـ ٤٨.

١٨٨

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (١)

وهذا كلام قاله ـ عليه‌السلام ـ خطابا لأبيه وقومه ، ولمّا ينفصل عنهم وينقطع رجائه ، فالدعاء وإن كان مطلقا غير مقيّد بشيء على حسب ما جرى على لسانه مطلقا غير مقيّد ، لكنّه لمّا كان مع رجاء منه في أبيه تقيّد قهرا بإيمانه ، وإنّما لم يقيّده ـ عليه‌السلام ـ وفاء لما جرى على لسانه من الإطلاق على ما هم الكاملين من أهل التوحيد والولاية ، وقد تقدّم تمام بيانه في قوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) الآية من سورة البقرة. (٢)

ثمّ قال سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ، (٣) وهذه براءته من أبيه.

وقال سبحانه أيضا : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (٤)

فالآيات كما ترى تقضي أنّه ـ عليه‌السلام ـ وعد أباه الاستغفار تطميعا له ورجاء في إيمانه ، ثمّ استغفر له ولمّا ينقطع رجاءه منه ، حتّى إذا تبيّن أنّه عدوّ لله وانقطع رجاؤه منه تبرّأ منه وذهب إلى ربّه ، وهذا هو الذي ينبئ عنه إجمالا قوله سبحانه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

__________________

(١). الشعراء (٢٦) : ٧٥ ـ ٨٦.

(٢). البقرة (٢) : ١٥٦.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤). الصافّات (٣٧) : ٩٩ ـ ١٠١.

١٨٩

فقوله سبحانه : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ)

إشارة إلى انقطاع رجاءه منه ، فما لم ينقطع رجاؤه كان يحتمل اهتدائه ، فلم يتبيّن عداوته لله ، فإذا تبيّن تبرّأ منه وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، تعليل لاستغفاره ، وإنّه كان دعاء لله حليما كثير الاحتمال للأذى في جنب الله ، لا يبادر إلى الدعاء على أحد ولا يسرع على الإعراض كما يظهر ذلك في مجادلته الملائكة المبعوثين إلى عذاب قوم لوط ، قال سبحانه : (ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ، (١) وكما يظهر من دعائه : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٢)

وفي تفسير القمّي : إنّ إبراهيم قال لأبيه : إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك ، فلمّا لم يدع الأصنام تبرّأ منه. (٣)

أقول : قوله : (قالَ لِأَبِيهِ) ، (٤) ينبغي أن يحمل على حكاية الحال كما مرّ بيانه ، وما ورد في بعض الروايات أنّ أبا إبراهيم وعده الإسلام فاستغفر له ينبغي أن يحمل أيضا على حكاية الحال إن قيل ذلك ، وإلّا فالآيات تخالفه.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : الأوّاه : الدعاء. (٥) (٦)

__________________

(١). هود (١١) : ٧٤.

(٢). إبراهيم (١٤) : ٣٦.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٣٠٦.

(٤). الصافّات (٣٧) : ٨٥.

(٥). في المصدر : الكافي : «الأوّاه هو الدعّاء» وتفسير العيّاشي : «الأوّاه دعّاء».

(٦). الكافي ٢ : ٤٦٦ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١٤ ، الحديث : ١٤٧ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧٤.

١٩٠

قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)

هذه هي الهداية الظاهريّة التي ربّما تتحقّق في بعض النفوس كالوميض الافقي ، ثمّ تزول عن قريب ، فإنّ للهداية والضلالة مراتب.

فمنها : ما هو بحسب الظاهر هداية أو ضلالة ، ويلزمه أثره بحسب الغالب لا بحسب الدوام والبتّ ويصاحب هذه الهداية الامور المقارنة للخير غالبا ، كخيرات الأفعال وصالحات الأعمال من عبادات وأخلاق زكيّة ، ويصاحب هذه الضلالة ما يقابل ما يصاحب مقابلها كالشرور وطوالح الأعمال ورذائل الأخلاق.

وهاتان الهداية والضلالة ربما تتخلّفان فتتبدّل إحداهما بالاخرى.

قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، (١) وقال : «إنّ هذا القرآن يهدي إلى صراط مستقيم». (٢)

ومنها : ما هو بحسب الحقيقة هداية أو ضلالة ، ويلزمه أثره لزوما ضروريّا بتّيّا لا ينفكّ عنه البتّة ، والذي يصاحب إحداهما من الأعمال واللوازم لا يلزم أن يكون ما هو في الغالب خير أو صلاح ، أو ما هو بحسب الغالب شرّ أو فساد ، فربّما صادفنا رجلا متّقيا صالحا جيّد العبادة ونقيّ الزهادة ، آل آخر أمره إلى الشقاء ، وربّما وجد شقيّا فاسقا فاسدا لا يلوي في شرّه على شيء انقلب أمره إلى الحسنى.

فالرجل الأوّل سالك من أوّله مسلك الشقاء ، وإن كنّا بحسب ما يلوح لنا نحكم بكونه طريقا من طرق السعادة ، وكذا الرجل الثاني سعيد سالك مسلك السعادة وإن كان بحسب ما نشاهده ونحكم عليه مسلك الشقاء.

__________________

(١). الشورى (٤٢) : ٥٢.

(٢). اشارة إلى الآية : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، الاسراء (١٧) : ٩.

١٩١

قال سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ، (١) وقال سبحانه : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) ، (٢) وهذه المرتبة هي التي يترتّب ظهور حكمها في عاقبة الأمر قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّما الامور بخواتيمها. (٣)

ثمّ إنّ الآية كالتوطئة للآية التالية أعني قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ)، فإنّها في مقام الامتنان ، بعد ما كان من الجائز الممكن أن يضلّ اولئك الأشخاص بسوء أعمالهم ويزيغ قلوبهم فتاب الله عليهم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

تعليل لكونه هو يهدي ويضلّ ، فهو المالك المحييّ المميت ، يتصرّف في ملكه كيف يشاء ويحيي بالهداية من يشاء ويميت بالإضلال من يشاء.

قوله سبحانه : (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)

في الكافي والتوحيد وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. (٤)

قوله : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ)

في الجوامع : والعسرة حالهم في غزوة تبوك كان يتعقّب العشرة على بعير واحد ،

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٧٣.

(٢). النحل (١٦) : ٣٧.

(٣). بحار الأنوار ٩ : ٣٣٠.

(٤). الكافي ١ : ١٦٣ ، الحديث : ٣ و ٥ ؛ التوحيد : ١١٤ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١٥ ، الحديث : ١١٥.

١٩٢

وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة ، (١) وبلغت الشدّة بهم أن اقتسم الثمرة اثنان ، وربما مصّها الجماعة ليشربوا عليها الماء وكانوا في حمّارة القيظ وفي الضيقة الشديدة من القحط وقلّة الماء. (٢)

قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هم كعب بن مالك ، (٣) ومرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة. (٤)

وفي المجمع عن السجّاد والباقر والصادق ـ عليهم‌السلام ـ : أنّهم قرأوا : «وخالفوا». (٥)

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : لو كان خلّفوا لكانوا في حال طاعة. (٦)

قوله سبحانه : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ)

قيل : الظنّ هيهنا بمعنى اليقين وله نظائر في كلامهم ، وقد سبق في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) من سورة البقرة ، (٧) فيه وجه فارجع.

__________________

(١). المسوس : الطعام الذي أكله السوس ، وكذا المدوّد ما أكله السوس ، وهو دود يأكل الصوف الطعام ، والإهالة والودك : اسم اللحم ، والسنخة : السمن الفاسد ، وحمّارة القيظ ، بفتح الحاء وتشديد الميم : شدّة الحرّ [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). جوامع الجامع ٢ : ٩٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧٧.

(٣). في المصدر : ـ «بن مالك»

(٤). تفسير العيّاشي ٢ : ١١٥ ، الحديث : ١٥١.

(٥). مجمع البيان ٥ : ١١٨ ؛ جوامع الجامع ٢ : ٩١.

(٦). الكافي ٨ : ٣٧٧ ، الحديث : ٥٦٨ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٥٢ ، الحديث : ١٥٢.

(٧). البقرة (٢) : ٤٦.

١٩٣

قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)

قد مرّ معنى التوبة في سورة البقرة وأنّها من الله سبحانه قبول ومن العبد رجوع ، فتكرّر التوبة في الآية لكون الاولى توبة عامّة لهم ولغيرهم ، والثانية خاصّة بهم.

وفي تفسير القمّي في قصّة تبوك : وقد كان تخلّف عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين ، لم يعثر عليهم في نفاق ، منهم كعب بن مالك الشاعر ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة الواقفي ، فلمّا تاب الله عليهم ، قال كعب : ما كنت قطّ أقوى منّي في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله إلى تبوك ، وما اجتمعت لي راحلتان إلّا في ذلك اليوم ، فكنت أقول : أخرج غدا وأخرج بعد غد فإنّي مقوّى ، وتوانيت وبقيت بعد خروج النبيّ أيّاما أدخل السوق ولا أقضي حاجة.

فلقيت هلال بن اميّة ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلّفا أيضا ، فتوافقنا أن نبكّر إلى السوق ولم نقض حاجة ، فما زلنا نقول : نخرج غدا وبعد غد حتّى بلغنا إقبال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فندمنا.

فلمّا وافى رسول الله استقبلنا نهنّئه بالسلامة ، فسلّمنا عليه ، فلم يردّ علينا السلام ، فأعرض عنّا وسلّمنا على إخواننا فلم يردّد علينا السلام ، فبلغ ذلك أهلينا فقطعوا كلامنا ، وكنّا نحضر المسجد ، فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا.

فجاءت نساءنا إلى رسول الله فقلن : قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا تعتزلنّهم ولكن لا يقربوكنّ.

فلمّا رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم ، قال : ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول الله ولا إخواننا ولا أهلونا فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال

١٩٤

فيه حتّى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى ذباب (١) جبل بالمدينة ، فكانوا يصومون ، وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ، ثمّ يولّون عنهم فلا يكلّمونهم ، فبقوا على هذه الحالة أيّاما كثيرة ، يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم ، فلمّا طال عليهم الأمر ، قال لهم كعب : يا قوم ، قد سخط الله علينا ، ورسوله قد سخط علينا ، وإخواننا سخطوا علينا ، وأهلونا سخطوا علينا فلا يكلّمنا أحد ، فلم لا يسخط بعضنا على بعض ، فتفرّقوا في الليل وحلفوا أن لا يكلّم أحد منهم صاحبه حتّى يموت أو يتوب الله عليه.

فبقوا على هذه ثلاثة أيّام كلّ منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه ، فلمّا كان في الليلة الثالثة ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في بيت امّ سلمة نزلت توبتهم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. (٢)

أقول : فقوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) يعني مالكا ومرارة وهلالا.

(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ)

أي المدينة بسبب سخط رسول الله وإخوانهم وأهليهم عليهم.

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ)

حيث طال وقوفهم بالجبل ، فحلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضا.

__________________

(١). في المصدر : «ذناب» ، وهو اسم واد لبني مرّة ، والصحيح هنا : «ذباب» ، قال ياقوت : «ذباب» ، بكسر أوله وباءين : جبل بالمدينة له ذكر في المغاذي ، راجع : معجم البلدان ٣ : ٣ ، المغاذي ٣ : ٩٩٥ ، في قصة المتخلّفين المعذّرين.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٩٦ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٧٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٧١ ؛ الكشف والبيان ٥ : ١٠٥ ـ ١٠٨ ؛ السيرة النبوية ٥ : ٢١٣ ـ ٢٢٠ ؛ تفسير ابن كثير ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦٣ ؛ مجمع البيان ٥ : ١٢١.

١٩٥

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ)

لانقطاعهم من غيره سبحانه (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بإنزال الآية بقبول توبتهم (لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إلى ربّهم.

وعلى هذا يمكن أن يكون التوبة الاولى منه تعالى ما أوجبت خروجهم إلى الجبل وانقطاعهم إلى الله تعالى ، والتوبة الثانية ما أوجبت رجوعهم الأخير إلى الله بعد التضرّع والابتهال في أيّام كثيرة ، فتدبّر.

قوله سبحانه : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

الصدق : مطابقة الخبر للخارج المخبر عنه ، ثمّ توسّع فعدّ كلّ ما يحكي عن معنى صادقا إذا كان مطابقا لما يحكي عنه ، وهذا هو الصدق الخبري في مقابل الكذب الخبري وهو مطابقة الخبر لما في الخارج من غير دخل لاعتقاد المخبر في ذلك.

ثمّ أخذ الصدق الذي هو وصف الخبر وصفا للمخبر لكون الخبر قائما ، ثمّ أخذ اعتقاد المخبر فيه فكان صدق الإنسان أن يكون إخباره مطابقة لاعتقاده ، وكذبه كون إخباره غير مطابقة لاعتقاده ، فأوجب التوسّع في القول والفعل أن يكون الصدق أن يقول الإنسان ما يعتقده ، وأن يفعل ما يعتقده ولا يفعل ولا يقول ما لا يعتقده.

فأنتج ذلك كلّه الملازمة بين القول والفعل وجودا وعدما.

والمراد بالقول الاعتقاد ، فما يقول به يفعله ، وما يفعله يقول به ، وما لا يفعله لا يقول به ، وما لا يقول به لا يفعله ، فهذا ملاك الصدق.

فلو كان بالنسبة إلى بعض الامور كان الصدق بالنسبة إلى ذلك البعض ،

١٩٦

لو فرض على الإطلاق كان الصدق مطلقا ، فالأمر بالكون مع الصادقين أمر بملازمة صفة الصدق في جميع الموارد.

وفي تفسير القمّي مضمرا ، وفي الكافي عن الرضا قال ـ عليه‌السلام ـ : هم الأئمّة. (١)

أقول : والروايات في هذا المعنى مستفيضة ، (٢) والتدبّر في الآية يؤيّد ذلك ، فإنّ الصادقين مأخوذ مطلقا من غير تقييد ، فلا يكون المراد كلّ من يصدق عليه أنّه صادق بوجه ، ولو كان كاذبا بوجه آخر.

فإن قلت : ما المانع من كون المراد بالصادقين المهاجرون والأنصار ، كما فسّر ، أو السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار؟

قلت : عامّتهم أو معظمهم لا يتّصف بالصدق المطلق ، وفيهم من ابتلي بالفرار من الزحف والنفاق وامور اخر تنافي الصدق المطلق.

فإن قلت : لفظ الصادقين جمع محلّى باللام ، فيفيد العموم فينتج وجوب الكون مع كلّ من يصدق عليه الصادق سواء كان مطلقا أو بوجه.

قلت : إطلاق الصادق وعدم تقييده بوجه دون وجه يأبى عن عموم اللفظ لكلّ صادق كيف كان.

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٣٠٧ ؛ الكافي ١ : ٣٠٨ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٨١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٧٥.

(٢). روى الثعلبي في تفسيره بأسناده عن ابن عباس في تفسير قوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : مع علي بن أبي طالب وأصحابه [الكشف والبيان ٥ : ١٠٩] وانظر ايضا : نظم درر السمطين : ٩١ ؛ شواهد التنزيل ١ : ٣٤٢ ؛ فرائد السمطين ١ : ٣٧٠ ؛ روى الحسكاني بأسناده عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في علي بن أبي طالب خاصّة ، راجع : شواهد التنزيل ١ : ٣٤٢ ، الحديث : ٣٥١.

١٩٧

فإن قلت : قوله سبحانه في سورة الحشر (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، (١) يعرّف الصادقين ويعيّن أنّهم المهاجرون ، على أنّ الجملة مشتملة على الحصر.

قلت : المهاجرون أنفسهم ظهر منهم امور لا يساعد على كونهم الصادقين بنحو الاتّصاف مطلقا ، فقوله سبحانه : (هُمُ الصَّادِقُونَ)، أي الصادقين في هجرتهم ونصرتهم لا مطلقا ، ومنه يظهر أنّ قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) للتأكيد لا للحصر.

وبالجملة : إطلاق الصادقين يوجب أن يكون هؤلاء رجالا ليس معهم إلّا الصدق ، مع أنّ قوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، (٢) حيث لم يقل وأصدقوا مع الصادقين ، وما يشبه ذلك يدلّ على وجوب تبعيّة الصادقين ومصاحبتهم في جميع ما عندهم من القول والفعل ، كما يشهد به قوله تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ، (٣) وليس هذا شأن غير أهل البيت الذين شهد عليهم الكتاب والسنّة بالعصمة والطهارة والله الهادي. (٤)

وفي المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنّه قرأ من الصادقين. (٥)

__________________

(١). الحشر (٥٩) : ٨.

(٢). التوبة (٩) : ١١٩.

(٣). الأحزاب (٣٣) : ٢٣.

(٤). روي الثعلبي في تفسير الآية عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «مع آل محمد» ـ عليهم‌السلام ـ [الكشف والبيان ٥ : ١٠٩].

(٥). مجمع البيان ٥ : ١٢٢.

١٩٨

قوله : (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ)

الظمأ : العطش ، والنصب : التعب ، والمخمصة : المجاعة ، والوادي المسيل شاع استعماله في الأرض.

قوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)

إيجاب للتفقّه في الدين ، ومنه يظهر أنّ وجوبه كفائي ، وأنّ غاية التفقّه يجب أن يكون إنذار الناس وتبليغ الدين ، وأنّ الفقه مطلق المعارف الدينيّة اصولا وفروعا.

وفي العلل عن عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ قوما رووا أنّ رسول الله قال : اختلاف امّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)، فأمرهم الله أن ينفروا إلى رسول الله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا الاختلاف في الدين ، إنّما الدين واحد. (١)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ وقد سئل إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ فقال : أين قول الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)، قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم. (٢)

__________________

(١). علل الشرائع ١ : ٨٥ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٨٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٨٣ ، الحديث : ٦.

(٢). الكافي ١ : ٣٧٨ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٨٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٧٩.

١٩٩

أقول : والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : كان هذا حين كثر الناس ، فأمرهم الله سبحانه أن ينفر منهم طائفة ويقيم طائفة للتفقّه ، وأن يكون الغزو نوبا. (١)

قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ)

في التهذيب وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : الديلم. (٢)

وفي تفسير القمّي قال : قال : يجب على كلّ قوم أن يقاتلوا من يليهم ممّن يقرب من بلادهم من الكفّار ، ولا يجوزوا ذلك الموضع. (٣)

*

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ١٢٦.

(٢). تهذيب الأحكام ٦ : ١٧٤ ، الحديث : ٢٣ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١٨ ، الحديث : ١٦٣.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٣٠٧ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٨٤.

٢٠٠