تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

وعن تفسير الثعلبي عن الحسن والشعبي ومحمّد بن كعب : نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وعبّاس بن عبد المطّلب وطلحة بن شيبة ، وذلك أنّهم افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفاتحه ولو أشاء بتّ في المسجد ، وقال عبّاس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، وقال عليّ : لا أدري ما تقولان؟! صلّيت ستّة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ). (١)

أقول : وفي بعض الأخبار ذكر حمزة وعليّ وجعفر والعبّاس وشيبة ، (٢) والمتيقّن من الجميع وجود عليّ والعبّاس فيه.

قوله سبحانه : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)

وعيد بما يستعقبه إيثارهم ذلك من الأمر.

وقد مرّ في سورة المائدة كلام في معناه.

قوله سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ)

في المجمع عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ : إنّها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش يخبرهم بخبر النبيّ لمّا أراد فتح مكّة. (٣)

__________________

(١). تفسير الثعلبي ٣ : ١٧٠ ؛ الكشف والبيان ٥ : ٢٠ ؛ تفسير الطبري ١٠ : ١٢٤ ؛ زاد المسير ٣ : ٢٧٩ ؛ الدر المنثور ٣ : ٢١٩ ؛ تفسير القرطبي ٨ : ٩١.

(٢). الكافي ٨ : ٢٠٣ ، الحديث : ٢٤٥ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٨٣ ، الحديث : ٣٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤١٠ ، الحديث : ٣ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٨٦.

(٣). مجمع البيان ٥ : ٢٥.

١٠١

وعن ابن شهر آشوب عن أبي حمزة عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال :

الإيمان ولاية عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ. (١)

أقول : وهو من الجري والباطن.

*

__________________

(١). المناقب ٣ : ٩٤.

١٠٢

[لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)]

قوله سبحانه : (فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)

موطن الحرب : موقعه وموقفه.

وفي الكافي وتفسيري العيّاشي والقمّي عن الهادي ـ عليه‌السلام ـ في عدّة روايات : أنّها كانت ثمانين موطنا. (١)

__________________

(١). الكافي ٧ : ٤٦٣ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٨٤ ، الحديث : ٣٧ ؛ تفسير القمّي ١ : ٢٨٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٨٩.

١٠٣

قوله سبحانه : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)

وهو واد بين مكّة والطائف.

وفي تفسير القمّي : كانت سبب غزوة حنين أنّه لمّا خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى فتح مكّة أظهر أنّه يريد هوازن ، وبلغ الخبر هوازن فتهيّأوا وجمعوا الجموع والسلاح ، واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضري فرأّسوه عليهم ، وخرجوا وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ، ومرّوا حتّى نزلوا بأوطاس ...

قال : وبلغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ اجتماع هوازن بأوطاس ، فجمع القبائل ورغّبهم في الجهاد ووعدهم النصر ، وأنّ الله قد وعده بغنيمة أموالهم ونسائهم وذراريهم ، فرغّب الناس وخرجوا على راياتهم ، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وكلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها ، وخرج في اثني عشر ألف رجل ، عشرة آلاف ممّن كان معه.

وعن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : وكان معه من بني سليم ألف رجل ، رئيسهم عبّاس بن مرداس السلمي ، ومن مزنية ألف رجل.

قال : فمضوا حتّى كان من القوم مسيرة بعض ليلة قال : وقال مالك بن عوف لقومه : ليصيّر كلّ رجل منكم أهله وماله خلف ظهره ، واكسروا جفون سيوفكم واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي الشجر ، فإذا كان في غلس (١) الصبح فاحملوا حملة رجل واحد وهدّوا (٢) القوم ، فإنّ محمّدا لم يلق أحدا يحسن الحرب.

__________________

(١). الغلس : «الظلمة آخر الليل».

(٢). الهدّة : «صوت وقع الحائط ونحوه».

١٠٤

قال : فلمّا صلّى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الغداة انحدر في وادي حنين ـ وهو واد له انحدار بعيد ـ ، وكان بنو سليم على مقدّمته ، فخرج عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية ، فانهزمت بنو سليم وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلّا انهزم ، وبقي أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يقاتلهم في نفر قليل ، ومرّ المنهزمون برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يلوون (١) على شيء.

وكان العبّاس آخذا بلجام بغلة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن يمينه ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عن يساره ، فأقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ينادي يا معشر الأنصار إلى أين؟! أنا رسول الله ، فلم يلو أحد عليه ، وكانت نسيبة بنت كعب المازنيّة تحثو في وجوه المنهزمين التراب وتقول : إلى أين تفرّون عن الله وعن رسوله؟ ومرّ بها عمر فقالت : ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها : هذا أمر الله.

فلمّا رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الهزيمة ركض نحو عليّ بغلته وقد شهر سيفه فقال : يا عبّاس اصعد هذا المطرب (٢) (٣) وناد يا أصحاب البقرة ، ويا أصحاب الشجرة إلى أين تفرّون هذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ؟!

ثمّ رفع رسول الله يده فقال :

اللهمّ لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا

__________________

(١). لا يلوون : «اي لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره».

(٢). المطارب : الطرق المتفرّقة ، واحده المطرب ، [منه ـ رحمه‌الله].

(٣). في بعض نسخ المصدر : «المطرب» ، وفي نسخة المطبوعة : «الطرب» ، وهو اسم فرس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وفي بقية المصادر : «الظرب» ، وهو اسم بركة في طريق مكّة ، والظرب من الحجارة ما كان أصله ناتئا في جبل أو أرض حزنة ، راجع : معجم البلدان ٤ : ٥٩.

١٠٥

رسول الله! دعوت بما دعى به موسى ـ عليه‌السلام ـ حيث فلق الله له البحر ونجّاه من فرعون ،

ثمّ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لأبي سفيان بن الحارث : ناولني كفّا من حصى ، فناوله فرماه في وجوه المشركين ، ثمّ قال : شاهت الوجوه ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد ، فلمّا سمعت الأنصار نداء العبّاس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون : لبّيك ، ومرّوا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية.

فقال رسول الله للعبّاس : من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال : يا رسول الله هؤلاء الأنصار ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : الآن حمى الوطيس ، ونزل النصر من الله ، وانهزمت الهوازن وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجوّ ، وانهزموا في كلّ وجه ، وغنم الله رسوله أموالهم ونسائهم وذراريهم ، وهو قول الله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ). (١)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : قتل عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ يوم حنين أربعين. (٢)

قوله سبحانه : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)

في الجوامع لمّا التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلّة ، وقيل :

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٨٥ ؛ مجمع البيان ٥ : ٢٨ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٩٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤١٧ ؛ وقريب منه في تفسير الكشاف ٢ : ٢٥٩ ؛ تفسير الثعلبي ٥ : ٢٢ ؛ كتاب المغازي ٣ : ٨٨٥ ـ ٩٢٢.

(٢). الكافي ٨ : ٣٧٦ ، الحديث : ٥٦٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٢١ ، الحديث : ٥ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٩٢.

١٠٦

كان قائلها أبو بكر. (١)

أقول : وروي المعنى الأخير في بعض تفاسير العامّة ، (٢) ورواه العيّاشي في تفسيره عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ. (٣)

قوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)

السكينة هو الوقار ، غير أنّه سبحانه حيثما ذكر السكينة في كلامه ذكرها في موارد النصر وأضافها إلى نفسه وشفّعها في غالبها بجنوده المنزلة ، كقوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، (٤) وقوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) ، (٥) وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (٦)

ودلالة الآيات على نزولها في موقع النصر خاصّة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تستلزم الدلالة على أنّها موجود سماويّ طاهر إلهي ، وليست بروح الإيمان الآتي ذكره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإنّه ملازم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ دائما ، وللمؤمنين ما لم يهمّوا بكبيرة.

وقوله في الآية الأخيرة : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)، يدلّ على أنّها تفيد

__________________

(١). جوامع الجامع ٢ : ٥٥.

(٢). تفسير القرطبي ٨ : ١٠٠ ؛ جامع البيان للطبري ١٠ : ١٢٩ ؛ البداية والنهاية ٤ : ٣٦٩ ؛ شرح نهج البلاغة ، لإبن أبي الحديد ١٥ : ١٠٧.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ٨٤ ، الحديث : ٣٨.

(٤). البقرة (٢) : ٢٤٨.

(٥). التوبة (٩) : ٤٠.

(٦). الفتح (٤٨) : ٤.

١٠٧

للمؤمن مرتبة مع الإيمان لم يكن قبل نزولها بموجودة ، وليست إلّا ما يقاوم كيد الشيطان وحبّ النفس للبقاء الموجب لضعف النفس عن مقارعة الأبطال والثبات في جهاد الأعداء.

وبهذا تفارق السكينة أيضا روح الإيمان ، فإنّ الروح لا يثبت التقوى إثباتا ضروريّا بتّيّا ، بخلاف السكينة فإنّها تثبت الثبات وطمأنينة النفس البتّة.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : السكينة الإيمان. (١)

أقول : ورواه الصدوق في المعاني عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، (٢) وقد تبيّن معناه.

وفي الكافي أيضا عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : ريح تخرج من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، أطيب ريحا من المسك ، وهي التي أنزلها الله على رسوله بحنين فهزم المشركين. (٣)

أقول : وفي هذا المعنى عدّة روايات عنهم ـ عليهم‌السلام ـ ، وقد روي هذا المعنى من طرق العامّة عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، (٤) ولا شكّ أنّه تمثيل وتمثّل ، وتمثّل المعنيّ على الإنسان إنّما يكون بصورة يألفها مع المعنى في غالب موارده ، كتمثّل الدنيا بصورة الغانية الفتّانة أو العجوز الفانية ، وكتمثّل الأعمال الصالحة بصور حسنة ، والأعمال الطالحة بصور قبيحة.

فلعلّ الوجه في تمثّل السكينة والوقار الإلهي بصورة ريح الجنة ذات وجه كوجه الإنسان ، هو أنّ الإنسان الضعيف القلب الهيّن الركن إذا صادف الهزاهز

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٥ ، الحديث : ٣.

(٢). معاني الأخبار : ٢٨٤ ، الحديث : ١.

(٣). الكافي ٣ : ٤٧١ ، الحديث : ٥ ؛ ٤ : ٢٠٦ ، الحديث : ٥ ، نقلها العلّامة ـ رحمه‌الله ـ بالمعنى.

(٤). مجمع الزوائد ٦ : ٣٢١ ؛ المعجم الأوسط ٧ : ٨٩.

١٠٨

والشدائد ضاق صدره ، فنزول السكينة عليه يوجب انشراح صدره واتّساعه وتنفّس كربه ، كالنسيم اللطيف الفائح على من أجهده حرّ القيظ وتعب العمل.

والإنسان مع ذلك إذا كان ذا وقار وطمأنينة لم يلتفت في وجهته ، ولم يشاهد غير وجه نفسه لما معه من الكبرياء والعزّة النفسانيّة ، فإذا كان ذلك كرامة له من الله سبحانه ، فهو كريح من الجنّة لها صورة كصورة الإنسان فافهم ذلك.

قوله سبحانه : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : وهو القتل. (١)

أقول : والسياق يؤيّده.

قوله سبحانه : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ)

في تفسير الصافي روي أنّ ناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأسلموا وقالوا : يا رسول الله! أنت خير الناس وأبرّهم وقد سبي أهلونا وأولادنا واخذت أموالنا ، وقد سبي يومئذ ستّة آلاف نفس ، واخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : اختاروا إمّا سباياكم وإمّا أموالكم ، فقالوا : ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقال : إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين ، وإنّا خيّرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا [فنعطيه] (٢) مكانه ، فقالوا : رضينا وسلّمنا ،

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٨٨ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٢١ ، الحديث : ٤.

(٢). ما بين المعقوفتين في نسخة [منه ـ رحمه‌الله ـ] ؛ وفي نسخة المطبوعة : «فلنعطيه».

١٠٩

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّي لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى ، فمرّوا عرفائكم فليرفعوا إلينا ، فرفعوا إنّهم قد رضوا. (١)

قوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)

قرئ بفتحتين ، وهو مصدر ، فالجملة من باب : زيد عدل ، وقرئ بالكسر فالسكون ، وهو صفة مشبّهة كالنجس بالفتح فالكسر ، فالموصوف مقدّر والتقدير : جنس أو صنف نجس ، وأغلب ما يؤتى به في صورة الاتباع ، فيقال : رجس نجس ، والمراد بذلك قذارتهم الباطنيّة دون الظاهريّة ، وهو ظاهر.

قوله سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً)

قال في الصحاح : العيلة والعالة : الفاقة ، يقال : عال يعيل عيلة وعيولا ، إذا افتقر ، (٢) فهو غير الفقر ، بل تقبّل الفقر والاتّسام به.

قوله سبحانه : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ)

قيّده بالمشيّة لينقطع الآمال إليه سبحانه ، فالأمر بيده ، ولقد وفى سبحانه بوعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وأسلم أهل تبالة وجرش من اليمن فحملوا إلى مكّة الطعام وكلّ ما يعاش به ، ثمّ أغناهم الله بفتح البلاد والغنائم كما قيل.

*

__________________

(١). تفسير الصافي ٢ : ٣٩٣ ؛ أنوار التنزيل ١ : ٤١١.

(٢). الصحاح للجوهري مادّة : «ع ى ل».

١١٠

[قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)]

قوله سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

عرف أهل الكتاب في وجوب قتالهم بكونهم (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) وغيّاه بقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، فتردّد أمرهم بين ثلاث : إمّا الإيمان وإمّا القتل وإمّا الجزية.

وفي التهذيب عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : بعث الله محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بخمسة أسياف إلى أن قال : والسيف الثاني : على أهل الذمّة ، قال الله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) نزلت هذه الآية في أهل الذمّة ، ثمّ نسخها قوله

١١١

سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فمن كان منهم في دار الإسلام فلم يقبل منهم (١) إلّا الجزية أو القتل ، ومالهم فيء وذراريهم سبي ، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم (٢) حرم علينا (٣) سبيهم وحرمت (٤) أموالهم وحلّت لنا مناكحتهم ، ومن كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم وأموالهم ولم تحلّ لنا مناكحتهم ولم تقبل منهم إلّا الدخول في دار الإسلام (٥) أو الجزية أو القتل. (٦)

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة متكثّرة الفروع ، تطلب من كتاب الجهاد.

والمراد بأهل الكتاب : من لهم كتاب سماويّ ، وقد فسّروا في السنّة باليهود والنصارى والمجوس ، وعليه كان عمل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في سيرته ، فأخذ من اليهود ومن النصارى ومن مجوس هجر (٧) الجزية على ما يثبته التاريخ والرواية.

قوله : (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)

تكرار لا النفي للتأكيد ، فإنّهم كانوا يدّعون جميع ذلك من الإيمان بالله واليوم الآخر وتحريم ما حرّم الله ، فمسّت حاجة الكلام إلى نفي كلّ واحد بنفي مستقلّ.

__________________

(١). في المصدر : ـ «منهم»

(٢). في المصدر : ـ «على أنفسهم»

(٣). في المصدر : «لنا»

(٤). في المصدر : ـ «حرمت»

(٥). في المصدر : ـ «الدخول في دار الإسلام»

(٦). تهذيب الاحكام ٤ : ١١٤ ، الحديث : ١.

(٧). عدّ ياقوت عدّة من المدن باسم «هجر» ثمّ قال : والهجر بالألف واللام موضع آخر وقد فتحت في أيام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ راجع : معجم البلدان ٥ : ٣٩٣.

١١٢

قوله سبحانه : (وَرَسُولُهُ)

ورود هذه الكلمة لكون المقصود من عبادة الله هو أن يعبد من حيث يريده الله تعالى ، لا من حيث يريده العابد على ما عرفت من معنى العبادة في تفسير سورة الفاتحة ، فلا بدّ في عبادته أن يعبد على ما يشرّعه بلسان رسوله ، فتكذيبهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أوجب أن يكون تحريمهم ما حرّم الله تعالى غير مقبول ولا مرضيّ عنده سبحانه ، ولذلك نفى سبحانه جميع الاصول والفروع عنهم من الإيمان بالله واليوم الآخر وتحريم ما حرّم الله والأخذ بدين الحقّ.

قوله سبحانه : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ)

بناء نوع من جزى دينه إذا قضاه ، فالجزية دين عليهم يجب أن يقضوه.

وقوله سبحانه : (عَنْ يَدٍ)

أي عن يد متواتية غير ممتنعة ولا مستنكفة ، فهو من قبيل الكناية يراد بها كمال الإطاعة.

وقوله سبحانه : (وَهُمْ صاغِرُونَ)

من صغر بمعنى ذلّ ، وهو أيضا من قبيل الكناية.

قوله سبحانه : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)

وهو قول بعض اليهود.

وفي الإحتجاج عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّه طالبهم فيه بالحجّة ، فقالوا بأنّه ـ عليه‌السلام ـ أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهب ، ولم يفعل بها

١١٣

هذا إلّا لأنّه ابنه ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : كيف صار عزيز ابن الله دون موسى وهو الذي جاءهم بالتوراة ورأوا منه من المعجزات ما قد علمتم ، فإن كان عزيز ابن الله ، لما ظهر من إكرامه من إحياء التوراة فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ وأولى ، (١) الحديث.

أقول : وظاهره أنّ مرادهم بالبنوّة بنوّة التشريف دون التوليد.

قوله : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)

وهو قول بعضهم أيضا أرادوا به التشريف.

وفي الإحتجاج أيضا عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّه طالبهم بالحجّة ، فقالوا : إنّ الله لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ، ما ظهر ، فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ، ثمّ أعاد ذلك كلّه فسكتوا ، الحديث. (٢)

قوله سبحانه : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)

إن كانت الباء للظرفيّة كان المعنى أنّ القول تعلّق بأفواههم ، فلم ينزل قلوبهم ، وإن كانت للسببيّة فالمعنى أنّ قلوبهم غير شاعرة لمعناه ولا قاصدة ، وعلى كلا الوجهين هو كناية عن عدم إذعانهم أنفسهم بما يدّعونه ، فإنّهم إن أرادوا بنوّة الولادة فقد جعلوا لله سبحانه جسما محكوما بنظام المادّة ، وهم يعلمون أنّه منزّه

__________________

(١). الإحتجاج للطبرسي ١ : ٢٣ ؛ تهذيب الاحكام ٤ : ١١٤ ، الحديث : ١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٢٩ ، الحديث : ١.

(٢). الاحتجاج ١ : ٢٤.

١١٤

من ذلك ، وإن أرادوا بنوّة التشريف فقد عظّموا أمرهما بزعمهم ، لكن استصغروا أمر الله سبحانه ، وفرّطوا في جنبه وهم يعلمون.

قوله سبحانه : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

المضاهاة : المشابهة ، وكأنّ تقدير الكلام يضاهون قولا (قَوْلَ الَّذِينَ ...) ، فحذف التمييز للدلالة عليه في الكلام ، و (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو قولهم : الملائكة بنات الله.

قوله سبحانه : (قاتَلَهُمُ اللهُ)

دعاء عليهم ، كقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ، (١) وكأنّ المراد به القتل بعد القتل.

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في حديث : أي لعنهم الله ، (٢) فسمّى اللعنة قتلا. (٣) (٤)

وفي المجالس وتفسير العيّاشي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا : عزير ابن الله ، واشتدّ غضب الله على النصارى حين قالوا : المسيح ابن الله ، واشتدّ غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي. (٥)

__________________

(١). عبس (٨٠) : ١٧.

(٢). في المصدر : + «أنّى تؤفكون»

(٣). في المصدر : «قتالا»

(٤). الاحتجاج ١ : ٢٥٠.

(٥). في الأمالي للصدوق : ١٥٩ ، الحديث : ١ ـ «واشتدّ غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي» ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٨٦ ، الحديث : ٤٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٣٨ ، الحديث : ٣.

١١٥

قوله سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أما والله (١) ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم (٢) من حيث لا يشعرون. (٣)

أقول : وفي هذا المعنى أخبار كثيرة يشتمل على أنّ من أطاع أحدا في دعوته فقد عبده ، فإن دعى الداعي إلى الله فقد عبده ، وإن دعى إلى غيره فأطاعه فقد عبد ما يدعوه إليه ، وقد سمّى الله سبحانه الإطاعة عبادة في مواضع من كلامه ، قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، (٤) وقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ، (٥) وقال : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ). (٦)

قوله سبحانه : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)

فرق بين عبادتهم المسيح وبين عبادتهم الأحبار ، لكون الاولى عبادة صريحة والثانية عبادة طاعة.

*

__________________

(١). في المصدر : ـ «أما والله» ؛ وفي الكافي ١ : ٥٣ : «أما والله ما دعوهم».

(٢). في المصدر : «فكانوا يعبدونهم» ؛ وفي الكافي ١ : ٥٣ : «فعبدوهم».

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ٨٧ ، الحديث : ٤٨.

(٤). يس (٣٦) : ٦٠ ـ ٦١.

(٥). مريم (١٩) : ٤٤.

(٦). سبأ (٣٤) : ٤١.

١١٦

[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)]

قوله سبحانه : (نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ)

لمّا ذكر أنّ ما قالوا : قول (بِأَفْواهِهِمْ) استتبع ذلك أنّهم يريدون أن يتبع نور الله أفواههم فينطفئ نور الله بها ، فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ) ، ومعناه لا يريد الله إلّا أن يتمّ نوره ، والعدول إلى (يَأْبَى) ليقابل به قوله : (يُرِيدُونَ)

١١٧

قوله سبحانه : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)

في الإكمال عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم ، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه ، الحديث. (١)

قوله سبحانه : (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)

ولعلّ وجه تخصيص هذه الأعضاء بالذكر أنّهم لإخلادهم إلى عرض الدنيا ، خاضعون للذهب والفضّة ومعتمدون متّكئون عليها ، والخضوع بالسجود بالجبهة والاعتماد والاتّكاء بالجنب والظهر ، وقيل في ذلك وجوه اخر.

وقوله تعالى : (يُحْمى عَلَيْها)

أي يوقد عليها محمّاة مسخنة.

وقوله : (فَتُكْوى)

من الكيّ ، وهو معروف.

قوله سبحانه : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا)

هذا التقريع والتوجيه بأنّه الكنز الذي اختصصتم به أنفسكم كقوله في الآية

__________________

(١). إكمال الدين ٢ : ٦٧٠ ، الحديث : ٥٨ ؛ تفسير الفرات : ١٨٤ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٨٧ ؛ اثبات الهداة ٣ : ٥٥٠ ، الحديث : ٥٦١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٤١ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٠١ ؛ ينابيع المودة ٣ : ٢٣٩ الحديث : ١٤ ؛ منتخب الاثر : ٢٩٤.

١١٨

السابقة : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ)، يدلّ على أنّ هذا التشديد والعذاب ، إنّما هو لكون الكنز قطعا لسبيل الله وإبطالا لمصلحة التمليك ، فيدور أمره في الشدّة مدار السبيل في أهمّيّته كالزكاة والإنفاق مع حاجة المسلمين والصالحين من عباد الله مع فاقتهم الشديدة بسنة أو جدب أو غير ذلك.

ومن هنا يظهر أنّ مقدار الكنز وكذا صدق الكنز بحسب الأحوال والأزمان يختلف اختلافا شديدا ، فربما كانت الألف كنزا وربما لم تكن ، وربما كان مع حاجة أوسط الناس كنزا ، وربما لم يكن لعدم حاجتهم ، وإلى هذا ربما يرجع معاني الأخبار الواردة :

ففي المجمع عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّ ، وما دونها فهي (١) نفقة. (٢)

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال ـ عليه‌السلام ـ : إنّما عنى بها ما جاوز ألفي درهم. (٣)

أقول : ولعلّ الاختلاف بين الروايتين راجع إلى اختلاف الأحوال.

وفي الخصال عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم. (٤)

وفي المجمع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لمّا نزلت هذه الآية ، قال : تبّا للذهب والفضّة (٥) يكرّرها ثلاثا فشقّ ذلك على أصحابه ، فسأله عمر : (٦) أيّ المال

__________________

(١). في المصدر : «فهو»

(٢). مجمع البيان ٥ : ٤٠ ؛ الكشف والبيان ٥ : ٣٧.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ٨٧ ، الحديث : ٥٣.

(٤). الخصال ١ : ٤٣ ، الحديث : ٢٧.

(٥). في المصدر : «تبّا للذهب تبّا للفضّة»

(٦). في المصدر : + «فقال يا رسول الله»

١١٩

نتّخذ؟ فقال : (١) لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه. (٢)

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : كان أبو ذر الغفاري يغدو كلّ يوم وهو بالشام فينادي بأعلى صوته : بشّر أهل الكنوز بكيّ في الجباه ، وكيّ بالجنوب ، وكيّ بالظهور (٣) أبدا حتّى يتردّد الحرّ في أجوافهم. (٤)

وفي الأمالي وغيره عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : كلّ مال تؤدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكلّ مال لا تؤدّى زكاته فهو كنز ، وإن كان فوق الأرض. (٥)

وفي التهذيب عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : ما أعطى الله عبدا ثلاثين ألفا وهو يريد به خيرا. (٦)

وعنه ـ عليه‌السلام ـ : ما جمع رجل قطّ عشرة آلاف درهم من حلّ وقد يجمعها لأقوام إذا اعطي القوت ورزق العمل فقد جمع الله له الدنيا والآخرة. (٧)

وفي تفسير القمّي أيضا في حديث قال : نظر عثمان بن عفّان إلى كعب الأحبار فقال له : يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال : لا ، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من

__________________

(١). في المصدر : «فقال»

(٢). مجمع البيان ٥ : ٤٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٠٥ ؛ مسند احمد ٥ : ٣٦٦ ؛ الكشف والبيان ٥ : ٣٨.

(٣). في المصدر : «بكيّ في الجباه كيّ في الجنوب وكيّ في الظهور»

(٤). تفسير القمّي ١ : ٢٨٩ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٠٥.

(٥). الامالي ، الطوسي : ٥١٨ ، الحديث : ١٨ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٤٣ ، الحديث : ٢ ؛ الكشف والبيان ٥ : ٣٧.

(٦). تهذيب الأحكام ٦ : ٣٢٨ ، الحديث : ٢٨.

(٧). نفس المصدر ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٠٦.

١٢٠