تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١) ، ثمّ بقوله في آخر قصص الأنبياء (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) ، إلى غير ذلك.

وعلى هذا فما ذكره من قصص الأنبياء ، إنّما ذكره لأن يستشهد به على ثبوت العذاب والهلاك القطعي لكلّ قوم وإنجاء المؤمنين منهم ، وإنّ ذلك من جهة أنّ الكلمة حقّت عليهم أنّ الفاسقين لا يفلحون ، ولذلك لخصّ قصص الأنبياء المذكورين في هذه السورة ، وأورد منها ما يدلّ على امتناعهم من الإيمان ونزول العذاب بهم ، وعاقب الجميع بإستثناء قوم يونس ـ عليه‌السلام ـ.

فيتحصّل من جميع هذه البيانات والقصص المبنيّة والشواهد المذكورة معها ما هو كالنخبة والفهرس لحياة بني آدم في الدنيا وتقلّبهم في أديم الأرض ، وهو أنّ الاجتماع الإنساني إنّما يحيي الحياة الناجية الآمنة بالإيمان والعمل الصالح ، حتّى تنشأ فيهم طبقة عاتية طاغية ، ولا تزال هذه الطبقة تعيش قاصدة إلى أجلها المضروب لها ، حتّى إذا بلغته أخذها العذاب الإلهي ، فميزها عن المؤمنين فأهلكها ، ونجّى الله الذين آمنوا بإيمانهم ، ومحى المشركين ببغيهم. ثمّ لا يزال المؤمنون على طيب الحياة ، حتّى يعود بهم الحال إلى ما كانوا عليه من الشرك والبغي ، فتعود العادة الالهية إلى ما كانت عليه من أخذ المشركين وترك المؤمنين ، وإذا كان الحال هذا فالدنيا محفوظة بإيمان المؤمنين ، والبقاء النوعي مرهون الاخلاص لله سبحانه لما يشاهد في الدنيا بحسب سير حياتها أنّ أهل الإيمان والصلاح باقون ببقائها ، وأنّه كلّما نشأت طائفة معتدية باغية سار بهم بغيهم إلى البوار ، وانتهى طغيانهم إلى الهلاك والفناء.

__________________

(١). يونس (١٠) : ٥٣.

(٢). يونس (١٠) : ٩٦.

٢٦١

فالنظام الإنساني ـ بحسب حياته ـ في هذه الحياة الدنيا مدبّرة متحوّلة تحت تدبير أربع كلمات من كلمات الله سبحانه ، ذكرها في هذه السورة :

الأولى : ما يعنيه بقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (١) ، وهو قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢).

والثانية : قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) ويرتبط به قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٥).

والثالثة : قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦) إلى أن قال تعالى : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧).

والرابعة : قوله تعالى : (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨) ، وهذه الكلمات الأربع إذا انضمّت واجتمعت لم تنتج إلّا ما سمعت.

قوله سبحانه : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي)

__________________

(١). يونس (١٠) : ١٩.

(٢). يونس (١٠) : ٤٩.

(٣). يونس (١٠) : ٣٣.

(٤). يونس (١٠) : ٩٦.

(٥). يونس (١٠) : ١٠٠.

(٦). يونس (١٠) : ٤٧.

(٧). يونس (١٠) : ٥٥.

(٨). يونس (١٠) : ١٠٣.

٢٦٢

هذا تحدّ منه ـ عليه‌السلام ـ بالتوكّل ومفاده أنّ الذي يسمّى ربّا إلها يجب أن ينصر من اعتصم به لأنّ الأمر بيده ، فاعتصموا بأربابكم وشركائكم وضمّوا إليه ما عندكم من قوّة ، وأنا أعتصم بالله تعالى بتوكّلي واستعاذتي به من شرّكم ، فإن لم تقدروا على ما يسؤني فاعلموا أنّ الله هو ربّي وربّكم ، وأنّ ما تدعون من دونه الباطل ، ومن الممكن أن يكون هذا هو المراد من قوله ـ سبحانه ـ حكاية عن نوح في سورة هود : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) (١).

قوله : (أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)

يقال أمر غمة : أي مبهم ملتبس.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً)

المراد بهم الرسل الذين كانوا بين نوح وموسى ، سواء كانوا ممّن أهلك قومهم بعذاب فاصل من عند الله تعالى كهود وصالح ولوط وشعيب ، أو لم يهلك قومهم بعذاب فاصل كإدريس وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط ، فهؤلاء لم يهلك أقوامهم الذين بعثهم الله إليهم ، أو لم يخبرنا في كتابه بذلك ، فالجميع مقصودون في هذه الآية ، والشاهد أنّه قصّر بقوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ، فذكر تماديهم في الكفر واعتدائهم ، ولم يذكر ما صنع بهم من عذاب أو غيره.

ومن هاهنا يظهر أنّ معنى قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢) ، أنّ مجيء الرسول إلى الأمّة هو

__________________

(١). هود (١١) : ٢٨.

(٢). يونس (١٠) : ٤٧.

٢٦٣

الموجب للقضاء بينهم ، وأمّا أنّ هذا المسمّى هل هو واحد أو كثير ، فالكلام غير متعرّض به ، بل ربّما يظهر من كلامه تعالى أنّه في بعض الأمم رسول واحد كمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. قال تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (١) ، حيث تدلّ على ختم باب الرسالة بعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثمّ قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) (٢) ، فأوعد بالعذاب ، وفي بعضها رسل كثيرون ينزل العذاب ويتم القضاء بالأخير من الرسل ، كعاد وثمود ، قال تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ* إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) (٣) ، وقال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) ـ إلى أن قال تعالى ـ : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٤).

فتبيّن من جميع ما مرّ أنّ لكلّ أمّة أجلا ورسولا ومجيء الرسول يوجب تميّز الفاسد من أجزائها ، وهم الذين حقّ عليهم القول أنّهم لا يؤمنون ، ويؤدّي ذلك إلى إفناء الله إيّاهم واستخلاف المؤمنين مكانهم.

*

__________________

(١). الأحزاب (٣٣) : ٤٠.

(٢). يونس (١٠) : ٤٧.

(٣). فصّلت (٤١) : ١٣ ـ ١٤.

(٤). يس (٣٦) : ١٣ ـ ٢٩.

٢٦٤

[ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً

٢٦٥

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)]

قوله سبحانه : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ)

مقول القول محذوف ، أي إنّه لسحر ويدلّ عليه قوله : (أَسِحْرٌ هذا)، وهو قول لموسى فإنّهم إنّما قالوا : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) فبتّوا القول.

قوله سبحانه : (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)

قال ـ عليه‌السلام ـ : في مقام التعجب والتسجيل ، يعني إنّي ما آتيتكم إلّا الحقّ والذي لا يأتيه الباطل فكيف أكون ساحرا : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (١) ،

__________________

(١). طه (٢٠) : ٦٩.

٢٦٦

(إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ).

قوله سبحانه : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)

قيل الضمير في (وَمَلَائِهِمْ) إلى قوم آل فرعون سبق ذكرهم.

والملأ ، وملاء القوم : أشرافهم ، وقيل الضمير إلى الذّريّة ، وملائهم أشراف بني إسرائيل وهو الأنسب ، والفتنة : الإبتلاء والعذاب.

قوله سبحانه : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً)

في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ قوم موسى استعبدهم آل فرعون وقالوا : لو كان لهؤلاء على الله كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم ، فقال موسى : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) إلى آخرها (١).

وفي المجمع وتفسير العيّاشي ، عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا (٢).

أقول : مآل الروايتين واحد ، والمعنى أنّهم لو سلّطوا علينا لا متحنوا بنا وهم ظالمون ، فلا تجعلنا محنة لهم ، يمتحنون بظلمنا ، وتصديق الروايتين قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٣).

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٣٤٣.

(٢). مجمع البيان ٥ : ٢١٧ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٧ ، الحديث : ٣٨ ؛ بحار الأنوار ٥ : ٢١٦ ، الحديث : ٢.

(٣). الأعراف (٧) : ١٢٧.

٢٦٧

قوله سبحانه : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)

القبلة ما تستقلبه ، والمراد المصلّى ، ويدلّ عليه قوله تعالى بعده : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

في تفسير القمّي عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : لمّا خافت بنو إسرائيل جبابرتها أوحى الله إلى موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال : أمروا أن يصلّوا في بيوتهم (١).

قوله سبحانه : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ)

هذه شهادة منه ـ عليه‌السلام ـ في صورة الدعاء ، كقوله تعالى فيما حكى عن نوح ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢) ، فإنّه ـ سبحانه ـ يخبر في كلامه أنّ هاهنا شهداء يشهدون حقائق الأعمال وشهادتهم دعاء من وجه.

قوله سبحانه : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما)

في الكافي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : دعا موسى ـ عليه‌السلام ـ وأمّن هارون ـ عليه‌السلام ـ ، وأمّنت الملائكة فقال الله [تبارك وتعالى] : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما)، ومن غزا في سبيل الله أستجيب له كما أستجيب لكما يوم القيامة (٣).

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٣١٤

(٢). نوح : (٧١) : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣). الكافي ٢ : ٥١٠ ، الحديث : ٨ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤١٥.

٢٦٨

أقول : يؤيّده أنّه تعالى ذكر الدعاء لموسى والإستجابة لهما معا ، ومن أمّن في دعاء كان كمن دعا به ، وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوم القيامة قيد لقوله : «استجيب له» أي استجيب له يوم القيامة كما استجيب لكما ، وهذا من شواهد ما ذكرناه آنفا أنّ دعاءه كان شهادة ، فإنّ المجاهدين في الله من المؤمنين سيلحقون يوم القيامة بالشهداء ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (١).

وليس من البعيد أن يستفاد معنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن غزا إلى آخره ، من قوله تعالى : عقيب هذه الجملة : (فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ)، أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والمجاهدة.

وفي الكافي وتفسيري المجمع والعيّاشي عن الصّادق ـ عليه‌السلام ـ كان بين قوله الله : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أخذ (٢) فرعون أربعون (٣) سنة (٤) (٥).

أقول : ويؤيده أنّ ظاهر هذه الآيات أنّها قصصه ـ عليه‌السلام ـ في أوّل الدعوة منه.

قوله سبحانه : (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ)

أراد بقوله : (آمَنْتُ أَنَّهُ)، أن يتساوى حاله مع بني إسرائيل فيخلص كما خلصوا

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٢). في تفسير العياشي : «أن أخذ»

(٣). في المصدرين : «أربعين»

(٤). في الكافي : «عاما»

(٥). الكافي ٢ : ٤٨٩ ، الحديث : ٥ ؛ مجمع البيان ٥ : ٢٢١ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٧ ، الحديث : ٤٠ ؛ الاختصاص : ٢٦٦.

٢٦٩

من الغرق ، ولذلك عقّبه بقوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

يريد التسليم والإنقياد لما كان يدعوه إليه موسى من إطلاق بني إسرائيل ورفع اليد عن رقابهم ، فمحصّل مراده التسليم لدعوة موسى والرجوع عن التمادي في الإستكبار والإستعلاء ، والإيمان على حد إيمان بني إسرائيل ، ليجري مجرى الواحد منهم ، ولذلك قال : (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ)، ولم يقل إلّا الله.

ومن هاهنا يظهر أنّ هذا القول لم يكن منه توبة إلى الله سبحانه بالحقيقة من وجهين :

أحدهما : إنّه قال ما قال عند إدراك الغرق ورؤية البأس ، ولا توبة حينئذ ، لأنّه ليس رجوعا إلى الله ـ سبحانه ـ بحسن اختياره ، بل إرجاع أرجعه إليه البأس ، ودفعه إليه الخوف وهول ما شاهده ، وأين الإرجاع من الرجوع؟

والثاني : إنّ كلامه يعطي أنّه أراد به المساواة مع بني إسرائيل والورود في صفّهم للنجاة ، ولم يرد به الإيمان بالله أهلكه أو أنجاه ، فهو تمايل منه ورجوع إلى موسى دون الله ـ سبحانه ـ ، وهو ـ سبحانه ـ وإن سمّى نفسه قابل التوب ، ولم يقيدّه بشيء غير شمول هذا الإسم يحتاج :

أوّلا : إلى وجود التوبة.

وثانيا : إلى كون التوبة إليه تعالى لا إلى غيره ، وشيء من الأمرين لم يتحقق في المورد.

وفي العيون ، عن إبراهيم بن محمد الهمداني ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : لأيّ علّة أغرق الله [عزوجل] فرعون وقد آمن به وأقرّ بتوحيده؟ قال : «لأنّه آمن عند رؤية البأس ، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول ، وذلك حكم الله تعالى في السلف والخلف ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا

٢٧٠

بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (١). وقال عزوجل : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٢) وهكذا فرعون لمّا (أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ ... بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبسه على بدنه ، فلما غرق ألقاه الله على نجوة من الأرض ببدنه ، ليكون لمن بعده علامة ، فيرونه مع تثقّله بالحديد على مرتفع من الأرض ، وسبيل الثقيل أن يرسب ولا يرتفع ، فكان ذلك آية وعلامة ، ولعلّة اخرى أغرق الله فرعون وهو أنّه : استغاث بموسى لمّا أدركه الغرق ولم يستغث بالله ، فأوحى الله تعالى إليه ، يا موسى لم تغث فرعون ، لأنّك لم تخلقه ، ولو استغاث بي لأغثته» (٣).

أقول : وكأنّ العلّتان المذكورتان في الرواية مستفادتان من الجهتين اللتين ذكرناهما.

وفي القصة روايات أخر لا يتجاوز حدود ما قصّته الآيات الّا في بعض الجزئيّات غير المهمّة وسننقل بعضها إن شاء الله العزيز.

وفي بعض الروايات أنّ جبرئيل لم يزل مهموما منذ قال : لفرعون : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ)، وقد كان قاله من غير أنّه مردد له بذلك حتّى إذا نزلت الآية اطمئنّت نفسه وسرّ بذلك ، فالرواية مخالفة للكتاب على الظاهر (٤).

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢). الأنعام (٦) : ١٥٨.

(٣). عيون أخبار الرضا (ع) ٢ : ٧٧ ـ ٧٨ ، الحديث : ٧.

(٤). أنظر مجمع البيان ٥ : ٢٢٣.

٢٧١

وفي تفسير العيّاشي مرفوعا قال : «لمّا صار موسى في البحر أتبعه فرعون وجنوده ، قال : فتهيّب (١) فرس فرعون أن يدخل البحر ، فتمثّل له جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ على رمكة (٢) فلمّا رأى الفرس (٣) الرّمكة أتبعها ، فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا» (٤).

أقول : وروى هذا المعنى المفيد في الاختصاص عن الرّضا ـ عليه‌السلام ـ (٥).

*

__________________

(١). في الأصل : «فبهت»

(٢). الرمكة : الفرس التي تتخذ للنسل ، انظر لسان العرب ١٠ : ٤٣٤ مادة رمك.

(٣). في المصدر : «فرس فرعون»

(٤). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٧ ، الحديث : ٤١ ؛ بحار الأنوار ١٣ : ١٤٠ ، الحديث : ٥٦ ؛ قريب منه في تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٢٣.

(٥). الاختصاص : ٢٦٦.

٢٧٢

[فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)]

٢٧٣

قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ)

الخطاب للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم يكن شاكا في أمر الوحي ، وإنّما هو أخذ بالنصفة وتأكيدا لصحة الحكاية ، وهو شايع في اللّسان ، وبهذا المضمون وردت روايات ، وفي المعاني عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ في الآية قال : قال : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا أشكّ (١) (٢).

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ)

بمنزلة النتيجة لقصّة فرعون أوّلها ولما قبلها ، وهو مع ذلك عود بعد عود لإثبات صدق الكلمة.

قوله سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ).

لو لا للتحضيض دخلت على قوله : (كانَتْ)، وخبر كان أيضا فعل ماض فأفادت مثل معنى العتبى ، وحاصله : ألم يوجد من بين هذه القرى على كثرتها قرية تؤمن إيمانا ينفعها ، بل لم تؤمن ولا واحدة منها ، لأنّ الكلمة الإلهية حقت عليهم ، وقوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)، كأنّه استثناء عن مؤدّى التحضيض لاشتماله على معنى النفي كما عرفت.

قوله سبحانه : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا)

__________________

(١). في علل الشرائع : + «لا أسأل»

(٢). لم نعثر عليه في معاني الأخبار ولكن ذكره في علل الشرائع : ١٣٠ ، باب ١٠٧ ، الحديث : ٢.

٢٧٤

وقوع الاستثناء بعد جملة : (آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها)، يدلّ على أنّ قوم يونس آمنوا إيمانا نافعا ، فقد كان إيمانهم قبل نزول العذاب ورؤية البأس ، ولو لم يكن كذلك لم يكن ينفعهم ، كما لم ينفع غيرهم بعد رؤية البأس كما تدلّ عليه الروايات أنّ القوم ندموا على بعد غيبة يونس على ما فعلوا ، واجتمعوا للتوبة والالتجاء حينما رأوا مقدمات العذاب ، فقبلت منهم وأعطوا الأمان ، وستأتي قصّتهم في سورتي الأنبياء والصّافات.

قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ)

كأنّه لدفع الدخل ، فإنّما مرّ من البيان كان يعطي أنّ هؤلاء لم يؤمنوا فصدق قوله ـ سبحانه ـ أنّهم لا يؤمنون ، فربّما سبق أنّ ذلك كان منه ـ سبحانه ـ على سبيل العلم السابق ، مع استقلالهم فيما أرادوا من الشرك على سبيل ما نتغرس الحوادث قبل وقوعها ، من غير أن نملك زمام الأمر فيها ، فدفع الدخل بأن ذلك لم يكن لكونهم معجزين في الأرض ، بل إيمان المؤمن يتوقّف ولا يحصل إلّا بإذن إلهي ، فلو شاء الله لآمن من في الأرض ، وإذا لم يشأ الله ذلك منهم فلا تطمع في هديهم ، وتسلّ بما قدّره الله.

قوله سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

الإذن كما مرّ بيانه مرارا هو رفع المانع ، وإذا كان شيء من الأشياء لا يملك من نفسه وأفعاله شيئا فلا يترتّب فعل على فاعل ، ولا أثر على مؤثر ، وهذا مانع إلهي في جميع موارد ما يحكم به العقل ، أو يدركه الإدراك أنّ سببا ما يفعل فعلا ما فإذا ترتب أثر على مؤثّره ، أو فعل على فاعله فقد أذن الله ـ سبحانه ـ في أمره

٢٧٥

وشاء أن يكون ، وقد رفع بذلك المانع العامّ عن المورد ، وبقي الباقي تحت المنع الإلهيّ العام ، وحينئذ فكلّ إيمان فإنّما هو بإذن من الله ـ سبحانه ـ يرفع به المانع عن إيمان المؤمن ، وأمّا المشرك فقد بقي تحت حكومة المنع الإلهيّ.

ومن الآية يتبيّن أنّ الشرك أمر عدمي لا يتوقّف على إرادة من الله ـ سبحانه ـ ، وإنّما يتوقّف على عدم إرادة الإيمان ، وعلى عدم الإذن فقط ، وبهذا المعني ينتسب إليه تعالى ، وعلى هذا النحو الضلال والكفر ، والفسوق وسائر ما يقابل السعادات العامّة والخاصّة ، وقد مرّت إشارات متفرّقة إليه فيما مرّ مرارا.

ومن هاهنا يظهر أيضا أنّ المراد بجعل الرجس في قوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)، وضع الشرك في قلوبهم ، وقد عرفت أنّ معنى وضع الشرك عدم وضع الإيمان الذي هو طهارة.

في العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : إنّه سأله المأمون عن الآية فقال : حدثني أبي عن آبائي ، عن أمير المؤمنين ـ عليهم‌السلام ـ قال : إنّ المسلمين قالوا لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوتنا على عدوّنا ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ما كنت لألقي الله [عزوجل] ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا ، وما أنا من المتكلّفين ، فأنزل الله تعالى عليه : يا محمّد : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) على سبيل الإلجاء والإضطرار في الدنيا ، كما يؤمن (١) عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا منّي ثوابا ولا مدحا ، ولكنّي أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير

__________________

(١). في بعض نسخه : «يؤمنون» [منه ـ رحمه‌الله ـ].

٢٧٦

مضطرّين ، ليستحقوا منّي الزلفى والكرامة ، ودوام الخلود في جنّة الخلد : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وأمّا قوله [تعالى] : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها ، ولكن على معنى أنّها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن الله ، وإذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة (١) متعبّدة ، وإلجاؤه (٢) إياهّا إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبّد عنها ، فقال المأمون : فرّجت عنّي [يا ابا الحسن] فرّج الله عنك (٣).

أقول : صدر الحديث يوجب أن تكون الآية ذات شأن في النزول مستقلّ ، وإنّها ليست تتمّة للآيات السابقة وإن ارتبطت بها بعض الارتباط ، وأمّا قوله في ذيله «فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها» ، مراده ـ عليه‌السلام ـ ما ذكرناه أنّ أحدا من الناس لا يقدر على إيمان وعلى شيء آخر من أسباب السعادة من نفسه إلّا بإفاضة من الله ـ سبحانه ـ ، فمن آمن فإنّما يؤمن بإذن الله ـ سبحانه ـ ، ومن لم يؤمن فإنّما ذلك لأنّ الله ـ سبحانه ـ لم يأذن في ذلك ، فبقي الأمر على فقده وعدمه الأصلي.

وأمّا قوله ـ سبحانه ـ : (بِإِذْنِ) أمره لها بالإيمان ، ليس المراد به أنّ الإذن مقصور على مرتبة الأمر التشريعي ، والتكليف من غير تأثير منه تعالى في مرحلة الأفعال أصلا على ما يراه المعتزلة ، فإنّ ظاهر قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)، إنّ الإذن يختصّ به المؤمن في إيمانه ، وليس للمشرك فيه حظّ ، مع أنّ الإذن بمعنى التكليف لا يختصّ بالمؤمن ، وكذا ظاهر قوله :

__________________

(١). في المصدر : «مكلّفة»

(٢). في المصدر : «ألجأه»

(٣). عيون أخبار الرضا (ع) ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، الحديث : ٣٣.

٢٧٧

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) بل المراد أنّ الإذن بمعنى الأمر بالإيمان كاشف عن إفاضة إلهيّة أراد سبحانه إيصالها إلى عباده ، فأمر أمرا تكليفيّا عامّا في مرحلة ظاهر التشريع ، وخاصّا بحسب خصوص الإفاضة الإلهيّة والرحمة الخاصّة ، وإنّما ذكر ـ عليه‌السلام ـ ما يوهم مسلك المعتزلة ، لأنّ السائل من أركان الإعتزال.

قوله سبحانه : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)

تعقيب لما جرت عليه آيات السورة أنّ الكلمة حقّت عليهم أنّهم لا يؤمنون ، وأنّ العذاب والمؤاخذة واقع عليهم لا محالة ، وعلى ذلك يجري أيضا قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني أيّام العذاب : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١) ثمّ استدرك أنّ العذاب إنّما ينزل بساحة المشركين بقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

*

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٧١.

٢٧٨

[قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)]

قوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ)

ختم ما قدّمه من البيان وعرّفه من السنّة الإلهيّة ، وهي الحكم بحياة الإنسان في الدنيا إلى حين ، وإرسال الرسل ، واستكبار الناس من الإيمان ، والقضاء الفاصل بينهم وبين الرسل بكلمتين ، أمران يبلغهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إليهم :

٢٧٩

إحداهما : أنّه موحّد غير مشرك.

والثاني : إنّ ما جاء به حقّ من عند الله ـ سبحانه ـ ، ولهم الخيرة إن اختاروا الإيمان فلهم ، وإن اختاروا الكفر فعليهم ، وهما قوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآيات وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ).

قوله ـ سبحانه ـ : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ)

وصف المعبود تعالى بالتوفّي لأنّ المقام مقام الإيعاد والتهديد.

قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ)

لما كان معنى : (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، قيل لي أن كن من المؤمنين صحّ أن يعطف عليه قوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) بحسب المعنى ، وقد جمع في الآيتين بين التوحيد بحسب الإعتقاد ، والتوحيد بحسب الأفعال ، فقوله : (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى التوحيد بحسب الإعتقاد ، وهو الإيمان بأنّ الله واحد لا شريك له ، وقوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) راجع إلى التوحيد في مقام الطاعات والتقرّبات ، وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) ، راجع إلى التوحيد فيما يستقبل الإنسان من الحوادث بحسب الحياة الدنيا ، فيطمع في شيء ويخاف شيئا ، ويرغب في شيء ، ويلتجيء إلى شيء.

وبالجملة فمحصّل الآيات : التوحيد في الاعتقاد ، والتوحيد في الأخلاق ، والتوحيد في الأفعال والأعمال.

٢٨٠