تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

[وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)]

قوله سبحانه : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً)

في الكافي عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث طويل قال ـ عليه‌السلام ـ : فمن لقي الله حافظا لجوارحه ، موفيا كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عزوجل عليها ، لقي الله مستكملا لإيمانه وهو من أهل

٢٠١

الجنّة ، ومن خان في شيء منها أو تعدّى ما أمر الله عزوجل فيها ، لقي الله ناقص الإيمان ، قال : قلت : قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟

فقال : قول الله عزوجل : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)، وقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) ، (١) ولو كان كلّه واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ولاستوت فيه النعم ولاستوى الناس وبطل التفضيل ، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة ، وبالزيادة في الأعمال (٢) تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرّطون النار. (٣)

أقول : وقد مرّ بعض الكلام في درجات الإيمان في ما مرّ.

قوله سبحانه : (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ يقول : شكّا إلى شكّهم. (٤)

قوله سبحانه : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ)

أي يشقّ عليه عنتكم ولقائكم المكروه أو جحودكم وإنكاركم.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)

__________________

(١). الكهف (١٨) : ١٣.

(٢). في المصدر : «في الإيمان»

(٣). الكافي ٢ : ٣٦ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٨٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٩٠.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٦٣ ، الحديث : ١١٥.

٢٠٢

قال : فينا ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) قال : فينا ، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)، قال : فينا ، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال : شركنا المؤمنون في هذه الرابعة وثلاثة لنا. (١)

أقول : ورواه غيره أيضا ، وهو أخذ بالأكمل.

قوله سبحانه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ)

أمره سبحانه لرسوله أن يكتفي به لو تولّوا ولم يطيعوه من ألطف اللطف والرحمة ، ولذا قال بعضهم : إنّ الآية أرجأ آية في كتاب الله.

تمّ والله المعين يوم السبت الخامس عشر من شهر رمضان ١٣٦٩ الهجري القمري

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١١٨ ، الحديث : ١٦٥.

٢٠٣
٢٠٤

سورة يونس

٢٠٥
٢٠٦

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ

٢٠٧

بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)]

قوله تعالى : (الر)

غرض السورة على ما يظهر ـ بالتدبّر فيما استطلع به السورة وفي رجوع البيان مرّة بعد مرّة إلى اثبات المعاد ، وإلى القضاء والحكم الفصل بين الأنبياء وأعدائهم إلى غير ذلك ، هو وعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والمؤمنين بالقضاء الفصل بينهم وبين أعدائهم بنجاة المؤمنين وإهلاك المشركين في الدنيا وفي الآخرة ، وما سوى ذلك من مداليل الآيات مقصودة بالتبع لا على سبيل الاستقلال.

قوله تعالى : (الْكِتابِ الْحَكِيمِ)

في توصيف الكتاب بالحكيم إشعار بأنّ مقاصد بيانات السورة غير قابلة للتغيير ولا مظنّة للبداء والمحو وهو كذلك ، فإنّ المعاد والفصل بين الحقّ والباطل ممّا لا يقبل التبديل والتغيير ، والآيات في ذلك كثيرة.

قوله تعالى : (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

كأنّه كناية عن المكانة عند الله سبحانه ، فإنّه لمّا كان استقرار الإنسان وثباته في مكان يطلبه إنّما يكون بأن يطأه ويثبّت قدمه عليه وضع القدم موضع مكان القدم بهذه العناية ، فقيل : إنّ لفلان قدما في محلّ ـ كذا ـ ثمّ نزّل المعاني منزلة

٢٠٨

الأجسام ، فقيل : «إنّ لفلان قدما عند فلان» أي سابقة وفضلا ومكانة يصلح بها شأنه ويتمّ بها أمره وينجح بها طلبته ، وإضافة القدم إلى الصدق لكون أمر المكانة عند الله ـ سبحانه ـ دائرا مدار الصدق فحسب ، قال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (١).

وفي الكافي وتفسيري العيّاشي والقمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. (٢)

وفي المجمع ، عنه ـ عليه‌السلام ـ : إنّ معنى قدم صدق شفاعة محمّد وآله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (٣).

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ : ولاية أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ. (٤)

أقول : لا اختلاف بين الروايات لما عرفت أنّ الكلمة كناية عن سابقة يستصلح بها شأنهم ، وساحة القرب منه تعالى ساحة الحقائق والواقعيّات ، وهؤلاء المؤمنون بصدق إيمانهم هيّأوا لنفوسهم ارتباطا واقعيّا ، ونسبة حقيقيّة مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو عند ربّه ، وهذه الرابطة هي شفاعته واصلاحه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لشأنهم عند الله ـ سبحانه ـ ، وهذه الرابطة بعينها إذا نسبت إلى الله ـ سبحانه ـ صارت هي الاتصال الباطني به

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١٩.

(٢). الكافي ٨ : ٣٦٤ ، الحديث : ٥٥٤ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٠ ، الحديث : ٥ ؛ تفسير القمّي ١ : ٣٠٨.

(٣). مجمع البيان ٥ : ١٥٣.

(٤). الكافي ١ : ٤٢٢ ، الحديث : ٥٠ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١٩ ، الحديث : ٣ و ٤ ، وفيه : ـ «أمير المؤمنين (ع)».

٢٠٩

سبحانه على ما مرّ من معنى الولاية في سورة المائدة عند قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) (١).

قوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ)

قد مرّ الكلام في آية السخرة من سورة الأعراف (٢).

قوله سبحانه : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)

وقد قال تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٣) ويستفاد منهما جميعا أنّ إذنه تعالى قبل الشفاعة ومعها ، فالإذن بمنزلة المادّة من الشفاعة متّحد معها ، وقد عرفت في الكلام على آية الكرسي من سورة البقرة (٤) ، وآية العرش من سورة الأعراف (٥) أنّ هذه الشفاعة ، شفاعة في التكوينيات ، وهي اقتضاء المقتضيات وسببيّة الأسباب لمسبّباتها ، فإذنه تعالى في شفاعة شافع وسببيّته سبب يرجع إلى رابطة السببيّة والمسببيّة ، وهي أيضا بوجه نفس التدبير الإلهي العامّ ، وإن كان الإذن مقابلا للتدبير وناقضا للقضاء بوجه آخر ، فالتدبير لله والشفاعة أيضا له ، قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ) (٦). وقال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ) (٧).

__________________

(١). المائدة (٥) : ٥٥.

(٢). الأعراف (٧) : ٥٤.

(٣). البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٤). البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٥). الأعراف (٧) : ٥٤.

(٦). القصص (٢٨) : ٧٠.

(٧). الزمر (٣٩) : ٤٤.

٢١٠

قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا)

لمّا بيّن تعالى أنّه هو الربّ دون ما يعبدونه من دونه كان لازم ذلك أنّه مرجعهم جميعا ، لأنّه الربّ ولا مرجع للمربوب إلّا ربّه ، إلّا أنّ الكفّار لا يفهمون من هذه الكلمة إلّا المرجع في امور الدنيا لعدم إذعانهم بدار غير دار الدنيا والغرض غيره ، ولذا أكّد البيان ثانيا بقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) وهو الوعد الثابت ، وأكّد هذا الوعد الثابت بقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ)

في الآيات استدلال على ثبوت المعاد ، وهو استدلال واحد.

بيان ذلك : أنّ الإنسان بحكم الغريزة والفطرة يحكم بأنّ كلّ سبب يفيض على مسبّبه أمرا فذلك الأمر ينتهي إلى السبب لا يتجاوزه ولا يتعدّاه ، هذه النار تعطي لما يتّصل بها حرارة تبتديء منها وتنتهي إليه ، وإذا رجعنا وسرنا قهقرى إنتهى بنا السير إلى النار لا نتعدّاها ، فالنار على هذا هي المبدأ للحرارة وهي المبتدئة منها ، ثمّ إذا نظرنا إلى الحرارة وقد انصبّت من النار إلى المحلّ وانفصلت منها وملكها المحلّ إنقطعت النار واستقلّ المحلّ في حرارته ، لكنّ السبب لو لم ينقطع عن مسبّبه ، وآية ذلك أن لا يستقل المسبّب عن سببه ولا يملكه ، قضينا ثانيا بحكم الغريزة على أنّ السبب لم ينقطع عن مسبّبه ولم يرفع اليد عن أثره ، فالأثر الموجود هو أثره وإعطائه ، وفقدان المحلّ للأمر أخذ من السبب للأثر وهو المالك لأثره في الحالين جميعا معطيا وآخذا ، واعتبر ذلك من مثال السفينة المتحركة والمحرّكة لجالسها ، فحركة الجالس وسكونه للسفينة ، منها تبتديء وإليها تنتهي ، هذا هو الذي يحكم به الإنسان بفطرته.

٢١١

فإذا وجدنا أنّ الموجودات تبتديء من الله ـ سبحانه ـ ، ووجدناها لا تملك لأنفسها حدوثا ولا بقاء ولا حياة ولا فناء ، وبالجملة : أنّ الأشياء لا تستقلّ فيما لها من الوجود ، فلنحكم بالفطرة بأنّ وجود الأشياء لله ومن الله ، وعدمها لله وإلى الله ، أي أنّ وجودها إعطاء منه تعالى ، وعدمها أخذ منه تعالى لما أعطاه ، والوجود في الحالين جميعا بيده وتحت حيطة قدرته ، على أنّ كلّ ما نجده من الموجودات في عالمنا المشهود نجده أنّه يبتديء في الوجود بعد عدم ، ثمّ يسير في مراحل وجوده من الضعف إلى القوّة ، ولا يزال على ذلك حتّى ينتهي إلى أوج قوّته وشدّته على ما رزقه الصنع والإيجاد ، ثمّ يأخذ في الضعف والانحطاط حتّى ينتهي به الأمر إلى ما بدأ منه ، فالعود عين البدء.

فلنحكم بأنّ العود إنّما هو إلى ما كان منه البدء وهو الله ـ سبحانه ـ ، وهذا معنى قوله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١) إلى آخر الآية.

وهو حجّة برهانيّة وقعت في عدّة مواضع من كتاب الله تعالى ، وأمّا ما ذكره بعضهم أنّ المشركين لا يقولون بالمعاد ، فذكر الإعادة من جهة استلزام قولهم ذلك ، فوجه بعيد عن الآية بمراحل.

وأمّا قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا)

فهو يفيد أنّ الغاية في هذه الإعادة جزاء المحسنين ، وذلك أنّ العدل يقتضي أن لا يبطل الأعمال الصالحة التي يأتي بها الصالحون من العباد ، وهذه المجازات لم تقع في الدنيا فهي لا محالة في نشأة اخرى ، يجد الصالحون فيها جزاء

__________________

(١). البروج (٨٥) : ١٣.

٢١٢

أعمالهم الصالحة ، ويمتازوا بها عن الطالحين ، ولهذا عقّب (١) تعالى هذه الجملة بقوله : (بِالْقِسْطِ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ)

غيّر سبحانه سياق الكلام ولم يقل : «ويجزي الذين كفروا» ، لأنّ الاستدلال إنّما هو بما يقتضيه العدل ، والعدل إنّما يقتضي مجازات المحسن بإحسانه ، وأمّا مجازات المسيء بإسائته فلا يوجبها ولا يقتضيها ولا عدمها.

فإن قلت : الانتقام من المسيء للمحسن ممّا يقتضيه العدل فعذاب الكافر ممّا لا يتمّ العدل بدونه.

قلت : هذا من شعب جزاء المحسن بإحسانه ، وقد ذكره تعالى لا جزاء للمسيء بإسائته.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ) ـ إلى قوله ـ : (إِلَّا بِالْحَقِ)

وهذه الآية تشتمل على بيان ثان لكون المعاد بالحقّ ، وذلك أنّ هذه الموجودات على عظمتها وكثرتها لا تخلو عن غاية صحيحة ، فليحكم بأنّ الإعادة الكلّيّة إلى يوم المعاد ليست باطلة غير ذات غاية ، بل هي بالحقّ وعلى غاية صحيحة ، فحاصل الحجّة على ما ظهر أنّ ايجاده تعالى للخلق استقرّ على إعطاء الوجود منه وأخذه إليه وهو المعاد ، ولا يكون إلّا لغاية ، لأنّ العدل يحكم بالجزاء وهو غاية ، ولأنّ الخلقة والإيجاد بالحقّ لا على سبيل العبث والباطل.

وقد جعل تعالى هذين المعنيين ـ أعني مضمون قوله : (لِيَجْزِيَ) إلى آخر

__________________

(١). في نسخة «تمّم» [منه ـ رحمه‌الله].

٢١٣

الآية ، ومضمون قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ) إلى آخر الآية ، حجّتين مستقلتين في سورة ص ، قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (١)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا)

الآيات الثلاث في مقام التعليل لقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ) إلى آخر الآية. والمراد باللقاء يوم الرجوع إلى الله تعالى. اختار التعبير باللقاء جريا على ما جرى به قوله تعالى في أوّل السورة حيث قال : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فإنّه الحضور والحضور يشعر باللقاء.

وقوله تعالى : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا)

يشير إلى ركونهم بالحياة الدنيا بعد يأسهم من الآخرة ، فإنّ كلّ إنسان بل كلّ موجود بما أودع الله تعالى فيه من الغريزة والفطرة متعلّق القلب بالوجود لا يتعداه إلى غيره ، إلّا أنّ الله ـ سبحانه ـ أخبر رسوله في كتابه : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٢) ، وأنّها (مَتاعُ الْغُرُورِ) (٣) ، وأنّها وهم يتوهّمه الإنسان كسراب ظاهر للظمآن ، وأنّ الدار الآخرة هي الحياة حقيقة ، فلو يأس الإنسان من الآخرة وانقطع عمّا عند الله ـ سبحانه ـ تعلّق قلبه لا محالة إلى الحياة الدنيا

__________________

(١). ص (٣٨) : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢). الحديد (٥٧) : ٢٠.

(٣). الحديد (٥٧) : ٢٠.

٢١٤

واستند إلى غير سناد ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) وإنّما خلق الله الدنيا وما فيها آيات دالّة على وحدانيّته ليعتبر بها المعتبرون ويسلك بها السالكون ، لا ليقف عندها نفوسهم ويركد دونها حواسّهم.

فالآيس عمّا عند الله ـ سبحانه ـ لا ينظر إلى هذه الآيات من حيث إنّها آيات ، بل من حيث إنّها مستقلّات ، فهو غافل عن آيات الله ـ سبحانه ـ كالمعترف بالشيء من حيث إنّه ينكره ؛ وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ)، فهذه الجملة كالمفسّرة لقوله : (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا)، فهؤلاء بحسب التمثيل كمن يوقد على نفسه وماله نارا تعدمه وتفنيه ، وبحسب الحقيقة يكتسب سيّئات تدخله نار جهنم خالدا فيها.

وفي بعض الروايات : أنّ الآيات هي الأئمّة [ـ عليهم‌السلام ـ] (١).

أقول : وهو من قبيل عدّ المصداق كما مرّ أنّ الآية هي علامة الشيء الدالة عليه فلها مراتب مختلفة ، ولكلّ شيء بحسب وجوده دلالة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)

وصف الكفّار بأنّ نفوسهم واقفة على الدنيا لا يتعدّونها مع كونها آية ، فالصالحون من المؤمنين بالوصف المقابل هم الذين تعلّقت قلوبهم بما عند الله ـ سبحانه ـ وهو الإيمان ، فبإيمانهم خرقت هذه الأسباب ونفذت في داخل الآيات وهديهم

__________________

(١). الكافي ١ : ٢٠٧ ، الحديث : ١ ؛ ١ : ٤٣٥ ، الحديث : ٩٢ ؛ بصائر الدرجات : ٢٠٧ ، الحديث : ١٧ ؛ تفسير القمي ١ : ١٤٠ ؛ كمال الدين ١ : ١٨ ؛ ١ : ٣٠ ؛ ٢ : ٣٣٦.

٢١٥

إلى ما عند الله ـ تعالى ـ وهي (١) الجنّة ، وهؤلاء بحسب التمثيل كمن يسير ومعه في مسيره وتحت أقدامه أنهار تروي غليله (٢) ، وترفع عطشه وتسكن حرّ كبده في جنّات النعيم ، وبحسب الحقيقة ستحلّون دار كرامة الله تعالى وجنّات نعمته ، وسيجدون ما كانوا يطلبونه بحسب الفطرة الإلهيّة ممّا يرضون به ويطمئنّون به.

قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ)

إنّما خصّ بالذكر من بين جميع صفاتهم وأحوالهم ونعمهم في الجنّة هذه الخصال الثلاث : (دَعْواهُمْ ، تَحِيَّتُهُمْ ، آخِرُ دَعْواهُمْ)، فبيّن أنّها التسبيح والسلام والحمد ؛ لأنّها المناسب لما بيّن من شأنهم في هذه الحياة الدنيا ، فإنّهم بانقلاعهم عن الحياة الدنيا وعدم ركونهم وطمأنينتهم عليها تنزّهوا عنها ونزّهوا ربّهم ، وكان كلّ شيء من هذه الآيات سلاما عليهم غير ضارّ بهم ، وآخر تنزّههم وترفّعهم أدّى بهم إلى نعم خالصة غير مختلطة ولا مشوبة بنقمة ، ليس فيها إلّا ما يثني به على الله ـ تعالى ـ ويحمد له ، فدعواهم في جنّات النعيم تسبيح ربّهم وتحيّتهم فيها سلام ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقد روي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون (٣).

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث : وإنّ المؤمن ليكون له من الجنان ما أحبّ واشتهى ، فيتنعمّ (٤) فيهنّ

__________________

(١). في الأصل : «وهو»

(٢). في الأصل : «غلوله»

(٣). عوالي اللئالي ٤ : ٧٢ ، الحديث : ٤٦.

(٤). في المصدر : «يتنعمّ»

٢١٦

كيف شاء (١) وإذا أراد المؤمن شيئا (٢) يقول : سبحانك اللهمّ ، فإذا قالها تبادرت إليه الخدم بما اشتهى من غير أن يكون طلبه منهم وأمر به ، وذلك قوله جلّ وعزّ : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) يعني الخدّام ـ قال : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) عندما يقضون من لذّاتهم من الجماع والطعام والشراب ، يحمدون الله عزوجل عند فراغهم (٤) (٥).

وفي الاختصاص للمفيد بإسناده عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ عليهم‌السلام ـ ، عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث طويل مع يهوديّ سأله عن مسائل قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إذا قال العبد سبحان الله سبّح كلّ شيء معه ما دون العرش فيعطي قائلها عشر أمثالها ؛ وإذا قال : الحمد لله ، أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتّى يلقاه بنعيم الآخرة ، وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها ، والكلام ينقطع في الدنيا (٦) وذلك قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (٧) (٨).

أقول : وروي هذا الحديث باختلاف يسير في الاختصاص والصدوق في المعاني عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ـ عليهم‌السلام ـ (٩) ، والروايات كما

__________________

(١). في المصدر : «يشاء»

(٢). في المصدر : + «أو اشتهى إنّما دعواه فيما إذا أراد أن»

(٣). في المصدر : + «يعني بذلك»

(٤). في المصدر : «فراغتهم»

(٥). الكافي ٨ : ٩٥ ، الحديث : ٦٩.

(٦). في المصدر : + «ما خلا الحمد»

(٧). الأحزاب (٣٣) : ٤٤.

(٨). الاختصاص : ٣٤.

(٩). لم نعثر عليه في معاني الأخبار لكن ذكره في الأمالي الصدوق : ١٨٧ ، المجلس الخامس ـ

٢١٧

ترى تحكم بالمحاذات بين خصالهم في الدنيا وخصالهم في الجنّة. والأحاديث مع ذلك تشتمل على معان عالية أرجو أن يمرّ بك بيان بعضها فيما يستقبلك إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ سئل عن التسبيح ، فقال : اسم من أسماء الله تعالى ودعوى أهل الجنّة (١).

*

__________________

والثلاثون ، الحديث : ١ ؛ علل الشرائع ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ، الحديث : ٨.

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٠ ، الحديث : ٩.

٢١٨

[وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)]

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ)

شروع في الإنذار على ما لوّح فيه في صدر السورة ، وتعميم له لعذاب الآخرة والدنيا جميعا.

وقوله تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ)

أي لا نعجّل لهم بالشرّ ، بل نمهلهم حتّى يتيهوا منتهى تيههم ، ويأتوا بآخر ما عندهم من الفساد.

٢١٩

فإن قلت : هذا ينافي ما يدلّ من الآيات على أنّ الله سريع الحساب.

قلت : لا منافاة فإنّ الشرّ الذي يحسبه الناس شرّا وهو هلاك الدنيا أو نار الآخرة ، آخر ما ينتهي بهم إليه سلوكهم هذا الطريق المهلك من الشرّ ، وكلّ منازل الطريق شرّ وهلاك ، فإنّما يتقلبون من هلاك إلى هلاك ، وينقلبون من بوار إلى بوار ، قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(١). وقال تعالى : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢).

*

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢). الأنعام (٦) : ٢٦.

٢٢٠