تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

أحدهما فأمسكته لعيالي ، (١) وأمّا الآخر فأقرضته ربّي ، فأمره رسول الله أن ينثره في الصدقات ، فسخر منه المنافقون ، فقالوا : والله ، إن كان (٢) الله لغنيّا (٣) عن هذا الصاع ما يصنع الله بصاع شيئا ، ولكنّ أبا عقيل أراد أن يذكّر نفسه ليعطى من الصدقات فنزلت. (٤)

أقول : وروي نظيره عن طريق العامّة. (٥)

قوله سبحانه : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)

«أو» الترديديّة تدلّ على التسوية بين طرفيها ، فإذا تخلّل بين الأمر والنهي كان دالّا على أنّ الفعل والترك متساويان لا يترتّب على شيء منهما أثر ، فقوله سبحانه : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يدلّ على أنّ الاستغفار وعدم الاستغفار سيّان في حقّ المنافقين لا يترتّب عليه أثر ، ولذا أكّده ثانيا بقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ، فبيّن أنّه كما أنّ الاستغفار لا ينفع ، كذلك الإلحاح فيه والإصرار أيضا لا ينفع ، فالواحد والكثير منه سواء ، ولفظ سبعين يؤتى به في هذه الموارد للتكثير.

وقوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعليل للحكم بأنّ ذلك لا لبخل من ناحيته سبحانه وتعالى ، بل لبطلان استعدادهم

__________________

(١). في المصدر : ـ «لعيالي»

(٢). في المصدر : ـ «كان»

(٣). في المصدر : «يغني» ، وفي تفسير الصافي : «لغنيّ»

(٤). تفسير القمّي ١ : ٣٠٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٤١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥١٥.

(٥). الكشف والبيان ٥ : ٧٦ ؛ تفسير ابن كثير ٢ ؛ ٣٤١ ؛ الكشاف ٢ : ٢٩٤.

١٦١

وقابليّتهم للمغفرة.

وفي تفسير القمّي : أنّها نزلت لمّا رجع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى المدينة ، ومرض عبد الله بن ابيّ وكان ابنه عبد الله مؤمنا ، فجاء إلى النبيّ وأبوه يجود بنفسه.

فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وامّي إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا ، فدخل عليه رسول الله والمنافقون عنده ، فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله ، استغفر له ، فاستغفر له ، فقال له عمر : (١) ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلّي عليهم أو تستغفر لهم؟!! فأعرض عنه رسول الله ، فأعاد عليه فقال له : ويلك إنّي خيّرت فاخترت ، إنّ الله يقول : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

فلمّا مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ـ فقال : بأبي أنت وامّي يا رسول الله ، إنّي رأيت أن تحضر جنازته ، فحضر رسول الله وقام على قبره فقال له عمر : يا رسول الله ، ألم ينهك الله أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا أو تقوم على قبره؟!! فقال له رسول الله : ويلك ، هل تدري ما قلت؟ إنّما قلت : اللهمّ احش قبره نارا وجوفه النار وأصله نارا ، فبدا من رسول الله ما لم يكن يحبّ. (٢)

أقول : وروت العامّة ما يقرب منه ، وفي رواياتهم : أنّه لمّا اعترض عليه عمر ، نزل قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ)، فكان تصديقا لقوله. (٣)

__________________

(١). في المصدر : «الثاني»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٣٠٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥١٦ ، الحديث : ١.

(٣). الكشف والبيان ٥ : ٧٩.

١٦٢

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ النبيّ قال لابن عبد الله بن ابيّ : إذا فرغت من أبيك فأعلمني ، وكان قد توفّي فأعلمه ، فأخذ رسول الله نعليه للقيام ، فقال عمر : أليس قد قال الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

فقال له : ويحك أو ويلك ، إنّما أقول : اللهمّ املأ قبره نارا واملأ جوفه نارا وأصله يوم القيامة نارا. (١)

أقول : حقّ الكلام أن يقال : إنّ المستفاد من سياق الآيتين أعني قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) وقوله سبحانه : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). (٢)

أنّ الآيتين لم تنزلا معا لشهادة وحدة الذيل فيهما معا بذلك ، فكانت الآية الاولى نزلت في الاستغفار للمنافقين ، وليس فيه نهي ، وإنّما الدلالة على أنّها غير نافعة بحالهم ، وإنّما اشتبه الأمر على عمر فعدّ ذلك نهيا.

ففرق واضح بين قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وبين قولنا : لا تستغفر لهم ، أو ليس لك أن تستغفر لهم ، وأمّا قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، فهو وإن كان للتكثير ، فلا ينفع لا سبعون ولا سبعون ألفا.

غير أنّ الأخذ بذيل الرحمة والعناية الإلهيّة ممكن ، فقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّي خيّرت فاخترت ، وقوله : قد رخّص لي ربّي فسأزيد على

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠١ ، الحديث : ٩٤.

(٢). التوبه (٩) : ٨٤.

١٦٣

السبعين من لطيف الاستفادة ، ثمّ نزلت الآية الثانية : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

ويظهر من جوابه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لعمر ، أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ استفاد من قوله : (وَلا تُصَلِّ)، النهي عن الدعاء ، لا النهي عن صلاة الميّت ، ولذا قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّما قلت : اللهمّ احش قبره نارا.

وفي المجمع : إنّه كان إذا صلّى على ميّت يقف على قبره ساعة ويدعو له. (١)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يكبّر على قوم خمسا ، وعلى قوم آخرين أربعا وإذا كبّر على رجل أربعا اتّهم يعني بالنفاق. (٢)

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا صلّى على ميّت كبّر وتشهّد ، ثمّ كبّر وصلّى على الأنبياء ، ثمّ كبّر ودعا للمؤمنين ، ثمّ كبّر الرابعة ودعا للميّت ، ثمّ كبّر وانصرف ، فلمّا نهاه الله عن الصلاة على المنافقين كبّر وتشهّد ، ثمّ كبّر وصلّى على النبيّين ، ثمّ كبّر ودعا للمؤمنين ، ثمّ كبّر (٣) وانصرف ولم يدع للميّت. (٤)

قوله سبحانه : (أُولُوا الطَّوْلِ)

أي الفضل والسعة.

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ٨٧.

(٢). الكافي ٣ : ١٨١ ، الحديث : ٢.

(٣). في المصدر : + «الرابعة»

(٤). الكافي ٣ : ١٨١ ، الحديث : ٣ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٢ ، الحديث : ٩٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥١٨ ، الحديث : ٦.

١٦٤

وقوله سبحانه : (مَعَ الْخَوالِفِ)

كأنّه جمع خالفة.

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : مع النساء. (١)

قوله سبحانه : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ)

التعذير : إيهام ما ليس بعذر عذرا ، والأعراب : أهل البدو.

قوله سبحانه : (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)

الفيضان : انبساط الماء المنصبّ دفعة في الأرض ، فالفيضان للدمع واسند إلى العين استعارة ، و (مِنَ) كما قيل : بيانيّة ، فهو من الكناية.

وفي تفسير القمّي : وجاء البكّاءون إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، قد شهد بدرا لا خلاف فيه ، ومن بني واقف : هرمي بن عمير ، ومن بني حارثة : عليّة بن يزيد وهو الذي تصدّق بعرضه ، وذلك أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أمر بالصدقة ، فجعل الناس يأتون بها ، فجاء عليّة ، فقال : يا رسول الله ، ما عندي ما أتصدّق به وقد جعلت عرضي حلّا ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : قد قبل الله صدقتك ، ومن بني مازن بن النجّار : أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، ومن بني سلمة : عمرو بن غنيمة ، ومن بني زريق : سلمة بن صخر ، ومن بني العزّ : ناصرة بن السارية السلمي.

__________________

(١). تفسير العياشي ٣ : ١٠٣ ، الحديث : ٩٧.

١٦٥

هؤلاء جاءوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يبكون فقالوا : يا رسول الله ، ليس بنا قوّة أن نخرج معك ، فأنزل الله تعالى فيهم : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) إلى قوله : (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ).

وفي تفسير العيّاشي عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : إنّ عبد الله بن يزيد بن الورقاء أحدهم. (١)

أقول : وروي في بعض التفاسير أنّهم ستّة.

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٤ ، الحديث : ١٠٠.

١٦٦

[الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ

١٦٧

الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)]

قوله سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً)

لأنّ أهل البدو أبعد عن الحضارة والعلم ، فاصول علوم الاجتماع وهي التي تنمو عليها الملكات المعتدلة الملائمة للاجتماع ليست في أيديهم ومعرض تلقّيهم حتّى يعتدلوا.

قوله سبحانه : (ما يُنْفِقُ مَغْرَماً)

المغرم : مصدر ميمي وهو الغرامة والخسران ، والتربّص : الانتظار.

والدوائر : دوائر الزمان ، فمن دائر للإنسان ومن دائر عليه ، فتربّص الدوائر كناية عن انتظار فرصة الانتقام.

وقوله سبحانه : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ)

دعاء عليهم بالمقابلة.

قوله سبحانه : (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ)

أي سبب قربات عند الله ، وسبب صلوات الرسول ، كذا قيل.

قوله سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ)

يريد سبحانه : الذين تأسّس عليهم وعلى جدّهم وجهدهم هذا الدين ،

١٦٨

والتابعين : الذين تبعوهم بإحسان فأقاموا الدين بحقيقة أعمالهم وثبات أقدامهم.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ الله عزوجل سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان.

قلت : أخبرني عمّا ندب الله المؤمن في الإسباق إلى الإيمان ، قال : قول الله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم ، ثمّ ثنّى بالأنصار ، ثمّ ثلّث بالتابعين لهم بإحسان ، فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده. (١)

وعن بعض طرق العامّة : أنّها في عليّ وهو أسبق الناس كلّهم بالإيمان ، وصلّى على القبلتين ، وبايع البيعتين ، بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكّة إلى حبشة ومن الحبشة إلى المدينة. (٢)

قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : نزلت في أبي لبابة ، وقد مرّت قصّته. (٣)

قوله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : عسى من الله واجب ، (٤) الحديث.

أقول : ليس يعني ـ عليه‌السلام ـ أنّ عسى قد استعملت في القرآن بمعنى

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٥ ، الحديث : ١٠٤.

(٢). لسان الميزان لابن حجر ٢ : ٢٢٧ ؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ١ : ٣٣٦ ، الحديث : ٣٤٦.

(٣). مجمع البيان ٥ : ١٠١ ؛ تفسير القمي ١ : ٣٠٣.

(٤). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٥ ، الحديث : ١٠٥ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٥٧.

١٦٩

التحقيق والوجوب ، بل يعنى به المصداق.

وبيانه أنّ الكلام إنّما يطابق فيما يطابق الواقع الثابت ، والثابت من حيث إنّه ثابت لا يقبل إلّا الثبات والتحقّق واللزوم والتعيّن ، فكلّ تغيّر وتردّد وتزلزل ورجاء وتمنّ وغير ذلك إنّما يتحقّق في ظرف الإدراك والوهم ، فالإبهام والتردّد والشكّ وغيرها فينا إنّما هي في ظرف إدراكنا لا في الخارج بما هو خارج.

وملاك الأمر إمكان المطابقة واللّامطابقة بين علمنا وبين الواقع وهو ظاهر.

وأمّا الله سبحانه وتعالى فحيث كان علمه تعالى بالخارجيّات عين تلك الخارجيّات لكمال الإحاطة وتمام القيوميّة ، فلا يتصوّر في حقّه سبحانه تردّد وشكّ وإبهام ، وكذلك تمنّ ب «ليت» ، ولا ترجّ ب «لعلّ» ، غير أنّ مجرّد الترديد وما يجري مجراها ، وإن صحّ تعليق الكلام بذلك من حيث إنّه لفظ كاشف حاك عن معنى ، لكن لا يصحّ من حيث استدعاء الكلام فائدة يعبأ بها ويعتنى بشأنها عند العقلاء ، فلا يعلّق الكلام على أيّ قيد ولا يتمنّى أيّ محال ، ولا يرجى أيّ ممكن ، بل هذه المعاني إنّما يعلّق عليها أو يتقيّد بها الكلام إذا كان من طبع الكلام بحسب المقام أن يعتريه ذلك المعنى.

فإن كان المناسب حينئذ قيامه ، أعني الترجّي والتمنّي والاستفهام والتعجّب وغيرها بالمتكلّم ، كان قائما به كما هو الغالب ، وإن كان المناسب قيامه بالمخاطب قام به ، وإن كان المناسب قيامه بطبع المقام قام به فقط ، كخطابات القرآن على ما تشتمل عليه من المعاني الإنشائيّة ، كقوله تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) ، (١) وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١٦.

١٧٠

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ، (١) وقوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ، (٢) وقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ، (٣) وقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (٤) إلى غير ذلك.

فهذه الألفاظ جميعا مستعملة في معانيها المعروفة المعهودة ، ومعانيها جميعا قائمة بطبع المقام من الكلام لا بنفس المتكلّم تعالى عن ذلك وتقدّس ، فهذا ما يرجع إلى الاستعمال.

وأمّا بحسب المغزى ، فالاحتمال وهو جواز وجود الشيء هناك مساوق لوجوده أوّلا معنى ، للتردّد هناك كما عرفت ، فرجاء أمر ما يلازم وقوعه كقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) (٥)

ومن هنا كان النفي والنهي في القرآن ربّما يؤمي بالجواز والوقوع ، كما مرّ في قوله سبحانه : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، (٦) وكذلك موارد النهي ، وكذلك موارد التأكيد فترى أنّ النهي في كلامه يدلّ على الوقوع ، والتشديد والتأكيد يدلّ على المساهلة من السامع المقصود كقوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، (٧) وقوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٨) مع ما انجرّ إليه أمر المسلمين في الفتهم واختلاطهم معهم ، وما أورثت ذلك من انحطاط سيطرة الدين واستيصال الملّة ، وكذا قوله سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ

__________________

(١). طه (٢٠) : ٤٤.

(٢). التوبة (٩) : ٩٨ ؛ الفتح (٤٨) : ٦.

(٣). عبس (٨٠) : ١٧.

(٤). مريم (١٩) : ٣٨.

(٥). الإسراء (١٧) : ٨.

(٦). البقرة (٢) : ٥٧ ؛ الأعراف (٧) : ١٦٠.

(٧). الممتحنة (٦٠) : ١.

(٨). المائدة (٥) : ٥١.

١٧١

وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، (١) مع ما تعقّبته الحوادث ممّا كان من أمر بعض أزواج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وقوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، (٢) مع ما جازته الامّة في رهطه وعترته من أهل بيته من فعال ما جوزي بمثله نبيّ ولا رسول ، وهذا المعنى كثير الوقوع والنظائر في القرآن ، وهو مسلك أهل البيت في بياناتهم في تفسير الآي.

قوله سبحانه : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : لمّا نزلت هذه الآية : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) انزلت في شهر رمضان ، فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مناديه ، فنادى في الناس : إنّ الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ، ففرض الله عزوجل عليهم من الذهب والفضّة ، وفرض الصدقة من الإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، فنادى بهم بذلك في شهر رمضان وعفى لهم عمّا سوى ذلك.

قال : ثمّ لم يفرض بشيء من أموالهم حتّى حال عليهم الحول من قابل ، فصاموا وأفطروا ، فأمر مناديه فنادى في المسلمين : أيّها المسلمون زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم.

قال : ثمّ وجّه عمّال الصدقة وعمّال الطسوق. (٣)

وفي المجمع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم ،

__________________

(١). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٢). الشورى (٤٢) : ٢٣.

(٣). الكافي ٣ : ٤٩٧ ، الحديث : ٢.

١٧٢

قال : اللهمّ صلّ عليهم. (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّه سئل عن هذه الآية ، أجارية هي في الإمام بعد رسول الله؟ قال : نعم. (٢)

أقول : وقد مرّ تفسير الصلاة في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (٣) من سورة البقرة.

وقوله تعالى : (سَكَنٌ لَهُمْ)

أي ما يسكن إليه ويستقرّ.

قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ)

التوبة هو الرجوع ، والرجوع لا يتحقّق إلّا بمستقرّ ينتهي إليه الرجوع ، فالتوبة تنتهي إليه تعالى ، وهو يقبل التوبة عن عباده لا واسطة فيه في الحقيقة.

قوله سبحانه : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله لم يخلق شيئا إلّا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة ، فإنّ الربّ تبارك وتعالى يليها بنفسه ، وكان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثمّ ارتجعه منه ، فقبّله وشمّه ، ثمّ ردّها في يد السائل ، وذلك أنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ١٠٣ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٥٨.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٦ ، الحديث : ١١١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٣٨ ، الحديث : ٤.

(٣). البقرة (٢) : ١٥٧.

١٧٣

السائل ، فأحببت أن اقبّلها إذ ولّاها الله ووليّتها ، (١) وإنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ ، وتمحو الذنب العظيم ، وتهوّن الحساب ، وصدقة النهار تنمي المال وتزيد في العمر. (٢)

وفي تفسير العيّاشي أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : ما من شيء إلّا وكّل به ملك ، إلّا الصدقة ، فإنّها تقع في يد الله. (٣)

أقول : الأخبار بهذا المضمون وما يقرب منه في باب الصدقة كثير ، (٤) وقد ورد نظير هذا المعنى في صلاة الليل ، وإنّ الله لا يوكل عليه من يكتبه من الكرام الكاتبين.

وكذا ورد أنّ الله لا يوكّل الرقيب والعتيد إلّا بما ظهر من أقوال الإنسان ، وأمّا خطرات القلب فيحفظه بنفسه ويستره عن غيره ، ونظائره غير نادرة.

فالحصر الذي في قوله ـ عليه‌السلام ـ : ما من شيء إلّا وكّل به ملك إلّا الصدقة ، الحديث ، حصر إضافي لا حقيقي ، ومن الدليل على كونه إضافيّا لا حقيقيّا ، أنّ قبول التوبة وأخذ الصدقة موضوعان في الآية معا وواقعان تحت الحصر ، فتخصيص الحصر بأخذ الصدقة دون قبول التوبة إضافي.

ومن هنا يظهر أنّ سوق الكلام إنّما هو ناظر إلى المراتب ، فإنّ الوسائط الموكّلة لسائر الأفعال من الواجبات والمستحبّات مثلا ليست واسطة في أخذ

__________________

(١). في المصدر : «وليها أبي»

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٧ ، الحديث : ١١٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٣٩ ، الحديث : ٧ ؛ وسائل الشيعة ٩ : ٤٣٤.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٨ ، الحديث : ١١٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٣٩ ، الحديث : ٨ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٥٩.

(٤). وسائل الشيعة ٩ : ٣٦٧ ـ ٤١٢ ؛ مستدرك الوسائل ٧ : ١٥٣ ـ ١٥٩.

١٧٤

الصدقة وما يشبهه ممّا لا واسطة له ، وإن كان له وسائط بالنسبة إلى ما هو فوقه ، فإنّ ارتفاع الواسطة بينه وبين شيء من مخلوقاته ممّا لا مطمع فيه.

وفي النهج في بعض خطبه ـ عليه‌السلام ـ : جعل على كلّ شيء رقيبا. (١)

قوله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)

إتيان صورة الأمر في هذه الموارد للتعميم ، وربما أكّدت بتعميم في متعلّقه ، فيقال : اعمل ما شئت ، واعملوا ما شئتم ، والمعنى على أيّ حال : كلّ ما عملتموه من عمل خير أو شرّ (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)، وهذا كناية عن الحثّ على الأعمال الصالحة ، فمعناه هذّبوا أعمالكم وأصلحوا فإنّها بمعرض مشاهدة الله ورسوله والمؤمنين.

ومن هذا البيان يظهر أنّ المراد بالرؤية ليس هو الرؤية الحسّية والمشاهدة الدنيويّة ، فإنّ المرئي من الأعمال للرسول وللمؤمنين بحسب النشأة الدنيويّة ليس إلّا بعضها دون كلّها ، بل العمل من حيث إنّه خير أو شرّ متقوّم بصورة النيّة والشوب والخلوص ، وهي معنى قلبي وأمر معنوي لا يفي لإدراكه الإحساسات الدنيويّة والمشاعر الحسّيّة ، بل المراد الرؤية الباطنيّة بصورة غير دنيويّة ، فهو ارتفاع أعمال العباد إلى الله ، فيشاهده إذ ذاك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والمؤمنون.

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : تعرض على رسول الله أعمال العباد (٢) كلّ صباح ، أبرارها وفجّارها ، فاحذروها وهو قول الله : (وَقُلِ

__________________

(١). لم نجده في نهج البلاغة.

(٢). في المصدر : «امّته»

١٧٥

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). (١)

أقول : وهذا المعنى مرويّ عنهم مستفيضا. (٢)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال ـ عليه‌السلام ـ : هم الأئمّة. (٣)

أقول : يريد ـ عليه‌السلام ـ تفسير المؤمنين ، والرواية بذلك مستفيضة أيضا.

وفي البصائر عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كلّ عشيّة الخميس ، فليستحيي أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح. (٤)

وفي البصائر أيضا عن حفص عن غير واحد ، قال : تعرض أعمال العباد (٥) يوم الخميس على رسول الله وعلى الأئمّة. (٦)

وفي أمالي الشيخ مسندا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : قال رسول الله وهو في نفر من أصحابه : إنّ مقامي بين أظهركم خير لكم من مفارقتي ، وإنّ مفارقتي إيّاكم خير لكم ، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصارى ، فقال : يا رسول الله ، أمّا مقامك بين أظهرنا فهو خير لنا فكيف يكون مفارقتك إيّانا خيرا لنا؟

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٩ ، الحديث : ١٢٣ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٠ ، الحديث : ١ ؛ معاني الاخبار : ٣٩٢ ، الحديث : ٣٧.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ١٠٨ ، الحديث : ١١ ـ ١٢٧.

(٣). الكافي ١ : ٢١٩ ، الحديث : ٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤١ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦٠ ؛ تفسير العياشي ١ : ١٠٩ ، الحديث : ١٢٥.

(٤). بصائر الدرجات : ٤٢٦ ، الحديث : ١٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٣ ، الحديث : ١٢ ؛ تفسير القمي ١ : ٣٠٤.

(٥). في المصدر : ـ «العباد»

(٦). بصائر الدرجات : ٤٢٦ ، الحديث : ١٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٣ ، الحديث : ١٤.

١٧٦

فقال : أمّا مقامي بين أظهركم خير لكم ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، (١) يعني يعذّبهم بالسيف.

فأمّا مفارقتي إيّاكم فهو خير لكم لأنّ أعمالكم تعرض عليّ كلّ اثنين وخميس ، فما كان حسنا حمدت الله تعالى عليه ، وما كان من سيّء استغفرت لكم. (٢)

وفي الكافي مسندا عن جميل قال : روى لي غير واحد من أصحابنا ، قال : لا تتكلّموا في الإمام ، فإنّ الإمام يسمع الكلام وهو في بطن امّه ، فإذا وضعته كتب الملك بين عينيه : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، (٣) فإذا وقع بالأمر وضع (٤) له في كلّ بلدة منار من نور (٥) ينظر منه إلى أعمال العباد. (٦)

وفي الكافي أيضا عن محمّد بن عيسى بن عبيد قال : كنت أنا وابن فضّال جلوسا ، إذ أقبل يونس فقال : دخلت على أبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ فقلت له : جعلت فداك ، قد أكثر الناس في العمود ، قال : فقال لي : يا يونس ، ما تراه؟ (٧) عمودا من حديد يرفع لصاحبك؟ قال : قلت : ما أدري ، قال : لكنّه ملك موكّل بكلّ بلدة يرفع به أعمال تلك البلدة ، قال : فقام ابن فضّال ، فقبّل رأسه وقال : رحمك الله يا أبا محمّد لا تزال تجيء بالحديث الحقّ الذي يفرّج الله به عنّا. (٨)

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٣٣.

(٢). الأمالي ، الطوسي : ٤٠٨ ، الحديث : ٦٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٦ ، الحديث : ٢٥.

(٣). الأنعام (٦) : ١١٥.

(٤). في المصدر : «رفع»

(٥). في المصدر : ـ «من نور»

(٦). الكافي ١ : ٣٨٨ ، الحديث : ٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٢ ، الحديث : ٨.

(٧). في المصدر : + «أتراه»

(٨). الكافي ١ : ٣٨٨ ، الحديث : ٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٢ ، الحديث : ٩.

١٧٧

قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ)

الإرجاء : التأخير.

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في هذه الآية : قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفرا وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم ، فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم. (١)

أقول : ويظهر من الرواية أنّ الملاك في وجوب الجنّة والنار الإيمان والجحود ، وهو كذلك كما عرفت في محلّه.

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ، (٢) قوم اجترحوا ذنوبا مثل قتل حمزة وجعفر الطيّار ثمّ تابوا ، ثمّ قال : ومن قتل مؤمنا لم يوفّق للتوبة إلّا أنّ الله لا يقطع طمع العباد فيه ورجائهم منه. (٣)

أقول : وهذا لا ينافي ما مرّ أنّ (عَسَى) من الله سبحانه واجب ، فإنّ شمول التوبة والمغفرة لبعض الجماعة واجب ، وهو مصحّح للرجاء بالنسبة إلى كلّ واحد واحد ، فافهم.

*

__________________

(١). الكافي ٢ : ٤٠٧ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١١١ ، الحديث : ١٣٢ ؛ تفسير القمّي ١ : ٣٠٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٩ ، الحديث : ١.

(٢). التوبة (٩) : ١٠٢.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ١٠٥ ، الحديث : ١٠٦.

١٧٨

[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)]

قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً)

قرئ بالواو ، فهو عطف لسائر قصص المنافقين المذكورة قبلها ، وقرئ بإسقاط الواو لكونها قصّة مستقلّة كما قيل.

والمصادر الأربعة أعني قوله سبحانه : (ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً)، مفعولات مطلقة تدلّ على نوع الفعل وهو الاتّخاذ ،

١٧٩

فالمعنى : إنّهم أخذوا مسجدا ليضارّوا عدّة من المؤمنين اتّخذوا مسجدا ، وقد كفروا بهذا الاتّخاذ لما نووا في ذلك وليفرّقوا جماعة المؤمنين بنقض وحدتهم واجتماع أنفسهم وأنفاسهم ، ولينتظروا من حارب الله ورسوله من قبل.

وقد روى جمع من المفسّرين : أنّ قوما من الأنصار وهم بنو عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا بالمدينة ، وأتاه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وصلّى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف نفاقا وقالوا : نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله فيأتيه ويصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، وكانوا يقصدونه خارج المدينة ليكون مكانا يجتمع فيه المنافقون لبعض شأنهم وإنفاذ مقاصدهم في إفساد الأمر على رسول الله وإلقاء الخلاف بين المسلمين.

وقد وعدهم أبو عامر الراهب أن سيقوّيهم وينصرهم بمن يجلب إليه من جنود قيصر من بلاد الروم ، فبنوا مسجدا بجنب مسجد قبا وقالوا للنبيّ : بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة الممطرة والشاتية ونحن نحبّ أن تأتيه وتصلّي فيه وتدعو لنا بالبركة.

وكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عازما للخروج إلى تبوك ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّي على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلّينا فيه.

ولمّا قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت الآيات عليه ، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عديّ ونفر معهم ، فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد فاهدموه وأحرقوه ففعل ، وأمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة. (١)

__________________

(١). جوامع الجامع ٢ : ٨٤ ؛ جامع البيان ١١ : ١٨ ؛ الكشف والبيان ٥ : ٩٢ ؛ تفسير ابن كثير ٢ : ٣٥٣ ؛ الكشاف ٢ : ٣٠٩ ؛ تفسير القرطبي ٨ : ٢٥٣ ؛ الدر المنثور ٣ : ٢٧٦ ؛ تفسير القمي ١ : ٣٠٥ ؛ مجمع البيان ٥ : ١٠٨ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٦٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٥٢.

١٨٠