تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

ويظهر أيضا أنّ أمره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للعبّاس بالفداء كان حكما خاصّا.

ويظهر أيضا أنّه كان للملائكة بعض الإعانة ، وأمّا القتال فلم يؤثّر فيه شيء إلّا ما في بعض الروايات ممّا لا ينبغي الركون إليه.

وفي القصّة نكات اخرى.

قوله سبحانه : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)

العير أو النفير ، والشوكة هي الحدّة ، كنّى بها عن الحرب.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ ذات الشوكة التي فيها القتال. (١)

وروي أنّ العير لمّا أخذت طريق البحر ، نزل جبرئيل على النبيّ ، فقال : يا محمّد! إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين : إمّا العير وإمّا قريشا. (٢)

قوله : (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)

قيل : يعني بكلماته المنزلة من آياته ، وقيل : يعني بأوليائه.

وفي تفسير القمّي : الكلمات الأئمّة. (٣)

أقول : وهو تفسير أو تأويل غير مختصّ بالمورد ، بل عامّ.

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٤٩ ، الحديث : ٢٣.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٥٨.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٢٦٩.

٤١

[لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)]

قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)

تعليل للوعد أو الإخراج وليس من التكرار في شيء ، فإنّ الأوّل خاصّ والثاني عامّ ، وبذلك يستقيم التعليل ويرتفع التكرير.

قوله سبحانه : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ)

٤٢

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال : اللهمّ أنجز لي ما وعدتني ، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداءه عن منكبيه ، فأنزل الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) (١)

قوله سبحانه : (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)

الردف والمرتدف ، هو الذي يركب خلف الراكب ، والإرداف أخذه ردفا ، ويكنّى به عن إتباع شيء شيئا ، ففي الآية دلالة على أنّ هؤلاء الملائكة كان يتبعهم آخرون كما قيل ، فلا ينافي قوله في سورة آل عمران : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). (٢)

قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)

النعاس : النوم الخفيف ، وهو السنة ، والأمنة : الأمن.

قوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)

لا يبعد أن يكون الضرب فوق الأعناق كناية عن تذليلهم وإحباط حميّتهم ، وضرب البنان كناية عن تسليط الرعب عليهم فلا يمسك أيديهم السلاح ، ولذا

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨٠٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٨٩.

(٢). آل عمران (٣) : ١٢٣ ـ ١٢٥.

٤٣

خصّ فوق الأعناق والبنان بالذكر ، ويؤيّده قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى).

فالملائكة ما نزلت للقتال وإنّما نزلت بشرى ولتثبيت المؤمنين وخذلان المشركين ، وما ورد في بعض الروايات ممّا يشعر بخلافه ليس ممّا ينبغي الركون إليه والاعتماد عليه ، وقد قال سبحانه : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (١)

فالجند من السماء لو نزلت فإنّما ينزل للتأييد والخذلان دون القتال.

*

__________________

(١). يس (٣٦) : ٢٨.

٤٤

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ

٤٥

فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)]

قوله سبحانه : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً)

الزحف : الدنوّ قليلا قليلا ، ودنوّ الجيشين بعضهم من بعض ، والتحرّف : أخذ حرف أيّ طرف ، والتحيّز : أخذ الحيّز.

في تفسير العيّاشي عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) قال : متطرّدا يريد الكرّة عليهم ، أو متحيّزا يعني متأخّرا إلى أصحابه من غير هزيمة ، فمن انهزم حتّى يجوز صفّ أصحابه فقد باء بغضب من الله. (١)

قوله سبحانه : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ)

لمّا كانت الأسباب التي توجب الغلبة وتبشّر بالظفر والفتح غير موجودة ولا واحد منها بحسب الظاهر في جانب المؤمنين ، فإنّهم كانوا أقلّاء ضعفاء ، ولم يكن معهم ما يغنيهم من راحلة وزاد وماء وسائر ما يتوقّف عليه ورودهم في الحرب ، فضلا عن غلبتهم وتقدّمهم على عدوّهم ، وقد تمّ لهم العدّة ، والعدّة

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٥١ ، الحديث : ٣١.

٤٦

والشوكة صحّ أن ينفي عنهم القتل وينسب إلى الله سبحانه وهو ناصرهم ، فنفاه الله تعالى عنهم وقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ).

ولمّا كان هذا إنّما يكفي في نفي الأسباب العاديّة الطبيعيّة دون الأسباب غير العاديّة ، كرمي رسول الله الحصاة ونزول الملائكة ، وكان المراد نفي الجميع غير الله سبحانه نفى رمي رسول ثانيا حتّى لا يتوهّم أنّ الرسول لاتّصاله بجانب الله له تأثير وفعل ، فقال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)، وكان حقّ الكلام التدرّج من الضعف إلى القوّة.

ولذلك قدّم نفي القتل عنهم ، ثمّ أردفه بنفي الرمي من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إشعارا بالتعظيم والحرمة ، ومع ذلك لم ينف الرمي كلّ النفي ، كما نفى القتل كلّ النفي ، فقال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) ولم يقل فلم تقتلوهم إذ تقتلونهم ، ففيه مع ذلك إشعار بأنّ فعل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فعله سبحانه دون فعلهم ترفيعا لفعله عن فعلهم.

وفي قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وجه آخر وهو أنّ فعله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فعل الله سبحانه لمكان الولاية الكلّية ، وقد تقدّم في الكلام على الولاية ما يوضح المقام فارجع إليه.

قوله سبحانه : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ)

في تفسير أبي حمزة قال أبو جهل : اللهمّ ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث ، فأيّ الدينين أحبّ إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. (١)

__________________

(١). بحار الأنوار ١٩ : ٢٢٩.

٤٧

وروي أنّه قال : أيّنا أهجر وأقطع للرحم فأهنه (١) اليوم. (٢)

أقول : وقد قاله في بدر بين الصفّين وقد تهيّأ الطرفان للقتال ، وهذا يدلّ على أنّ قوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ)، خطاب للمشركين على سبيل التهكّم ، وهو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى خطابهم ، وأمّا كونه خطابا للمؤمنين ، فسياق الآيات لا يساعد عليه.

قوله سبحانه : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)

أي لو وجد فيهم خيرا وقابليّة لأسمعهم ، فإنّ العلم والوجدان هناك واحد.

وقوله : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ)

أي لو أعطى لهم السمع ولم يجد فيهم ما يقبله كمن يعطى قوّة السمع ولا أذن له كان ضائعا باطلا ولتولّوا وهم معرضون.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : نزلت في بني عبد الدار ، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له : سويبط. (٣)

قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)

الإتيان بلفظ المرء دون الإنسان العامّ للمرء والمرأة لأنّها المخاطبة مع الرجال ، وتخصيص القلب بالذكر بناء على أنّهم يريدون بالقلب في أمثال هذه الموارد

__________________

(١). قوله : «فأهنه» من الوهن بمعنى الضعف ، وفي رواية : «فأحنه» بالحاء ، من «الحين» بفتح الحاء بمعنى الهلاك ، اي : أهلكه. راجع : البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٨٤ ؛ تفسير القمّي ١ : ٢٦٧.

(٢). بحار الأنوار ١٩ : ٢٢٩ ، مع تفاوة.

(٣). مجمع البيان ٤ : ٨١٨.

٤٨

النفس الإنسانيّة من حيث أنّها مدركة ، وكأنّه بناء على ما كانوا يعتقدونه من أنّ الإدراك بالحياة ومتعلّق الحياة هو القلب ، ومن الواضح أنّ المراد بالقلب في أمثال المورد ليس هو اللحم الصنوبري المعلّق عن يسار الصدر.

وكيف كان فالمراد أنّ الله يحول بين الإنسان ونفسه ، عبّر بهذه العبارة ليكون أقرب من الفهم وأسهل في التلقّي ، والله سبحانه قد أثبت لنفسه الملك المطلق كما قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ، (١) وقال : (لَهُ الْمُلْكُ) ، (٢) وكلّ شيء خصّ بشيء أو ارتبط به شيء فقد ملكه كما قال سبحانه : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ، (٣) وقال : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً). (٤)

وعلى هذا فكلّ إضافة بين شيئين فهو ملك مّا من حيث إنّ للمضاف قياما بالمضاف إليه واختصاصا به ، فقولك مالي وجاهي وأخي ونفعي وضرّي وحياتي ونفسي ، كلّ ذلك من الملك ، وهو سبحانه المالك حقيقة ، وهو سبحانه الواسطة والرابط بين المضاف والمضاف إليه في جميع موارده ، فله سبحانه الحيلولة المطلقة ، فهو سبحانه حائل بيننا وبين قلوبنا في جميع ما ندركه أو نحبّه أو نبغضه أو نريده أو نتمنّاه أو نرجوه أو نخاف منه ، فلا المدرك منّا يمكنه أن يدرك ويفهم شيئا من غير إلهامه وهدايته ، ولا المطيع منّا يقوى على إطاعة من دون توفيقه وتسديده ، ولا العاصي يقدر على ذنب وسيّئة بلا خذلان وسخط

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٢٦.

(٢). الأنعام (٦) : ٧٣.

(٣). الفرقان (٢٥) : ٣.

(٤). الفتح (٤٨) : ١١.

٤٩

منه سبحانه ، والهداية والتوفيق والخذلان جهات الحيلولة وأنحاء الوساطة.

ثمّ إنّ ورود قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، تلو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)، تأكيد للأمر بالاستجابة وتحضيض ، حتّى يتنبّهوا ويكونوا على حزم من أمرهم ، فإنّهم إذا كانوا على علم بمقام ربّهم من الحيلولة ، وأنّهم إليه محشورون لا محالة ، أخذوا بالحزم والاحتياط في أمرهم ، ولم يسامحوا في استجابتهم لدعوة الله ودعوة رسوله.

كما يشعر به ما ذكره سبحانه بقوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، فيكون المعنى أن استجيبوا إذا دعيتم إلى ما يحييكم ، واعلموا أنّ الله سبحانه عند قلوبكم يلهمكم الخير والشرّ ، والطاعة والمعصية ، فلا يمكنكم أن تعتذروا بالجهل وعدم تمييز الحقّ من الباطل ، والحياة من الموت ، أو المعنى كونوا على حذر واعلموا أنّ قلوبكم بيده لا يعجزونه بمشيئة وإرادة وحبّ وبغض.

وعلى كلّ من المعنيين وردت روايات :

ففي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : لا يستيقن [القلب] أنّ الحقّ باطل أبدا ، ولا يستيقن أنّ الباطل حقّ أبدا. (١)

وفي التفسير أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ. (٢)

وفي التفسير أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال ـ عليه‌السلام ـ : هو أن

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٣ ، الحديث : ٣٩ ؛ مجمع البيان ٤ : ٨٢٠.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٢ ، الحديث : ٣٦.

٥٠

يشتهي الشيء بسمعه وبصره ولسانه ويده ، أمّا إنّه لا يغشى شيئا منها ، وإن كان يشتهيه فإنّه لا يأتيه إلّا وقلبه منكر لا يقبل الذي يأتي يعرف أنّ الحقّ ليس فيه. (١)

أقول : وقد ورد في معناها غيرها ، وهي جميعا مرويّة بطرق ، رواها الكليني والصدوق والبرقي ـ رضي الله عنهم ـ في كتبهم ، وهي إشارة إلى المعنى الأوّل الذي ذكرناه. (٢)

وفي تفسير العيّاشي أيضا في الآية عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : هذا الشيء يشتهيه الرجل بقلبه وسمعه وبصره ولا يتوق نفسه إلى غير ذلك ، فقد حيل بينه وبين قلبه إلى ذلك الشيء. (٣)

أقول : وهو إشارة إلى المعنى الثاني الذي ذكرناه ، وقد قيل : إنّ معنى الآية أنّ الله يحول بين المرء وقلبه بالموت ، أي يحول بينه وبين أماني قلبه وآماله البعيدة بالموت ، فلا ينالها فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) ، (٤) وهو راجع إلى المعنى الذي ذكرناه ، غير أنّه تخصيص من غير مخصّص.

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)، يقول : ولاية عليّ بن أبي طالب ، فإنّ اتّباعكم إيّاه وولايته أجمع لأمركم وأبقى للعدل فيكم ، وأمّا قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، يقول : بين المرء (٥) ومعصيته أن

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٢ ، الحديث : ٣٧ ؛ بحار الأنوار ٧٠ : ٥٨.

(٢). التوحيد : ٣٥٨ ؛ المحاسن : ٢٣٧ و ٢٧٦.

(٣). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٢ ، الحديث : ٣٨.

(٤). النجم (٥٣) : ٢٤ ـ ٢٥.

(٥). كذا في البرهان في تفسير القرآن ، وفي المصدر : «بين المرء ومعصيته التى»

٥١

يقوده إلى النار ، ويحول بين الكافر وطاعته أن يستكمل بها الإيمان ، واعلموا أنّ الأعمال بخواتيمها. (١)

أقول : وذلك أنّ السعادة والشقاء للقلب إنّما يأتيان من ناحية العمل ، غير أنّ الله سبحانه إذ كان حائلا بين المرء وقلبه لا يستقلّ العمل في تأثيره في القلب سعادة وشقاء ، إلّا أن يشاء الله سبحانه ذلك ، فمرجع هذا الوجه أيضا إلى المعنى الثاني كما لا يخفى.

وفي تفسير البرهان قال : ومن طرق العامّة ما نقله ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الإمام محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ) قال : نزلت في ولاية عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ. (٢)

أقول : وقد ورد هذا المعنى في روايات الخاصّة عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ ، ويمكن أن يكون من باب الجري والتطبيق. (٣)

وربما يؤيّده ما في تفسير القمّي ، قال : الحياة الجنّة ، (٤) الحديث ، فإنّ ظاهره تعميم الآية.

قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ)

في المجمع : إنّه قرأ عليّ والباقر ـ عليهما‌السلام ـ «لتصيبنّ» باللام. (٥)

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٧١ ، البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٩٦.

(٢). البرهان في تفسير القرآن : ٤ : ٢٩٥ ؛ تأويل الآيات ١ : ١٩١.

(٣). راجع : الكافي ٨ : ٢٤٨ ، الحديث : ٣٤٩ ؛ كشف الغمّة ١ : ٣٢١ ؛ المناقب ٣ : ٢٠٢ ؛ وغيرها.

(٤). تفسير القمّي ١ : ٢٧١.

(٥). مجمع البيان ٤ : ٨١٨.

٥٢

أقول : أفعال الإنسان صادرة عن مبادئ وملكات نفسانيّة خفيّة غير محسوسة ، والأفعال مع ذلك تهيّئ بتكرّرها ملكات تناسبها ، فالملكات تصدر أفعالا تناسبها وتدفع من الأفعال ما لا يلائمها ، فإذا اريد ظهور ما في النفس من صفة كامنة عرض عليها أفعال تلائمها أو تضادّها ، حتّى يظهر تأثيرها ويبرز ذاتها وحدّها ومقدارها ، والغالب على الإنسان الجهل بمكمونات النفوس ، ولذلك يستعمل الامتحان لغرض رفع الجهل وظهور الأمر.

لكنّ الله سبحانه يستحيل عليه الجهل ، فامتحاناته وابتلاءاته لغرض التربية ، وهو ربّ العالمين يخرج بذلك كلّ شيء من القوّة إلى الفعل في جميع الجهات ويظهر ما فيه من الاستحقاق.

ومن هنا يظهر أنّ الفتنة والامتحان ممّا لا مناص عنه في شيء ، فكلّ ما في وسع الإنسان من خير أو شرّ يجب أن يظهر بالامتحان الإلهي ليتمّ التربية ، فإن كان خيرا كان تربية وإسعادا ، وإن كان شرّا كان تربية وخذلانا وإضلالا ، وإليه يشير ما سيأتي عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن ، الحديث. (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : أخبرت أنّهم أصحاب الجمل. (٢)

أقول : وهو من الجري.

قوله سبحانه : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)

وقوع الآية في ذيل الآيات السابقة وما عدّه تعالى من النعم يدلّ على أنّ

__________________

(١). بحار الانوار ٩٤ : ١٩٧ ؛ نهج البلاغة : ٤٨٤ ، قسم الحكم ، الكلمة : ٩٣.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٣ ، الحديث : ٤١ ؛ الدر المنثور ٤ : ٤٦.

٥٣

الخطاب فيها للمهاجرين خاصّة ، فالمراد بالنصر ما نصره الله في وقعة بدر ، ومن الطيّبات ، الغنائم.

وفي تفسير القمّي : نزلت في قريش خاصّة. (١)

وفي تفسير الصافي : وهو مرويّ عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ. (٢)

أقول : ولعلّ المراد بقريش المهاجرون خاصّة.

قوله سبحانه : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)

في المجمع عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، وذلك أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حاصر يهود بني (٣) قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام ، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم ، فبعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأتاهم.

فقالوا : ما ترى يا أبا لبابة! أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه ، أنّه الذبح فلا تفعلوا ، فأتاه جبرئيل فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي عن مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله ، فنزلت الآية فيه ، فلمّا نزلت شدّ نفسه على سارية (٤) من سواري

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٧١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٩٩.

(٢). تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

(٣). لفظ «بني» ساقط عن المصدر ، ولكن موجود في البرهان في تفسير القرآن

(٤). السارية : «الأسطوانة».

٥٤

المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتّى أموت أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغشيّا عليه ، ثمّ تاب الله عليه.

فقيل له : يا أبا لبابة! قد تيب عليك ، فقال : لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الذي يحلّني ، فجاءه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فحلّه بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن انخلع من مالي ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : يجزيك الثلث أن تصدّق به. (١)

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : فخيانة الله والرسول معصيتهما ، وأمّا خيانة الأمانة فكلّ إنسان مأمون على ما افترض الله عزوجل عليه. (٢)

قال : نزل في أبي لبابة بن عبد المنذر ، فلفظ الآية عامّ ومعناها خاصّ ، قال : ونزلت في غزوة بني قريظة في سنة خمس من الهجرة ، وقد كتبت في هذه السورة مع أخبار بدر ، وكانت على رأس ستّة عشر شهرا من مقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المدينة ، ونزلت مع الآية التي في سورة التوبة قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (٣) التي نزلت في أبي لبابة ، قال : (٤) فهذا دليل على أنّ التأليف على خلاف ما أنزل الله على نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، (٥) الحديث.

أقول : قوله : وأمّا خيانة الأمانة ـ الى آخره ـ ، معناه أنّ وقوع قوله تعالى : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)، بعد قوله : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ)، للإشارة إلى أنّ

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨٢٣ ؛ تفسير الصافى ٣ : ٣٢٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٠٠.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٣). التوبة (٩) : ١٠٢.

(٤). في المصدر : ـ «قال»

(٥). تفسير القمّي ١ : ٢٧٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٢٥.

٥٥

خيانة الله والرسول من مصاديق خيانة الأمانة ، فيفيد التعليل بوجه ، ويصير المعنى : أن لا تخونوا الله والرسول فإنّها خيانة لأماناتكم.

قوله سبحانه : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)

وجه اتّصالها بالآية السابقة معلوم ، فإنّ أبا لبابة إنّما أقدم على ما أقدم رعاية لحال أمواله وأولاده.

وفي المجمع عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن ، فإنّ الله سبحانه يقول : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). (١)

أقول : وقوله عليه‌السلام : فإنّ الله ، ـ الى آخره ـ ، تعليل لقوله : ليس أحد ـ الى آخره.

*

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨٢٤ ؛ نهج البلاغة : ٤٨٤ ؛ بحار الأنوار ٩٤ : ١٩٧.

٥٦

[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

٥٧

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)

الإثبات هو الحبس.

ظاهر الآية أنّها نزلت بعد الهجرة أو بعد قضيّة دار الندوة لمكان قوله : (وَإِذْ)، كما هو ظاهر ما في تفسير العيّاشي عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ : إنّ قريشا اجتمعت فخرج من كلّ بطن اناس ، ثمّ انطلقوا إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله ، فإذا هم بشيخ قائم على الباب فإذا ذهبوا إليه ليدخلوا ، قال : أدخلوني معكم قال : ومن أنت يا شيخ؟

قال : أنا شيخ من [بني] مضر ولي رأي اشير به عليكم ، فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس ، وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه ، فقال : ليس هذا لكم برأي ، إن أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم ، قالوا : صدقت ، ما هذا برأي ، ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه ، قال : هذا ليس بالرأي ، إن فعلتم هذا ـ ومحمّد رجل حلو اللسان ـ أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم ، وما ينفع أحدكم لو فارقه ابنه وأخوه أو امرأته ، ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم أن يقتلوه ، يخرجون من كلّ بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة ، ثمّ قرأ هذه الآية : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا). (١)

أقول : والقصّة معروفة وردت بها الروايات من طرق العامّة والخاصّة مجملة ومفصّلة ، وما أوردناه أقرب من المعنى الذي اشتركت فيه الجميع ونطق بها

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٥٣ ـ ٥٤ ، الحديث : ٤٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣١٦.

٥٨

التاريخ ، وسنورد القصّة بتمامها في آية «الغار» من سورة البراءة.

وفي بعض الروايات أنّ الآية نزلت حينئذ ، وقد مرّ أنّ ظاهر الآية غير ذلك ، لكنّ ظاهرها أنّ القول قول الراوي كما فيما عن ابن عبّاس وهند بن أبي هالة ، وما في تفسير القمّي.

وقوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ)

إعادة مكر الكفّار في الذكر ثانيا ليتمّ صورة المقابلة في قوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ)، فيدلّ على تفاعل المكرين وتدافعهما ، و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). (١)

هذا والمكر هو الفعل الذي ظاهره خير وباطنه شرّ ، فيأمنه ويأنس به الممكور له ، فلا يتّقي شرّه ، فيؤثّر فيه بباطنه الشرّ ، والمستعمل منه بين الناس غالبا هو المكر لغرض الغدر والإغفال فيكون مذموما ، وإن كان ربما كان لغرض آخر فلا يكون مذموما كالمكر مع من يمكر بك تريد به دفعه ، فالمكر غير مذموم بالذات وإنّما يختلف بالوجوه والاعتبارات.

وعلى هذا يمكن أن يطلق عليه تعالى كما أطلقه على نفسه في كتابه ، ومكر الكفّار وهو أن يفعلوا فعلا ظاهره حسن وباطنه سيّء ، يريدون به المكر بالله تعالى وبرسوله ، هو بعينه فعل يحسبونه لهم ، وهو في الواقع عليهم ، فمكرهم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مكر من الله بهم ، فقوله سبحانه : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ)، نظير قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ

__________________

(١). الفتح (٤٨) : ١٠.

٥٩

مُسْتَهْزِؤُنَ* اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، (١) فاستهزاؤهم بالمؤمنين بعينه استهزاء من الله تعالى بهم.

وبالجملة ، فالمكر من الله سبحانه هو الفعل يفعله الإنسان يحسبه خيرا له وهو شرّ له ، وحيث كان مكر الماكر ربّما كان مذموما إذا كان لغرض مذموم ، أو ممدوحا حسنا إذا كان لغرض ممدوح وهو من الله سبحانه حسن ، لأنّه لا يفعل إلّا الحسن ، ولا يفيض إلّا الخير ، صحّ أنّه خير الماكرين كما سمّى به نفسه.

قوله سبحانه : (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) ـ إلى قوله ـ : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قيل : قائله النضر بن الحرث بن كلدة ، وهو الذي جاء بحديث رستم وإسفنديار من بلاد فارس ، وزعم أنّ ما جاء به النبيّ من قبيل ذاك ، وحضر بدرا مع المشركين ، فاسر وسيق مع الأسارى حتّى نزل رسول الله الأثيل ، وهو مكان على ستّة أميال من بدر ، نزل به عشيّة يومه فأحضره وعقبة بن أبي معيط ، ثمّ أمر عليّا فضرب أعناقهما.

وقوله : (قَدْ سَمِعْنا)

حذف متعلّق الفعل للتحقير والاستكبار ، وكذا الإتيان باسم الإشارة مكان الضمير في قوله (مِثْلَ هذا).

وقوله : (إِنْ هذا)

في مكان التعليل له.

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٤ ـ ١٥.

٦٠