تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

تنتج ما يستقبلهم من المحن والخسرانات فلا يقبلون فلاحا ولا هداية ، ويسمى ذلك منهم بالمنع الإلهي والاضلال الإلهي ، وبالجملة بالغضب والسخط الإلهي فتدبّر.

فإن قلت : هب إنّ الأمر في الفرد من الإنسان كذلك ، فما معنى ذلك في الأمّة والقوم ، وليس الأمّة إلّا الأفراد ، فالمواجهة مع الأمم في هذه الأمور مجاز من غير حقيقة.

قلت : سيتبيّن أنّ الأمر ليس كذلك.

قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً)

سيجيء الكلام في معنى الآية في آخر السورة.

*

٢٤١

[وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)]

٢٤٢

قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ)

أنت إذا تصفّحت أحوال الإنسان ، وتأمّلت وأجلت الفكر إجالة جيّدة في هذا النوع ، وكذلك سائر الأنواع في هذا العالم الطبيعي ، وجدت كلّ فرد من أفراده ذا خواصّ وآثار وأحوال تكوينيّة وغير تكوينيّة وهو ظاهر ، وإذا تعّديت الفرد إلى الشعب والقبائل ، وبالجملة إلى الاجتماعات القوميّة ، وخاصّة الوحدات النسليّة والنسبيّة ، وجدت كلّ جامعة قوميّة كالجسم الفردي ذات خواصّ وآثار مختصّة بها متميّزة عن غيرها ، وهي مبادىء أخلاق وآداب ورسوم لا تتجاوزها إلى غيرها.

ولا ننسى مع ذلك أنّ للجهات الطبيعيّة من القطر والمحيط تأثيرا في ذلك ، وأنّ الأمر في جميع ذلك يدور على الغالب لا الدائم ، فالأحكام الغالبة في الاجتماعيات كليّات البتّة.

فهذه أمّة الصين ، وهذه أمّة الهند ، وهذه [أمّة] العرب ، وهذه أمّة العجم ، وهذه أمم الغرب تصدّق بوجودها ما ذكرناه ، وليست هذه الخصائص التكوينيّة في كلّ أمّة إلّا مستندة إلى وحدة حقيقيّة خارجيّة ، وطبيعة موجودة سارية في الأفراد هي المبدأ وهي السبب لتلك الخصائص الخلقيّة والخلقيّة ، والآثار الجسميّة والروحيّة ، وكذلك الحكم في الشعب الصغيرة المنشعبة من الأمم الكبار ، كالقبائل والبطون والأحياء حتّى ينتهي الأمر إلى الفرد ، ولازم ذلك أن يكون لكلّ اجتماع هويّة ذات آثار وأحكام ، نظير الفرد في كونه ذا هويّة صاحبة آثار وأحكام. نعم هذه الأحكام والآثار يتقدّر في كلّ منهما على حسب ما يناسبه ويقتضيه.

٢٤٣

وعند ذلك ربّما يختلف الحكمان ـ أعني حكم الفرد وحكم الاجتماع ـ فترى وصفا في الفرد ممدوحا بقياسه إليه ، مذموما بالقياس إلى النوع والأمّة أو بالعكس ، أو تجد الفرد مستحق الخير لسعادة في نفسه والأمّة لا تستحقه وبالعكس ، وهذه حقيقة ثابتة لا ينبغي الإرتياب فيها ، ولا يزال الإنسان يزيد اعترافا بهذه الحقيقة حينا بعد حين وعصرا بعد عصر.

ثمّ إنّك إذا تدبّرت كلامه تعالى وجدته يؤيد هذه الحقيقة ، ويعتني بشأنه اعتناء بالغا ، فكما أنّه بيّن للفرد صلاحه وفساده وما يتبعهما من سعادة وشقاء ، ثمّ جمع ذلك كلّه في مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١). وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٢) وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣) ، كذلك بيّن أنّ لكلّ أمّة موتا وحياة ، وسعادة وشقاء ، وأجلا وكتابا ، وصلاحا وفسادا إلى آخر الأحكام الفرديّة.

فقال تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وقال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٤) وقال تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) (٥) وقال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (٦) وقال تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٦٤.

(٢). المدّثّر (٧٤) : ٣٨.

(٣). النجم (٥٣) : ٣٩.

(٤). الرعد (١٣) : ٣٨.

(٥). الجاثية (٤٥) : ٢٨.

(٦). الاسراء (١٧) : ٧١.

(٧). الرعد (١٣) : ٧.

٢٤٤

مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (١) وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) (٣).

وفي القرآن آيات كثيرة في ذلك ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٤) وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٥).

ويستنتج من هذا أنّ لكلّ أمّة حياة دنيويّة مؤجّلة ربّما سعدت في آخرها بما أسلفته في أوّلها ، وربّما شقيت بما كسبته في حين من أحيان عمرها ، ويوم من أيّام حياتها حينا آخرا ويوما آخر ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) (٦) ، كما أنّ الفرد من الإنسان يجني في شيبه ما قد غرسه في شبابه ، ويحصد يوما ما قد زرعه يوما.

وبالجملة فهذا حكم جار في الفرد والأمّة على حدّ سواء ، وإن كان هناك بعض الفروق والمميّزات بحسب ما يليق بموضوع الحكم ، كما أنّ وصف الفرد وصف نفسه ، ووصف الأمّة وصف الشايع الغالب من أفراده ، وكما أنّ الفرد ربّما لم يتّصف بوصفين متقابلين كالسعادة والشقاء والمدح والذم ، والأمّة قد تتّصف

__________________

(١). الاسراء (١٧) : ٥٨.

(٢). هود (١١) : ١٠٢.

(٣). الأعراف (٧) : ٩٦.

(٤). النساء (٤) : ٩.

(٥). الشورى (٤٢) : ٣٠.

(٦). آل عمران (٣) : ١٤٠.

٢٤٥

بالوصفين المتقابلين ، بمعنى أنّ بعض أفراده يتّصفون بالسعادة وبعضهم بالشقاء.

فإن قلت : هل هذا إلّا تحميلا لما لا يستحقّه؟ فإنّ أبناء أمّة إذا أخذوا بفعال آبائهم كان ذلك تحميل وازرة وزر أخرى ، وهو منفيّ بالعقل وصريح كلامه تعالى.

قلت : هذا خلط بين الأحكام الفرديّة والأحكام النوعيّة ، فالأحكام النوعيّة ما كان موضوعها الجهة السارية في طبيعة الأفراد ، وهي التي يترتّب عليها إتّحاد الآثار التكوينيّة من شكل ولون وسائر خصوصيّات الأمزجة ، ويتفرّع عليها في المرتبة الأخلاق النوعيّة والغرائز الموروثة ، لتمايل الأبناء إلى ما كان عليه آبائهم من الغرائز والأخلاق والشيم والأحكام الفرديّة ما كان موضوعها الجهة المختصّة بالفرد ، لا تتعدّاه إلى غيره فلا يتعدّى حكمه إلى غيره ، بخلاف الجهة العامّة السارية في الأفراد على تعاقبها ، فما كان منها في السابقين فهو بشخصه وعينه في اللاحقين.

فالوراثة التكوينيّة في الجهات الجسمانيّة ؛ كصحة الأبدان وعلّتها ، والسمن والهزال ، والطول والقصر ، والأشكال والألوان وأضرابها لا بحث فيها ، والوراثة التي في باب السعادة والشقاوة من ظلم وجور ، أو ابتلاء أو هلاك ، أو عذاب أو غضب ، أو رحمة أو هداية أو ضلال فإنّها ربّما تتحقّق في اللاحق بدل السابق ؛ إذا اشتركا في منشئها كالتفريط في جنب الله أو الطغيان.

وبالجملة في المنشأ الذي كان منشأ في الأولين إذا كان موجودا في الآخرين ، وإلى هذا يرجع ما أجاب به بعض الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ حيث سئل كيف يؤاخذ الله تعالى ذريّة قوم بفعال آبائهم فأجاب ـ عليه‌السلام ـ بأنّهم رضوا

٢٤٦

بفعالهم ومن رضي بفعل كان كمن فعله (١). وربّما تحقّق في السابق معصية أوجبت آثارا تكوينيّة كعلة أو مرض أو عدم أو نقص فسرى في النسل وبرز حيثما يجب أن يبرز على حسب اقتضاء نظام الطبيعة أو ناموس الكون ، وربّما كان بغير ذلك من علل وأسباب متشتّتة لا يحصيها إلّا من لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

غير أنّ الله ـ سبحانه ـ في كلّ حال يحقّ الحقّ بكلماته ؛ ولا يحقّ باطلا ولا يبطل حقّا ، قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٣).

وجملة القول في جميع ذلك أنّ النوع كالفرد ذو حياة طبيعية ذات أحكام وآثار ، هذا وأعلم أنّ هاهنا في لحوق العمل بالعامل قانونا آخر ربّما لحق به حكم فرد بفرد آخر قد بحثنا عنه في سورة الأعراف في قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٤) ، فارجع إلى هناك.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ)

من هذه الآية إلى تمام تسع آيات وعيد بالعذاب لهذه الأمّة وفيها تحقيق بعد تحقيق لوقوعه :

__________________

(١). علل الشرائع ١ : ٢٢٩ ، باب : ١٦٤ ، الحديث : ١ ؛ عيون أخبار الرضا (ع) ١ : ٢٧٣ ، الحديث : ٥ ؛ ثواب الأعمال : ٢١٧.

(٢). يونس (١٠) : ١٠٣.

(٣). الغافر (٤٠) : ٥١.

(٤). الأنفال (٨) : ٣٧.

٢٤٧

فأوّلها قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ) إلى آخر الآية.

وثانيها قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ).

وثالثها قوله : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ).

ورابعها قوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ).

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : هذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم. (١)

وفي المجمع ما في معناه (٢).

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي)

أمر رسوله أن يجيبهم بأنّه ليس إليه شيء يملكه حتّى يحتم لهم بتاريخ وقوعه وإلّا ما يعلّمه الله ويوحي إليه ، والذي أوحى إليه أنّ لكلّ امّة أجلا لا تتعدّاه ولا تزول عنه إلى بعد وقبل.

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

في المجمع وتفسيري العيّاشي والقمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّه سئل ما ينفعهم أسرار الندامة وهم في العذاب ، قال : كرهوا شماتة الأعداء (٣).

وفي عدّة من الأخبار أنّ الآيات في ولاية عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، (٤)

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٣١٢.

(٢). مجمع البيان ٥ : ١٩٧.

(٣). مجمع البيان ٥ : ١٩٨ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٣ ، الحديث : ٢٦ ؛ تفسير القمّي ١ : ٣١٣.

(٤). أنظر تفسير القمّي ١ : ٣١٢ ؛ مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦١ ؛ شواهد التنزيل ١ : ٢٦٧ ، ٣٦٣ و ٣٦٤.

٢٤٨

ولا ضير فيها فإنّ الولاية ـ على ما مرّ من تفسيرها ـ هي بالنسبة إلى الدّين بمنزلة الامتثال بالنسبة إلى الأمر.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ)

بمنزلة التعليل لقدرته تعالى على إنزال العذاب ؛ وإنّهم غير معجزين.

*

٢٤٩

[يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

٢٥٠

اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)]

قوله تعالى : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ)

في حديث الاهليلجة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّه شفاء من أمراض الخواطر ومشتبهات الامور. (١)

وفي الكافي في الحديث القدسي : من نفث الشيطان (٢).

أقول : ويستفاد هذا المعنى من كلامه سبحانه ، حيث دلّ على أنّ الوسوسة تكون في الصدور وأنّ الشكّ والنفاق من أمراض القلب.

قوله تعالى : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ)

في المجمع والجوامع عن النبيّ [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ] : فضل الله : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ورحمته : عليّ بن أبي طالب [ـ عليهما‌السلام ـ] (٣).

__________________

(١). مع تفاوة راجع : بحار الأنوار ٣ : ١٥٢ ، باب : ٥ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٠٧ ؛ تفسير نور الثقلين ٢ : ٣٠٧ ، الحديث : ٧٩.

(٢). الكافي ٨ : ٤٢ ، الحديث : ٨.

(٣). مجمع البيان ٥ : ٢٠١ ؛ جوامع الجامع ٢ : ١١٧ وفيهما : عن أبي جعفر (ع).

٢٥١

أقول : وهذا المعنى مروي في عدّة كتب : كتفسيري القمّي والعيّاشي والكافي ومجالس الصدوق وأمالي الشيخ ، وهو من باب عدّ أفضل المصاديق (١).

قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)

كان الضمير المجرور راجع إلى الشأن والمعنى : إنّ جميع الأعمال بعين الله سبحانه وفي شهوده ، لا بعلم سابق منطبق ، بل بحضوره تعالى عند كلّ عمل ، وحضوره بعينه بين يديه ، وإفراده رسوله بالذكر وحده ، وتميّزه من بينهم مع اشتراكهم معه في الحكم اختصاص تشريفي كما في غير هذا المورد من كلامه تعالى ، كقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٢) وقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (٣) إلى غير ذلك كما إنّ إفراد تلاوة القرآن من بين سائر شؤون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالذكر مع دخوله في عموم قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) كما يدلّ عليه قوله : (مِنْهُ) اختصاص تشريفي ، وإنّما أخّر تلاوة القرآن في الذكر ليدلّ على أنّه من جملة شؤون رسوله وأعظم شؤونه ، إذ لو قدّم فات شأن الضمير فافهم.

وفي تفسير القمّي مرسلا ، وفي المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إذا قرأ هذه الآية بكى بكاءا شديدا (٤).

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٣٤٢ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٤ ، الحديث : ٢٩ ؛ الكافي ١ : ٤٢٣ ، الحديث : ٥٥ ؛ الامالي للصدوق : ٤٩٤ ، المجلس الرابع والسبعون ، الحديث : ١٣ ؛ الامالي للشيخ الطوسي : ٢٥٤ ، المجلس التاسع ، الحديث : ٤٥٧.

(٢). التحريم (٦٦) : ٨.

(٣). البقرة (٢) : ٢٨٥.

(٤). تفسير القمّي ١ : ٣١٣ ؛ مجمع البيان ٥ : ٢٠٣.

٢٥٢

قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ)

العزوب : الغيبة والزوال ، ولفظ الآية يدلّ على أنّ الأشياء حاضرة عنده سبحانه بأنفسها ، وهوياتها الخارجيّة لا بصورها العلمية على حدّ علومنا الحصوليّة ، كما إنّ قوله تعالى في الجملة السابقة : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)، يدلّ على ذلك ، حيث قيّد الكلام بقوله تعالى : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)، ثمّ إنّ قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)، يدلّ على أنّ الأصغر والأكبر في الكتاب ، وهذا اللفظ وأمثاله يدلّ على أنّ مثقال الذرّة وهو الذي أخذ وسطا يقاس إليه الأصغر والأكبر أيضا في الكتاب ، فإنّ الكلام مسوق للإستيعاب والإستغراق ، فمعناه أنّ كلّ شيء مشهود له تعالى حاضر لديه ، حتّى مثقال الذرّة كائنا ما كان ، فالأكبر من مثقال الذرّة أيضا مشهود حاضر.

فإذن يفهم منه أنّ كلّ شيء حاضر عنده تعالى بوجوده وعينه ، وأنّ كلّ شيء في الكتاب المبين بوجوده وعينه ، فالكتاب المبين مرتبة عين الأشياء ، كما أنّ علمه تعالى المذكور في هذه الآية مرتبة عينها ، فالكتاب المبين هو علمه تعالى بالأشياء في مرتبة أعيانها وأنت إذا تحصّلت هذه الحقيقة القرآنيّة وتمكّنت من فهمها ثمّ أخذتها معك موجّها وجهك إلى أفق حقائقها لم تزل تستطلع نجما بعد نجم وتستشرق لمعا بعد لمع ، والله ـ سبحانه ـ هو الهادي.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)

قد مرّ من الكلام في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) (١).

__________________

(١). المائدة (٥) : ٥٥.

٢٥٣

ما يظهر به معنى هذه الآية ، فأولياء الله تعالى هم الذين يباشر الله سبحانه تدبير أمرهم ، فليس لهم من الأمر شيء ، فكلّما لهم من الشأن فهو لله سبحانه ، والخوف من مكروه ، متوقع مترقّب ، والحزن من مكروه متحقّق إنّما يتصوران إذا توجّه المكروه إلى ما يملكه الإنسان ، فأمّا إذا لم يملك شيئا فلا يخاف ولا يحزن ، إذ لا يرتبط به المكروه ولا يماسّه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)

ظاهر السياق أنّه تفسير لأولياء الله في الآية السابقة ، وإن احتمل الاستئناف ، وعلى أيّ حال فقوله : (وَكانُوا)، يدلّ على كون إيمانهم مسبوقا بتقوى مستقّر مستمّر منهم ، فليس هو الإيمان البدوي ، فإن التقوى يجب أن تكون أيضا مسبوقة بإيمان ، والإيمان نفسه مسبوق بالإسلام البدوي الحاصل بالشهادتين ، قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١) ، وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) ، وقال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٣).

والآيتان كما ترى تدلان على أنّ الإيمان من المؤمن لا يخلص حتّى يتحقّق التسليم التامّ لله ورسوله ، فهذا الإيمان أيضا مسبوق بإسلام بعد الإيمان السابق عليه ، فالإيمان المذكور في هذه الآية مرتبة من الإيمان يسبقه إسلام ، وقبله

__________________

(١). الحجرات (٤٩) : ١٤.

(٢). النساء (٤) : ٦٥.

(٣). يوسف (١٢) : ١٠٦.

٢٥٤

إيمان ، وقبله إسلام.

ولمّا كان الإيمان الأوّل نزول الإسلام الأوّل ، وهو التسليم اللفظي إلى القلب وسريانه وانتشاره في الجوارح وإعمالها ، كان هذا الإيمان الخالص نزول التسليم الحقيقي في القلب وسريانه في جميع الأفعال والأعمال.

فهذه المرتبة من الإيمان اذعان بالعبودية قلبا ، وتمكّن معنى العبودية في جميع الأعمال والأفعال ، بحيث يحكي كلّ فعل من العبد معنى عبوديته وصفة مملوكيّته حكاية حقيقة وعيان ، لا حكاية تكلّف وتعسّف.

هذا وفي الجوامع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّه سئل عن أولياء الله فقال : الذين يذكّر الله برؤيتهم (١).

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام ، وبطنه من الطعام ، وعفا نفسه بالصيام والقيام ـ قالوا : بآبائنا وامّهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله ـ؟ ، قال : إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لولا الآجال التي كتبت عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب (٢).

أقول : ومعنى الروايتين ظاهر من البيان السابق.

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب» كناية عن المحبّة ، فإنّها الصفة المحفوظة بالخوف والرجاء ، فإنّ الصفات

__________________

(١). جوامع الجامع ٢ : ١١٩.

(٢). الكافي ٢ : ٢٣٧ ، الحديث : ٢٥.

٢٥٥

الإدراكيّة تختلف إدراك المدركين ، فإنّ التلذّذ بالحضور على مائدة العظماء تختلف باختلاف الحاضرين ، فمنهم من التذاذه اشباع بطنه فحسب ، ومنهم من يتلذّذ بلذائذ طعوم الوان الطعام ، ومنهم من يتلذّذ بشرف الحضور ولذّة القرب إلى غير ذلك ، وكذلك الأمر في الحضور الباطني فمنهم من يريد النجاة من النار ، ومنهم من يبتغي التنعّم بنعيم الجنّة ، ومنهم من لا يريد إلّا الله ـ سبحانه ـ ، ولا يبتغي غير القرب منه ورضاه عنه وهو المحبة ، فخوفه من النار وشوقه إلى الجنّة إرادة منه إلى قربه وهو حاصل بالجنّة دون النار ، فيشتاق إلى هذا ويخاف من ذلك بالتبع ، وإلى الله الرجعى.

وفي تفسير العيّاشي عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الآية : هم نحن وأتباعنا ، ممّن تبعنا من بعدنا ، طوبى لنا وطوبى لهم ، وطوبا هم أفضل من طوبانا ، قيل : ما شأن طوباهم أفضل من طوبانا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال : لا ، إنّهم (١) حمّلوا ما لم تحمّلوا وأطاقوا ما لم تطيقوا (٢).

أقول : والأخبار في هذه المعاني كثيرة (٣).

قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)

لو كان قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) في مقام التفسير لأولياء الله لم يبعد أن يكون بشراهم في الدنيا والآخرة نفس قوله تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤) فإنّه سلام عامّ وراحة كبرى يستتبع من الله ـ سبحانه ـ كلّ مزيد ،

__________________

(١). في المصدر : «لأنّهم»

(٢). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٤ ، الحديث : ٣٠.

(٣). أنظر بحار الأنوار ٦٨ : ٣٤ ، الحديث : ٧٢ ؛ ٦٩ : ٢٧٧ ، الحديث : ١٠.

(٤). البقرة (٢) : ٢٧٤.

٢٥٦

لكن الظاهر من نظائر الآية : أنّ البشرى غير انتفاء الخوف والحزن ، بل هي الجنّة والفوز ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١).

فالآيات كما ترى واردة مورد الولاية ، وهي تخاطب أوّلا : بنفي الخوف والحزن ، ثمّ تبشّر ثانيا : بالجنّة ، فقوله تعالى : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) بمنزلة إعطاء الأمان للمتزلزل المضطرب ، حتّى يتهيّأ لتلقّي البشرى ، وكيف كان فهي تعطي البشرى بما دون نفي الخوف والحزن ، ونظيرها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

ومن هنا يظهر أنّ قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى) ليس إنشاءا للبشارة ، بل إخبارا وحكاية عن البشارة ، على أنّ اللفظ أيضا لا يلائمه ، فإنّ إنشاء البشارة إنّما يكون بغير هذا اللّفظ كقوله تعالى : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، وقوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) (٣).

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الآية تخبر عن تحقق بشارة لهم في الدنيا وفي الآخرة ، ويستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) ـ إلى قوله ـ (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٤) ، أنّها بشارة الآخرة بشارة بالجنّة ، وهي

__________________

(١). فصّلت (٤١) : ٣٠ ـ ٣١.

(٢). الاحقاف (٤٦) : ١٣ ـ ١٤.

(٣). الحديد (٥٧) : ١٢.

(٤). فصّلت (٤١) : ٣٠.

٢٥٧

حين الموت لظهور قوله : (كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في انقضاء أيّام الحياة الدنيا حين بلوغ البشارة ، وكذا يستفاد من قوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) (١) أنّها البشرى الثانية : بشرى الآخرة ، والبشارة الاولى : بشارة البرزخ ، والثانية : بشارة يوم القيامة ، ونظير الآيتين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢).

وقوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٣).

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّما أحدكم حين تبلغ (٤) نفسه هاهنا ، ينزل (٥) عليه ملك الموت ، فيقول له : أما ما كنت ترجو فقد أعطيته ، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه ، ويفتح له باب إلى منزله من الجنّة ، ويقال له : انظر إلى مسكنك من الجنّة ، وانظر هذا رسول الله وأمير المؤمنين والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ رفقاؤك ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦).

أقول : والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا (٧).

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ١٢.

(٢). الشورى (٤٢) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣). التوبة (٩) : ٢١.

(٤). في المصدر : «يبلغ»

(٥). في المصدر : «فينزل»

(٦). تفسير العيّاشي ٢ : ١٢٤ ، الحديث : ٣٢ ، وفيه بدل أمير المؤمنين : عليّ ؛ بحار الأنوار ٦ : ١٧٧ ، الحديث : ٥.

(٧). انظر الكافى ٣ : ١٢٨ ، الحديث : ١.

٢٥٨

وفي تفسير القمّي قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : البشرى في الحياة الدنيا : الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشّر بها في دنياه ، وفي الآخرة عند الموت ، وهو قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) (١) (٢).

أقول : ويقرب منها روايات أخر في هذا المضمون (٣).

قوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)

في التعليل به وعد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالنصرة.

قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ)

التقدير وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، حذف أحد اللفظين لدلالة الكلام عليه ، والمعنى أنّ الذين يسمّونهم شركاء ليسوا بشركاء حقيقة ، بل بحسب ظنّهم فهم لا يتبعون الشركاء وإنّما يتبعون الظّن ، فالآية في مساق قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (٤).

*

__________________

(١). النحل (١٦) : ٣٢.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٣١٣.

(٣). أنظر الكافي ٨ : ٩٠ ، الحديث : ٦٠ ؛ من لا يحضره الفقيه ١ : ٧٩ ، الحديث : ٣٥٦ ؛ مجمع البيان ٥ : ٢٠٥.

(٤). النجم (٥٣) : ٢٣.

٢٥٩

[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)]

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ)

ستأتي قصته ـ عليه‌السلام ـ في سورة هود ، وأنت إذا تدبّرت في آيات السورة وجدتها مدار الوعد بنصرة الرسول والإنتقام من الكفّار تصريحا أو تلويحا ، حتّى آل الأمر في التصريح إلى أن قال تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، ثمّ أوعد بالعذاب الصريح بقوله : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌ

__________________

(١). يونس (١٠) : ٣٣.

٢٦٠