تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

فضّة ما وجب عليه شيء ، فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ، ثمّ قال له : يابن اليهوديّة الكافرة! ما أنت والنظر في أحكام المسلمين ، قول الله أصدق من قولك حيث قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ). (١)

أقول : وبذلك ينبغي أن يفسّر النبويّ السابق ويقيّد بما إذا لم تمسّ الحاجة الشديدة من المؤمنين أو وليّ الأمر إليه وإلّا فهو كنز وإن ادّيت حقوقه الواجبة.

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى أيضا من ما في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقيل : اريدهما جميعا ، فقال : أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون ، وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك. (٢)

أقول : والأخبار على اختلافها كثيرة في هذا الباب ، ولعلّها تتّفق في ما ذكرناه من المعنى وإن اختلفت بظاهرها.

*

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٥٢ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٠٥.

(٢). الكافي ٣ : ٥٠٠ ، الحديث : ١٣.

١٢١

[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)]

قوله سبحانه : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)

وهي ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، ورجب الفرد ، وكانت العرب ترى وتعتقد حرمة هذه الأشهر الأربع ، وقد تمسّكوا به من دين إبراهيم وإسماعيل ، حتّى أنّ أحدهم لو ظفر على قاتل أبيه أو تمكّن من عدوّه ما بسط إليه يدا قط ، وكان ذلك بينهم حتّى حدث النسيء وهو أنّهم إذا أرادوا قتالا في شهر حرام أحلّوه وحرّموا مكانه آخر غيره ، وكان ذلك مختصّا بالمحرّم وصفر.

وكانا يسمّيان صفرا الأوّل وصفرا الثاني ، فربما احلّ صفر الأوّل في هذه

١٢٢

السنّة وحرّم مكانه صفر الثاني ، ثمّ حرّم في القابل صفر الأوّل وحلّ الثاني.

ثمّ إنّهم سروا هذا التغيير إلى بقيّة الشهور ، حتّى رفضوا خصوص هذه الأربعة واعتبروا فيها العدد فقط ، وهو الأربعة ، وربما زادوا شهرا واحدا أو شهرين على شهور السنة ، فصارت السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر شهرا.

وقد ذكروا أنّ أوّل ذلك حدث في كنانة ، وكانوا فقراء ذوي حاجة إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني سيّدا مطاعا في الجاهليّة ، وكان يقوم على جمل أحمر في الموسم ، فيقول : إنّ آلهتكم قد أحللت لكم المحرّم فأحلّوه ، ثمّ ينادي في القابل : إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه. (١)

وبالجملة كان ذلك دائرا بينهم في الجاهليّة ، حتّى أثبت الإسلام المشهور اثني عشر لا تزيد ولا تنقص ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً)، وأثبت الحرمة في صفر الأوّل فسمّي شهر الله المحرّم ، ثمّ قيل المحرّم تخفيفا فسمّي به فهو من الألفاظ الإسلاميّة.

قوله سبحانه : (إِنَّمَا النَّسِيءُ)

وهو تأخير حرمة شهر إلى سنة اخرى غير هذه السنة ، كما كانوا يؤخّرون حرمة المحرّم من سنة إلى قابل ، فيحرّمون في هذه السنة صفرا ، ثمّ إذا كان من قابل عادوا إلى تحريم المحرّم كما كان ، أو النسيء تأخير الحرمة من شهر إلى شهر آخر كتأخيره من المحرّم إلى صفر.

وكيف كان فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من النساء وهو التأخير وقرئ نسيّ

__________________

(١). تفسير الصافي ٣ : ٤٠٩.

١٢٣

بتشديد الياء.

ونسبه في المجمع إلى الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، (١) وفي الجوامع إلى الباقر ـ عليه‌السلام ـ. (٢)

*

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ٤٤.

(٢). جوامع الجامع ٢ : ٦٣.

١٢٤

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)]

قوله سبحانه : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا)

وذكر أصحاب السير والتاريخ واشتملت عليه الروايات ما ملخّصه أنّه كان ذلك

١٢٥

في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من الطائف فإنّ الصيّافة كانوا يقدمون المدينة من الشام معهم الدرموك والطعام ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله في عسكر عظيم ، وأنّ هرقل (١) قد سار في جنوده وجلب معهم غسّان (٢) وجذام (٣) وبهراء (٤) وعاملة ، (٥) وقدم عساكره البلقاء (٦) ونزل هو حمص ، فتهيّأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعزم على الخروج إلى تبوك ، وكتب إلى تميم وغطفان وطيّ ، وإلى من أسلم من خزاعة ، وجهينة ومزينة ، (٧) وبعث إلى عتاب بن اسيد عامله على مكّة ، يستنفرهم لغزو الروم وأمر ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بمعسكره ، فضرب في ثنيّة الوداع ، وأمر أهل الجدّة واليسار أن يعينوا من لا قوّة به ، ويعدّوا من لا عدّة له وقام ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خطيبا. (٨)

وقال بعد حمد الله تعالى والثناء عليه : أيّها الناس إنّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأولى القول (٩) كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السنن سنّة محمّد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الامور عزائمها ، وشرّ الامور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتلى

__________________

(١). هرقل : «ملك الروم».

(٢). أربع من قبائل اليمن [منه ـ رحمه‌الله ـ]. و «غسّان» اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد.

(٣). جذام : «قبيلة من اليمن نزل بجبال حسمي».

(٤). بهراء : «قبيلة من قضاعة».

(٥). عاملة : «حيّ من اليمن».

(٦). البلقاء : «مدينة بالشام».

(٧). مزينة : «قبيلة من مصر».

(٨). تفسير القمي ١ : ٢٩٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤١٠.

(٩). في الاختصاص : «وأوثق العري»

١٢٦

الشهداء ، (١) وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتّبع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، وشرّ المعذرة محضر الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة.

ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا ، ومنهم من لا يذكر الله إلّا هجرا ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما القي في القلب اليقين والارتياب من الكفر ، والتباعد (٢) من عمل الجاهليّة ، والغلول من قيح جهنّم ، والسكر جمر النار ، والشعر من إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبائل إبليس ، والشباب شعبة من الجنون.

وشرّ المكاسب كسب الرباء ، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقيّ من شقي في بطن امّه ، وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع ، والأمر إلى آخره ، وملاك الأمر خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكلّ ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه.

[ومن توكّل على الله كفاه ، ومن صبر ظفر] ، (٣) ومن يعف يعف الله عنه ، ومن كظم الغيظ آجره الله ، ومن يصبر على الرزيّة يعوّضه الله ، ومن تبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصم يضاعف الله له ، (٤) ومن يعص الله يعذّبه [الله].

__________________

(١). في الاختصاص : «وأشرف القتل قتل الشهداء»

(٢). في الاختصاص : «والنياحة»

(٣). في الاختصاص بدل ما بين المعقوفتين : «ومن يبالي على الله يكذبه»

(٤). في الاختصاص : «ومن يصم بصره»

١٢٧

اللهمّ اغفر لي ولامّتي ، أستغفر الله لي ولكم. (١)

فرغّب الناس في الجهاد وحثّوا عليه ، وبذلوا الأموال وأعدّوا العدّة حتّى اجتمع في معسكره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نحو من خمسة وعشرين ألف مجاهد غير العبيد والبنين.

وكان الوقت وقت قحط وقيظ وحرّ ، ولذلك تعلّل عدّة من المنافقين فلم يخرجوا مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وبقوا في المدينة يقلّبون الامور ويكدّرون صفو الامور ، وكانوا قد كثر عددهم وعظم أمرهم يومئذ حتّى آل الأمر أن همّوا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ليلة العقبة.

فخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخلّف مكانه أمير المؤمنين عليّا ـ عليه‌السلام ـ ، وسار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حتّى نزل الجرف ، فرجع عبد الله بن ابيّ بغير إذن ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «حسبي الله هو الذي أيّدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم» ، فلمّا انتهى إلى الجرف. لحقه عليّ ـ عليه‌السلام ـ وأخذ بغرز (٢) راحلته وقال : يا رسول الله! زعمت قريش أنّك تركتني بالمدينة استثقالا لي ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، فقال : قد رضيت ، ورجع إلى المدينة. (٣)

__________________

(١). الاختصاص للمفيد : ٣٤٢ ؛ المغاذي للواقدي ٣ : ١٠١٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٦٥ ؛ مدينة البلاغة ١ : ٥٧ ، الخطبة : ٢٢ ؛ وقريب منه في الامالي للصدوق : ٤٨٧ ، المجلس : ٧٤ ، الحديث : ١.

(٢). الغرز ، بالفتح فالسكون : ركاب الرجل من جلد فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب ، [منه ـ رحمه‌الله ـ]

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٩٣ ؛ السيرة النبوية لابن هشام ٥ : ١٩٩.

١٢٨

وقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تبوك في شعبان يوم الثلاثاء ، وأقام بقيّة شعبان وأيّاما من شهر رمضان ، وأتاه ـ وهو بتبوك ـ بخته بن أرويه صاحب إيله فأعطاه الجزية ، وكتب له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كتابا وكتب أيضا لأهل جرباء وأذرح كتابا وبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو بتبوك ـ جمعا ممّن معه إلى جمع من جذام ، فأصابوا منهم طرفا وسبايا ، وبعث آخرين إلى ناس من بني سليم وجموع من بلّي ، فلمّا قاربوا القوم هربوا.

وبعث آخرين إلى الأكيدر صاحب دومة الجندل ، وكان ذا عدّة وقوّة جدّا ، فأصابوه ليلة في خارج حصنه ، فأسروه وجاءوا به إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فصالحه بمال عظيم من الجزية. (١)

وأقام ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بتبوك شهرين ، وكان ما شاع في المدينة من عزم هرقل وجمعه الجموع لغزو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ باطلا ، وتردّد بينه وبين النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الرسول ، ومال هرقل إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لما أخبر به رسوله من صفاته وشأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ولم يؤذن ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في قتاله. (٢)

ثمّ سار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قافلا من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق ائتمر فارس من أصحابه المنافقين أن يقتلوه بطرحه من العقبة ، وأخبر جبرئيل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بخبرهم وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للناس : أن خذوا بطن الوادي فإنّه أوسع لكم وأخذ هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ العقبة ، وأمر عمّارا أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة بن اليمان أن

__________________

(١). السيرة النبوية ٥ : ٢٠٨ ؛ المغاذي للواقدي ٣ : ١٠٢٥.

(٢). المغاذي للواقدي ٣ : ١٠١٨.

١٢٩

يسوقها وتهيّأ النفر الذين أرادوا المكر به وتلثّموا وعقّبوه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا صعدها هو ومعه حذيفة وعمّار إذ سمعوا ركزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأمر حذيفة أن يفرّقهم ، فرجع ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضربا بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون ، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر ، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس وسأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حذيفة عن شأن اولئك النفر ، فقال : كانوا متلثّمين لم أعرفهم ، غير أنّي عرفت راحلة فلان وفلان ، (١) فسمّاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لحذيفة عن آخرهم بأسمائهم وأخبره بما قصدوا.

فقال أو لا تأمر بهم فتضرب أعناقهم؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أكره أن يتحدّث الناس أنّ محمّدا ظهر بأصحابه ، ثمّ وضع يده فيهم. (٢)

ثمّ أمرهما أن يكتماهم بعد ما سمّاهم.

وثمّ سار حتّى بلغ المدينة ، وكان خروجه إلى أن رجع ثمانين يوما.

وقد ظهر منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من حين خرج إلى أن رجع معجزات باهرة مذكورة في كتب السير وجوامع الحديث.

قوله سبحانه : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ)

وعد بالعذاب وتشديد.

__________________

(١). المغاذي للواقدي ٣ : ١٠٤٣.

(٢). المغاذي للواقدي ٣ : ١٠٤٤.

١٣٠

قوله سبحانه : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ)

يشير إلى خروجه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من مكّة مهاجرا إلى المدينة فدخل غارا بجبل الثور ، وهو جبل عن يمين مكّة وعلى مسير ساعة راجلا ومعه أبو بكر ، فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحد رجلين اثنين في الغار إذ يقول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لصاحبه وهو أبو بكر كانت أخذته رعدة (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا).

قوله سبحانه : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ)

الضمير الأوّل إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بقرينة الضمير الثاني ، إذ من الضروري أنّ المؤيّد بالجنود هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والاختلاف بين مرجعي الضميرين بأن يرجع كلّ واحد إلى مرجع على حدة رديّ شنيع لا ينبغي أن يلتفت إليه قطعا.

وفي المجمع والكافي وتفسير العيّاشي في روايات مختلفة عن الباقر والصادق والرضا ـ عليهم‌السلام ـ : إنّهم قرأوا : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ). (١)

وقد مرّت القصّة في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية من سورة الأنفال.

قوله سبحانه : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى)

وهو ما تكلّموا به أن يقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه كما قيل.

__________________

(١). مجمع البيان ٥ : ٤٩ ؛ الكافي ٨ : ٣٧٨ ، الحديث : ٥٧١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٣٣ ، الحديث : ٤٤٢.

١٣١

وقوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا)

هي ما وعده سبحانه من نصرة رسوله وإعلاء كلمته كما قيل.

قوله سبحانه : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)

في تفسير القمّي قال ـ عليه‌السلام ـ : شبّانا وشيوخا ، يعني (١) إلى تبوك. (٢)

أقول : وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق ، والآية أعمّ من كلّ ما يوجب خفّة في النفر أو ثقلا.

قوله سبحانه : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً)

في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ يقول : غنيمة قريبة ، الحديث. (٣)

وقوله : (وَسَفَراً قاصِداً)

أي متوسّطا.

وقوله : (بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)

أي المسافة لكونها تقطع بمشقّة ، وكان الكلام مسوق سياق اللوم والتهكّم ، بأنّهم طالبون لعرض الدنيا وخاصّة إذا كان لا يفتقر إلى كدّ في طلبه ، وتعب ومشقّة في تحصيله ونيله.

__________________

(١). في المصدر : + «غزوة»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٩٠.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٢٩٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤١٤.

١٣٢

قوله سبحانه : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ)

يريد المنافقين الذين تخلّفوا في المدينة عن الشخوص لتبوك ، وذلك أنّ المتخلّفين عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في هذه الغزوة كانوا على أصناف : صنف منهم أهل نيّة وبصيرة ، منهم أبو خيثمة لم يخرج وقال : سألحق به وكان قويّا ، وكان له زوجتان وعريشتان ، وكانتا زوجتاه قد رشّتا عريشتيه وبرّدتا له الماء وهيّئتا له طعاما ، فأشرف على عريشته ، فلمّا نظر إليهما قال : لا والله ما هذا بإنصاف ، هذا رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الفيح والريح وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله وأبو خيثمة قويّ قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين ، لا والله ما هذا بإنصاف.

ثمّ أخذ ناقته وشدّ عليها رحله ولحق برسول الله ، فنظروا إلى راكب في الطريق ، فأخبروا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : كن أبا خيثمة ، فأقبل وأخبر النبيّ بما كان منه فجزاه خيرا ودعا له. (١)

وكان أبو ذر تخلّف عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثلاثة أيّام ، وذلك أنّ جمله كان أعجف (٢) ووقف عليه جمله في بعض الطريق ، فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلمّا ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : كن أبا ذر ، فقالوا : هو أبو ذر ، فقال رسول الله : أدركوه بالماء فإنّه عطشان ، فأدركوه بالماء ، ووافى أبو ذر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومعه إداوة فيها ماء ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : يا أبا ذر معك

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٩٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٦٨ ، الحديث : ١.

(٢). في المصدر : + «فلحق بعد ثلاثة أيّام به»

١٣٣

ماء وعطشت؟! قال : نعم ، يا رسول الله! بأبي أنت وامّي انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد ، فقلت : لا أشربه حتّى يشرب (١) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : يا أبا ذر! رحمك الله تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك وتدخل الجنّة وحدك ، الحديث. ملخّصا من تفسير القمّي. (٢)

وصنف منهم الثلاثة الذين خلّفوا وهم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة وسيجيء قصّة توبتهم. (٣)

وصنف منهم الباقون وهم المنافقون تخلّفوا وكانوا يكدّرون كلّ صفو على المؤمنين ويتربّصون بهم الدوائر ، وكان منهم عبد الله بن ابيّ رجع إلى المدينة من بين الطريق من غير إجازة ، ومات بعد رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك إلى المدينة ، وستجيء قصّته.

أقول : والمستفاد من خلال هذه القصص وسياق الآيات أنّ المنافقين كانوا طوائف مختلفة ، ذات آراء وأهواء مختلفة متنوّعة ، فجمع منهم صاحبوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ولا محالة كانت لهم مقاصد لا يرون حصولها إلّا من طريق الملازمة والتظاهر بظواهر الدين ، والاستدرار منه حينما أمكنهم الفرصة وصفى لهم الكدورة ، كما يستفاد من قصّة العقبة وقول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

__________________

(١). في المصدر : «يشربه حبيبي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٩٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٦٩ ، الحديث : ١ ؛ السيرة النبوية ٥ : ٢٠٤ ؛ المغاذي ٣ : ١٠٠٠.

(٣). البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٤٧١.

١٣٤

فيهم ما قال : والله سبحانه حيث ذكر الصحابة في القرآن بخير ، استدرك في كلامه بما يشعر بالقدح في عموم الكلام ، كقوله سبحانه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) إلى أن قال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) ، (١) فتراه سبحانه يصفهم بالجميل ، حتّى إذا وعدهم بالسعادة وحسن الخاتمة ، وعد بعضهم دون جميعهم ، وكقوله في قصّة بدر :

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٢) الآية من سورة الأنفال ، وقد مرّ الكلام فيها.

وجمع منهم كانوا بالمدينة يتظاهرون بالإسلام كعبد الله بن ابيّ وأترابه دفعا للتهمة وحذرا من السياسة لا يشاركون في الشدائد مع المسلمين إلّا بمقدار ، وربما كان المسلمون يعرفونهم ولا يتعرّضون بهم إرفاقا.

ومن هنا صحّ لنا أن نبحث عن حال الصحابة ونوجّه إلى كلّ واحد منهم القدح أو المدح على حسب ما يقضي به المأثور المضبوط من حاله وسيرته ، ولا نحسن الظنّ بكلّ من تسمّى باسم الصحابي مع ما يضبطه التاريخ والرواية من مختلف أحوالهم ، ولا نصغي بعموم ما رووه لأنفسهم عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، (٣) الحديث.

على أنّهم أنفسهم لم يعملوا بعموم أمثال هذه الأحاديث ، ولم يضعوا كلّ صحابيّ موضع القبول والرضا بشهادة التاريخ ، فقد امتلأت الكتب وشحنت

__________________

(١). الفتح (٤٨) : ٢٩.

(٢). الأنفال (٨) : ٤٩.

(٣). إرشاد القلوب ٢ : ٣٣٤ ؛ الصراط المستقيم ١ : ٢٧٢ ؛ ٢ : ٢١.

١٣٥

التصانيف بالوقائع الواقعة بينهم من طعن ولعن وسبّ وشتم وضرب ونفي وقتل وغير ذلك ، ولم يقم دليل على حصر الاجتهاد فيهم دون غيرهم من الامّة من التابعين ، ولا بقيام العذر فيهم دون من سواهم والله الهادي.

*

١٣٦

[عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)]

قوله سبحانه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)

تثبيت للجناية عليهم في صورة العتاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، والدليل على عدم كونه عتابا حقيقة ، أنّه سبحانه يصدقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في فعله وينتصر له في تالي الكلام ، (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ

١٣٧

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) و (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).

فالكلام مسوق لبيان ظهور فسقهم ووضوح تخلّفهم ، وأنّهم جعلوا إذن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ذريعة للتخلّف بعد ما وجدوه يأذن لمن استأذنه ، ولو لم يأذن لم ينفكّوا عن التخلّف لكونهم لم يبنوا على الخروج ، وهذا المسلك من العتاب شائع في الألسن.

وفي العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ فيما أجاب عن سؤال المأمون في عصمة الأنبياء قال ـ عليه‌السلام ـ : هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد (١) امّته. (٢)

أقول : وممّا مرّ يظهر أن لا وجه لعدّ الآية ممّا يثبت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ جناية في إذنه كما ذكره بعضهم ، وحاشا مقام الأنبياء وخاصّة سيّدهم وخاتمهم أن تطرأ ساحتهم جناية أو خيانة ، وكذا ما ذكره بعضهم أيضا : أنّ المورد من باب ترك الأولى المجوّز في الأنبياء غير المنافي لعصمتهم ، فكان الأولى أن لا يأذن لهم حتّى يظهر للناس نفاقهم وتخلّفهم.

وذلك لأنّ الكلام ليس مسوقا للعتاب من حيث إنّ إذنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أوجب لخفاء أمرهم والستر عليهم ، بل من حيث إنّه لو كان لم يأذن تميّز عنده الصادق من الكاذب ، كما قال تعالى : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يعرفهم

__________________

(١). في المصدر : «أراد به»

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٠٢ ، الحديث : ١٥.

١٣٨

في لحن القول كما قال تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، (١) وقد عرّفهم الله سبحانه بقوله : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

على أنّ المنافقين كانوا يبدون أعذارا من سقم أو عدم أو غير ذلك فيقبله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولا يناقش فيما يدّعونه عن أنفسهم ، وقد مدحه الله عليه حيث يقول في أواخر السورة : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

ولا وجه للعتاب حقيقة لما مدحه فيه الله سبحانه ، فالعتاب صورة عتاب لتأكيد كذبهم في دعواهم وحلفهم.

قوله سبحانه : (فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)

في الخصال عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : من تردّد في الريب سبقه الأوّلون وأدركه الآخرون ووطأته (٣) سنابك الشياطين. (٤)

قوله : (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)

في تفسير العيّاشي قال ـ عليه‌السلام ـ : يعني بالعدّة النيّة ، يقول : لو كان لهم نيّة لخرجوا. (٥)

__________________

(١). محمّد (٤٧) : ٣٠.

(٢). التوبة (٩) : ٦١.

(٣). في المصدر : «قطعته»

(٤). الخصال ١ : ٢٣١ ، الحديث : ٧٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤١٦.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٨٩.

١٣٩

قوله سبحانه : (انْبِعاثَهُمْ)

الانبعاث : النهوض والتثبيط والإبطاء ، والخبال : الفساد والشرّ.

وقوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ)

أي أسرعوا ركائبهم فيكم بالفساد. (١)

*

__________________

(١). تفسير الصافي ٣ : ٤١٧.

١٤٠