تفسير البيان - ج ٥

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٠

سورة الأنفال

٢١
٢٢

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)]

قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون

٢٣

الأودية فهو لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء. (١)

أقول : والروايات في تفسير الأنفال في نحو ما فسّرته به هذه الرواية كثيرة جدّا ، وإن كان فيها اختلاف من حيث تعداد المصاديق ، حتّى عدّ منها ـ في بعضها ـ مال من مات ولا وارث له ، والقرى الخالية التي باد أهلها وغير ذلك. (٢)

وفي تفسير القمّي قال ـ عليه‌السلام ـ : نزلت يوم بدر لمّا انهزم الناس كان أصحاب رسول الله على ثلاث فرق ، فصنف كانوا عند خيمة النبيّ ، وصنف أغاروا على النهب ، وفرقة طلبت العدوّ وأسروا وغنموا ، فلمّا جمعوا الغنائم والأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، (٣) فلمّا أباح الله لهم الاسارى والغنائم تكلّم سعد بن معاذ وكان ممّن أقام عند خيمة النبيّ ، فقال : يا رسول الله! ، ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد ولا جبنا من العدوّ ، ولكنّا خفنا أن نعدو موضعك فتميل عليك خيل المشركين ، وقد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين والأنصار ولم يشك أحد منهم ـ والناس كثير ـ يا رسول الله! والغنائم قليلة ، ومتى تعطي هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وخاف أن يقسّم رسول الله الغنائم وأسلاب القتلى بين من قاتل ولا يعطى من تخلّف عند خيمة رسول الله شيئا ، فاختلفوا فيما بينهم حتّى سألوا رسول الله.

فقالوا : لمن هذه الغنائم؟ فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ

__________________

(١). الكافي ١ : ٥٣٩ ، الحديث : ٣.

(٢). جوامع الجامع ٢ : ٢ ؛ تفسير الصافى ٣ : ٢٩٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٦٢.

(٣). الأنفال (٨) : ٦٧.

٢٤

وَالرَّسُولِ) فرجع الناس وليس لهم في الغنيمة شيء.

ثمّ أنزل الله بعد ذلك : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) (١) فقسّمه رسول الله بينهم فقال سعد بن أبي وقّاص : يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟! فقال النبيّ : ثكلتك امّك وهل تنصرون إلّا بضعفائكم؟!!

قال : فلم يخمّس رسول الله ببدر وقسّم بين أصحابه ، ثمّ استقبل يأخذ الخمس بعد بدر. (٢)

أقول : وقد رواه بعضهم عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ.

والرواية لا تخلو عن تشويش في المتن وقوله : وقد أقام عند الخيمة ، الى قوله : والناس كثير كالمعترضة ، وهو من كلام الإمام لا من كلام سعد.

وقوله : ولم يشك أحد منهم ، من شاك يشاك شوكا ، إذا ظهر سلاحه وحدّته. (٣)

وقوله : وخاف أن يقسّم إلى آخره ، أيضا من كلام الإمام تلخيص للقصّة.

وقوله : ثمّ أنزل الله الى آخره ، كالمعترضة غير مرتبطة بما قبله.

وقوله : فقسّمه رسول الله بينهم الى آخره ، متفرّع على قوله : فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ).

والذي ينبغي أن يقال : إنّ الآيات النازلة في الغنيمة في هذه السورة ثلاثة أصناف وهي بترتيب السورة :

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٤١.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٣). لسان العرب ٧ : ٢٤٠.

٢٥

وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ (١)

وقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٢)

وسياق الآية الثانية يفيد أنّ نزولها بعد الآية الاولى والآيات الأخيرة ، لمكان قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا) فهي بعد الوقعة بزمان ، ثمّ الآيات الأخيرة تدلّ على أنّهم كلّموا رسول الله في أمر الأسرى أن لا يقتلهم ويأخذ الفدية ، ثمّ يعاتبهم على ذلك بأنّهم يريدون به الدنيا ، ثمّ يجوّز لهم الأكل ممّا غنموا من الأسرى ، فكأنّهم فهموا منه أنّ الغنيمة لهم بمعنى أنّها لهم يملكونها ، وقد أخطأوا في فهمهم ، وإنّما جوّز الله لهم الأكل منها ولم يملّكهم ذلك ، ثمّ صار ذلك الاعتقاد منشأ لاختلافهم فيما بينهم في تشخيص المالكين لها وأنّهم المجاهدون أو القاعدون عند رسول الله ، فنزلت أنّ (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

والأنفال : هي الزوائد ، فإنّ المراد بالقتال الظفر على العدوّ ، فما اخذ منه وغنم يكون زيادة عليه ونفلا ، فالمراد بالأنفال الغنائم والزوائد مطلقا.

ومن هذا البيان يظهر أنّ الآيات الأخيرة نزلت أوّلا فأثبتت لهم جوازا في أكل الغنائم لا ملكا ، ثمّ نزلت الآية الاولى فأثبتت الملك لله ولرسوله فقسمه

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٤١.

(٢). الأنفال (٨) : ٦٧ ـ ٦٩.

٢٦

رسول الله فيما بينهم بالسويّة ، وقد عزل لثمان نفرات من أصحابه لم يحضروا الواقعة نصيبهم لأنّ الغنيمة له يفعل بها ما يشاء.

ثمّ نزلت آية الخمس بعد المهاجرة من بدر فأخذ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ منهم خمس الغنائم.

وبهذا البيان يظهر معنى الرواية الثانية المذكورة بعد رفع تشويشه بما ذكرنا ، وكذلك معنى الرواية الاولى المستفيضة من حيث المعنى ، فإنّ آية الأنفال وإن كانت نازلة في مورد خاصّ لكنّ لفظها عامّ لا يتخصّص بالمورد.

فقوله : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)

يشمل كلّ نفل وزيادة حاصلة من غير ملك سابق لأحد من المسلمين كغنائم الجهاد بالقتال ، وكلّ نفل حاصل من غير قتال كالأراضي الخربة ، والديار الخالية ، وبطون الأودية ، ورؤوس الجبال والآجام ، وقطائع الملوك ، ومال من مات ولا وارث له ، وقد عمل رسول الله في المأخوذ قتالا بما عمل وبقي الباقي تحت العموم.

وربما قيل : إنّ المراد بالأنفال في الآية غنائم القتال ، والمراد بالأنفال في الروايات الأنفال والفيء بلسان الشرع ، وله بعض شواهد في بعض الروايات.

وفي المجمع قرأ السجّاد والباقر والصادق ـ عليهم‌السلام ـ : «يسألونك الأنفال» يعني : أن تعطيهم. (١)

أقول : وروي ذلك عن بعضهم.

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٧٩٦.

٢٧

قوله سبحانه : (ذاتَ بَيْنِكُمْ)

وصف وضع موضع الموصوف ، أي الحال التي بعدكم ، أو المشاجرة التي تصاحب بينكم.

قوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ)

ذكر سبحانه من أوصافهم خمسة :

(١) وجل القلب عند ذكر الله ؛

(٢) وزيادة الإيمان عند سماع الآيات ؛

(٣) والتوكّل على الله ؛

(٤) وإقامة الصلاة ؛

(٥) والإنفاق.

والثلاثة الاول من صفات القلب ، لا تنفكّ عن الإيمان وهو خضوع القلب لله تعالى ، وهو يلازم التأثّر عند ذكره تعالى ، وزيادة الإيمان وعقد القلب عند تلاوة الآيات ، والتوكّل على الله بترك التدبير والاستقلال بالرأي فيما يرجع إلى الموطن والصفتان الأخيرتان راجعتان إلى الفعل.

إحداهما : فيما بينهم وبين الله تعالى وهو الصلاة.

والاخرى : فيما بينهم أنفسهم وهو الإنفاق ممّا رزقهم الله سبحانه.

قوله سبحانه : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)

يشعر بأنّ ما ذكره تعالى هي العلامة التامّة غير المتخلّفة ، وجميع ما ذكره تعالى للمؤمنين في كتابه من الصفات المختلفة راجعة إلى ما يرجع إليه هذه الصفات

٢٨

من غير زيادة.

قوله سبحانه : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

في الكافي وتفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرّطون النار ، (١) الحديث.

أقول : ويشعر بأنّ المراد ليس أنّ مجموع الدرجات لكلّ واحد منهم ، بل المجموع للمجموع وهم مختلفون فيها ، كما هو ظاهر قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، (٢) وغير ذلك من الآيات.

قوله سبحانه : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ)

في المجمع في حديث أبي حمزة : فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك. (٣)

أقول : وفيه بعض الإشعار :

إنّ الآية نزلت قبل الوقعة ، فإنّ السورة نزلت مقطّعات ، وقيل : المعنى حالهم في كراهة ما حكم الله في الأنفال مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك.

وفي المجمع قال أصحاب السير : وذكر أبو حمزة وعليّ بن إبراهيم في تفسيريهما ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ :

__________________

(١). الكافي ٢ : ٣٦ ، الحديث : ١ ؛ لم نجده في تفسير القمّي ، ولكن روي في تفسير العيّاشي ٢ : ٣٢٣ ، الحديث : ١٢.

(٢). المجادلة (٥٨) : ١١.

(٣). مجمع البيان ٤ : ٨٠١.

٢٩

أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة (١) وفيها أربعون راكبا من قريش ، فندب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أصحابه للخروج إليها ليأخذوها ، وقال : لعلّ الله أن ينفلكموها ، فخفّ بعضهم وثقل بعضهم ولم يظنّوا أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يلقي كيدا ولا حربا ، فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان ، والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم ، فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قد تعرّض لعيرهم في أصحابه.

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة ، وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أنّ رجلا أقدم على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ، ثمّ وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل ، فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة.

فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العبّاس بذلك ، فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة.

فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش وفشت الرؤيا فيهم ، وبلغ ذلك أبا جهل.

فقال : هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب ، واللات والعزّى لننظرنّ ثلاثة أيّام فإن كان ما رأت حقّا وإلّا لنكتبنّ كتابا بيننا أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.

فلمّا كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت يا آل غالب! يا آل غالب! اللطيمة اللطيمة! العير العير! أدركوا وما أراكم تدركون إنّ

__________________

(١) اللطيمة : المسك ونافجة المسك ، وقيل : العير التى تحمل الطيب وبز التجّار.

٣٠

محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والصباة من أهل يثرب خرجوا يتعرّضون لعيركم.

فتهيّأوا للخروج ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالا لتجهيز الجيش وقالوا : من لم يخرج نهدم داره ، وخرج معهم العبّاس بن عبد المطّلب ، ونوفل بن الحرث بن عبد المطّلب ، وعقيل بن أبي طالب وأخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف ، وخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فلمّا كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم.

وفي حديث أبي حمزة : بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيضا عينا له على العير إسمه عديّ ، فلمّا قدم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأخبره أين فارق العير ، نزل جبرئيل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأخبره بنفير المشركين من مكّة ، فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلائها ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ، ولم نخرج على هيئة الحرب.

وفي حديث أبي حمزة قال أبو بكر : أنا عالم بهذا الطريق فارق عديّ العير بكذا وكذا وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا ، كأنّا فرسا رهان ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إجلس فجلس ، ثمّ قام عمر فقال مثل ذلك ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إجلس فجلس ، ثمّ قام المقداد وقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلائها وقد آمنّا بك وصدّقنا وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى (١) وشوك الهراس (٢) لخضناه معك ، والله لا نقول

__________________

(١). الغضى : شجر ، والمراد الجمر الحاصل من ناره ، والهراس : شجر ذو شوك [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). الجمر : النار المتّقدة ؛ والغضا : شجر عظيم من الإثل ، واحدته غضاة ، وخشبه من اصل الخشب ولهذا يكون في فحمه صلابة ، وجمره يبقى زمانا طويلا لا ينطفىء ؛ والهراس : شجر شائك.

٣١

لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، (١) ولكنّا نقول : إمض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون ، فجزاه رسول الله خيرا على قوله ذاك.

ثمّ قال : أشيروا عليّ أيّها الناس ، وإنّما يريد الأنصار لأنّ أكثر الناس منهم ، ولأنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : إنّا براء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ، ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ممّا نمنع أبناءنا ونساءنا ، فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يتخوّف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلّا على من دهمه بالمدينة من عدوّ ، وأن ليس لهم أن ينصروه خارج المدينة.

فقام سعد بن معاذ ، فقال : بأبي أنت وامّي يا رسول الله كأنّك أردتنا فقال : نعم ، قال : بأبي أنت وامّي يا رسول الله إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ، ولعلّ الله عزوجل أن يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح بذلك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقال : سيروا على بركة الله ، فإنّ الله عزوجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده ، والله لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وفلان ، وفلان ، وأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالرحيل وخرج إلى بدر وهو بئر.

وفي حديث أبي حمزة الثمالي : بدر ، رجل من جهينة ، والماء مائه ، فإنّما سمّي الماء باسمه.

__________________

(١). المائدة (٥) : ٢٤.

٣٢

وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء ، فأخذهم أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش ، قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير ، فأقبلوا يضربونهم ، وكان رسول الله يصلّي ، فانفتل من صلاته وقال : إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم ، فأتوه بهم.

فقال لهم : من أنتم؟ قالوا : يا محمّد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم ، قال : كم ينحرون في كلّ يوم من جزور؟ قالوا : تسعة إلى عشرة ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : القوم تسعمائة إلى ألف رجل ، وأمر ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بهم فحبسوا ، وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ، ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام.

فقال : أما ترى هذا البغي؟! والله ما أبصر موضع قدمي ، خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت ، فجئنا بغيا وعدوانا ، والله ما أفلح قوم بغوا قطّ ، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري : إنّك سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير التي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي ، فإنّه حليفك.

فقال له : عليّ ذلك ، وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة يعني أبا جهل فصر إليه وأعلمه أنّي قد حملت العير ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلى عقله.

قال : فقصدت خباءه وبلّغته ذلك ، فقال : إنّ عتبة يتعصّب لمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فإنّه من بني عبد مناف وابنه معه يريد أن يخذل بين الناس ، لا واللّات والعزّى حتّى نقحم عليهم يثرب ، أو نأخذهم اسارى فندخلهم مكّة وتتسامع العرب بذلك ؛ وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وكان أبو سفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش قد نجّى الله عيركم

٣٣

فارجعوا ودعوا محمّدا والعرب وادفعوه بالراح ما اندفع ، وإن لم ترجعوا فردّوا القيان.

فلحقهم الرسول بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم ، وردّوا القيان من الجحفة.

قال : وفزع أصحاب رسول الله لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا ، فأنزل الله سبحانه : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) (١) وما بعده. (٢)

قال : قال ابن عبّاس : (٣) ولمّا أمسى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وجنّه الليل ، ألقى الله على أصحابه النعاس.

أقول : وذلك بعد نزولهم ببدر بالعدوة الدنيا ، وهو شطّ الوادي ممّا يلي المدينة ، وكانوا قد نزلوا بموضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم ، فأنزل الله عليهم المطر رذاذا (٤) حتّى لبّد الأرض وثبّت أقدامهم ، وكان المطر على قريش مثل العزالي ، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ). (٥)

قال الطبرسي : ولمّا أصبح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم بدر عبّأ أصحابه فكان في عسكره فرسان ، فرس للزبير بن العوّام ، وفرس للمقداد بن الأسود ، وكان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها ، وكان رسول الله

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٩.

(٢). مجمع البيان ٤ : ٨٠٢ ـ ٨٠٤.

(٣). هو المروي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ راجع : مجمع البيان ٤ : ٨٠٧.

(٤). الرذاذ : جمع الرذ ، والرذ : المطر الضعيف ، والعزالي بفتح العين : جمع عزلا وهو فم الراوية [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٥). آل عمران (٣) : ١٥١.

٣٤

وعليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد.

وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس وقيل مائتا فرس ، فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال أبو جهل : ما هم إلّا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد.

فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا أو مددا ، فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارسا شجاعا ، فجال بفرسه حتّى طاف على عسكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثمّ رجع.

فقال : ليس لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع ، أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون؟! ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتّى يقتلوا ، ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم.

فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها). (١)

فبعث إليهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا.

فقال عتبة : ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ، ثمّ ركب جملا له أحمر ، فنظر إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال.

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إن يك عند أحد خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، وإن يطيعوه يرشدوا.

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٦١.

٣٥

وخطب عتبة فقال في خطبته : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، إنّ محمّدا له إلّ (١) وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره ، فغاظ أبا جهل قوله وقال له : جبنت وانتفخ سحرك. (٢)

فقال : يا مصفّر استه مثلي يجبن؟! وستعلم قريش أيّنا ألمم وأفسد ، وأيّنا المفسد لقومه ، ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقال : يا محمّد! اخرج إلينا أكفائنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا إليهم فقالوا : ارجعوا إنّما نريد الأكفاء من قريش ، فنظر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب وكان له يومئذ سبعون سنة ، فقال : قم يا عبيدة ، ونظر إلى حمزة وقال : قم يا عمّ ، ثمّ نظر إلى عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فقال : قم يا عليّ ، ـ وكان أصغر القوم ـ فاطلبوا بحقّكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). (٣)

ثمّ قال : يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة ، وقال لحمزة : عليك بشيبة ، وقال لعليّ ـ عليه‌السلام ـ : عليك بالوليد.

فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا : أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلق هامّته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنّها (٤) فسقطا

__________________

(١). الإلّ : «العهد».

(٢). السّحر بضم العين : الريه ، منه [ـ رحمه‌الله ـ].

(٣). التوبة (٩) : ٣٢.

(٤). أطنّ : «قطع».

٣٦

جميعا ، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما ، وحمل أمير المؤمنين عليّ ـ عليه‌السلام ـ على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه ، قال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : لقد أخذ الوليد يمينه على يساره فضرب بها على هامّتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.

ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا عليّ أما ترى أنّ الكلب قد نهز عمّك فحمل عليه عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، ثمّ قال : يا عمّ طأطئ رأسك ، وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه عليّ فطرح نصفه ، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه. (١)

قال الطبرسي : وحمل عبيدة حمزة وعليّ ـ عليه‌السلام ـ حتّى أتيا به إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فاستعبر ، فقال : يا رسول الله ألست شهيدا قال : بلى ، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي. (٢)

وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة ، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم التي هم عليها.

وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم ، فقال لهم : أنا جار لكم إدفعوا إليّ رايتكم ، فدفعوا إليه راية المسيرة ، وكانت الراية مع بني عبد الدار ، فنظر إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال لأصحابه : غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ ، ورفع يده فقال :

يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، ثمّ أصابه الغشي فسرى عنه وهو يسلك

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨٠٩ ـ ٨١١.

(٢). تفسير الصافى ٣ : ٣٠٢ ـ ٣١٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٨٢.

٣٧

العرق عن وجهه ، فقال : هذا جبرئيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين. (١)

وفي تفسير القمّي خرج أبو جهل بين الصفّين فقال : اللهمّ إنّ محمّدا أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه (٢) الغداة ، فأنزل الله على رسوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). (٣)

ثمّ أخذ رسول الله كفّا من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال : شاهت الوجوه ، فبعث الله رياحا تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : اللهمّ لا يفلتن فرعون هذه الامّة أبو جهل بن هشام ، فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل ، فضرب عمرو أبا جهل على فخذه ، وضرب أبو جهل عمرا وعلى يده ، فأبانها من العضد ، فتعلّقت بجلده ، فاتّكأ عمرو على يده برجله ، ثمّ تراخى في السماء حتّى انقطعت الجلدة ورمى بيده.

وقال عبد الله بن مسعود : انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحّط بدمه ، فقلت : الحمد لله الذي أخزاك ، فرفع رأسه فقال : إنّما أخزى الله عبدا ابن امّ عبد ، لمن الدبرة (٤) ويلك؟! قلت : لله ولرسوله ، (٥) وإنّي قاتلك ، ووضعت رجلي على عنقه فقال : ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم ، أما إنّه ليس شيء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم ، أما تولّى قتلي رجلا من المطلّبيّين ، أو رجلا من الأحلاف ،

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨١١.

(٢). «أحنه» ، اي : «أهلكه» من «الحين» بفتح الحاء ، اي : الهلاك ، لسان العرب ٣ : ٤٢٣.

(٣). الأنفال (٨) : ١٩.

(٤). في أغلب المصادر : «الدين» ، في المغازى وسيرة ابن هشام : «الدائرة» ، في الأصل المخطوطة وبعض نسخ المغازى : «الدبرة».

(٥). المغازى للواقدي ١ : ٩٠.

٣٨

فاقتلعت بيضة كانت على رأسه ، فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقلت : يا رسول الله! البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام ، فسجد لله شكرا.

وأسر أبو بشر الأنصاري العبّاس بن عبد المطّلب وعقيل بن أبي طالب وجاء بهما إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال له : أعانك بهما أحد؟ قال : نعم ، رجل به ثياب بيض ، فقال : ذلك من الملائكة.

ثمّ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للعبّاس : افد نفسك ، قال : يا رسول الله قد كنت أسلمت ولكنّ القوم استكرهوني ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : الله أعلم بإسلامك ، إن يكن ما تذكره حقّا فإنّ الله يجزيك عليه ، وأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا.

ثمّ قال : يا عبّاس ، إنّكم خاصمتم الله فخاصمكم ، ثمّ قال : افد نفسك وابن أخيك ـ وقد كان العبّاس معه أربعون اوقية من ذهب فغنمها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ـ فلمّا قال رسول الله للعبّاس : أفد نفسك وابن أخيك ، فقال : يا رسول الله احسبها من فدائي؟ فقال رسول الله : ذلك شيء أعطانا الله منك ، فافد نفسك وابن أخيك.

فقال العبّاس : ليس لي مال غير الذي ذهب منّي ، فقال : بلى ، المال الذي خلّفته عند امّ الفضل بمكّة ، فقلت لها : إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم.

فقال له : تتركني أسأل الناس بكفّي ، فأنزل الله على رسوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ثمّ قال : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) في عليّ ، (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ). (١)

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٧١.

٣٩

ثمّ قال رسول الله لعقيل : قد قتل الله ـ يا أبا يزيد! ـ أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومنبه ونبيه ابني الحجّاج ، ونوفل بن خويلد ، واسر سهيل بن عمرو ، والنضر بن حارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، وفلان وفلان.

فقال عقيل : إذا لا تنازعوا في تهامة ، فإن كنت أثخنت القوم وإلّا فاركب أكتافهم ، فتبسّم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من قوله.

وكان القتلى ببدر سبعين ، والأسرى سبعين ، قتل منهم أمير المؤمنين سبعة وعشرين ولم يأسر أحدا ، فجمعوا الاسارى وقرنوهم في الحبال وساقوهم على أقدامهم وجمعوا الغنائم.

وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال ، فيهم سعيد بن خيثمة ، وكان من النقباء ، فرحل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. (١)

أقول : والقصّة ذات تفصيل أوردوه في كتب الحديث والتاريخ ، وإنّما أوردنا موضع الحاجة ، ويستفاد من التأمّل في أطرافه : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يريد من أوّل الأمر الحرب مع قريش بأمر من ربّه ، يشهد به قوله لسعد في المشاورة : كأنّي أنظر إلى مصارع فلان وفلان.

ومن هنا يظهر أنّ قصد العير كان لغرض استنفار قريش ، وأنّ نزول الوحي في قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)، وقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، (٢) كان رفقا بأصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وتسكينا لقلوبهم وتوطينا لهم للقتال.

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٨٦ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٥.

(٢). الأنفال (٨) : ٦١.

٤٠