الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

أولي العلم ، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] ، فأجرى عليهم ضمير أولي العلم والعقل لما قلناه ؛ ويرد على هذا الجواب أن يقال : إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا ، فالحكمة تقتضي أن ينزعوا عنه ويقلعوا ، لا أن يبقوا عليه ويقرّوا في خطابهم على معتقدهم إيهاما لهم أنّ معتقدهم حقّ وصواب ، وجوابه : أن الغرض من الخطاب الإفهام ، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال : أفمن يخلق كما لا يخلق ، لاعتقدوا أنّ المراد من الثاني غير الأصنام من الجماد. الثاني : قال ابن الأنباري : إنما جاز ذلك ، لأنّها ذكرت مع العالم ، فغلب عليها حكمه في اقتضاء «من» ، كما في قول العرب : اشتبه عليّ الراكب ، وجمله : فما أدري من ذا ، ومن ذا.

فإن قيل : هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام ، وسمّوها آلهة تشبيها بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فظاهر الإلزام يقتضي أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟

قلنا : لما سوّوا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى ، في تسميتها باسمه ، وعبادتها كعبادته ، فقد سوّوا بينها وبين خالقها قطعا ، فصحّ الإنكار بتقديم أيهما كان ؛ وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق ، إمّا لأنه أشرف ، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام ، تنزيها له وإجلالا وتعظيما.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في وصف الأصنام (غَيْرُ أَحْياءٍ) [الآية ٢١] بعد قوله تعالى : (أَمُوتُ)؟

قلنا : الحكمة فيه ، إفادته أنها أموات لا يعقب موتها حياة ، احترازا عن أموات يعقب موتها حياة. كالنطف والبيض والأجساد الميتة ، وذلك أبلغ في موتها ، كأنّ الكلام : أموات في الحال غير أحياء في المال. الثاني : أنه ليس وصفا لها بل لعبّادها ، معناه : وعبّادها غير أحياء القلوب. الثالث : أنه إنما قال (غَيْرُ أَحْياءٍ) ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال ، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠) [الزّمر].

فإن قيل : لم عاب الأصنام وعبّادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث ، فقال تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ

٤١

يُبْعَثُونَ) (٢١) والمؤمنون الموحّدون كذلك؟

قلنا : معناه وما يشعر الأصنام متى يبعث عبّادها ، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ أو معناه : وما يشعر عبّادها ، وقت بعثهم لا مفصّلا ولا مجملا ، لأنهم ينكرون البعث ، بخلاف الموحّدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا ، أنه يوم القيامة ، وإن لم يشعروه مفصّلا ..

فإن قيل : قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٤) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى ، بالسؤال المعاد ضمن الجواب ، ثم يقولون هو أساطير الأوّلين.

قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) [الحجر].

فإن قيل : لم قيل هنا (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ٢٥] وقال في موضع آخر : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]؟

قلنا : معناه ومن أوزار إضلال الذين يضلّونهم ، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة ، ووزر كفر من أضلّوهم تسبّبا ، فقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) يعني أوزار الذنوب التي باشروها. وأما قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، فمعناه : وزر لا مدخل لها فيه ، ولا تعلّق له بها مباشرة ، ولا تسبّبا ؛ ونظير هاتين الآيتين قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] إلى قوله تعالى (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣].

فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) [الآية ٤٠] ، يدل على أن المعدوم شيء ، ويدل على ان خطاب المعدوم جائز ؛ والأول منتف عند أكثر العلماء ، والثاني منتف بالإجماع؟

قلنا : أما تسميته شيئا ، فمجاز باعتبار ما يؤول إليه ، ونظيره قوله تعالى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) [الحج] وقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠) [الزّمر]. وأما الثاني فإن هذا الخطاب تكوين ، يظهر به أثر القدرة ،

٤٢

فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب ؛ لأنه إنما يكون بالخطاب ، فلا يسبقه ، بخلاف خطاب الأمر والنهي.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [الآية ٤٩] كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النّور : ٤٥].

قلنا : لأنه أراد عموم كل دابة وشمولها ، فجاء ب «ما» التي تعم النوعين وتشملهما ، ولو جاء ب «من» لخّص العقلاء.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [الآية ٦١] يقتضي أنه لو أخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس ، ولأهلك جميع الدوابّ غير الناس ؛ ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم ، لا يحسن بالحكيم؟

قلنا : المراد بالظلم هنا الكفر ، وبالدابّة الظالمة الكافر ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل معناه : لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء. الثاني : يجوز أن يهلك الجميع بشؤم ظلم الظالمين ، مبالغة في إعدام الظلم ونفي وجود أثره ، حتى لا يوجد بعد ذلك من بقيّة الناس ظلم موجب للإهلاك ، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم ؛ ودليل جواز ذلك ما وجد في زمن نوح عليه‌السلام ، فإنه أهلك بشؤم الظلم الواقع على قوم نوح جميع دواب الأرض ، وما نجا إلّا من في السفينة ، ولم يبق على ظهر الأرض دابة ، ولذا قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ثم إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التي اقتضت فعله ، عوّض البريء في الاخرة ما هو خير وأبقى. الثالث أن كل إنسان مكلّف ، فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره ، لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير ، فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدوابّ أيضا ، لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس ، وإذا عدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها.

فإن قيل : لم قال تعالى (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) [الآية ٦٨] ولم يقل في الجبال وفي الشجر ، والاستعمال. هو

٤٣

أن يقال : اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء أو نحو ذلك؟

قلنا : قال الزمخشري رحمه‌الله : إنّما أتي بلفظة «من» ، لأنه أريد معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر ، ولا في كل مكان من الجبل والشجر. وأنا أقول : إنما ذكر بلفظ «من» لأنه أريد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر ، كما نشاهد ونرى من بيوت النحل ، لأنه يتخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر ، كما تتخذ الطيور. فلو أتي بلفظة «في» لم تدل على هذا المعنى ، ونظيره قوله تعالى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [الشعراء : ١٤٩].

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الآية ٧٢] وأزواجنا لسن من أنفسنا ، لأنهن لو كنّ من أنفسنا لكنّ حراما علينا ، فإن المتفرعة من الإنسان لا يحلّ له نكاحها؟

قلنا : المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء ، كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١]. الثاني أنّ المراد من جنسكم ، كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨].

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٧٣) ، فعبر بالواو والنون ، وهما من خواص من يعقل؟

قلنا : كان فيمن يعبدونه من دون الله ، من يعقل كالعزيز وعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام ، فغلّبهم.

فإن قيل : لم أفرد في قوله تعالى : (ما لا يَمْلِكُ) ثم جمع في قوله سبحانه (وَلا يَسْتَطِيعُونَ)؟

قلنا : أفرد نظرا للفظ «ما» ، وجمع نظرا إلى معناها ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف] أفرد الضمير نظرا إلى للفظ ، وجمع الظهور نظرا إلى المعنى.

فإن قيل : ما الحكمة في نفي استطاعة الرزق بعد نفي ملكه والمعنى واحد ، لأن نفي ملك الفعل ، هو نفي استطاعته ، والرزق هنا اسم مصدر بدليل إعماله في «شيئا»؟

٤٤

قلنا ليس في «يستطيعون» ضمير مفعول هو الرزق ، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا ، معناه لا يملكون أن يرزقوا ، ولا استطاعة لهم أصلا في رزق أو غيره ، لأنهم جماد. الثاني : أنه لو قدّر فيه ضمير مفعول على معنى ولا يستطيعونه ، كان مفيدا أيضا ، على اعتبار كون الرزق اسما للعين ، لأن الإنسان يجوز أن يملك الشيء ، ولكن يستطيع أن يملكه ، بخلاف هؤلاء ، فإنهم لا يملكون ، ولا يستطيعون أن يملكوا.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (مَمْلُوكاً) [الآية ٧٥] بعد قوله تعالى : (عَبْداً) وما الحكمة في قوله سبحانه (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) بعد قوله تعالى (مَمْلُوكاً)؟

قلنا : لفظ العبد يصلح للحرّ والمملوك ، لأن الكل عبيد الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٣٠] فقال «مملوكا» لتمييزه من الحرّ ، وقال (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) لتمييزه من المأذون والمكاتب ، فإنّهما يقدران على التصرّف والاستقلال.

فإن قيل : المضروب به المثل اثنان ، وهما المملوك والمرزوق رزقا حسنا ، فظاهره أن يقال هل يستويان ، فلم قال تعالى : (يَسْتَوُونَ) [الآية ٧٥]؟

قلنا : لأنه أراد جنس المماليك وجنس المالكين ، لا مملوكا ولا مالكا معيّنا. الثاني : أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع. الثالث : أن «من» تقع على الجمع ، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث : يلزم منه أن يصير المعنى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا ، وجماعة مالكين هل يستوون ، إنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل.

فإن قيل : «أو» في الخير للشكّ ، والشك على الله تعالى محال ، فما معنى قوله تعالى : (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [الآية ٧٧]؟

قلنا : قيل «أو» هنا بمعنى «بل» كما في قوله تعالى (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧) [الصافات]. وقوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) [النّجم] ؛ ويرد على هذا أن «بل» للإضراب ، والإضراب رجوع عن الإخبار ، وهو على الله محال. وقيل هي بمعنى الواو في هذه الآيات. وقيل «أو» للشك في الكلّ ،

٤٥

لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى ، وكذا في قوله تعالى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) يعني بالنسبة الى نظر النبي (ص). وقال الزجّاج : ليس المراد ، أنّ الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ، ولكنّ المراد ، وصف قدرة الله على سرعة الإتيان بها ، متى شاء.

فإن قيل : لم قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [الآية ٨١] ، ولم يقل : و «البرد» ؛ مع أن السرابيل ، هي الثياب تلبس لدفع الحر والبرد ، وهي مخلوقة لهما؟

قلنا : حذف ذكر أحدهما لدلالة ضدّه عليه ، كما في قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦] ولم يقل : والشر ، وكما قال الشاعر :

وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيّهما يليني

 أي أريد الخير لا الشر ، أو أريد الخير وأحذر الشر.

فإن قيل : لم كان ذكر الخير والحرّ أولى من ذكر الشرّ والبرد؟

قلنا : لأن الخير مطلوب العباد من ربّهم ، ومرغوبهم إليه ؛ أو لأنه اكثر وجودا في العالم من الشرّ ؛ وأما الحرّ فلأن الخطاب بالقرآن ، أول ما وقع مع أهل الحجاز ، والوقاية من الحر ، أهمّ عندهم ، لأنّ الحرّ في بلادهم أشدّ من البرد.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣) مع أنّهم كلّهم كافرون؟

قلنا : قال الزمخشري : الأحسن ، أن المراد بالأكثر هنا الجمع ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ بعض الناس لا يجوّز اطلاق اسم البعض على الكل ، لأنه ليس لازما له ، بخلاف عكسه.

فإن قيل : ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام كما ورد في التنزيل : (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [الآية ٨٦] والله تعالى عالم بذلك؟

قلنا : لما أنكروا الشرك بقولهم كما ورد في التنزيل : (رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام] عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم ، فكان جوابهم عند معاينة آلهتهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) [الآية ٨٦] أي قد أقررنا بعد الإنكار وصدّقنا بعد الكذب ، طلبا للرحمة وفرارا من

٤٦

الغضب ، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب ، لا على وجه إعلام من لا يعلم. الثاني : أنهم لمّا عاينوا عظيم غضب الله تعالى ، وعقوبته قالوا كما ورد في التنزيل : (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم ، لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز ، فيخفّ عنهم العذاب.

فإن قيل : لم قالت الأصنام للمشركين كما ورد في التنزيل : (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦) ، وكانوا صادقين في ما قالوا؟

قلنا : إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم ، وذلك أنّ الأصنام كانت جمادا لا تعرف من يعبدها ، فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا ، فظهرت فضيحتهم حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم ، ونظير هذا قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢) [مريم].

فإن قيل : قوله تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [الآية ٨٩] ، فإذا كان القرآن تبيانا لكل شيء من أمور الدين ، فمن أين وقع بين الأئمّة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟

قلنا : إنّما وقع الخلاف بين الأئمّة ، لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الدين ليس مبيّنا في القرآن نصّا ، بل بعضه مبيّن وبعضه مستنبط بيانه منه بالنظر والاستدلال ؛ وطريق النظر والاستدلال مختلفة ، فلذلك وقع الخلاف.

فإن قيل : كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصّا ولا استنباطا كعدد ركعات الصلاة ، ومقادير باقي الأعضاء ، ومدّة السفر والمسح والحيض ، ومقدار حدّ الشرب ، ونصاب السرقة ، وما أشبه ذلك ممّا يطول ذكره.

قلنا : القرآن تبيان لكل شيء من أمور الدين ، لأنه نصّ على بعضها ، وأحال على السّنّة في بعضها ، في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) وأحال على الإجماع ايضا بقوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] ، وأحال على القياس أيضا بقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢)

٤٧

[الحشر] ، والاعتبار النظر والاستدلال. فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلّها مذكورة في القرآن ، فصحّ كونه تبيانا لكل شيء.

فإن قيل : لم وحّدت القدم ، ونكّرت ، في قوله تعالى (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [الآية ٩٤] ولم يقل القدم أو الأقدام ، وهو أشدّ مناسبة لجمع الأيمان؟

قلنا : وحّدت ونكّرت في قوله تعالى ، لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة على طريق الجنة ، فكيف بأقدام كثيرة؟

فإن قيل : «من» تتناول الذكر والأنثى لغة ، ويؤيده قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] وقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٧) [الزلزلة] وقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] ونظائره كثيرة ، فلم قال تعالى هنا : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [الآية ٩٧]؟

قلنا : إنما صرح بذكر النوعين هنا ، لسبب اقتضى ذلك ؛ وهو أن النساء قلن : «ذكر الله تعالى الرجال في القرآن بخير ، ولم يذكر النساء بخير ، فلو كان فينا خير لذكرنا به». فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية ، وأنزل (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الآية ٩٧] فذهب عن النساء وهم تخصيصهنّ عن العموميّات.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [الآية ٩٧] وقد رأينا كثيرا من الصلحاء والأتقياء ، قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن وأنواع البلايا ؛ باعتبار الأمثل ، فالأمثل ، إلى الأنبياء؟

قلنا : المراد بالحياة الطيّبة الحياة في القناعة. وقيل في الرزق الحلال. وقيل في رزق يوم بيوم. وقيل التوفيق للطاعات. وقيل في حلاوة الطاعات. وقيل في الرضا بالقضاء. وقيل المراد به الحياة في القبر ، كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩) [آل عمران] وقيل المراد به الحياة في الدار الاخرة ، وهي الحياة الحقيقية ، لأنها حياة لا موت بعدها ، دائمة في النعيم المقيم ، والظاهر أنّ المراد به الحياة في الدنيا ، لقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) [الآية ٩٧](فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ

٤٨

الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤] كما قال تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨].

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧) وكثير من الصحابة وغيرهم ، كانوا كافرين فهداهم الله تعالى الى الإيمان؟

قلنا : المراد من هذا ، الكافرون ، الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر ؛ ويؤيده ما بعد ذلك من الآيتين.

فإن قيل : ما معنى إضافة النفس الى النفس في قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [الآية ١١١] والنفس ليس لها نفس أخرى؟

قلنا : النفس اسم للروح وللجوهر القائم بذاته ، المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير. وقيل هي اسم لجملة الإنسان ، لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] وقوله تعالى (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥]. والنفس أيضا اسم لعين الشيء وذاته ، كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة : أي عينهما وذاتهما ، فالمراد بالنفس الأولى الإنسان ، وبالثانية ذاته ، فكأنه يوم يأتي كل إنسان يجادل عن نفسه : أي ذاته لا يهمّه شأن غيره ، كلّ يقول نفسي نفسي ، فاختلف معنى النفسين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [الآية ١١٢] والإذاقة لا تناسب اللباس ، وإنّما تناسبه الكسوة؟

قلنا : الإذاقة تناسب المستعار له وهو الجوع ، من حيث أنّ الجوع يقتضي الأكل فيقتضي الذوق ؛ وإن كانت لا تناسب المستعار وهو اللباس ؛ والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس ، ولا تناسب المستعار له وهو الجوع ؛ وكلاهما من دقائق علم البيان ، يسمى الأول تجريد الاستعارة ، والثاني ترشيح الاستعارة ؛ فجاء القرآن العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة ، وقد ذكرنا تمام هذا في كتابنا «روضة الفصاحة» ، ولباس الجوع والخوف ، استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف ، من الصفرة والنحول كقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى) [الأعراف : ٢٦] استعير اللباس لما يظهر على المتقي من أثر التقوى. وقيل إن فيه إضمارا تقديره : فأذاقها الله طعم الجوع وكساها لباس الخوف.

٤٩
٥٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «النحل» (١)

قوله سبحانه : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الآية ٢] هذه استعارة : لأن المراد بالروح ، هاهنا ، الوحي الذي يتضمن إحياء الخلق ، والبيان عن الحقّ. ومثل ذلك قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ومثله قوله سبحانه في المسيح (ع) : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] فسمّاه تعالى روحا على هذا المعنى ، لأنّ به حياة أمته ، وبقاء شريعته.

فأما قوله سبحانه : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) [السّجدة : ٩] فإنما أراد بذلك الروح التي خلقها ليحيي عباده بها ، وأضافها الى نفسه كما أضاف الأرض الى نفسه ، إذ يقول تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧].

وكان أبو الفتح عثمان بن جنّي رحمه‌الله يقول : معنى قولهم في القسم : «لعمر الله ما قلت ذلك ، ولأفعلن ذلك» ، إنما يريدون به القسم بحياة يحيي الله بها ، لا حياة يحيى بها ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. فكان المقسم إذا أقسم بهذه الحياة ، دخل ما يخصه منها في جملة قسمه ، وجرى ذلك مجرى قوله : لعمري. فيصير مقسما بحياته التي أحياه الله بها. والعمر هاهنا هو العمر. ومعناه الحياة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٥١

وقوله سبحانه : (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [الآية ٧] استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى : أنّكم لا تبلغون هذا البلد إلا بأنصاف أنفسكم ، من عظم المشقّة ، وبعد الشّقّة ، لأن الشّق أحد قسمي الشيء. ومنه قولهم : شقيق النفس أي قسيمها ، فكأنه من الامتزاج بها شقّ منها. وعلى ذلك قول الشاعر :

من بني عامر لها نصف قلبي

قسمة مثلما يشقّ الرّداء

فأمّا من حمل قوله تعالى : (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) على أنّ معناه المشقّة والنصب والكدّ والدأب ، فإن الكلام ، على قوله ، يكون حقيقة ، ويخرج عن حدّ الاستعارة. كأنه ، سبحانه ، قال : إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بمشقة الأنفس.

وقوله سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [الآية ٩] وهذه استعارة. لأن الجائر هو الضالّ نفسه. يقال : جار عن الطريق. إذا ضلّ عن نهجه ، وخرج عن سمته. ولكنهم لمّا قالوا : طريق قاصد ، أي مقصد فيه ، جاز أن يقولوا : طريق جائر أي يجار فيه.

وقوله سبحانه : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ٢٥]. وهذه استعارة لأنّ الأوزار على الحقيقة هي الأثقال ، واحدها وزر. والمراد بها هاهنا الخطايا والآثام ، لأنها تجري مجرى الأثقال التي تقطع المتون ، وتنقض الظهور.

وفي معنى ذلك قولهم : فلان خفيف الظهر. وصفوه بقلة العدد والعيال ، أو بقلة الذنوب والآثام.

وقوله سبحانه : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [الآية ٢٦] وهذه استعارة. لأن الإتيان هاهنا ليس يراد به الحضور عن غيبة ، والقرب بعد مسافة. وإنّما ذلك كقول القائل : أتيت من جهة فلان. أى جاءني المكروه من قبله. وأتي فلان من مأمنه ، أي ورد عليه الخوف من طريق الأمن ، والضرّ من مكان النفع.

وقوله سبحانه : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [الآية ٢٨]. وهذه استعارة. وليس هناك شيء يلقى على الحقيقة. وإنما المراد بذلك طلب المسالمة عن ذلّ واستكانة ، والتماس وشفاعة. لأنّ من كلامهم أن يقول القائل : ألقى إليّ فلان بيده. أي خضع

٥٢

لي ، وسلّم لأمري. وقد يجوز أيضا أن يكون معنى (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : أي استسلموا وسلّموا. فكانوا كمن طرح آلة المقارعة ، ونزع شكّة المحاربة. وفي معنى ذلك قوله سبحانه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أي لا تستسلموا لها ، وتوقعوا نفوسكم فيها.

وقوله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠). وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء على الحقيقة يؤمر ، ولا قول يسمع. وإنّما هذا القول عبارة عن تحقيق الإرادة وشرعة وجود المراد ، من غير معاناة ولا مشقّة ، فهو إخبار عن نفاذ قدرته تعالى. فإذا أراد أمرا كان لوقته ، من غير أن يبطئ إيجاده ، أو يتقاعس إنفاذه. وذلك بمنزلة قول أحدنا : «كن» في خفة اللفظ به ، وسرعة التعبير عنه ، من غير كلفة تلحقه ، ولا مشقة تعترضه.

وقيل إن معنى قوله سبحانه : (كُنْ) ، علامة للملائكة يدلّهم بها ، عند سماعهم لها ، على أنه سيحدث كذا ، ويفعل كذا ، من محكمات التقدير ، ومبرمات التدبير.

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [الآية ٤٨]. وهذه استعارة. لأن المراد بها رجوع الظلال من موضع الى موضع. والظلال على الحقيقة لا تتفيأ ولا تنقل ، وإنما ترد الشمس عليها ، ثم ترجع إلى ما كانت عليه ، بعد أن تزول الشمس عنها ، والشمس هي المتنقلة عليها ، والظلال قائمة بحالها.

وقوله تعالى في صفة النحل العسّالة : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [الآية ٦٩]. وفي هذه الآية استعارتان : إحداهما قوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ، على قول من جعل ذللا حالا للسّبل ، لا حالا للنحل. والذّلل : جمع ذلول ، وهي الطرق الموطّأة للقدم ، السهلة على الحافر والمنسم ، تشبيها لها بالإبل الذلل ، وهي التي قد عوّدت الترحل ، وألفت المسير.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) والمراد بذلك العسل. والعسل عند المحقّقين من العلماء غير خارج من

٥٣

بطون النحل ، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار ، وأضغاث النبات. لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة ، وعلى أوصاف معلومة ، والنحل ملهمة تتبّع تلك المساقط ، وتعهد تلك المواقع ، فتنقل العسل بأفواهها إلى كوّاراتها (١) ، والمواضع المعدّة لها. فقال سبحانه : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) والمراد من جهة بطونها. وجهة بطونها : أفواهها. وهذا من غوامض هذا البيان ، وشرائف هذا الكلام.

وقوله سبحانه : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦) وهذه استعارة. والمراد بإلقاء القول ـ والله أعلم ـ إخراج الكلام مع ضرب من الخضوع والاستكانة والإسرار والخفية ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وفي هذا الكلام مفعول محذوف. فكأنه قال تعالى : «تلقون إليهم الأخبار بالمودة». وهذا القول ، نزل في قوم من المؤمنين ، كانوا يجتمعون مع قوم من المنافقين ، بأرحام تلفهم ، وخلل (٢) تولد عنهم ، فيتسقّطونهم ليعرفوا منهم أخبار النبي (ص) والمؤمنين ، فنهوا عن مناقشتهم والاجتماع معهم. فكأنّ المعنى : تلقون إليهم الأسرار بالمودّة التي بينكم ، على سبيل الإسرار والإخفاء.

وقد قيل إن المراد : تلقون إليهم المودّة ، فقال تعالى : بالمودّة ، كما قال سبحانه : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠) [المؤمنون] أي تنبت الدهن على أحد التأويلين ، ونظير التأويل الأول قوله سبحانه في ذكر الشياطين : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٢٣) [الشعراء] أي يطلبون سماع الأخبار على وجه الاستخفاء والاستسرار ، وهذا الوجه لا يصح في قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦) لأنّ الحال ، التي أخبر سبحانه بأن هذا يجري فيها ، هي حال القيامة ، وتلك حال لا يجوز

__________________

(١). الكوّارات بضم الكاف وتشديد الواو جمع كوّارة ، وهي بيت يتخذ للنحل من القضبان أو الطين تأوي إليه. أو هي عسلها في الشمع.

(٢). الخلل : جمع خلّة وهي الصداقة والصحبة.

٥٤

فيها الاستسرار لقول ، ولا الكتمان لسر ، لأن السرائر مظهرة ، والضمائر مصرحة (١). وإنما المراد بهذا الكلام ما يقوله المعبودون لمن عبدهم من الأمة ، إذ يقول سبحانه : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [الآية ٨٦] فقال المعبودون لهم في الجواب عن ذلك : إنكم لكاذبون ، أي في أنّا دعوناكم الى العبادة ، أو في قولكم إنّنا آلهة. وقد يجوز أيضا أن يكون التكذيب من العابدين للمعبودين ، فكأنّهم قالوا لهم : كذبتم في ادّعائكم ، أنّكم تستحقون العبادة من دون الله تعالى. فلم يبق إذن إلا الوجه الأول في معنى إلقاء القول ، وهو أن يكون على وجه الخضوع والضراعة ، ويكون سبب هذه الاستكانة الخوف من الله سبحانه ، لا خوف بعض الشركاء من بعض. ومثل ذلك قوله سبحانه ، عقب هذه الآية : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [الآية ٨٧] أي استسلموا له عن ضرع ذلة ، وانقطاع حيلة. ومن ذلك قولهم : ألقى فلان يد العاني. أي ذلّ ذلّ الأسير ، وخضع خضوع المقهور.

وقوله سبحانه : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [الآية ٩٤] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا الثبات في الدّين. ولما كان أصل الثبات في الشيء والاستقرار عليه ، إنّما يكون بالقدم ، حسن أن يعبر عن هذا المعنى بلفظ القدم ، وكأنّ المراد بقوله تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) أي يضعف دينكم ، ويضطرب يقينكم ، فيكون كالقدم الزّالة ، والقائمة المائدة.

وقوله سبحانه : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [الآية ١٠٢] وهذه استعارة. لأن المراد بذلك جبريل عليه‌السلام ، والتقديس : الطهارة ، وإنما سمّي روح القدس ، لأنّ حياة الدين وطهارة المؤمنين ، إنّما تكون بما يحمله الى الأنبياء عليهم‌السلام من الأحكام والشرائع ، والآداب والمصالح.

وقوله سبحانه : (لِسانُ الَّذِي

__________________

(١). أصحر الأمر : أظهره وأعلنه في غير خفاء.

٥٥

يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) وهذه استعارة. لأن المراد باللسان هاهنا جملة القرآن وطريقته ، لا العضو المخصوص الذي يقع الكلام به. وذلك كما يقول العرب في القصيدة : هذه لسان فلان. أي قوله. قال شاعرهم :

لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت وما حسبتك أن تحينا (١)

 أي مقالة السوء. ومثل ذلك قول الاخر (٢) :

ندمت على لسان كان منّي وددت بأنّه في جوف عكم أي على قول سبق مني ، لأن الندم إنما يكون على الفعال والكلام ، لا على الأعضاء والأعيان.

وإنما سمّي القول لسانا ، لأنه إنما يكون باللسان ، ويصدر عن اللسان. وقوله سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) وهذه استعارة. لأن حقيقة الذوق إنما تكون في المطاعم والمشارب ، لا في الكسى والملابس. وإنما خرج هذا الكلام مخرج الخبر عن العقاب النازل بهم ، والبلاء الشامل لهم. وقد عرف في لسانهم ، أن يقولوا لمن عوقب على جريمة ، أو أخذ بجريرة : ذق غبّ فعلك ، واجن ثمرة جهلك. وإن كانت عقوبته ليست مما يحسّ بالطعم ، ويدرك بالذوق. فكأنّه سبحانه لمّا شملهم بالجوع والخوف على وجه العقوبة ، حسن أن يقول تعالى : فأذاقهم ذلك ، أي أوجدهم مرارته ، كما يجد الذائق مرارة الشيء المرير ،

__________________

(١). روي هذا البيت في : «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي جزء ١٠ ص ١٧٩ هكذا :

لسان الشر تهديها إلينا

وخنت وما حسبتك أن تخونا

ولم تذكر كتب الشواهد اسم قائل هذا البيت.

(٢). هو الحطيئة الشاعر ، كما جاء في «لسان العرب» مادة : لسن. إلا أنه روي في اللسان هكذا :

ندمت على لسان فات مني

فليت بأنه في جوف عكم

والعكم بكسر العين : العدل الذي توضح فيه الأشياء ، أو الكارة.

٥٦

ووخامة الطعم الكريه. وإنّما قال سبحانه : (لِباسَ الْجُوعِ) ولم يقل : طعم الجوع والخوف ، لأنّ المراد بذلك ـ والله أعلم ـ وصف تلك الحال بالشمول لهم ، والاشتمال عليهم ، كاشتمال الملابس على الجلود ، لأنّ ما يظهر منهم عن مضيض الجوع ، وأليم الخوف ، من سوء الأحوال ، وشحوب الألوان ، وضؤولة الأجسام ، كاللباس الشامل لهم ، والظاهر عليهم.

٥٧
٥٨

سورة الإسراء

١٧

٥٩
٦٠