الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

٩ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) [الآية ٩٠].

سمّى ابن عبّاس ، من قائلي ذلك عبد الله بن أبي أميّة. أخرجه ابن أبي حاتم (١).

١٠ ـ (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الآية ١٠١]. قال ابن عبّاس : هي الطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضّفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنون (٢) ، ونقص من الثّمرات. أخرجه ابن أبي حاتم (٣) وأخرج عن سعيد بن جبير ، قال : كان بين كلّ آيتين من هذه التسع ، ثلاثون يوما. وأخرج عن زيد بن أسلم ، قال : كانت في تسع سنين ، في كل سنة آية.

__________________

(١). انظر «تفسير ابن كثير» ٣ : ٦٢.

(٢). السنون : الجدب.

(٣). قال ابن كثير : «وهذا القول ظاهر جليّ ، حسن قويّ».

٨١
٨٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الإسراء» (١)

١ ـ قال تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الآية ٥]

قرئ : فحاسوا بالحاء المهملة ، وليس هذا من باب الإبدال الذي يعرض لقرب مخارج الأصوات ، كالعين والهمزة ، والحاء ، والهاء ، والتاء ، والثاء ، والسين ، والشين ، وقد يكون لقرب صفة الصوت من صفة أخرى.

وعلى هذا ، فإن «جاسوا» كلمة برأسها ، و «حاسوا» كلمة أخرى ، وإن اتّفق المعنى.

٢ ـ وقال تعالى : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧).

أي ليهلكوا كلّ شيء غلبوه واستولوا عليه (٢).

٣ ـ وقال تعالى :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥) يريد ب «الأوّابين» «التوّابين».

وعن سعيد بن جبير : هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه ، لا يريد بذلك إلّا الخير.

وعن سعيد بن المسيّب ، الأوّاب : الرجل كلّما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثمّ تاب منها ، ويندرج فيه الجاني على أبويه ، التائب من جنايته لوروده على أثره.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). انظر الآية ١٣٩ من سورة الأعراف.

٨٣

أقول : وفي هذه الدلالات كلّها على التقائها ، نلمح الفعل «آب» بمعنى رجع.

٤ ـ وقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١).

الخطء : هو الإثم ، وقرئ الخطأ مثل الحذر ، وخطاء بالفتح والكسر مع المد ، والخطا بالفتح وحذف الهمزة.

أقول : والخطء : هو الاسم كالخطإ والخطاء.

٥ ـ وقال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الآية ٤٦].

في هذه الآية ، معنى المنع من الفقه ، فكأنّه قيل : ومنعناهم أن يفقهوه ، والتقدير كراهة أن يفقهوه. وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) ، فيه معنى المنع.

٦ ـ وقال تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) [الآية ٥١] أي يحرّكون نحوك رؤوسهم تعجّبا واستهزاء.

ونغض الشيء ينغض نغضا ، ونغوضا ، ونغضانا ، وتنغّض ، وأنغض ، بمعنى تحرّك واضطرب. ونغضت أسناني ، أي : قلقت وتحرّكت. ونغض فلان رأسه يتعدّى ، ولا يتعدّى.

٧ ـ وقال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥).

وزبور والزّبور : الكتاب ، وهو بمعنى مفعول ، أي المزبور ، والجمع زبر ؛ وزبرت الكتاب كتبته.

٨ ـ وقال تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢).

والمعنى : أخبرني عن هذا الذي كرّمته عليّ ، أي فضّلته ، لم كرّمته عليّ ، وأنا خير منه؟

ثم قال تعالى : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) ، أي لأستأصلنّهم بالإغواء. وهذا من قولهم : احتنك الجراد الأرض ، إذا جرّد ما عليها أكلا ، وهو من الحنك.

٩ ـ وقال تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الآية ٦٤]

وقوله تعالى : (وَأَجْلِبْ) من الجلبة ، وهي الصياح.

والمراد ب «الخيل» الخيّالة ، أي الفرسان ، ومنه قول النبي (ص) : «يا خيل الله اركبي».

٨٤

والرّجل : اسم جمع للرجال كالركب والصّحب ، وقرئ ، ورجلك.

على أن فعلا بمعنى فاعل ، نحو : تعب وتاعب.

ومعناه : وجمعك الرّجل ، وتضمّ جيمه أيضا ، فيكون مثل حدث وحدث ، وندس وندس ، وفطن وفطن.

١٠ ـ وقال تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩).

أقول : والتبيع : المطالب.

ومنه قوله تعالى : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٧٨] أي مطالبة ، قال الشمّاخ [من بحر الوافر] :

يلوذ ثعالب الشرقين منها

كما لاذ الغريم من التبيع

ويقال : فلان على فلان تبيع بحقّه ، أي مسيطر عليه ، مطالب له بحقّه.

١١ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) [الآية : ٧٦]. وقوله تعالى (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ، أي : ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم.

أقول : فزّ فلانا عن موضعه فزّا : أزعجه.

واستفزّه : استخفّه وأخرجه من داره (١) وأزعجه ، وأفزرته : أزعجته.

وللاستفزاز في العربية المعاصرة خصوصية دلالية ، فهو التحريش والإيذاء ، بقصد إثارة الخصم ، ليقول شيئا أو يفعل ؛ يقال استفزّ القويّ الضعيف ، بمعنى ظلمه واعتدى عليه من غير سبب ، ليحمله على أن يفعل شيئا ، فيحلّ عليه ظلمه واضطهاده.

١٢ ـ وقال تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١).

وقوله تعالى : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي : كان مضمحلّا.

أقول : والفعل «زهق» في الآية من قولهم ، كما أشرنا : «زهقت نفسه» إذا خرجت.

و «الزّهق» بمعنى خروج النفس ، قد بقي شيء منه في الدارجة العراقية ، يقال في هذه اللهجة العاميّة : فلان زهق (بإبدال القاف كافا ثقيلة) يريدون

__________________

(١). وإلى هذا المعنى ، أشارت الآية الكريمة (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ) [الآية ١٠٣].

٨٥

غضب غضبا شديدا ، حتى خرج عن الحدّ وتجاوز في السلوك. وهذا الاستعمال الدارج ذو صلة أكيدة بالكلمة الفصيحة القديمة التي لم يبق لها أثر في الفصيحة الحديثة ، اللهم إلّا ما كان قد أخذ من لغة القرآن ، واستعمل على غرار الآية.

١٣ ـ وقال تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٩٢). والقبيل : الكفيل بما تقول ، شاهدا بصحّته.

١٤ ـ وقال تعالى : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) ... [الآية ٩٣]. المراد ب «الزّخرف» الذّهب. أقول : كأنّ البيت مزخرف بالذهب.

١٥ ـ وقال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠).

أي ضيّقا بخيلا.

أقول : في اللغة المعاصرة الأصل المزيد «قتّر» وهو مقتّر ، أي بخيل ضيّق.

٨٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الإسراء» (١)

قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) [الآية ١] يقال «أسريت» و «سريت».

وقال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)) أي ، والله أعلم ، قل يا محمّد (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وقل : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١).

وقال تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) [الآية ٥] و «الأولى» مثل «الكبرى» يتكلّم بها بالألف واللام ، ولا يقال «هذه أولى».

والإضافة تعاقب الألف واللام ، فلذلك قال سبحانه (أُولاهُما) ، كما تقول «هذه كبراهما» و «كبراهنّ» و «كبراهم عنده».

وقال تعالى : (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الآية ١١] بنصب «الدعاء» على الفعل ، كما تقول «إنّك منطلق انطلاقا» (٢).

قال تعالى : (وَلا تَنْهَرْهُما) [الآية ٢٣] ويقال : «نهره» و «انتهره» «ينتهره».

قال تعالى : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً) [الآية ٣١] من «خطئ» «يخطأ» تفسيره : «أذنب» وليس في معنى : «أخطأ» لأن ما أخطأت فيه ما صنعته خطأ «خطئت» فيه ما صنعته عمدا ، وهو الذنب. وقد يقول ناس من العرب : «خطئت» في معنى «أخطأت» (٣) قال امرؤ القيس [من الرجز وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين] :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضت العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٧٨.

(٣). نقله في زاد المسير ٥ : ٣١.

٨٧

يا لهف نفسي (١) إذ خطئن كاهلا

القاتلين الملك الحلاحلا

تالله لا يذهب شيخي باطلا وقال آخر (٢) من الكامل وهو الشاهد [الأربعون بعد المائتين] :

والنّاس يلحون الأمير إذا هم

خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد (٣)

وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦) (أُولئِكَ) هذا ، وأشباهه مذكّرا كان أو مؤنثا ، تقول فيه «أولئك». قال الشاعر (٤) [من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون] :

ذمّي المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٥)

وهذا كثير. وقال تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) فالفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول : «إنك مشؤوم علينا» و «ميمون» وإنّما هو «شائم» و «يامن» ، لأنه من «شأمهم» و «يمنهم» و «الحجاب» هاهنا هو الساتر ؛ وقال سبحانه (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) (مستورا) (٦).

وقال تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣) فقال (عُلُوًّا) ولم يقل «تعاليا» كما قال (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) [المزّمّل]. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائتين] :

أنت الفداء لكعبة هدّمتها

ونقرتها بيديك كلّ منقّر

__________________

(١). ورد هذا الرجز ، في ديوان امرئ القيس ص ١٣٤ ، بلفظ «هند» بدلا من لفظ «نفسي» ومع تقديم المصراع الثالث ، وبلفظ «والله» ، وتأخير المصراع الثاني ، وجاء بلفظ «هند» في اللسان ، مادة «خطأ» أيضا ؛ بيد أنّ اللسان لم يذكر إلّا المصراع الأوّل.

(٢). هو عبيد بن الأبرص. ديوانه ٤٢.

(٣). البيت في الديوان : إذا غوى خطب الصواب ، ولا شاهد فيه ؛ وورد في اللسان ، مادة «أمر» كما رواه الأخفش.

(٤). هو جرير بن عطية اليربوعي ، التميمي (ت ١١٠ ه‍ : ٧٢٨ م).

(٥). ديوان جرير ص ٩٩٠. وفيه «ذمّ» مكان «ذمّي» ، و «الأقوام» مكان «الأيّام».

(٦). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٨٥ ، والبحر ٦ : ٤٢.

٨٨

منع الحمام مقيله من سقفها

ومن الحطيم فطار كلّ مطيّر (١)

وقال الاخر [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] :

يجري عليها أيّما إجراء

وقال الاخر (٢) [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] :

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا

وقال تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الآية ٤٧] «النّجوى» فعلهم كما تقول : «هم قوم رضيّ» وإنّما «الرّضى» فعلهم.

وقال تعالى (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الآية ٥٣] بجعله جوابا للأمر (٣).

وقال تعالى (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) [الآية ٥٩] يقول «بها كان ظلمهم» (٤) و «المبصرة» البيّنة ، كما تقول : «الموضحة» و «المبيّنة».

وقال تعالى (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) [الآية ٧٧] أي : سننّاها سنّة (٥).

كما قال (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) [الآية ٨٧].

وقال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الآية ٧٨] أي ، والله أعلم ، وعليك قرآن الفجر (٦).

وقال تعالى (يَؤُساً) (٨٣) من «يئس».

وقال جلّ شأنه (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الآية ١١٠] أي ـ والله أعلم ـ «أيّا تدعوا».

وقال سبحانه (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) [الآية ٦٤] من «أجلبت» وهو في معنى «جلب» ، والموصولة من «جلب» «يجلب».

__________________

(١). ورد في المحتسب ١ : ٨١ و ٩٤ و ٣٠١ ، و ٢ : ٦ و ٢١. البيت الأوّل وحده مرويّا عن الأخفش غير معزوّ.

(٢). هو القطامي. ديوانه ٣٥ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ٢ : ٢٤٤ ، والعجز في الخصائص ٢ : ٣٠٩ وفي البيان ٢ : ١٧٣ ب «وخيرا الأمر».

(٣). نقله في البحر ٦ : ٤٩.

(٤). نقله في زاد المسير ٥ : ٥٢.

(٥). نقله في زاد المسير ٥ : ٧١.

(٦). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٩٢ والبحر ٦ : ٧٠ ، ونقله في الجامع ١٠ : ٣٠٥ ناسبا إيّاه الى الزّجّاج.

٨٩

وقال تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الآية ١١٠] يقول : «أيّ الدّعائين تدعوا فله الأسماء الحسنى (١). وقال سبحانه (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) [الآية ٧٩] و (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ) [التحريم : ٨] يقال «عسى» من الله واجبة.

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٩٨ ، وأفاده في الكشاف ٢ : ٧٠٠.

٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء» (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى (بِعَبْدِهِ) [الآية ١] ولم يقل «بنبيّه» ، أو «برسوله» ، أو «بحبيبه» ، أو «بصفيّه» ، ونحو ذلك ؛ مع أن المقصود من ذلك الإسراء ، تعظيمه وتبجيله؟

قلنا : إنّما سمّاه عبدا في أرفع مقاماته ، وأجلّها ، وهو هذا ؛ وقوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠) [النجم] كي لا تغلط فيه أمّته ، وتضل به كما ضلّت أمة المسيح (ع) به ، فدعته إلها. وقيل كي لا يتطرّق إليه العجب والكبر.

فإن قيل : الإسراء لا يكون إلّا بالليل ، فما فائدة ذكر الليل؟

قلنا : فائدته أنه ذكر منكّرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع ، مع أنه كان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة ، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية ، ويؤيده قراءة عبد الله وحذيفة ، «الليل» : أي بعض الليل كقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) [الآية ٧٩] فإنه أمر بالقيام في بعضه.

فإن قيل : أي حكمة في نقله (ص) ، من مكّة إلى بيت المقدس ، ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء ؛ ولم لم يعرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟

قلنا لأن بيت المقدس محشر الخلائق ، فأراد الله تعالى أن يطأها الرسول (ص) ، ليسهل على أمته يوم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩١

القيامة وقفهم عليها ، ببركة أثر قدمه (ص).

الثاني : أن بيت المقدس مجمع أرواح الأنبياء (ع) ، فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته (ص). الثالث : أنّه أسرى به إلى بيت المقدس ، ليشاهد من أحواله وصفاته ، ما يخبر به كفّار مكّة صبيحة تلك الليلة ، فيدلّهم إخباره بذلك ، مطابقا لما رأوا وشاهدوا ، على صدقه في حديث الإسراء.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (بارَكْنا حَوْلَهُ) [الآية ١] ولم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه ، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد ، وحوله ؛ خصوصا المسجد الأقصى؟

قلنا : أراد سبحانه البركة الدنيوية ، بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة ، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية ، فإنه مقرّ الأنبياء (ع) ، ومتعبّدهم ومهبط الوحي والملائكة ، وإنما قال جلّ وعلا : (بارَكْنا حَوْلَهُ) لتكون بركته أعمّ وأشمل ، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض بلاد الشام ، وما قاربه منها ، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس ؛ ولأنه إذا كان هو الأصل ، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع ، كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى ، بخلاف العكس. وقيل المراد البركة الدنيوية والدينية ، ووجههما ما مرّ. وقيل المراد باركنا حوله ، من بركة نشأت منه ، فعمّت جميع الأرض ، فإن مياه الأرض كلّها ، أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس.

فإن قيل ، ما وجه ارتباط قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣) بما قبله ، ومناسبته له؟

قلنا : معناه لا تتّخذوا من دوني ربّا فتكونوا كافرين ، ونوح كان عبدا شكورا ، وأنتم ذرّية من آمن به ، وحمل معه ، فتأسّوا به في الشكر ، كما تأسّى به آباؤكم.

فإن قيل لم قال الله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الآية ٧] ولم يقل : فعليها ، كما قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصّلت : ٤٦]؟

قلنا : اللام هنا بمعنى على ، كما في قوله تعالى (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) [الصافات] وقوله تعالى (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الآية ١٠٧] وقيل معناه ، فلها رجاء بالرحمة ، أو فلها خلاص بالتوبة والاستغفار ؛ والصحيح ، أن اللام هنا على بابها ، لأنها للاختصاص ؛ وكل عامل مختص

٩٢

بجزاء عمله ، حسنا كان أو سيّئا ؛ وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة ، في قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الآية ١٢] وقال في قصة مريم وعيسى (ع) (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١) [الأنبياء](وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] مع أن عيسى (ع) كان وحده آيات شتّى ، حيث كلّم الناس في المهد ، وكان يحيي الموتى بإذن الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق الطير وغير ذلك ؛ وأمّه وحدها ، كانت آية ، حيث حملت من غير فحل؟

قلنا : إنّما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما ولم تتم إلّا بهما ، وهي ولادة ولد من غير فحل ، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر. والثاني : أن فيه آية محذوفة ، إيجازا واختصارا تقديره : وجعلناها آية وابنها آية ، أي وجعلنا ابن مريم آية ، وأمّه آية.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الآية ١٢] والإبصار من صفات ما له حياة ؛ والمراد بآية النهار ، إمّا الشمس وإمّا النهار نفسه ؛ وكلاهما غير مبصر؟

قلنا : المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة ، نقله الجوهري ، وقال غيره معناه بيّنة واضحة ؛ ومنه قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الآية ٥٩] أي آية واضحة مضيئة ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣] الثاني ، معناه ، مبصرا بها إن كانت الشمس ، أو فيها ، إن كانت النهار ، ومنه قوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] أي مبصرا فيه ؛ ونظيره قولهم ، ليل نائم ونهار صائم : أي ينام ويصام فيه. والثالث ، أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء : أي علم به ، فهو بصير ، أي عالم ؛ معناه : أنه يجعلهم بصراء ، فيكون أبصره بمعنى بصره ، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣] أي تبصّرهم ، فتجعلهم بصراء. الرابع ، أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة ، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى ، كما يتحرّك الإنسان.

فإن قيل : ما الحكمة في ذكر عدد السنين ، مع أنه لو اقتصر على القول

٩٣

لتعلموا الحساب ، دخل فيه عدد السنين ، إذ هو من جملة الحساب؟

قلنا : العدد كله موضوع الحساب ، كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب ، وأفعال المكلّفين موضوع الفقه ، وموضوع كل علم مغاير له ، وليس جزءا منه. كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب ، ولا أفعال المكلّفين جزءا من الفقه ؛ فكذا العدد ، ليس جزءا من الحساب ؛ وإنما ذكر عدد السنين وقدّم على الحساب ، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة ، علم عدد الشهور والسنين ، ثم يتفرّع من ذلك علم حساب التاريخ ، وضرب المدد والآجال.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) وقال في موضع آخر (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء]؟

قلنا : مواقف القيامة مختلفة ، ففي موقف يكل الله ، سبحانه ، حسابهم إلى أنفسهم ، وعلمه محيط به ؛ وفي موقف يحاسبهم ، هو جلّ جلاله. وقيل إنه سبحانه هو الذي يحاسبهم لا غيره ، وقوله تعالى (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) ، أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها ، عالم بذلك ؛ فهو توبيخ وتقريع ، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه. وقيل من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه ، ومن يريد مسامحته فيه يكل حسابه إليه.

فإن قيل : قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] ويرد ما جاء في الأخبار ، أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون ، ويزاد في حسنات ربّ الدّين والشخص الذي اغتيب ، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما ، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟

قلنا المراد من الآية ، أنها لا تحمله اختيارا ردّا على الكافرين ؛ حيث قالوا للذين آمنوا ، كما ورد في التنزيل (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، والمراد من الخبر ، أنها تحمله كرها ، فلا تنافي ؛ وقد سبق هذا مرة في آخر سورة الأنعام.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) [الآية ١٦] وقال في آية أخرى (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨].

قلنا : فيه إضمار تقديره أمرناهم بالطاعة ففسقوا. وقال الزّجّاج ، ومثله

٩٤

قولهم أمرته فعصاني ، وأمرته فخالفني ، لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة. الثاني : أن معناه كثّرنا مترفيها ، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثّرته وقد قرئ بهما ، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والثالث أن معناه أمّرنا مترفيها بالتشديد ، يقال أمّرت فلانا بمعنى أمرته : أي جعلته أميرا ، فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة ، ويعزّز هذا الوجه قراءة من قرأ (أمّرنا) بالتشديد. وقال الزمخشري رحمه‌الله : لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز ، فكيف يقدّر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه ، وذلك لأن قوله تعالى (فَفَسَقُوا) يدل على أن المأمور به المحذوف ، هو الفسق ، وهو كلام مستفيض ، يقال أمرته فقام ، وأمرته فقعد ، وأمرته فقرأ ؛ لا يفهم منه ، إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة ؛ بخلاف قولهم أمرته فعصاني ، وأمرته فخالفني ؛ حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة ؛ لأن ذلك مناف للأمر ، مناقض له ؛ ولا يكون ما يناقص الأمر وينافيه مأمورا به ، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ، ولا منويّ ؛ والمتكلم بمثل هذا ، لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ بل كأنه قال : كان منّي أمر ، فلم تكن منه طاعة ، أو كانت منه مخالفة ؛ كما تقول : مر زيدا يطعك ، وكما تقول : فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويضرّ وينفع ؛ فإنّك لا تنوي مفعولا.

فإن قيل : على هذا ، حقيقة أمرهم بالفسق ، أن يقول لهم افسقوا ؛ وهذا لا يكون من الله ، فلا يقال يقدّر الفسق محذوفا ، ولا مأمورا به.

قلنا : الفسق المحذوف المقدر ، مجاز عن إترافهم ؛ وصب النعم عليهم صبّا ، أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي ، ووسيلة إلى اتّباع الشهوات ؛ فكأنهم أمروا بذلك ، لمّا كان السبب في وجوده الإتراف ، وفتح باب النعم.

فإن قيل : لم لا يكون ثبوت العلم ، بأن الله لا يأمر بالفحشاء ، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير ، دليلا على المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.

قلنا : لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير ، لكان المتكلّم مريدا من مخاطبه علم الغيب ؛ لأنه أضمر ما لا

٩٥

دلالة عليه في اللفظ ، بل أبلغ ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه ؛ وهو قوله تعالى (فَفَسَقُوا) فكأنه أظهر شيئا ، وادّعى إضمار نقيضه ، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز ، هو الوجه ؛ هذا كله كلام الزمخشري ، ولا أعلم أحدا من أئمّة التفسير صار إليه غيره ؛ ثم إنه أيّد فقال : ونظيره أمر «شاء» ، في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده تقول : لو شاء فلان لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان الأحسن ، ولو شاء الإساءة إليك لأساء ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت فتعني ، ولو شاء الإساءة لأحسن إليك ، ولو شاء الإحسان لأساء إليك ؛ وتقول قد دلّت حال من أسدت إليه المشيئة ، أنه من أهل الإحسان دائما ، ومن أهل الإساءة دائما : فيترك الظاهر المنطوق به ، ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة ، لم تكن على سداد.

فإن قيل : على الوجه الأول ، لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة كان مخصوصا بالمترفين ، لأن أمر الله تعالى بالطاعة ، عامّ للمترفين وغيرهم.

قلنا : أمر الله بالطاعة وإن كان عامّا ، ولكن لمّا كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم ، مستلزما لصلاح الرعيّة وفسادها غالبا ؛ خصّهم بالذكر. ويؤيد هذا ما جاء في الخبر «صلاح الوالي صلاح الرعيّة ، وفساد الوالي فساد الرعيّة».

فإن قيل : قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) [الآية ١٨] يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها ، كان من أهل النار ، والأمر بخلافه.

قلنا : المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير ، ومثل هذا لا يكون إلّا كافرا أو منافقا ؛ ولهذا قال ابن جرير : هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد ، وأما من أراد من الدنيا قدر ما يتزوّد به إلى الاخرة ، فكيف يكون مذموما ؛ مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلّيّة وعن جميع ما فيها ، لا يتصوّر في حق البشر ، ولو كانوا أنبياء ، فعلم أن المراد ما قلنا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠) أي ممنوعا ، ونحن نرى ونشاهد في الواقع ، أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة ، وآخر منعه العطاء حتى الحبّة؟

قلنا : المراد بالعطاء هنا الرزق ، والله

٩٦

تعالى ساوى في ضمان الرزق وإيصاله ، بين البرّ والفاجر والمطيع والعاصي ، ولم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه ، فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق ، وإنّما التفاوت بينهم في مقادير الإملاك.

فإن قيل : لم منع الله تعالى الكفّار التوفيق والهداية ، ولم يمنعهم الرزق؟

قلنا : لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا ، وصار ذلك حجّة لهم يوم القيامة ، بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا ، لبقينا أحياء فآمنّا. الثاني : أنه لو أهلكهم بمنع الرزق ، لكان قد عاجلهم بالعقوبة ، فيتعطّل معنى اسمه الحليم عن معناه ؛ لأن الحليم ، هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه. الثالث : أنّ منع الطعام والشراب من صفات البخلاء الأخسّاء ، والله تعالى منزّه عن ذلك. وقيل إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل ، وعدل الله عامّ ، وهبته التوفيق والهداية فضل ، وإنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (عِنْدَكَ) من قوله سبحانه : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الآية ٢٣]؟

قلنا : الحكمة أنهما يكبران في بيته وكنفه ، ويكونان كلّا عليه لا كافل لهما غيره ، وربما تولّى منهما من المشاق ، ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الآية ٣٢] ولم يقل ولا تزنوا؟

قلنا : لو قال «ولا تزنوا» كان نهيا عن الزنى ، لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة ، ونحو ذلك ؛ ولمّا قال (وَلا تَقْرَبُوا) كان نهيا عنه وعن مقدّماته ، لأن فعل المقدّمات قربان للزنى.

فإن قيل : الإشارة بقوله تعالى (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) [الآية ٣٨] على ما ذا تعود؟

قلنا : الإشارة إلى كل ما هو منهيّ عنه ، من جميع ما ذكر من قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الآية ٢٣] إلى هذه الآية ؛ لا إلى جميع ما ذكر ، فإن فيه حسنا وسيئا ؛ وقال أبو علي هو إشارة إلى قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) [الآية ٣٦] وما بعده ، لأنه لا حسن فيه.

فإن قيل : لم قال تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الآية ٤٤]

٩٧

فقوله جلّ شأنه (وَمَنْ فِيهِنَ) يتناول أهل الأرضين كلّهم ، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة ، بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده ؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الآية ٤٤] ، والتسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله ، والكفّار يضيفون إليه الزوج والولد والشريك وغير ذلك ، فأين تسبيحهم؟

قلنا : الضمير في قوله تعالى (وَمَنْ فِيهِنَ) راجع إلى السماوات فقط. الثاني : أنه راجع إلى السماوات والأرض ، والمراد بقوله تعالى (وَمَنْ فِيهِنَ) يعني من المؤمنين فيكون عامّا أريد به الخاصّ ؛ وعلى هذا يكون المراد بالتسبيح المسند إلى من فيهنّ ، التسبيح بلسان المقال. ثالث : أن المراد به التسبيح بلسان الحال ، حيث تدلّ على وجود الصانع ، وعظيم قدرته ، ونهاية حكمته ؛ فكأنها تنطق بذلك ، وتنزّهه عمّا لا يجوز عليه ، وما لا يليق به من السوء ، ويؤيده قوله تعالى بعده : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الآية ٤٤] ، والتسبيح العامّ للموجودات جميعها ، إنّما هو التسبيح بلسان الحال. فإن قيل : لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال ، لما قال سبحانه (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الآية ٤٤] ، إلا أنّ التسبيح بلسان الحال مفقود لنا : أي مفهوم ومعلوم؟

قلنا : الخطاب بقوله تعالى (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) للكفّار ، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال ، لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير ؛ لأنهم لمّا جعلوا لله شركاء وزوجا وولدا ، دلّ ذلك على عدم فهمهم التسبيح والتنزيه للموجودات ، وعدم إيضاح دلائل الوحدانيّة لأنّ الله تعالى طبع على قلوبهم.

فإن قيل : (وَمَنْ فِيهِنَ) [الآية ٤٤] وهم الملائكة والثّقلان يسبّحون حقيقة ، والسماوات والأرض والجمادات تسبّح مجازا ، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد ، وهو قوله تعالى : (تُسَبِّحُ)؟

قلنا التسبيح المجازي بلسان الحال ، حاصل من الجميع ، فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الآية ٥٢]

٩٨

والمستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره : أي أجاب؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بقوله تعالى (بِحَمْدِهِ) بأمره. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : إذا دعا الله الخلائق للبعث ، يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ؛ وقال غيره وهم يقولون : الحمد لله الذي صدقنا وعده ؛ فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع ، كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] وقوله تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [الحجر : ٩٨].

فإن قيل : لم أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الآية ٥٥] ثم خصّ داود بالذكر فقال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥). قلنا : لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء ، وهو : الرسالة ، والكتابة والخطابة ، والخلافة ، والملك ، والقضاء ، في زمن واحد ؛ قال الله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) [ص] وقال جلّ شأنه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦]. الثاني : أنّ قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الآية ٥٥] إشارة إلى تفضيل محمد (ص) ، وقوله سبحانه : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥) دلالة على وجه تفضيله (ص) ، وهو أنه خاتم الأنبياء ، وأنّ أمّته خير الأمم ؛ لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود (ع) ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) [الأنبياء] يعني محمّدا (ص) وأمته.

فإن قيل : لم نكّر الزّبور هنا ، وعرّفه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥]؟

قلنا : يجوز أن يكون الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف واللام ، وبغيرهما ، كالعبّاس والفضل والحسن والحسين ونحوها ؛ الثاني : أنه نكّره هنا لأنّه أراد : وآتينا داود بعض الزبور ، وهي الكتاب. الثالث : أنّه نكّره لأنه أراد به ، ما ذكر فيه رسول الله (ص) من الزبور ، فسمى ذلك زبورا ؛ لأنه بعض الزبور ، كما سمّى بعض القرآن قرآنا ، فقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الآية ١٠٦] وقال تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣] وأراد به سورة

٩٩

يوسف ؛ وقال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الآية ٧٨] أي القرآن المتلوّ في صلاة الفجر.

فإن قيل : قوله تعالى (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) [الآية ٥٦] مغن عن قوله تعالى (وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦) لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضرّ لا يستطيعون تحويله ، لأنّ تحويل الضّر نقله من محل ، وإثباته في محل آخر ، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما ، وكشف الضّرّ مجرّد إزالة ، ومن لا يقدر على الإزالة وحدها ، فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية كشف الضر والمرض والقحط ونحوها؟

قلنا : التحويل له معنيان : أحدهما ما ذكرتم. والثاني التبديل ، ومنه قولهم : حوّلت القميص قباء ، والفضة خاتما ؛ وأريد بالتبديل هنا الكشف ، لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا ؛ فإن المرض متى كشف يبدّل بالصحة ، والفقر متى كشف يبدّل بالغنى ، والقحط متى كشف يبدّل بالخصب ؛ وكذا جميع الأضداد ، فأطلق التبديل وأراد به الكشف ، إلا أنه لم يرد به كشف الضّر لئلّا يلزم التكرار ، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإزالة ، يعني فلا يستطيعون كشف الضّرّ عنكم ، ولا كشفا ما ، ولهذا لم يقل ولا تحويله. وهذا الجواب ممّا فتح الله علي به ، من خزائن جوده ؛ ونظيره ما ذكرناه في سورة النحل ، في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٧٣) [النحل].

فإن قيل : قوله تعالى (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الآية ٥٩]. الآية فيها أسئلة : أوّلها أنّ الله تعالى لا يمنعه عمّا يريده مانع ، فإن أراد إرسال الآيات ، فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها ، يكن وجود تكذيبهم وعدمه سواء ، ويكن عدم الإرسال لعدم الإرادة. الثاني أن الإرسال يتعدّى بنفسه ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١]. فأيّ حاجة إلى الباء؟ الثالث : أن المراد بالآيات هنا ، ما اقترحه أهل مكّة على رسول الله (ص) ، من جعل الصفا ذهبا ، وإزالة جبال مكّة ، ليتمكّنوا من الزراعة ، وإنزال مكتوب من السماء ، ونحو ذلك ؛ وهذه الآيات ، ما أرسلت إلى الأوّلين ، ولا شاهدوها فكيف

١٠٠